نقد ومقالات

جورج أرويل برسم الناشر العربي/ صبحي حديدي

دافيد جون تايلور، مؤلف واحدة من أفضل سِيَر الروائي والكاتب البريطاني جورج أرويل، زفّ الخبر بأنّ أعمال الأخير (قرابة 21 بين رواية وكتابات سياسية ومقالات مختلفة) باتت منذ تاريخ 21 كانون الثاني (يناير) الجاري معفاة من حقوق المؤلف؛ الأمر الذي يعني أنّ العديد من الناشرين في العالم استعدوا لهذا اليوم منذ شهور، وثمة العديد من الإصدارات التي سوف ترى النور مجدداً في أشكال متنوعة، بينها لعبة فيديو مستوحاة من “مزرعة الحيوان”، 1945. تايلور نفسه يقرّ بأنه، خلال الربيع الماضي، عكف على إعداد طبعات خاصة من روايات أرويل، منقحة ومذيّلة بهوامش وشروحات؛ ويشتغل على جزء ثانٍ مكمّل للسيرة الأولى. الولايات المتحدة، ما خلا دار مفلين، سوف تنتظر حتى العام 2030 كي تعيد طباعة “أيام بورمية”، 1934، العمل الوحيد الذي أصدره أرويل في أمريكا، ويحتاج بالتالي إلى مرور 95 سنة قبل أن تسقط عنه الحقوق.

من جانبي أعود إلى بعض قراءاتي عن أرويل خلال العامين الأشهر الماضية، ومن الخير أن أبدأ بكتاب تايلور نفسه، الذي صدر سنة 1919 وسعى إلى تدوين ما يشبه السيرة لرواية “1984” لجهة ملابسات كتابتها والسياقات التي قادت أرويل، المحسوب بقوّة على صفّ اليسار الأوروبي، إلى ذلك النقد الكاسح للنظام الأمني السوفييتي في ذلك الحين، ولشخص جوزيف ستالين على نحو خاص. وقد تنتاب المرء قشعريرة من نوع ما حين يقرأ التصدير الذي اختاره تايلور لكتابه هذا: بائع مجلات في نيويورك، خلال خمسينيات القرن الماضي، يتحادث مع إسحق دويتشر (الكاتب الماركسي البولندي، وصاحب الأعمال الشهيرة عن ستالين وتروتسكي)، ويناوله نسخة من “1984”، قائلاً: “يتوجب أن تقرأها يا سيدي، ولسوف تدرك لماذا يتوجب أن نسقط قنبلة ذرية على البلاشفة”! أجزاء هذه السيرة تبدأ من أعوام 1903 إلى 1943، حين تتكشف تباعاً تأثيرات إدراك أوريل لوقائع الستالينية؛ وتمرّ بمرحلة ثانية، خلال سنوات 1943 وحتى 1949، سوف ترسخ يقين الضمير اليساري؛ ثمّ سنوات ما بعد 1949 وحتى إنجاز المخطوطة، حين تنزاح الأوهام في عالم الوضوح الأقصى.

كتاب ثانٍ، من دوريان لينسكي، يتناول سيرة الرواية ذاتها، وصدر سنة 2019 أيضاً بعنوان “وزارة الحقيقة”؛ ويعقد مقارنة، على أكثر من صعيد واحد مباشر، بين أرويل والرئيس الأمريكي دونالد ترامب. يقول لينسكي، في تصدير كتابه، إنّ رجلاً في جزيرة نائية جلس إلى آلته الكاتبة، في كانون الأول (ديسمبر) 1948 مصارعاً إتمام كتاب يعنيه أكثر من أيّ عمل آخر؛ وفي كانون الثاني (يناير) 2017 أعلن السكرتير الصحفي للرئيس الأمريكي الجديد أنّ عدد الحضور في مراسم التنصيب كان الأعلى على مدى التاريخ، وحين قيل له إنّ هذا الإدعاء كذبة، أحال القائل إلى واحدة من مقولات الرجل الأوّل: هذه “حقيقة بديلة”. بعد أربعة أيام، يتابع لينسكي، سوف تتجاوز مبيعات الكتاب، “1984”، نسبة 10 آلاف بالمئة! وهكذا فإنّ الرواية عادت لتبيع مئات آلاف النسخ، ليس في عهد البلاشفة وستالين هذه المرّة، بل في الولايات المتحدة دون سواها: زعيمة “العالم الحرّ” ونقيض الاتحاد السوفييتي خلال عقود الحرب الباردة. مضت أربع سنوات على تلك “الحقيقة/ الكاذبة/ البديلة”، وها أنّ أعضاء الكونغرس من الجمهوريين يسيرون خلف رئيس شاءت أمريكا أن تطوي صفحته؛ ليس لأنهم على يقين من إمكانية تغيير نتيجة الانتخابات لصالحه/ لصالحهم، بل أساساً لأنّ ممارسة الكذب خيار سلوكي لا يستجلب الأخطار على السامعين فقط، بل يستدعي منهم الإرهاق في إعادة تصديق الحقيقة، كما أوضح أرويل في روايته.

كتاب ثالث، بل هو بُعد أكثر طرافة وأقلّ بحثاً في شخصية أرويل، هو عمله “متشرداً في باريس ولندن”، حسب ترجمة سعدي يوسف، طبعة دار المدى، 1997؛ والذي صدر سنة 1934 وجهدت مقالاته إلى رصد أحوال البؤس والفاقة في العاصمتين. لكنّ ثنايا هذا البحث قادت أرويل إلى منطقة لم تكن، ولن تتواصل، مألوفة لديه: الطبخ والطعام، بين تقاليد بريطانية يسود الإجماع على أنها محدودة فقيرة، وتقاليد فرنسية عامرة بالأطايب وزاخرة بالفنون. وذات يوم، في سنة 1946، استجاب أرويل لطلب الـ”المجلس البريطاني” لكتابة مقالة تردّ على عبارة فولتير الساخرة (“أنّ لدى الإنكليز مئة ديانة وصلصة واحدة”)؛ وكتب المادّة بالفعل، لكنّ المجلس وجدها غير ملائمة فاعتذر عن نشرها. حماس أرويل للمطبخ البريطاني بدا مفاجئاً حقاً، خاصة وأنّ الكثير من مشاويره الباريسية كانت أقرب إلى مدائح للمطبخ الفرنسي، وثمة الكثير من الطرافة، والمغزى بالطبع، في العودة إلى هذا الكتاب تحديداً؛ كما أفعل شخصياً كلما أرهقتني قراءة، وإعادة قراءة، كتاب أرويل المفضّل عندي: “في مديح كاتالونيا”، 1938، الذي يسرد تجربته الشخصية في القتال مع الجمهوريين خلال الحرب الأهلية الإسبانية 1936 ــ 1939.

يبقى أنّ ما تُرجم إلى العربية من أعمال أرويل ليس قليلاً، وهو يتجاوز العشرة حسب إحصائي الشخصي، وليس في الروايات وحدها؛ الأمر الذي لا يتوجب أن يغلق الباب أمام المزيد، الآن وقد باتت أعمال الكاتب الكبير مفتوحة، معفاة من الحقوق.

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى