نقد ومقالات

كارولين كالواي وفستانها الشفاف.. “انستغرام” كنوع أدبي جديد/ أحمد ناجي

هذه القصة تتغير تفاصيلها وأبعادها كل فترة، بل وربما كل ساعة لأن بطلتها تكتبها من خلال منشوراتها في “انستغرام” ومختلف الشبكات الإجتماعية. هي كذلك قصة الأدب في زمن الصورة، وحكاية كاشفة للتوجهات الجديدة في صناعة النشر العالمية والمحلية، وكيف يتشكل الأدب الأعلى مبيعاً و”بيست سيللر”، حيث يمكن أن تصبح كاتباً من دون أن تكتب أو تنشر كتباً، بل بإمكانك أن تصبح ما تريد من دون مجهود أكثر من إضافة الفلتر المناسب لكاميرا موبايلك.

كارولين كالواي CAROLINE CALLOWAY فتاة أميركية بيضاء شقراء، أو هكذا تظهر في معظم الصور، مواليد العام 1991. من عائلة فوق متوسطة بالمقاييس الأميركية/ لذا تمكنوا من إرسالها لجامعة نيويورك لدراسة الكتابة الإبداعية، بعد ذلك درست الفن في جامعة كامبريدج لمدة ثلاث سنوات.

بسرعة الصاروخ، وخلال السنوات الثلاث الأخيرة، نمت شعبية كارولين في السوشيال ميديا حتى وصل عدد متابعيها في “انستغرام” إلى أكثر من 600 ألف متابع. معظم صورها تأتي مصحوبة بعبارات تتخذ ثوب تمكين المرأة، البحث عن الذات، التنمية البشرية، والفيتش الثقافي بمختلف أشكاله.

ليس لديهم في الغرب “فيتش ثقافي شرقي” حيث صور للقهوة مع مقطع من قصيدة لمحمود درويش أو أغنية لفيروز. بدلاً من فيروز، تنشر كارولين صوراً لتايلور سويفت، وطبعاً قصائد لإميلي ديكنسون، لوحات مستنسخة لهنري ماتيس. في الصور أيضاً تظهر كارولين وهي تفتح كتاباً، ترسم، تجلس على الأرض بجوار ماكينة طباعة قديمة. تخلق في حسابها فضاءً كاملاً يعزف على وتر تحويل الأدب والفن إلى فيتش مناسب لفلاتر “انستغرام”.

تتحدث عبر حسابها عن مشروعها الأدبي، وكتب كثيرة تعمل عليها. ثم أخيراً أعلنت توقيعها عقداً لنشر مذكراتها مع دار نشر “فلاتيرون”. حصلت كالواي على 375 ألف دولار كمبلغ مقدَّم لنشر الكتاب وهو رقم كبير جداً وغير مألوف في سوق النشر الأميركى لكاتبة تنشر للمرة الأولى. ومع ذلك، ففي اليوم المنصوص عليه في العقد لتسليم المسودة الأولى من الكتاب، لم تسلم كارولين شيئاً. وحين واجهتها دار النشر بنصوص العقد، ثارت كارولين وشحنت متابعيها في “السوشيال ميديا” ضد دار النشر، وبعدما كانت تحتفي بتوقيع العقد بصفته دعماً للنساء في سوق النشر ودليلاً على موهبتها وتحققها، انقلب خطابها لتتحدث عن ابتزاز دور النشر وتسلط منظومة النشر، ورفعت خطاب المظلومية.

***

ثم ظهرت ناتاليا بيتش العام الماضي. وانقلبت قصة كارولين كالواي.

تقابلت ناتاليا وكارولين في جامعة نيويورك أثناء دراستهما الكتابة الإبداعية، ثم سافرت الصديقتان إلى صقلية، في رحلة عبر شواطئ أوروبا على طول البحر المتوسط. خلال الرحلة التقطت الصديقتان آلاف الصور، معظمها لكارولين طبعاً. لكن ناتاليا هي التي كانت تكتب معظم التعليقات المصاحبة للصور. في مقال تفصيلي عن علاقتهما نشرته العام الماضي، كشفت ناتاليا كيف عملت مقابل أجر مدفوع من كارولين على صياغة شخصية كارولين في السوشيال ميديا، وتكوين سردية من خلالها يتم تقديم الصور والتعليقات المصاحبة لصورها.

والسردية التي اختارتها ناتاليا كانت بسيطة إلى حد ثوري: “فتاة أميركية بيضاء تتعلم الثقة في النفس”. في ذلك المقال تصف ناتاليا ما كانت تحاول خلقه في الكلمات التالية:

“أعتقد أنني وكارولين كنا ندفع باتجاه نوع جديد من الكتابة غير الخيالية. انستغرام يشبه كتابة المذكرات، لكنها مذكرات تتم كتابتها ونشرها مباشرة لدى حدوثها، من دون المرور عبر عملية التذكر. يوميات انستغرام تختزل المسافة بين الكاتب والقارئ والناقد، ولذا فهذا النوع من الكتابة هو كتابة نسوية حقيقية، هو ثورة أدبية في طور التحقق”.

في عالم الكتابة والأدب القديم، إذا ظهر أن كاتباً لم يكن إلا كذبة كبيرة ويدفع لكاتب شبح آخر للكتابة له، فهذا الأمر يمثل فضيحة وربما حجَز قبر مسيرته الأدبية. لكن في العالم الجديد، حيث سلطة الجماهير وعدد اللايكات والمشاهدات، كل كارثة، كل فضيحة، هي سلَّم للأعلى. فالفضائح تجذب الجمهور أكثر، ومعهم يرتفع عدد المشاهدات واللايكات، كما أن الانفلونسرز يستغلون الفضائح لتعميق دور الضحية، واكتساب المزيد من التعاطف والدعم.

مع نهاية 2019، كان على كارولين دَينٌ بأكثر من 300 ألف دولار لدار النشر، علاقتها بصديقتها انتهت وأصبح لزاماً عليها أن تكتب بنفسها. ولم تستلم كارولين، بل نقلت خطابها واستراتيجيتها لمنطقة أخرى، فتحت حساباً في موقع “باترون” حيث في إمكان جمهورها التبرع لدعمها، كما أنشأت حساباً في موقع onlyfans وأصبحت تنشر فيه صوراً ذات طابع أكثر إيروتيكية لها، وأحياناً صوراً عارية، مع مقاطع ونصوص تروي فيها مغامراتها الجنسية والايروتيكية. أضافت أيضاً لهذا الحساب خاصية أن تصبح من الأصدقاء المقربين لكارولين مقابل 100 دولار في الشهر.

إلى جانب ذلك توسعت في الإعلانات في “انستغرام”، ترسم أحياناً لوحات صغيرة مستنسخة من بعضها البعض، وتبيع الواحدة بأسعار تتراوح بين ستين وألف دولار. كذلك أعلنت أنها في ثورة على تقاليد صناعة النشر، ستنشر كتاب مذكراتها ذاتياً، بحيث يكون متاحاً للتحميل والطباعة من خلال الإنترنت. لكنها، في كل مرة تعلن موعد طرح الكتاب، يتم تأجيله، حتى بلغ عدد التأجيلات أكثر من سبع مرات.

منذ بضعة أسابيع نشرت كارولين صورة لها في قميص نوم شفاف أبيض وجميل، ومعها نص قصير عن أهمية الثقة في النفس، والإيمان بالذات، وقالت أنها تود أن تحتفل بأنها اليوم سددت كل ديونها لدار النشر، وأنها الآن استعادت حريتها كاملة. ووجهت الشكر لمتابعيها في موقع onlyfans لأنها جنت من هذا الموقع خلال أقل من عام، 100 ألف دولار.

لا توجد في سوق النشر وصناعة الأدب العربي الملايين، بل المليارات الموجودة في صناعة النشر باللغة الانجليزية. لكن مدهش كيف تستنسخ الأساليب وتعيد إنتاج ذاتها في نماذج مشابهة.

تنمو في الأدب العربي وسوق صناعة النشر والكتاب مستنسخات مختلفة من حالة كارولين كالواي. تمتلئ صفحات فايسبوك بكتّاب وكاتبات عدد متابعيهم يتخطى أحياناً النصف مليون، يقدمون أنفسهم بصفتهم كتّاباً وشعراء، لكن مادتهم الفنية موجودة في الشبكات الإجتماعية فقط. كذلك بدأت دور النشر العربية تهرول خلف هؤلاء “الانفلونسرز” لنشر أي شيء لهم حتى لو كان كتاباً ورقياً يضم “تغريداتهم/ تويتاتهم” التي يكتبونها.

قبل ثلاث سنوات كنت أعمل في صناعة الكتاب الصوتي، مما تطلب التواصل مع عدد كبير من دور النشر العربية لشراء حقوق الملكية لعدد من الكتب. مازالت أذكر دهشتي، المرة الأولى، حين كنت أتحدث مع ناشر متخصص في الكتب الأعلى مبيعاً، حينما قدم لي ديوان شعر عامّي، وحين لاحظ تشككي، فأحب أن يؤكد على أهمية الكتاب بالقول إن هذا الكاتب الشاعر لديه أكثر من نصف مليون في صفحته وهو أهم كاتب عنده.

ينظر عجائز عالم الثقافة العربي بحزن وأحياناً بغضب اتجه تلك الظواهر، يرونها ظواهر زائلة وقصيرة العمر. لكن الإنترنت ليس بزائل أو قصير العمر، ومعه تتغير طريقة تواصل البشر وتعبيرهم عن أنفسهم، وبالتالى تتغير وسائل النشر، وتفرض هذه التغيرات نفسها على عالم الأدب، حتى أن البعض أصبح يطلق على نفسه “كاتب انستغرامى”.

على العكس، أرى في تلك الظواهر عالماً جديداً يتشكل، أتابع في فايسبوك شعراء لم ينشروا ديوان شعر واحداً، لكنهم يكتبون أبياتاً قصيرة تعتمد غالباً على عنصر المفارقة، ويتم نشرها مع صورة للفت الانتباه. كاتبات يعلنّ عن كتبهن مع تخفيض على منتجات تخص مستحضرات التجميل، أو إعلانات لمطاعم ومقاهٍ. كتّاب آخرون ينشرون كتباً هي تلخيص لمحاضراتهم التي يلقونها عبر خاصية البث المباشر في فايسبوك.

تدفع التغييرات في وسائط النشر، الجميع إلى هذا العالم، فإذا أردت أن تكون الكتابة مهنتك ومصدر دخلك، تجد الخيارات أمامك ككاتب عربي هي الدخول في حظيرة وزارة الثقافة في بلدك، أو انتظار المكرمة والجائزة الخليجية، أو أن تدير ظهرك لكل هذا العالم وتذهب إلى عالم الإنترنت والتسويق والدعاية والانفلونسر الأدبي. أما غير ذلك، فستضطر للعمل في وظيفة آخرى لأكل العيش، ثم إجهاد نفسك في الكتابة طبقاً لتقاليد العالم القديم، منزوياً في غرفتك، مغلقاً فايسبوك وانستغرام، تكتب وفي حلقك غصة وربما ضغينة على كتّاب الانستغرام.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى