نقد ومقالات

«بلترة» العمل الثقافي واستغلال منتجي الرموز والعواطف/ محمد سامي الكيال

بدأ الحديث عن «بلترة العمل الذهني» في وقت مبكر نسبياً من القرن الماضي، والمقصود به أن البروليتاريا المعاصرة، أي الفئات التي لا تملك إلا قوة عملها، لم تعد مقتصرة على عمال المصانع، الذين يقومون بجهد عضلي محض، بل صارت تشمل كل العاملين بأجر، بمن فيهم التقنيون والإداريون والعاملون في المجال الخدمي، الذين يتمّ استغلالهم بأساليب مشابهة للعمال الصناعيين، وباتوا غير قادرين على جمع مدخرات، تتيح لهم أن يصيروا من أصحاب الملكيات. إلا أن هذا الطرح واجه كثيراً من النقد، فالعمال الذهنيون يمتلكون فرصاً أكبر لتجاوز وضعهم البروليتاري، والارتقاء الطبقي لصفوف البورجوازية الصغيرة، بالحد الأدنى، كما أنهم ثقافياً واجتماعياً أقرب للقيم البرجوازية، ولا يستطيعون، بحكم نمط إنتاجهم ذاته، المشتت والأكثر ارتباطاً بأجهزة الهيمنة الطبقية، أن يبتكروا أشكال تضامن شبيهة بتضامن الطبقة العاملة الصناعية، التي يتيح لها تجمعها في المعامل فرصاً أكبر للتلاقي والتواصل، والتنظيم النقابي والسياسي.

إلا أن هذا الاعتراض يبقى محدوداً بمنظورات النصف الأول من القرن الماضي، فالمعامل شديدة الضخامة تكاد تزول حالياً من الدول الصناعية الأكثر تطوراً، وبات للعمل الذهني وغير المادي دور كبير في إنتاج قيم أساسية للرأسمالية، يصعُب حسابها، بناءً على النظرية الماركسية الكلاسيكية للقيمة.

فيما حاول منظرون كثر، خاصة مفكرو المدرسة العمالوية الإيطالية Operaismo، بيان مدى أهمية العمل غير المادي، ليس فقط للعمال الذهنيين، بل للمجتمع بأكمله، في إنتاج الثروة الرأسمالية، وأصبح الاستغلال، بحسبهم، لا يقتصر على العمل المأجور، بل أيضاً العمل غير المأجور لفئات متعددة، مثل ربات المنازل والطلاب والمُعطّلين عن العمل، الذين لا يساهمون في الإنتاج المباشر فحسب، بل أساساً في تهيئة الشروط الأولية لإعادة الإنتاج، أي الأسس الحيوية والثقافية والاجتماعية، مثل رعاية الأطفال والمسنين، وابتكار القيم والرموز والعواطف والميول، التي لا يمكن أن يكون هنالك إنتاج واستهلاك بدونها.

ومع تطور الإنتاج غير المادي بات لمنتجي الثقافة، بمعناها الأوسع، من مصممين وفنانين وكتّاب ومؤدّين، دور أساسي في عمليتي الإنتاج وإعادة الإنتاج، ليس فقط من خلال الترويج للمنتجات المادية، عبر الدعاية والإعلان، أو ربطها بقيم ثقافية وأخلاقية معينة، مثل «السلع الخضراء» والصديقة للبيئة، بل أيضاً بوصفهم الفئة الأكثر احترافية بإنتاج العالم الرمزي والقيمي الذي نعيش فيه، والذي نعي من خلاله ذاتنا ورغباتنا وخياراتنا المعيشية، وبالتالي نمط حياتنا واستهلاكنا وعملنا.

ورغم أهمية عملهم، يمكن ملاحظة أن منتجي الثقافة لم يعودوا فئة ذات امتياز كبير، فهم يعانون، مثل غيرهم، من البطالة والأعمال غير المستقرة، ذات الأجر المتدني، وغياب حقوق العمل الأساسية، وهم من أكثر الفئات التي عانت من إغلاق الفضاء المديني، بسبب انتشار وباء كورونا. فما الشروط الأساسية لبلترة العمل الثقافي؟ ولماذا لا يستطيع العمال الثقافيون، رغم ما يُفترض من تمتعهم بالوعي، تنظيم أنفسهم لتحسين ظروفهم العملية والحياتية؟

تقديس المرونة

يسود تعبيرا «المرونة» و»القدرة على الابتكار» في عالم العمل بشدة، منذ فترة ليست بالقصيرة، بوصفهما شرطاً أساسياً لنيل الوظائف المختلفة، بما فيها الوظائف التي تتطلب جهداً عضلياً كبيراً، وربما كان تعميم هاتين الصفتين آتياً من المجال الثقافي أساساً، فهما يتفقان مع التصورات التقليدية عن الإبداع. وإذا كان معظم العمال مجبرين اليوم على القبول بشروط وأوقات عمل مرنة، والتعامل مع مواقف تتطلب كثيراً من الفردانية والشخصانية، فضلاً عن خضوعهم لإعادة التأهيل المهني والتعليمي المستمر، فهذه الصفات هي بالأحرى من صميم شروط النشاط الثقافي الحديث. بهذا المعنى يبدو أن بلترة الإنتاج الثقافي لم تعط للعاملين الثقافيين خصائص العمال التقليديين، بل على العكس، أدت لإلزام الأخيرين باكتساب بعض الخصائص، التي تُنسب للمثقفين.

إلا أن هذه الخصائص تتصف بسمات أيديولوجية واضحة: لم يكن المثقفون دوماً، وفي كل العصور، «مرنين» لهذه الدرجة، بل كثيراً ما ارتبط الإنتاج الفني والأدبي والحِرفي بشروط شديدة الصلابة، مثل الصنعة والتقنية المتوارثة، الطقوس الدينية والاجتماعية الراسخة، العقائد والأيديولوجيات السياسية، إلخ. نموذج المثقف الذي يعيد ابتكار نفسه دائماً، ويمتلك مزاجاً خاصاً وشديد الفردانية، حديث نسبياً، ويختلف كثيراً عن نماذج المثقف التقليدي، مثل الكاهن والفنان الِحرَفي وشاعر الجماعة. يمكن القول إن بروز المثقفين الفردانيين ارتبط أساساً بتطور الفضاء المديني، منذ عصر التنوير. واستخدم المثقفون المدينيون فردانيتهم عادةً لنقد وتفكيك الروابط الاجتماعية والقيم الثقافية، المدعومة من السلطات التقليدية. المرونة والابتكارية كانت إذن عاملاً أيديولوجياً ثورياً، تمّ التنظير له بقوة، خاصة مع تطوّر النزعة الرومانتيكية في القرن التاسع عشر.

يختلف الوضع اليوم بعد أن أصبحت «المرونة»، والمطالبة بإعادة ابتكار الذات، فرضاً سلطوياً، يجعل العاملين تحت ضغط دائم، ويجبرهم على خفص سقف مطالبهم، والخضوع لأكثر شروط العمل قسوة، وبالتالي لم يتحرر العمال كثيراً بعد أن اكتسبوا سمات أكثر «إبداعية»، فيما لا يستطيع العاملون في المجال الثقافي، المشبعون بالتصورات الرومانتيكية التقليدية عن «الإبداع»، تجاوز الأفق الأيديولوجي الفرداني لعملهم، وبناء تصوّر أكثر حِرفيّة وعملية عن شروط وجودهم ضمن عملية الإنتاج الاجتماعي. وبما أنهم الفئة الأكثر تقديساً للمرونة، والأشد تقبّلاً لها، فهم معرّضون، بشكل أكبر من غيرهم من العمّال، لأشكال الاستغلال المرن، التي تفرضها المؤسسات الاقتصادية والثقافية المعاصرة، كما أن تمسّكهم العالي بالفردانية، ومفاهيمهم عن المنافسة والنرجسية الإبداعية، تجعلهم الفئة الأقل قدرة على التضامن والتنظيم المهني. تتكثّف في العمل الثقافي إذن كل الشروط الاقتصادية والأيديولوجية والاجتماعية لاستغلال العمل، وتشتيت مواطنه وعلاقاته، في الشرط المعاصر.

فن غير سياسي

يحتفي كثير من المؤسسات الثقافية المعاصرة بـ»الفن السياسي»، والأعمال الثقافية المرتبطة بقضايا معينة، إلا أن مفهوم هذه المؤسسات عن السياسة، لا يبدو سياسياً للغاية، إذ يقوم على تحفيز منتجي الثقافة على تأكيد وتكرار برامج معدّة سلفاً لدى الإدارات الثقافية، وأداء الإدوار المتوقعة منهم، سواء كانت متعلقة بسياسات الهوية، أو بدعم وتمكين الكتّاب والفنانين، المنتمين إلى دول ومجتمعات تنقصها الديمقراطية والتعددية. فيما تنبني السياسة، في مفهومها العقلاني – الليبرالي، على وجود فضاء عام مفتوح، يعترف بتعددية المواقع الاجتماعية، ويتيح المجال للتواصل وتبادل الحجج بين أطراف مختلفة، أما في مفهومها الأيديولوجي -التصارعي، فلا تقوم إلا على التنافس، بين أطراف متنازعة، لفرض الهيمنة في المؤسسات الاجتماعية، وبالحالتين فإنها تتطلب استقلالية معينة للفاعلين السياسيين، وحرية نسبية في بناء الموقف الأيديولوجي والسياسي، لا توفرها برامج التمويل والدعم في المؤسسات الثقافية المعاصرة، التي استطاعت ابتلاع كل هوامش الثقافات المضادة والفرعية.

ارتبط المثقفون في ما مضى، بشكل مباشر أو غير مباشر، بحركات سياسية واجتماعية متينة، وتأثروا، في كثير من الأحيان، بالأشكال التنظيمية للأحزاب السياسية والحركات العمالية، فأصدروا البيانات، وحاولوا تأسيس روابط واتحادات ومجموعات ثقافية منظّمة، ومتصارعة أحياناً، ضمن الحيّز العام، شديد الفعالية والحيوية، الذي اتسم به القرن العشرون خصوصاً. اليوم، ومع إغلاق وخصخصة وتفتيت كل فضاء عام، تبدو القدرات السياسية لمنتجي الثقافة معطّلة بشكل كبير، ولهذا نتائج كثيرة، ليس أهمها تسهيل استغلال عملهم فحسب، فجودة ونوعية المنتج الإبداعي نفسه، تنحدر بشدة مع تدهور الشرط الأساسي للإنتاج الثقافي الحديث: الحيّز العام المفتوح والمسيّس.

الإدارة بدل الثقافة

يمكن اعتبار استبدال الإدارة بالسياسة من الظواهر المرتبطة بتفتيت الحيز العام، فقد حلّ التحكم البيروقراطي – التكنوقراطي، لدرجة كبيرة، محل التداول والتصارع بين القوى الاجتماعية والسياسية المختلفة، ويبدو أن طغيان الإدارة طال أيضاً المجال الثقافي، فأصبحت الإدارة الثقافية، أي القدرة على استثمار العلاقات، وتأمين التمويل، ونيل المنح المادية، أكثر أهمية من المنتج الثقافي نفسه، وصار المديرون الثقافيون الفئة الأكثر تحّكماً بالإنتاج الثقافي، وقدرةً على مراكمة المنافع والعوائد المادية في المؤسسات الثقافية، سواء المدعومة لأسباب أيديولوجية، مثل المشاريع الممولة من الحكومات و»المنظمات غير الحكومية»؛ أو مؤسسات الثقافة الجماهيرية، مثل دور النشر الشعبية، وشركات الإنتاج الموسيقي والسينمائي والفني.

ضمن هذا الشرط من الإنتاج المعلّب ومنخفض النوعية، يعاني منتجو الثقافة من خيارات معيشية شديدة الصعوبة، ويكتشفون أن عملهم، الذي من المفترض أنه شديد الفردانية والخصوصية، قابل للاستبدال والتعويض، مع وجود «جيش عمل احتياطي» من منتجي الثقافة المُعطّلين عن العمل، كما أن المشاريع التي يعملون فيها معرّضة للتوقف والإغلاق لدى أول أزمة كبرى، تماماً كما كانت المعامل تغلق أبوابها أثناء الأزمات الاقتصادية، وهو شرط بروليتاري نموذجي، يصعب على العاملين في المجال الثقافي تقبّل أنهم يعيشونه، ولذلك فمن المتعذّر التعويل على دور ريادي لهم في أي حراك اجتماعي، قد تفرضه الانهيارات الاقتصادية، والأزمات السياسية المُتوقّعة في المستقبل القريب.

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى