الناس

الليرة السورية.. حدود “معركة الأسد” والجبهة التي تتدهور “بهدوء”/ ضياء عودة

بعيدا عن ساحات الميدان وطاولات السياسة تتحرك جبهة سورية داخلية أخرى “بهدوء”، ورغم أن التفاصيل المتعلقة بها قد تبدو مختلفة بالصورة العامة، إلا أنها تعتبر جزءا أساسيا من “المعركة” التي لطالما تحدث عنها رئيس النظام السوري، بشار الأسد.

هذه “المعركة”، حسب ما قال الأسد في خطاب له قبل حوالي العام تتعلق بـ”سعر صرف الليرة السورية”، والذي شهد منذ شهر يوليو الماضي تدهورا بالتدريج، ليرسو في آخر محطاته مع بداية سبتمبر الحالي على حد الـ4500 ليرة أمام الدولار الأميركي الواحد.

ويعتبر هذا التدهور “قياسيا”، منذ بداية العام 2022 وقبله بأشهر قليلة، ووفق ما رصده باحثون سوريون في الاقتصاد فإن الليرة خسرت ما يقارب الثلاثين في المئة من قيمتها مقابل الدولار خلال الأشهر الـ12 الماضية.

بدوره يشير عالم الاقتصاد المشهور عالميا البروفيسور، ستيف هانكي إلى أن سوريا احتلت المرتبة الخامسة، في قائمة مراقبة العملات الصادرة عنه، حيث انخفضت قيمة الليرة فيها أمام الدولار الأميركي بنسبة 79.64 بالمئة، وذلك منذ الأول من شهر يناير عام 2020، وبينما “لا يزال الاقتصاد السوري في حالة من الفوضى”.

وتتعدد الأسباب حسب رواية النظام السوري، والتي تقف وراء تدهور “سعر الصرف” في الوقت الحالي، وبينما كان الأسد قد اعتبر في مارس 2021 أن الأمر متعلق بـ”حرب نفسية من الخارج”، تحدثت وسائل إعلامه خلال الأيام الماضية عن “مضاربين ومتلاعبين”.

وعزت صحيفة “البعث” التدهور الجديد بأنه مرتبط بـ”لصوص الصرف”، حسب تعبيرها، وقالت في تقرير لها في الرابع عشر من أغسطس الماضي إن “سعر الليرة ينفلت بين الفنية والأخرى من عقال الضبط والسيطرة، بسبب ما ينتابه من موجات مضاربة، أبطالها ثلة من اللصوص، لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة”.

من جهتها نقلت صحيفة “الوطن” شبه الرسمية عن رئيس هيئة الأوراق والأسواق المالية”، عابد فضيلة إن سبب انخفاض قيمة الليرة الحالي “عرضي”، بسبب ارتفاع الطلب على القطع الأجنبي لغاية ما، متوقعا أن “يعود كما كان عليه”.

وأوضح فضيلة، في 15 من أغسطس أن معدلات المضاربة على الليرة تراجعت حاليا عما كانت عليه خلال السنوات الماضية، مضيفا أن حجم السيولة “الكبير” المتاح خارج القنوات المصرفية المقدّر تقريبا بـ20 ألف مليار ليرة سورية، يجعل هذه الأموال عرضة للمضاربة في حال حدوث اضطراب وخلل في سعر الصرف.

لماذا تتدهور بهدوء؟

ومنذ بداية أبريل 2021 وحتى أواخر العام المذكور كان سعر صرف الليرة قد استقر عند حاجز الـ3500 ليرة أمام الدولار الواحد، بعدما شهد تدهورا متسارعا في فترة زمنية قليلة.

لكن ومع الدخول بعام 2022 عادت السيناريو السابق ليتكرر مجددا لكن بعيدا عن دائرة الضوء الإعلامية والرسمية، ليتجاوز سعر الصرف حد الـ4000، ومن ثم ليلامس حاجز الـ4500.

وركز الكثير من المحللين، خلال الفترة الأخيرة، على فكرة أن الاحتياطات النقدية لدى البنك المركزي السوري استنزفت شكل كبير.

ورغم “صحة هذه المعلومات”، وأن النفاد حصل في أول عامين من أحداث الثورة السورية، إلا أن الدكتور في الاقتصاد ومدير البرنامج السوري في “مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية”، كرم شعار يرى أن القصة لها أبعاد أخرى.

يقول شعار في حديث لموقع “الحرة”: “منذ تلك الفترة أي عقب عامين من أحداث الثورة وحتى الآن باتت التدفقات القادمة من القطع الأجنبي للبنك المركزي أقل مما يجب إنفاقه. وهذا ما انعكس على سعر صرف الليرة”.

وتعكس طريقة تعامل حكومة النظام السوري، مؤخرا على أنها “أصبحت على درجة من القناعة أن ورادات القطع الأجنبي لن ترتفع قريبا، فيما لن تتحسن الصادرات ولن تزيد واردات الخارج، وأيضا المساعدات الإنسانية”.

“الحكومة باتت تعي أن الوارد من القطع الأجنبي لا يبدو في تحسن مستقبلا”.

ولهذا السبب، حسب الباحث السوري قررت تخفيض كمية الإنفاق اللازمة بالقطع الأجنبي، والتي تتعلق بالدرجة الأولى في “دعم المواد الأساسية والمستوردين”.

وعلى مدى السنوات الماضية عملت حكومة النظام على منح المستوردين قطع أجنبي بأسعار مخفضة، من أجل توريد مواد أساسية إلى سوريا.

لكن القائمة الخاصة بهذه السلع، والمستوردة بالسعر المخفّض باتت “في انكماش مستمر”، ولم يبق حاليا سوى 3 منها فقط.

ويشير شعار إلى أن “البنك المركزي متجه لسياسة تخفيض الكمية المطلوبة من القطع الأجنبي، لتوفير السلع الأساسية للمواطنين بأسعار معقولة”.

وعلى خلفية نقص القطع الأجنبي اللازم للتدخل في السوق لإعادة الاستقرار لسعر الصرف، قام البنك المركزي بتقليل عدد السلع التي يقوم بتمويلها بسعر صرف 2500 ليرة إلى ثلاث سلع فقط وهي: القمح، الأدوية ومستلزماتها، وحليب الرّضع.

وجاء التقليص في قائمة السلع المسموح استيرادها بسعر الصرف المدعوم، كاستكمال لحزمة إجراءات سابقة تسعى بمجملها إلى رفع الدعم الحكومي بكافة أشكاله عن كافة السلع.

وإلى جانب ضعف “تدفقات القطع الأجنبي” أوضح الباحث الاقتصادي من جانب آخر أن تدهور قيمة الليرة السورية ناجم أيضا إلى حد كبير عن ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي عموما، وليس فقط مقابل الليرة السورية.

“أسباب داخلية وخارجية”

وتعاني سوريا منذ نحو 11 عاما، من أزمة اقتصادية ومعيشية خانقة، وارتفاعا كبيرا في معدلات التضخم والأسعار وندرة في المحروقات وانقطاعا طويلا في التيار الكهربائي يصل في بعض المناطق إلى نحو عشرين ساعة يوميا، دون وجود بدائل حقيقية.

ويرافق ارتفاع أسعار المحروقات ارتفاع في أسعار المنتجات الغذائية والمواد الأولية التي تعتمد على المشتقات النفطية لتشغيل المولدات ونقل البضائع.

في مطلع أغسطس الماضي رفعت وزارة التجارة الداخلية السورية سعر البنزين المدعوم بنحو 130 في المئة، وجاء في بيان لها أن سعر البنزين المدعوم ارتفع من 1100 ليرة مقابل الليتر الواحد إلى 2500 ليرة.

وهذه المرة الثالثة التي ترفع فيها الوزارة أسعار المحروقات منذ بداية العام الحالي، وكان آخرها زيادة سعر ليتر البنزين المدعوم في شهر مايو الماضي من 750 ليرة إلى 1100 ليرة.

علاوة على ذلك، تجاوز سعر كيلو السكر الواحد في العاصمة دمشق الـ6 آلاف ليرة، بينما باتت أجرة التاكسي بالآلاف، حسب الجهة، فضلا عن الارتفاع الهائل في بقية المواد الأساسية التي يحتاجها المواطنون بشكل يومي.

ويرى الاستشاري الاقتصادي السوري، يونس الكريم أن أسباب تدهور سعر صرف الليرة بشكل تدريجي، منذ بداية العام الحالي تقف ورائها عوامل “خارجية وداخلية”.

ومن الصعب على حكومة النظام السوري أن “تسيطر على العوامل الخارجية”، كون مساراتها بعيدة عن يده، وأولها هي الآثار التي فرضها الغزو الروسي على أوكرانيا.

ويقول الكريم لموقع “الحرة”: “الغزو شكّل حالة من الخوف لدى التجار السوريين والوسطاء من أن تستهدفهم أي عقوبات أوروبية وأمريكية جديدة، بسبب حالة الاصطفاف التي أبداها النظام السوري إلى جانب الروس، على نحو كبير ومعلن”.

وسرعان ما أثّرت تلك الحالة على “حركة الحوالات المالية والحصول على السلع وعمليات التحريك وتحريك أموال النظام السوري في الخارج”. وهو ما انعكس على سعر الصرف.

علاوة على ذلك فقد أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى ارتفاع السلع والخدمات في دول الجوار المحيطة بسوريا، لتدخل الأخيرة في مشهد مماثل أيضا، بعدما اتجهت الأطراف الأولى إلى عمليات تشديد لتهريب السلع وإيصالها.

أما فيما يتعلق بالعوامل الداخلية، يشير الكريم إلى أن أولها يتعلق بالمنح المالية التي أعلن عنها عقب مؤتمر “بروكسل” الأخير، وأن النظام السوري ورغم “بناء استراتيجية وهيكلية كبيرة للاستعداد لها، إلا أن عمليات التدقيق والرقابة شكّلت بالنسبة له ضربة”، وخاصة على قطاع توريد المواد والسلع والنقد الأجنبي.

وهناك سبب إضافي آخر، حيث أن سوء الأوضاع الاقتصادية دفعت عدد كبير من المواطنين السوريين لبيع ممتلكاتهم، من أجل الهجرة للخارج، “ما جعل الطلب على دولار كبير داخل السوق”، وفق الاستشاري الاقتصادي.

ويضيف الكريم: “المرسوم رقم 3 الذي أصدره رأس النظام السوري والقاضي بتشديد العقوبات على المتعاملين بغير الليرة له دور أيضا، عدا عن المعلومات التي انتشرت عن استعداد الحكومة لطباعة فئة 10 آلاف ليرة. كل هذا الأمر انعكس سلبا على الثقة في الليرة، وأنها ستبقى وسيلة تداول محلية فقط”.

ما المتوقع؟

في غضون لا يوجد أي ضوء في نهاية النفق المظلم، والذي تسير فيه الليرة السورية على الخصوص عقب عام 2018.

وشهدت الليرة السورية تراجعا حادا خلال سنوات النزاع، إذ كان الدولار الأميركي يساوي 48 ليرة سورية، فيما بات اليوم يعادل 2814 ليرة وفق السعر الرسمي، و4500 وفق سعر السوق الموازي.

وفي المرحلة الحالية “من الصعب التنبؤ بمسار سعر صرف الليرة”، حسب الدكتور في الاقتصاد، كرم شعار. ويقول: “هناك الكثير من المعطيات المحيطة به، ولا أستغرب أن يستقر في السنوات المقبلة أو ينهار بشكل متزايد”.

ومع ذلك يستبعد شعار أن تعود الليرة للتحسن، وفي حال تدخل البنك المركزي فلن يسفر الأمر عن “استعادة العافية”.

ويضيف الباحث: “الحديث المرجح إما حصول تضخم إضافي وانخفاض الليرة بشكل أكبر أو أن يكون هناك حالة استقرار”.

وكثيرا ما يتحدث مسؤولو النظام السوري عن “مضاربين” في السوق السوداء، و”متلاعبين”، وهو أيضا ما أشار إليه الأسد في خطابه الأخير، مطلع العام الماضي.

وأصدر مصرف سوريا المركزي، في 14 من أغسطس، بيانا قال فيه إن إدارة المصرف تعمل على المتابعة المستمرة لعمليات تداول الليرة السورية في سوق القطع الأجنبي، مهددا بالتدخل “لاتخاذ الإجراءات اللازمة لوضع حد للمضاربين والمتلاعبين بسعر الصرف”.

وبوجهة نظر الباحث شعار فإن “القضية ليست مضاربين بالدرجة الأولى، بقدر ما ترتبط بصرافين في السوق السوداء”.

“من يحرك سعر الصرف ليس مجموعة فاعلين في السوق بحسب السعر. المحرك الأساسي هو وجود صرافين غير قانونيين. هؤلاء يستلمون الحوالات من الخارج ويسلموها في سوريا بسعر صرف السوداء. هذه أهم قناة تؤثر على سعر الصرف”.

وحول “الاستجابة الأمنية” التي يهدد بها “المصرف المركزي” باستمرار يوضح الباحث أن “الغرض منها بشكل عام ردع العاملين في السوق السوداء الآخرين. هم يعرفوا تماما أنهم لن يتمكنوا من السيطرة على السوق السوداء بشكل كامل. المقاربة المتبعة بين الفترة والأخرى بأن يعتقل شخص في السوق (السوداء) وتتم معاقبته، لكي يرتدع البقية”.

وكان تقرير “لصوص الصرف” الذي نشرته صحيفة “البعث” قبل أيام قد أشار إلى أنه “وفي كل مرة يتدخل المركزي بإجراءاته الإدارية غير الاقتصادية من خلال ضرب بعض أوكار اللصوص تنحسر المضاربة، وتستقر الأمور لفترة من الزمن، قبل أن يتجدد نشاط هؤلاء بشكل مباشر، أو غير مباشر من خلال توكيل المهمة لآخرين يعملون تحت مظلتهم”.

وجاء في التقرير أن “التلويح بعصا العقوبات لمن يتلاعب بأكثر الملفات حساسية قد يؤتي أُكُله بشكل جيد في حال شمل كل المضاربين الكبار قبل الصغار، لردعهم ريثما تعزز أركان الإنتاج وتقوى أواصره”.

أما أن “تقتصر المتابعة والمراقبة على الصغار فقط فهذا لن يجدي نفعا.. ولعلّه هنا تكمن مشكلة سعر الصرف ومن وراء تذبذباته الحادة ممن يعملون في الظلام”، وفق الصحيفة الناطقة باسم “حزب البعث” في سوريا.

ضياء عودة

الجرة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى