سياسة

محكمة كوبلنز هل هي بداية لتحقيق العدالة للسوريين؟ -مقالات وحوارات وتحليلات مختارة-

انقسام حيال محكمة الغريب.. ما تأثيرها على مسارات العدالة في سوريا؟/ نينار خليفة

توجهت أنظار السوريين إلى مدينة كوبلنز الألمانية لمراقبة نتيجة المحاكمات التي تجريها “المحكمة الإقليمية العليا” بالاستناد إلى “الولاية القضائية العالمية”، ضد العنصر السابق في المخابرات العامة إياد الغريب، والتي أصدرت حكمها بحقه في 24 من شباط الماضي، بالسجن لمدة أربع سنوات ونصف السنة (قابلة للاستئناف)، لإدانته بالتواطؤ في ارتكاب “جرائم ضد الإنسانية”.

نتيجة الحكم التي انتظرها كثيرون جاءت مخيّبة لآمال البعض الذين اعتبروا أن الحكم مخفف، وأن إياد الغريب يستحق السجن مدة أطول لكونه جزءًا من المنظومة الأمنية التابعة للنظام السوري الضالعة باعتقال وتعذيب مدنيين ومتظاهرين سلميين.

بينما رأى آخرون أن الحكم تعسفي، لأن إياد انشقّ عن النظام منذ بداية الثورة السورية، وساعد معتقلين خلال الفترة التي قضاها في الفرع “40” قبل انشقاقه.

أما الفريق الثالث فرحب بالحكم الذي وصفه بـ”المنصف”، لأنه يشكل إدانة لجرائم النظام السوري ككل بحق المعتقلين، وليس فقط لشخص إياد، ولكون المحكمة راعت جميع إجراءات المحاكمة العادلة.

تستعرض عنب بلدي في هذا الملف وجهات نظر مختلفة لحقوقيين سوريين قريبين من أوساط المحاكمة، وقانونيين، وعاملين مع مجتمعات الناجين والناجيات من سجون النظام، حول الحكم الصادر بحق إياد الغريب في محكمة “كوبلنز”، وتناقش معهم الأثر الذي يمكن أن تتركه المحاكمة على مسارات العدالة المستقبلية في سوريا.

أُدين إياد (44 عامًا) لمشاركته في اعتقال 30 متظاهرًا على الأقل في أثناء احتجاجات بمدينة دوما بريف دمشق عام 2011، وتسليمهم إلى الفرع “251” المعروف بـ”الخطيب” حيث تعرضوا للتعذيب.

وطالب المدعون بالحكم على إياد بالسجن لمدة خمس سنوات ونصف السنة، وفقًا للمادة “7” الفقرة “1” الرقم “5” و”9″ من “القانون الجنائي الدولي”، بينما طلب محامي الدفاع إخلاء سبيل موكله ورفع الأمر بالحبس الاحتياطي، بحجة أنه كان مجبرًا على تنفيذ الأوامر.

عائلة إياد: سنطعن بالحكم

ابن عم إياد وشقيق زوجته مهدي الناصر، عبّر عن صدمة العائلة بالقرار الصادر، الذي وجدته غير عادل و لا يستند إلى أدلة واقعية.

وقال، في حديث إلى عنب بلدي، “لدينا إيمان أن انشقاق هذا الرجل من بدايات الثورة يعني أنه لم يقبل بجرائم النظام، أو أن يكون محسوبًا عليها، بالتالي نحن نرفض الحكم الصادر بحقه، ولدينا إيمان بأنه بريء”.

ولفت إلى أن تعليل الحكم ليس منطقيًا، لأنه لم يستند إلى شهود ضده، أو فيديوهات وصور تثبت تورطه، بل تمت إدانته بناء على شهادته، التي تم أخذ جزء منها فقط، لعدم تمكن المحققين من إثبات الجزء الآخر، بحسب قولهم.

وأكد مهدي أن العائلة ستواصل المحاولة قانونيًا للدفاع عن فكرة أن إياد رفض أن يكون محسوبًا على النظام منذ عام 2011، وستحاول من خلال محامي الدفاع الاستئناف والنقض، وتقديم أدلة جديدة على أمل أن تتمكن من إثبات براءته.

ولد إياد الغريب عام 1976 في مدينة موحسن بمحافظة دير الزور، وتلقى فيها تعليمه حتى المرحلة الثانوية.

تطوع في المخابرات السورية عام 1996، وتنقل بين عدد من الأفرع الأمنية، كان أولها الفرع “295” التابع لإدارة المخابرات العامة، بمنطقة نجها في ريف دمشق، وبقي فيه حتى عام 2010، بصفة مدرب رياضة.

نُقل عام 2010 إلى الفرع “251”، وبقي فيه حتى انشقاقه في تشرين الثاني من عام 2011، انتقل بعدها إلى دير الزور ومنها إلى تركيا في عام 2013 ليقيم في أحد المخيمات حتى عام 2016.

وفي عام 2018، لجأ إلى ألمانيا، وحصل على حق اللجوء فيها عام 2019، وهو نفس العام الذي أُلقي فيه القبض عليه، ومثل أمام المحكمة في نيسان 2020.

الحقوقي السوري حسام القطلبي: غياب نظرة استراتيجية للتقاضي

الحقوقي السوري حسام القطلبي، لديه مآخذ على ما تقوم به محكمة “كوبلنز” من تحقيقات في السياق السوري بغض النظر عن الحكم الصادر بحق إياد، ولا يرى في هذا المسار خطوة باتجاه العدالة المرجوة لضحايا إجرام النظام، وفق حديث إلى عنب بلدي.

إذ يعتبر أن “كوبلنز” محكمة محلية في مدينة غربي ألمانيا، ربما لم تنظر أو تعالج سابقًا قضايا مماثلة، وليس لديها اطلاع واسع على السياق السوري قبل الثورة وبعدها، وهي لا تملك وصولًا إلى بيانات رسمية خاصة بالدولة والأجهزة السورية، والتي من المفترض أن يكون لها دور رئيس في تدقيق الأدلة وادعاءات الشهود، إنما استندت إلى أقوال الشهود، وتوثيقات منظمات سورية ودولية، “هي على أهميتها شديدة الضحالة بالمقارنة مع أدلة وسجلات الدولة الرسمية”، بحسب تعبيره.

وأضاف أنه لا ملكية سورية لمسار كهذا، ولا سلطة لأي جهة وطنية سورية على ملفات القضية التي تُدار كليًا من قبل جهات ألمانية، ويقتصر دور السوريين فيها على جمع الشهود المحتملين، ووضعهم على تواصل مع المنظمة الدولية المعنية أو الادعاء الألماني.

وعلاوة على ذلك، لا يأتي سياق الدعوى ضمن نظرة استراتيجية متكاملة للعدالة، من شأنها تعريف المجرم والضحية، وتحديد العقوبات والتعويضات المناسبة التي تنصف الضحايا وذويهم وتقتص من المجرمين، مع إلحاق أقل أذى ممكن بالمستقبل وحياة الأجيال المقبلة في سوريا بهدف تشكيل قطيعة إيجابية مع الماضي الدموي، وفق القطلبي.

إذ يجب أن تتضمن هذه النظرة الإجابة عن التساؤلات التالية: كيف سنتعامل مع المنشقين؟ هل ستتم محاكمة المنشق بغض النظر عن رتبته أو دوره داخل أجهزة النظام؟ هل سيتم التساهل مع من يقدم معلومات تفيد الأجهزة القضائية في عملها؟

ويرى القطلبي أن ما يجري في “كوبلنز” يشبه “خطوات اعتباطية تحاكي عدالة مفترضة في سياق إحدى أكبر وأخطر (جرائم الحرب) والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية منذ الحرب العالمية الثانية، وهو يهدد بإلحاق بالغ الضرر على أي مسار لاحق ممكن للعدالة من خلال إعطاء الجمهور السوري المعني توقعات غير واقعية عن المسار، وتقديم بديل سهل وغير مكلف لملف العدالة على طاولة أي حل سياسي أو انتقال ممكن في سوريا مستقبلًا”.

أشار فريق الدفاع إلى عدم وجود سوابق قضائية مشابهة على الإطلاق لقضية إياد، وأن القرار بحقه هو الأول من نوعه في العالم بشأن متهم بارتكاب “جرائم ضد الإنسانية” قادم من سوريا، “وهو ما دعا الادعاء إلى التخبط في تقدير العقوبة”، وفق قوله.

وأكد محامي الدفاع أن إياد لم يبقَ مع المخابرات السورية بعد بدء الثورة لاعتقال المتظاهرين وتعذيبهم، بل كان الخيار الوحيد المتبقي أمامه هو البقاء عدة أشهر حتى تأمين سفره مع عائلته، فلو أنه لم يغادر وعصى أوامر رؤسائه كان سيتعرض للقتل لا محالة، ولو انشق وسافر على الفور كان سيعرّض حياة عائلته للخطر.

وطالب الدفاع بتخفيف العقوبة نظرًا إلى اعترافات المتهم، ومساعدته في إيضاح الجرائم المرتكبة من خلال إدلائه بالكثير من التفاصيل حول كيفية الاعتقال وأساليب التعذيب المستخدمة في فرع “الخطيب”، وتقديم معلومات مهمة حول المتهم أنور رسلان، ساعدت الادعاء العام على رفع دعوى ضده.

وأشار المحامي إلى أنه لو كان هو من يلقي خطابًا للمطالبة بحكم ضد موكله لكان طالب بمدة لا تتجاوز السنتين، وهي نفس المدة التي قضاها إياد في السجن على ذمة التحقيق حتى الآن، لكنه طالب بإخلاء سبيل موكله نظرًا إلى جميع ما تقدم.

دياب سرية مؤسس شريك في “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”: دور محدود للمحكمة جرى تضخيمه

دياب سرية، وهو مؤسس شريك في “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”، يشترك مع القطلبي في المخاوف المتعلقة بمستقبل العدالة في سوريا بظل التركيز الكبير على المحاكمات الجارية في “كوبلنز”، ويرى أن دور المحكمة جيد لكنه محدود، وقد حُمّلت أكثر مما تحتمل من خلال تضخيم نتائجها ووصف الحكم الصادر بحق إياد بـ”التاريخي” من قبل حقوقيين سوريين وبعض الجهات الدولية.

وأشار سرية، في حديثه لعنب بلدي، إلى أن تضخيم القضية، ووصف المحاكمة بأنها ضد نظام بشار الأسد ككل، وستحقق العدالة لكل السوريين، أساء لمشاعر الضحايا وعذاباتهم من خلال بيعهم أملًا كاذبًا، “فالعدالة التي حققتها المحكمة لم تشمل جميع السوريين، إذ إن فرع (الخطيب) لا يُختصر بأنور رسلان وإياد الغريب، وهو جزء من منظومة أسدية كبيرة للقتل والتعذيب لا تكفيها محاكمة واحدة، وهنا تكمن الخطورة”.

ويعتبر سرية أن هذه المحكمة قسّمت السوريين ومجتمعات الضحايا، مع وجود تيارين ضمن الجو العام، الأول يقول إنها محاكمة للنظام ولمرتكبي التعذيب في سوريا، والثاني يراه مسارًا جيدًا لكنه غير كافٍ ولا يرضي طموحات مجتمعات الناجين والناجيات، لافتًا إلى أن جزءًا من هذا الانقسام ربما يكون صحيًا لأنه يفتح نقاشًا حقيقيًا حول مفهوم العدالة، لكنه عبّر عن تخوفه من أن يصبح أنور رسلان وإياد الغريب “كبش فداء” لموضوع العدالة بسوريا، وأن تختصر الدول الإقليمية والكبرى مسار العدالة بالمحاكمات المتوفرة الحالية، وتنسى شأن إنشاء محكمة خاصة بسوريا على غرار ما حدث في رواندا ويوغسلافيا سابقًا، مؤكدًا ضرورة تذكير الدول بمسؤوليتها على الدوام.

من جانب آخر، لفت سرية إلى أن الاطلاع على تفاصيل ما يجري داخل المحكمة انعكس بشكل إيجابي على مجتمعات الضحايا، إلا أنه تحدث عن شحّ في المعلومات المتوفرة لدى السوريين عن هذه المحاكمة، منتقدًا الأداء الإعلامي المرافق لها، واقتصار وسيلتين على تغطية جميع التفاصيل المتعلقة بها.

وصف وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، القرار الصادر بحق إياد الغريب بـ”التاريخي”، مشيرًا إلى أنه يحمل معنى رمزيًا رفيعًا لكثير من الأشخاص.

وقال في بيان، إن “القرار يعد الأول الذي يأخذ في الحسبان المسؤولين عن التعذيب في سوريا، ويضمن على الأقل بعض العدالة”.

ووصفت الخارجية الأمريكية إدانة إياد بأنها أول إدانة على الإطلاق لمسؤول سابق في النظام السوري بهذه التهمة.

وأثنت على ألمانيا لاتخاذها هذه الخطوة، واتهمت غريب بارتكاب “جرائم ضد الإنسانية”.

كما وصفت الخارجية البريطانية الحكم على إياد، بأنه “تاريخي”، وأنه أول حكم قضائي على الإطلاق بشأن التعذيب الذي ترعاه الدولة من قبل نظام الأسد في “كوبلنز”، لإدانته إياد بالتواطؤ بجرائم ضد الإنسانية في سوريا، متمنية أن يكون بداية طريق إلى العدالة للسوريين.

ورحبت الأمم المتحدة من جهتها بجهود المحكمة الألمانية، مشيرة إلى تقارير اللجنة الثلاثية في محاكمة “كوبلنز”.

مريم الحلاق، مديرة “رابطة عائلات قيصر” وإحدى مؤسسيها: خطوة على طريق العدالة

وبالحديث عن نظرة مجتمعات الضحايا للمحاكمات الجارية في “كوبلنز”، نجد رأيًا مغايرًا لرأي سرية لدى مديرة “رابطة عائلات قيصر” وإحدى مؤسسيها، مريم الحلاق، التي علّقت على الحكم الصادر بحق إياد بالقول، “إن إدانة أحد أزلام النظام هو إدانة للنظام بأكمله من رأس الهرم حتى أصغر مجرم في قاعدته”.

وأضافت، في حديثها إلى عنب بلدي، أنها لم تهتم بماهية العقوبة أو عدد السنوات التي سيقضيها في السجن، بل يكفيها مجرد إدانته.

وأكدت الحلاق أهمية المحاكم الجارية في أوروبا على مسار العدالة في سوريا، إذ إنها ستوفر وثائق وأدلة ثابتة يمكن الاستفادة منها عندما يحين موعد مقاضاة المجرمين في “محكمة الجنايات الدولية”، وتشكل جميعها خطوات صغيرة نحو العدالة المرتقبة لسوريا.

تمثلت مهمة إياد الرئيسة في أثناء عمله بقسم “الأديان” في فرع “الخطيب”، بالتجسس على أئمة المساجد وكتابة التقارير الأمنية، وخاصة أيام الجمعة التي كانت تنطلق فيها المظاهرات، وهو ما أدى بطبيعة الحال إلى اعتقال متظاهرين سلميين، وفق ما أشار إليه المدعي العام.

أما تهمته الرئيسة فجاءت بناء على شهادة أدلى بها أمام “المكتب الاتحادي للهجرة” (بمقابلة اللجوء)، والشرطة الاتحادية، عندما تم استدعاؤه كشاهد في قضية ضابط المخابرات السابق المتهم أنور رسلان، تحدث خلالها عن حادثة إطلاق نار على مظاهرة خرجت أمام الجامع “الكبير” في مدينة دوما، في أيلول أو تشرين الأول من عام 2011، إذ تجمّع عناصر أمن يتبعون لفرع “40”، وبينهم إياد، بحضور رئيس الفرع، حافظ مخلوف، الذي أطلق النار على المتظاهرين السلميين موقعًا ثلاث ضحايا.

ورغم عدم مشاركة إياد بإطلاق النار، أسهم في اعتقال ما لا يقل عن 30 متظاهرًا، تم اقتيادهم إلى فرع “الخطيب”، حيث كانوا سيتعرضون للتعذيب وربما القتل، بحسب المدعي العام.

واستند الادعاء إلى شهادة إياد التي أكد خلالها أنه كان قادرًا على سماع أصوات تعذيب المعتقلين حتى من “الكافيتيريا” التابعة للفرع، وهو ما جعله يصر على أن المتهم كان على دراية بما يحدث هناك، ومع ذلك سلّم 30 متظاهرًا سلميًا، ويعتبر الادعاء أنه كانت لدى إياد فرصة للانشقاق عن المخابرات خلال المظاهرة، إلا إنه لم يفعل.

وحمّل المدعي العام إياد المسؤولية عن عمليات التعذيب الممنهجة ضد المعتقلين في فرع “الخطيب” في أثناء وجوده، والتي أكدتها تقارير أممية وشهادات مدّعين وخبراء، بما فيها شهادة “حفّار القبور”.

رئيسة جلسة المحكمة، آن كيربر، تجلس في قاعة محكمة “كوبلنز” العليا في أثناء محاكمة ضابطي مخابرات سوريين سابقين متهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في أول محاكمة من نوعها تنبثق عن النزاع في سوريا- 4 من حزيران 2020- مدينة كوبلنز غربي ألمانيا (فرانس برس/ توماس لونيس)

عضو مجموعة “ملفات قيصر”، و”المركز الأوروبي للدستور وحقوق الإنسان”، المحامي إبراهيم القاسم: الانشقاق لا يُعفي من العقوبة

عضو مجموعة “ملفات قيصر”، و”المركز الأوروبي للدستور وحقوق الإنسان”، المحامي إبراهيم القاسم، يتفق مع الحلاق باعتبار الحكم الصادر بحق إياد خطوة أولى على طريق العدالة الطويل.

وفي حديث إلى عنب بلدي، أشار إلى أن إدانة إياد ستسهم في بناء أرضية للمحاسبة، إضافة إلى أن الحكم تضمن صورة واضحة وشاملة عن منظومة الحكم في سوريا، فعندما كانت القاضية تتحدث عن حيثيات القرار، روت السياق التاريخي للحكم في سوريا، وكيف أنه قائم على القمع والتعذيب وانتهاك حقوق الإنسان.

واعتبر القاسم أن الجدل الدائر في الأوساط السورية حول شخص إياد، والعقوبة الصادرة بحقه، مفهوم في المرحلة الحالية، لكن يجب النظر إلى القضية من خلال وجود ضحايا لهم حقوق، ومن ثم إلى الأشخاص الذين قاموا بانتهاك هذه الحقوق من حيث رتبتهم ومكانتهم وانتماءاتهم، لتحديد ما سيكون عليه الحكم، وهل هو مشدد أو مخفف كما حدث مع قضية إياد بمحكمة “كوبلنز”.

وأضاف القاسم أن انشقاق إياد بداية 2012 لا يمكن اعتباره سببًا لإعفائه من العقوبة أو تخفيفها حسب ما جاء في قرار المحكمة، لأنه وفقًا لقناعاتها كان يمكن أن يقوم به بوقت أبكر وأن يجد حلولًا بشكل أسرع، وما كان سببًا لتخفيف العقوبة هو تعاونه مع القضاء وإعطائه معلومات.

أصدر “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” بيانًا بخصوص الحكم، قال فيه، إن قرار الإدانة “ليس إلا مجرد بداية، والتي ستؤدي في النهاية إلى الاعتراف بمعاناة الشعب السوري الطويلة، وإرساء السلام في سوريا”.

وأضاف المركز أن “ما تحقق هو سابقة لم يكن لأحد أن يتخيل إمكانية حدوثها، ولا يسعنا هنا إلا أن نعيد تأكيد دعمنا لما سيأتي بعد ذلك”.

وقال مدير المركز، مازن درويش، إن “الحكم ليس مجرد لائحة اتهام للمتهم إياد، إنما هو لائحة اتهام قضائية لجميع الأجهزة الأمنية في سوريا، وجميع الانتهاكات التي ارتكبتها، وما هذه إلا مجرد البداية”.

كما شدد البيان على ضرورة توسيع صلاحيات الأجهزة القضائية ذات الاختصاص العالمي، وعلى “أهمية بذل جهود دولية أكثر وضوحًا نحو آليات دولية لتقديم جميع مجرمي الحرب ومرتكبي الجرائم ضد الإنسانية في سوريا من قبل جميع الأطراف إلى العدالة”.

مدير “المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية”، أنور البني: رسالة إلى مجرمي الحرب

مدير “المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية”، أنور البني، وصف قرار الحكم ضد إياد بـ”التاريخي”، لأن حيثياته تطال النظام السوري برمته بجميع أركانه وشخصياته.

وفي حديث إلى عنب بلدي، أشار إلى أن الحكم الصادر يوجه رسالة لجميع مجرمي الحرب في سوريا مفادها أن زمن الإفلات من العقاب قد ولّى، ولا مكان آمنًا للفرار إليه.

وأوضح أن محاسبة إياد لم تأتِ لقيامه بجريمة فردية، بل لكونه جزءًا من آلية منظمة تقوم باعتقال المدنيين وتعذيبهم وقتلهم.

واعتبر في بيان أصدره المركز أن تأثير تحقيق العدالة في سوريا سيكون له صدى عالمي، كما سيحمي حياة عشرات الملايين المعرّضين لمواجهة مصير مشابه لما مرّ به السوريون.

المحامية السورية والزميلة الباحثة ببرنامج الجرائم الدولية والمحاسبة في “المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان” جمانة سيف: محكمة نزيهة راعت إجراءات المحاكمة العادلة

المحامية السورية والزميلة الباحثة ببرنامج الجرائم الدولية والمحاسبة في “المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان” جمانة سيف، اعتبرت من جهتها أن الحكم منصف ومعقول، لأنه اعتراف بالضحايا والجرائم التي تعرضوا لها من جهة، ولكونه راعى جميع حيثيات القضية، ومن ضمنها انشقاق إياد والمعلومات التي أدلى بها من جهة أخرى.

ولفتت سيف، في حديث لعنب بلدي، إلى أن المحكمة تصرفت بمهنية ونزاهة، وقد جاء الحكم بعد التدقيق والتمحيص، وإثبات الوقائع والحقائق على ما يُرتكب في الأجهزة الأمنية وبالذات في فرع “الخطيب”، بالإضافة إلى أنها راعت جميع إجراءات المحاكمة العادلة، بما في ذلك تأمين محامين للمتهم الذي كان بوسعه تقديم طلباته، إذ قدم رسالة توضيحية قُرئت علنًا في المحكمة، وعُرضت على الشاشة باللغتين العربية والألمانية، وما زالت لديه فرصة استئناف الحكم.

وعن الآليات التي اعتمد عليها القضاء بالحكم، أوضحت سيف أن المحكمة نظرت بلائحة الاتهام التي أعدها المدعي العام الألماني وجاءت كثمرة جهود ونتائج طويلة من التحقيقات وبناء قاعدة بيانات لمعرفة حقيقة ما يجري بسوريا وتحديدًا في المعتقلات، إلى جانب شهادة المتهم واعترافاته، مشيرة إلى أن جميع ما سبق جعل الإدانة تتركز على الجرائم التي نُسبت إلى المتهم، وهي الاشتراك والتحريض على ارتكاب “جرائم ضد الإنسانية”.

وعندما نظرت المحكمة بالتهم الموجهة لإياد دققت بجميع التفاصيل والأدلة والإسنادات، واستعرضت التحقيقات الجارية معه، واستمعت إلى المحققين، وخلصت إلى أنه مذنب باشتراكه بـ”جرائم ضد الإنسانية” منذ عام 2011، وبالذات بإسهامه باعتقال مدنيين في منطقة دوما، وأخذت المحكمة بعين الاعتبار جميع حيثيات وظروف القضية، بما فيها انشقاقه وإحساسه بالندم ولذلك جاء الحكم مخففًا، لأنه كان يمكن أن يصل إلى السجن لمدة 15 سنة.

ترى سيف أن الوقائع والحقائق والأدلة التي قُدمت سواء عبر شهادات الخبراء أو الوثائق والدراسات حول تاريخ نظام الأسد وممارساته، والدراسة التي أُجريت حول صور “قيصر” وتحليلاتها، ستكون كلها متاحة للاستخدام في تقاضٍ آخر سواء داخل ألمانيا أو في أوروبا أو حتى على صعيد العدالة الانتقالية مستقبلًا.

وأشارت إلى أن ما كُشف عنه علنًا بوثائق قضائية أسهم بلفت أنظار العالم مرة أخرى نحو جرائم الأسد وما يرتكب بأفرع المخابرات السورية، والتركيز بشكل أكبر على قضية العدالة، كما أغلق الطريق أمام التطبيع المستقبلي مع نظام الأسد.

وعبّرت سيف عن أملها بأن تشجع محاكمات “كوبلنز” دولًا أوروبية أخرى تجري فيها تحقيقات، وتحتضن أعدادًا كبيرة من السوريين، على تكثيف هذه التحقيقات وإعطائها اهتمامًا أكبر لكي يتم الدفع بها وتسهم بإظهار المزيد من الحقائق، وأن تشهد “الولاية القضائية العالمية” مزيدًا من التفعيل، كما تمنت أن تقوم الدول التي تتابع هذا المسار والمؤمنة بالديمقراطية بالضغط على روسيا والصين لإحالة القضية إلى مجلس الأمن الدولي، وأن يتولد ضغط سياسي يؤدي إلى انفراج بمسارات قضائية ثانية منها “محكمة الجنايات الدولية”.

عنب بلدي

—————————-

أعداء الأسد وعملاؤه في آن واحد/ عمر قدور

لم تكن المرة الأولى التي يحتدم فيها الجدال حول محكمة كوبلنز، لمناسبة إصدارها حكماً بالإدانة على المتهم/الشاهد إياد غريب؛ سبق أن ثار جدال حاد حول شهادة أحد الشهود في قضية المتهم الآخر أنور رسلان. في المرتين، انزلق فوراً الجدال من أحد طرفيه إلى اتهام الطرف الآخر بالعمالة للأسد، ليتبادل الطرفان التهمة التي قيلت بوضوح، أو نصّت على اتهام الطرف للآخر بخدمة الأسد عن قصد ووعي.

في المرة السابقة بادر محام ناشط في قضية كوبلنز إلى اتهام الذين شككوا في إحدى الشهادات بالعمالة للأسد، مع أن تشكيكهم “في حده الأدنى” يجوز اعتباره نوعاً من التمرين أمام المنظمات المساعدة لهيئة الادعاء وللمدّعين الشخصيين، إذ سيبادر محامو أنور رسلان إلى تكذيب العديد من الشهود، وإلى استغلال أي ضعف في أية شهادة. التنبيه المبكر إلى ضعف في إحدى الشهادات أفضل من الانتظار حتى قيام الخصم باستغلاله للانقضاض على شرعية المحاكمة ككل، هذا إذا اعتبرنا النوايا صافية من الجميع، واعتبرنا أنهم يتوخون خدمة المسار القضائي.

هذه المرة، مع إدانة إياد غريب، ارتدت التهمة على المحامي ذاته الذي اعتبر الإدانة انتصاراً على نظام الأسد، في حين اعتبر منتقدوه السياق القضائي الحالي برمته خدمة للأسد لأنه ينال أساساً وبالضرورة من منشقين عنه، ولا أفق لجر الباقين في خدمة مخابرات الأسد وشبيحته إلى المحاكم الأوروبية. عزز من النبرة الغاضبة للمنتقدين أن أصحاب المنظمات الحقوقية المنخرطة في المسار القضائي لم يتواضعوا بإقامة حوار هادئ يشرح وجهات نظرهم، ولم يتواضعوا بإصدار بيانات توضح ما يرونه في العملية القضائية من فوائد تدين نظام الأسد، بل تراوحت ردود أفعالهم بين الغضب والغطرسة.

نعود للتوقف عند هذا الجدال لما للمسار الحقوقي من أهمية في ما آل إليه الوضع السوري، فهو المسار الذي يُفترض أن يحافظ على قدر مقبول من الاستقلالية، إذا لم يستطع القائمون عليه المحافظة على استقلاليتهم التامة. ننطلق من أن المعارضة السياسية صارت برمتها رهينة الخارج وفقدت رصيدها لدى السوريين، وكذلك هو حال الفصائل العسكرية بصرف النظر عن الرأي من موضوع العسكرة ككل، ولم يبقَ من عزاء لهم سوى محاولة تثبيت الجرائم التي ارتكبها الأسد وعدم تضييعها مع محاولات إعادة تدويره، وبوصفه المجرم الأكبر من دون إغفال جرائم سلطات الأمر الواقع الأخرى في السنوات العشر الماضية. السبل المتاحة واقعياً ونسبياً تقتصر على القليل المتاح قانونياً وإعلامياً عبر الكتابة والفنون، وبلا إبراز بطولات وهمية هنا وهناك.

إما أن تكون المنظمات الحقوقية الناشطة جزءاً من القضية السورية، أو أن المسؤولين عنها يرون أنفسهم خارج القضية بوصفها همّاً سياسياً، ويرون أنفسهم والهيئات التي ينشطون فيها أدوات تقنية لإنفاذ القانون. فإذا كانوا يضعون أنفسهم ومنظماتهم في الإطار التقني فقط، لن يكونوا مطالبين أمام السوريين بتبرير لعمل الماكينة التي يقودونها، ومن المستحسن أن يحافظوا على انفصالهم عن ذلك الجمهور فلا يتهمون بعضاً منه بالعمالة للأسد، لأن هذا اتهام سياسي يجردهم من زعم العمل التقني فحسب، ويبيح لآخرين مبادلتهم الاتهام على الأرضية “المؤسفة” ذاتها.

وإذا كان هؤلاء يرون أنفسهم ممثلين لقضية، من المستحسن ألا ينظروا بتعالٍ إلى آخرين يُفترض أنهم شركاء في القضية، والبعض منهم هو الأقرب إليهم على الصعيد الفكري. التعالي على الآخرين بزعم امتلاك معرفة تقنية يفتقر إليها “الجمهور” لا يعفي تلك “النخبة” الحقوقية من واجباتها إزاءه، من قبيل تقديم شروحات لنهجهم القانوني وآفاقه. الأهم من هذا الجانب التقني احترام ذلك الجمهور، وعلى نحو خاص احترام حساسيته تجاه العدالة، فعدم امتلاك المعرفة الحقوقية التقنية لا يعني إطلاقاً عدم امتلاك حساسية عالية تجاه العدالة، ولولا هذه الحساسية تحديداً لما ثار سوريون بسطاء “وفق مفهوم النخبة” ضد الأسد.

يتحمل الناشطون الحقوقيون مسؤولية أكبر عن انحدار الجدال المتعلق بعملهم، مع الانتباه إلى الضفة الأخرى وجهوزية أعداد متزايدة من السوريين لتخوينهم. يتحملون المسؤولية بتحولهم إلى “طبقة” منفصلة عن الإطار الأوسع، على غرار ما حصل للمعارضة، وعلى غرار العديد من الظواهر التي تبرز كاستفادة لأصحابها من القضية السورية بدل خدمتها. في بيئة جاهزة لشتى أنواع سوء الفهم أو التفاهم، سيعزز هذا الانفصال أسوأ صورة لدى “الجمهور”، وسيعزز النزوع إلى الانعزال والإحساس بالمظلومية والنخبوية معاً لدى الطرف الآخر.

نظرياً، لا يصعب جَسْر الهوة بين الطرفين، على اعتبارها ناجمة عن سوء تفاهم غير متعمد. الواقع يقول لنا غير ذلك، لقد قاله لنا من قبل في جميع الخلافات العاصفة بين أبناء القضية الواحدة، قاله عندما تغلبت خلافات على التناقض الرئيسي مع الأسدية، وعندما استُخدم تفككهم وتهافتهم كذريعة لبقاء الأسد وعدم وجود بديل منظم وموحد ولو على برنامج عمومي فضفاض. أخيراً، قال الواقع ما هو مؤسف جداً عندما لم يأتِ أول حكم في محكمة أوروبية بالثقة بالمسار القضائي، بل أتى بانعدام الثقة بين السوريين.

في ثمانينات القرن الماضي، عندما تكاثر عدد المعارضين العراقيين في سوريا، راح السوريون يتندرون على عداوات أولئك المعارضين والاتهامات الملاصقة لها. العمالة لصدام حسين كانت التهمة الأثيرة، وبحسب رواجها يخلص المستمع إلى أن أولئك المعارضين “إذا صحّت اتهاماتهم” جميعاً عملاء لصدام حسين، وقد أرسلهم متنكرين إلى الخارج لمطاردة أعداء لوجود لا وجود لهم، أو “في أحسن الأحوال” هم قلة نادرة جداً لا يستحقون إرسال ملايين من عملاء المخابرات لمراقبتهم.

يسير السوريون حثيثاً إلى ما آلت إليه الاتهامات القديمة للمعارضة العراقية، ليصبحوا جميعاً أعداء الأسد وعملاءه في آن واحد. بشار نفسه سيُدهشه ذلك العدد المهول غير المنتظر من عملائه المزعومين، ولعله سيشعر بالفخر بامبراطوريته الممتدة في المنافي.

المدن

—————————

ميشال شماس: ما تحقق اليوم في كوبلنزبعث برسالة قوية لكل المجرمين

أول حكم قضائي في العالم يتعلق بالجرائم التي ارتكبها نظام الأسد

محمد ديبو

بتهمة “جرائم ضد الإنسانية”، وفي حكم تاريخي غير مسبوق، أصدرت في ٢٤ فبراير ٢٠٢١ المحكمة الإقليمية العليا في بلدة كوبلنز جنوب غربي ألمانيا حكمها بالسجن لمدة أربع سنوات ونصف السنة على عنصر المخابرات العامة السورية، إياد الغريب، وذلك على خلفية ما بات يعرف بقضية عناصر المخابرات السورية المتهمين بالمسؤولية عن “جرائم وانتهاكات” نُفذت في مراكز اعتقال تابعة للنظام السوري بدمشق. للوقوف على طبيعة هذا الحكم وخلفياته والآثار االمترتبة عليه، أجرت حكاية ما انحكت حوارا مع المحامي والناشط الحقوقي ميشال شماس للوقوف على طبيعة هذا الحكم وخلفياته والآثار االمترتبة عليه.

رئيس تحرير موقع حكاية ما انحكت (النسخة العربية). باحث وشاعر سوري. آخر أعماله: كمن يشهد موته (بيت المواطن، ٢٠١٤)، خطأ انتخابي (دار الساقي، ٢٠٠٨). له أبحاث في الاقتصاد والطائفية وغيرها.

بتهمة “جرائم ضد الإنسانية”، وفي حكم تاريخي غير مسبوق، أصدرت في ٢٤ فبراير ٢٠٢١ المحكمة الإقليمية العليا في بلدة كوبلنز جنوب غربي ألمانيا حكمها بالسجن لمدة أربع سنوات ونصف السنة على المساعد السابق في المخابرات العامة السورية، إياد الغريب، وذلك على خلفية ما بات يعرف بقضية عناصر المخابرات السورية المتهمين بالمسؤولية عن “جرائم وانتهاكات” نُفذت في مراكز اعتقال تابعة للنظام السوري بدمشق.

للوقوف على طبيعة هذا الحكم وخلفياته والآثار االمترتبة عليه، أجرت حكاية ما انحكت حوارا مع المحامي والناشط الحقوقي ميشال شماس.

(1): أولا أستاذ ميشيل دعني أبارك لكم هذا الإنجاز الذي تحقّق في درب العدالة الطويل للشعب السوري، وثانيا دعني أسألك: ماذا يعني هذا لك على الصعيد الشخصي وعلى الصعيد العام كونك ناشطا حقوقيا في مجال حقوق الإنسان والدفاع عن حقوق المعتقلين؟

شكراً جزيلاً على هذه التهنئة، وهي تهنئة مشتركة لنا ولكم ولجميع من يناضل في سبيل الحرية والكرامة، ولاسيما للضحايا الذين عانوا من التعذيب والموت والذين يعانون حتى الآن من سطوة الجلادين في معتقلات الأسد والميلشيات المسلحة.صحيح إن ما تحقق اليوم هو مجرد خطوة صغيرة في طريق طويل لتحقيق العدالة في سوريا، ولكنها تبقى خطوة مهمة، وتحققت هذه الخطوة بعد أن وجدنا أبواب مجلس الأمن مقفلة أمامنا بفعل الفيتو الروسي الذي عطّل ومازال يعطّل كل محاولاتنا لإحالة ملف الجرائم المرتكبة في سوريا إلى محكمة الجنايات الدولية. هذا الحكم هو ثمرة نضال امتد لسنوات، وهذه الخطوة الصغيرة التي تحققت اليوم أعطتنا الأمل بإمكانية فعل شيء حتى في أسوأ الظروف إذا ما أحسنا العمل.

(2): هل يمكن أن تضعنا في حيثيات المحاكمة والحكم؟ كيف كانت؟ كيف تحققت هذه العدالة؟ وكيف ترى الحكم؟ هل تراه عادلا؟

كما قلت لكم، ما تحقق اليوم هو مجرد خطوة على طريق الألف ميل باتجاه تحقيق العدالة لكل السوريين، واحتاج الأمر للوصول إلى هذه المحاكمة التاريخية التي تجري لأول مرة في العالم بحق مرتكبي جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية في سورية إلى جهود مشتركة بين المحامين ونشطاء حقوق الانسان من السوريات والسوريين، وبتعاون ودعم كبير من بعض المنظمات الدولية المعنية بحقوق الانسان، وفي مقدمها المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الانسان في ألمانيا. هذه الجهود امتدت إلى عدة سنوات سابقة لهذه المحاكمة ومازالت مستمرة، وقد تطلب ذلك إلى البحث المضني عن الأدلة والشهود والتواصل مع الضحايا من اللاجئين السوريين المتواجدين في الدول الاوربية وحثهم وتشجيعهم على تقديم ما لديهم من أدلة والاستماع إلى شهاداتهم، وهذه العملية تحتاج الى بذل مجهودات كبيرة ومصاريف أيضا، ففي كثير من الأحيان، نضطر إلى السفر لمسافات بعيدة من أجل التواصل مع الضحايا في أماكن سكنهم، ومن أجل الاستماع شخصياً إلى شهادات الضحايا وتوثيقها. وبعد ذلك يتم تقييم مدى أهمية هذه الشهادة وفائدتها في المحاكمة، وفي النهاية ننصح ونشجع الضحايا بتقديم شهاداتهم للسلطات المختصة في هذه القضية المعروضة أو تلك.

وقد استمعت المحكمة إلى عشرات الشهود الذين كان لهم الفضل في الوصول إلى هذه المحاكمة وهذا الحكم، فلولا شهادتهم لما كان صدر مثل هذا الحكم الذي يعتبر عادلاً في ظل الظروف والحيثيات الأدلة التي توفرت خلال سير المحاكمة.

(3): ما هي الآثار المترتبة على الحكم، سواء لجهة الأمل أو لجهة إجراءات العدالة في قضايا أخرى أو على الصعيد العام؟

مجرد صدور هكذا حكم، وبصرف النظر عن شخصية المحكوم عليه ووظيفته، فإنه قد أعطى أملاً بإمكانية ملاحقة كل الجناة بمن فيهم كبير المجرمين بشار الأسد، وصدور هذا الحكم سينعكس إيجابياً على كل القضايا الأخرى المنظورة أمام الجهات القضائية المختصة في فرنسا والنمسا والسويد والنروج واسبانيا وسويسرا، والتي نأمل منها تسريع النظر بالقضايا المنظورة لديها، والتي تتعلق بجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية وإصدار مذكرات توقيف فيها.كما نأمل أن تقرر الدول الأوربية التي تؤمن بقضايا حقوق الانسان ومبادئ العدالة بوضع هؤلاء المجرمين ومنظومتهم الإجرامية وإجرامهم خارج إي إطار سياسي أو تفاوضي أو تعامل مستقبلي. وأن تفتح بقية الدول الاوربية الأخرى أبواب محاكمها أمام الضحايا من السوريات والسوريين المتواجدين على أراضيها باللجوء إليها كما هو حاصل الآن في ألمانيا.

(4): هناك من الجمهور السوري من يتساءل ويقول: ما فائدة محاكمة الرتب الصغيرة في نظام الدكتاتورية؟ ولم لا يتم التركيز على محاكمة المجرمين الكبار، بدءا من الدكتاتور الأسد إلى رؤساء الأجهزة الأمنية؟

للأسف من يقول ذلك هو يريد التشكيك في كل ما نقوم به، وهو لا يريد أن يرى الجهود التي نقوم بها، ولو أنه تابع جيداً ما نقوم به لا كتشف بسهولة أن أول خطوة قمنا بها في مجال ملاحقة المجرمين، هي ملاحقة كبار المجرمين في سورية بمن فيهم رأس النظام. وللتوضيح أكثر فقد ساهمنا في تكوين أكثر من سبعة قضايا منذ العام 2016 ضد أكثر من ستين مسؤولاً في نظام الأسد وفي مقدمهم بشار الأسد وشقيقه ماهر، وهذه القضايا قدمت للسلطات القضائية في عدد من الدول الأوربية، منها أربعة قضايا في ألمانيا وواحدة في كل من فرنسا والنمسا والسويد والنرويج، وهناك أيضاً دعوى مقامة في سويسرا ضد رفعت الأسد بتهم ارتكاب مجازر في حماه في ثمانيات القرن الماضي. وقد صدرت مذكرات توقيف دولية بحق رئيس إدارة المخابرات الجوية السابق اللواء جميل حسن، ورئيس مكتب الأمن الوطني اللواء علي مملوك، ورئيس فرع التحقيق في المخابرات الجوية العميد عبد السلام محمود. كما أن هناك مذكرات توقيف دولية أخرى صدرت لكن لم يُعلن عنها وأرسلت للإنتربول الدولي لتنفيذها. كما تناسوا أيضاً قضية توقيف الطبيب السوري علاء موسى في ألمانيا المتهم بارتكاب عمليات تعذيب للمعتقلين في المشافي العسكرية التابعة للأسد.

(5): هناك أيضا من يتساءل، ويقول لم يتم التركيز على محاكمة المنشقين عن نظام الأسد في أوروبا؟ وهناك من يقول إن هؤلاء لم ينشقوا أساسا بل لا زالوا يمارسون عملهم بطرق أخرى؟ كيف ترى أمورا كهذه من منظار العدالة؟

غير صحيح هذا الكلام إطلاقا، فنحن لا نركز علي محاكمة المنشقين وهم ليسوا هدفنا الآن وإنما نركز علي ملاحقة المسؤولين عن التعذيب والقتل في نظام الأسد. اما بالنسبة لإياد الغريب وأنور زسلان فالسلطات الألمانية هي من بادرت إلى التحقيق معهم وتوقيفهم وإحالتهم للمحاكمة. وبكل الأحوال فالمنشقون الذين تمت ملاحقتهم حتى الآن لا يتجاوز عددهم الاثنين فقط، هما “العميد أنور رسلان رئيس قسم التحقيق في فرع الخطيب والمساعد إياد الغريب”. بينما المستهدفون بالملاحقة ممن ينتمون لنظام الأسد يتجاوز عددهم الستين مسؤولاً أمنياً وعسكرياً وسياسياً وعلى رأسهم بشار الأسد.

لقد سبق أن أكدنا مراراً وتكراراً إن هذه المحاكمة التي تجري اليوم في “كوبلنز” لا تستهدف المنشقين لأنهم انشقوا عن نظام الأسد، بل لأنهم ارتكبوا جرائم بصفتهم جزءاً من النظام الأمني السوري، ويجب أن يحاسبوا عليها، وإن التغيير والانتقال من ضفة لأخرى لا يمنح صاحبها صك براءة عن الجرائم التي ارتكبها. وإذا قبلنا بخلاف ذلك، فإننا نعطي المبرّر لأي جهة أن تحمي مجرميها، للأسد أن يحمي مجرميه الذين وقفوا معه وللميلشيات المسلحة أن تحمي هي الأخرى مجرميها الذين قاتلوا معها، علماً أن الجرائم المنسوبة للمتهمين هي من النوع الذي لا يسقط بالتقادم ولا يشملها أي عفو، والقضاء المختص وحده من يقرّر إن كان مذنباً هذا المتهم أم لا، والضحايا وحدهم من يملكون حق مسامحة المجرمين أم لا.

والعدالة عمياء لا تمييز فيما إذا كان هذا المتهم منشقاً أم لا، موالي أم معارض، ما يهم العدالة هو النظر في الفعل الجرمي لهذا المتهم أو ذاك بصرف النظر عن مركزه.

(6): ما الأمل الذي أعطتك إياه هذه المحاكمة؟ وهل يمكن أن نرى حقا في يوم ما العدالة السورية تتحقق بجلب المجرمين الكبار إلى المحاكم؟

الأمل كبير بما تحقّق، وبما سوف يتحقق مستقبلاً، وهذا يعتمد أولاً على مدى قدرتنا على المثابرة في هذه العملية الصعبة والطويلة، ويعتمد ثانياً على مدى تعاون المنظمات السورية المعنية فيما بينها في متابعة هذه الجهود، وثالثاً على مدى التعاون مع المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان وكيفية الاستفادة من هذا التعاون عبر تدريب محامينا وقضاتنا على مثل هذا النوع من المحاكمات القضائية لنكون جاهزين لنؤسس محاكمات وطنية داخل سورية تكون قادرة على محاكمة من تورطوا في جرائم خطيرة ضد السوريات والسوريين وفي مقدمهم كبار المجرمين من أركان نظام الأسد والميلشيات المسلحة الأخرى.

وما تحقق اليوم في كوبلنز يجب ان يبنى عليه كأساس وبداية لتحقيق العدالة لكل السوريات والسوريين ونحن ندرك جيداً أن العدالة لا يمكن تحقيقها في المنافي، وإن تحققت، فهي ستكون جزئية لن تساعد كثيراً في تعافي السوريين من هذه المأساة التي يعيشونها.

العدالة الحقيقة يجب أن يتم تحقيقها في سورية وبأيدي سورييين من خلال قضاء وطني، طبعاً بعد إعادة هيكلة القضاء في سورية على أسس سليمة وأن نؤمن ونضمن استقلالية القضاء ونرفده بقضاة مستقلون وأكفاء ونزيهون، وهذا كله لن يحدث طالما بقي نظام الأسد جاثماً على صدور السوريين، وهذا يحتاج إلى تغيير سياسي في سورية، وإلى مرحلة انتقالية يتم فيها انتقال سياسي لهيئة حكم جديدة مختلفة ومغايرة لما هو قائم اليوم، هيئة حكم تعمل على لملمة الجراح وتعافي السوريين من الأحقاد والضغائن التي زرعها نظام الأسد الإجرامي في صدور السوريات والسوريين تنفيذاً للقرات الدولية، وفي مقدمها بيان جنيف والقرار 2254 وفقاً للترتيب الذي نصت عليه. وليس كما يجري اليوم، مع انسحاب كافة القوى المحتلة لأراضينا، وحلّ كافة الميلشيات المسلحة.

إذا ما تحقق ذلك سيكون خطوة مهمة على طريق تعافي المجتمع السوري من مأساته وانطلاقه نحو بناء سورية جديدة مختلفة تحمي بناتها وأبنائها وتساوي بينهم وتقف على مسافة واحدة منهم على أساس مبدأ المواطنة المتساوية بصرف النظر عن أي انتماء أخر. طبعاً لن يتم كل ذلك إلا بتوّحد السوريين فيما بينهم على أية سورية نريد كخطوة لابد منها في البداية، ومساعدة المجتمع الدولي لنا.

(7): كلمة تود الختام بها

بعيداً عن كل محاولات تسخيف محاكمة “كوبلنز”، ورغم محاولة البعض النيل من أهمية الحكم الذي صدر بحق عنصر من مخابرات الأسد، فإن القرار الذي أصدرته محكمة “كوبلنز” قد دخل التاريخ كأول حكم قضائي في العالم يتعلق بالجرائم التي ارتكبها ومازال يرتكبها نظام الأسد في سورية، هذا الحكم يشكل في حيثياته وقرار الاتهام وأقوال الشهود والمدعين والخبراء إدانة لرموز النظام السوري وأجهزته الأمنية. وسيفتح الطريق أمام محاكمات أخرى قريباً.

ما تحقق اليوم في “كوبلنز” بعث رسالة قوية لكل المجرمين الذين مازالوا يرتكبون أفظع الجرائم في سوريا أن زمن الإفلات من العقاب قد ولىّ، وهو رسالة أيضاً لكل المتواطئين الذين سهّلوا وساعدوا المجرمين في ارتكاب جرائمهم بأنهم ليسوا بمأمن من العقاب، وأنهم لن يجدوا أعذاراً تبرئهم من تبعات الجرائم التي شاركوا في ارتكابها بأية طريقة كانت. وكلنا أمل أن يفتح هذا الحكم الباب واسعاً أمام ملاحقة جميع مرتكبي جرائم الحرب وضد الإنسانية في محاكم جميع دول العالم، وخاصة في الدول الاوربية.

إن هذه المحاكمة ليست نهاية المطاف، وهي ليست كل شيء، بل هي مجرد خطوة أولى، ولكنها خطوة مهمة وتاريخية في طريق طويل لتحقيق العدالة، وهي مدخل مهم حتى يتعرّف العالم على الألة الجهنمية التي يمارسها النظام الأمني في سوريا من تعذيب وقتل واغتصاب بحق السوريات والسوريين وصولاً إلى إدانة نظام الأسد بكافة رموزه وأركانه. وندرك أن العدالة لا يمكن أن تتحقق في سورية إلا عندما تسمح الظروف بإنشاء محاكم وطنية قادرة على إجراء محاكمات نزيهة وعادلة.

واسمحوا لي أخيراً أن أتوجه من خلال هذه المنبر الإعلامي المهم بالتحية والشكر أولاً إلى الضحايا الأبطال الناجيات والناجون الشجعان الذين قدموا شهادتهم أمام القضاء طالبين العدالة لهم ولبقية الضحايا الذين لم يتمكنوا من النجاة.

إلى شركائنا في المركز الأوروبي للدستور وحقوق الإنسان ECCHR لجهودهم الثمينة بالوصول لهذه النتائج، وللمنظمات السورية التي شاركت بجهودها بذلك مجموعة ملفات قيصر CFSG والمركز السوري لحرية الإعلام والتعبير SCM والشبكة السورية لحقوق الإنسان SN4HR والمنظمات الدولية “الآلية الدولية المستقلة لجمع الأدلة حول الجرائم المرتكبة في سوريا IIIM والمركز الدولي للعدالة والمسائلة CIJA.

إلى وحدات البوليس والادعاء العام الألماني لجهودهم في متابعة هذه الجرائم وملاحقة المجرمين ضد الإنسانية ومجرمي الحرب.

وإلى الخبيرات والخبراء ذكورا الذين لعبوا دورا مهما في الإضاءة على كل جوانب الجرائم التي ارتكبت.

وأخيراً إلى هيئة المحكمة الموقرة التي لم توفر جهداً إلا وبذلته في سبيل أن تكون هذه المحاكمة عادلة.

مع الأمل أن تستمر جهود جميع من ذكروا أعلاه حتى يصل كل الضحايا المدعين للعدالة، وحتى لا يفلت مجرم من العقاب.

حكاية ما انحكت

——————–

عدالة سوريّة في المنفى/ عمر قدور

واحدة من مفارقات غياب العدالة أن يأتي من دمشق خبر وفاة ضابط المخابرات بهجت سليمان بعد يوم من إدانة المتهم إياد غريب في محكمة كوبلنز الألمانية، المتهم كان عنصراً في المخابرات السورية برتبة صف ضابط، ثم انشق بعد شهور قليلة من اندلاع الثورة والتحق بالجيش الحر. أمام إياد غريب أربع سنوات ونصف من السجن قضى منها سنتين، إذا لم يُنقض الحكم، بينما قادة أجهزة المخابرات وقادتهم من العائلة الحاكمة يواصلون تنكيلهم بالمعتقلين، ويتمتعون بسيطرتهم على سوريا كأرض للجريمة والإفلات من العقاب.

قبل أسبوع من إدانة إياد غريب، شاع خبر تهريب 900 ألف وثيقة تدين سلطة الأسد، بما فيها رأس السلطة بشار. الخبر ليس جديداً تماماً للمتابعين، بل هناك منذ سنوات فيلم يوثّق تخزين الوثائق في مخابئ سرية، على أمل أن يأتي يوم تتوفر فيه الإرادة السياسية الدولية لمحاكمة تنظيم الأسد على غرار محاكمة مجرمي يوغسلافيا السابقة، أو حتى على غرار محاكمة نظام عمر البشير التي لم تجلبه إلى العدالة.

هي حصيلة محزنة مع انقضاء عشر سنوات على انطلاق الثورة السورية، وما ارتكبته سلطة الأسد في حق السوريين من جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، فضلاً عن جرائمها السابقة طوال عقود، بما فيها الجرائم المرتكبة خارج سوريا. هي، على الأقل، حصيلة غير كافية للمبالغة في الابتهاج، أو لاعتبارها خطوة واسعة نحو تحقيق العدالة، بما أن جلب المجرمين الكبار للمثول أمامها هدف لا تستطيع المحاكم الأوروبية تحقيقه ولو أصدرت مذكرات جلب في حقهم.

أُدين إياد غريب باعترافاته، لا بشهادة شهود ولا بوجود مدّعين ضده. الادعاء العام أخذ بالأسباب التخفيفية، فلم يطلب له العقوبة القصوى، والقضاة أصدروا حكماً مخففاً عمّا طالب به المدعي العام. أهمية الحكم أن شهادة إياد ستكون قرينة ضد المتهم الآخر أنور رسلان الضابط السابق في المخابرات الذي أنكر التهم وأنكر وجود تعذيب في المعتقلات، وهو أول حكم تصدره محكمة أوروبية بموجب الولاية العالمية، ما سيتيح الاستئناس به في قضايا قد تُرفع لاحقاً أمام محاكم أوروبية. مع التأكيد على أنها قضايا ستطال إما مستويات دنيا من مجرمي الأسد كما هو حال محاكمة الطبيب علاء موسى الذي احتفظ بموالاته رغم لجوئه إلى ألمانيا، وهو متهم بتعذيب معتقلين كانوا يُجلبون إلى المستشفى العسكري، أو ستطال منشقين بسبب ماضيهم مع السلطة، وربما منتسبين إلى فصائل ارتكبت انتهاكات حقوقية.

الانشقاق، بموجب قرار المحكمة، لا يُعفي من الجرائم المرتكبة قبله. هذا ما يؤكد عليه أيضاً الحقوقيون السوريون الساعون إلى إجراء المحاكمات أو المساهمون فيها، لكنهم يقولون ذلك باستعجال، مع تمهل عند توصيف المتهمين أو المدانين بكونهم جزءاً من السلطة وبكون إدانتهم تُعدّ إدانة لها. من هذه الزاوية يبدأ الخلاف حول المحاكمات بين سوريين معارضين، المتحمسون للمحاكمة يرون أن إياد غريب “مثلاً” نال حكماً مخففاً، وسيمكث في سجن مريح لا يُقارن بالمعتقلات التي ربما ساعد على إيصال متظاهرين إليها، حتى إذا لم يكن راغباً في ذلك. للمشككين في عدالة الحكم رأي آخر ينطلق من تفهّم ظروف المُدان قبل انشقاقه، ومن الانتباه أكثر إلى تبرعه بالشهادة التي استُخدمت ضده، لتبدو محاكمته كأنها عقاب لأمثاله من المنشقين أكثر من كونها محاكمة لجرائم الأسد. ثم، ليس واضحاً حتى الآن ما إذا كان احتسابه على الأسد سيعني إمكانية ترحيله بعد انتهاء سجنه ليُسلَّم إلى مخابرات بشار؟

المبالغة قد تضرّ بسمعة التحرك أمام المحاكم الأوروبية لدى السوريين، التحرك الذي له طابع رمزي ومعنوي أكثر مما له أثر في ميزان العدالة الذي يريدونه. من ذلك، التصريح الذي نُقل عن المحامي أنور البني الذي وصف الحكم على إياد غريب بـ”التاريخي لأنها المرة الأولى التي يُحاكم فيها شخص من نظام لا يزال في السلطة”. من يقرأ أو يستمع إلى هذه التصريحات يظن المُدان موالياً حتى الآن، ما يسيء إليه بقدر ما يثير الخلافات ويسيء إلى القضية برمتها.

يمكن، بما لا يتطلب حداً استثنائياً من الرحمة، التوفيق بين مساندة الحكم الصادر واعتبار العقوبة تكفيراً من المدان عن ماضيه في المخابرات، خاصة أن الحكم مبني على اعترافاته فقط. بالتأكيد، من حق المدان الطعن في الحكم ومحاولة الحصول على أقل عقوبة، ومن حقه أيضاً نيل التشجيع للقبول بمبدأ العقوبة وعدم اعتبارها وصمة شخصية أو انتقاصاً من انشقاقه ثم تبرعه بالاعتراف بماضيه.

للمتحمسين الذين يرون العقوبة أقل من جرم إياد غريب، وفي سجن لا يحلم برفاهيته المعتقلون لدى مخابرات الأسد، لهؤلاء ينبغي توضيح الواقع السوري بوجود مئات الألوف من أشباه إياد غريب، بل من المتورطين أكثر منه وحتى الآن. الفهم المتطرف للعدالة لا يشبعه أقل من وضع رؤوسهم جميعاً تحت المقصلة، وهو حل قد يتمناه الآن كثر بسبب استمرار المجزرة، إلا أنه لا يستقيم واقعياً على فرض سقط الأسد، ولا يستقيم حماس بعضهم مع المطالبة بعدالة انتقالية تعقب تنحية الأسد ومن المرجح أن تكون أكثر تساهلاً من محكمة كوبلنز مع المتورطين الصغار.

في الأصل، لا فائدة من الجدل استناداً إلى مفهوم العدالة، لأنه مفهوم مطلق يصعب التحقق منه. في حالتنا يزداد الأمر صعوبة بالحديث عن عدالة في المنفى، في حين أن الأمر يتعلق بعملية قضائية عاجزة عن الاقتراب من الإنصاف. مع ذلك يقدّم الحكم على إياد اقتراحات للتمرين على التعاطي مع المسألة الحقوقية، أولها التسامح مع مستوى منخفض من التورط والنظر إلى العقوبة ضمن إطار التسامح نفسه لا في إطار القصاص. قد يفيد هذا في التخلص من فكرة القصاص المعمم نفسها، لأنها تُفرغ العدالة من واقعيتها ونسبيتها، خاصة في مواجهة نظام مخابراتي شرس تمكن من توريط الملايين ضمن نسقه. قد يفيد الحكم على إياد إذا جرى التعاطي معه خارج منطق الانتصار لدى البعض والهزيمة لدى البعض الآخر من أبناء القضية نفسها، أي عندما يتفق الطرفان على أنه ألمهم المشترك لتصفية الحساب مع الأسدية.

المدن

——————————–

نقاش في ضوء الحكم على إياد الغريب/ صادق عبد الرحمن و عروة خليفة

أثار قرار محكمة كوبلنز القاضي بإدانة إياد الغريب، الرقيب الأول المنشق عن مخابرات نظام الأسد، جدلاً واسعاً خلال الأيام الماضية، تضمَّنَ استعادة محطات من الجدل الذي كان قد طال المحاكمة ككل، أو بعض تفاصيلها، في وقت سابق من العام الماضي. ويتراوح الجدل الواسع، الذي كانت وسائل التواصل الاجتماعي ميدانه الرئيسي، بين موقفين متناقضين؛ أولهما يُظهِر حماسة بالغة لما يعتبره انطلاقاً لقطار العدالة في القضية السورية وبداية لمحاسبة النظام السوري على جرائمه، والثاني يعتبر أنّ المحكمة وما يتصل بها من أنشطة إعلامية فاقدةٌ للمصداقية بالكامل، أو لجزء من هذه المصداقية على الأقل، لاعتبارات عديدة منها ما يتصل بكيفية إدارة عملية التقاضي، ومنا ما يتعلّقُ بحقيقة أنها طالت عنصرين منشقين عن النظام السوري.

وكان الحكم الذي أدّى إلى تَجدُّدِ الجدل قد أُعلِنَ في الرابع والعشرين من شهر شباط (فبراير) الماضي، عندما أصدرت المحكمة الإقليمية العليا في مدينة كوبلنز غربي ألمانيا، قراراً يدين المتهم إياد غريب بـ «التواطؤ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية تتمثل في التعذيب والسلب الجسيم للحريات في ثلاثين واقعة»، لتحكم عليه بالسجن لمدة أربعة سنوات وستة أشهر. وقد أثبت قرار المحكمة الألمانية في حيثياته ارتكاب جرائم ضد الإنسانية بشكل ممنهج في الفرع 251 التابع لإدارة المخابرات العامة (أمن الدولة)، وهو الفرع المعروف محلياً باسم فرع الخطيب، على اسم الشارع الذي يقع فيه الفرع في العاصمة السورية دمشق.

ينطلق الغاضبون على هذا الحكم من نقاط عديدة، بعضها متعلّق بالأداء الإعلامي المرافق للمحكمة واستراتيجية التقاضي، وبعضها متعلّق بالسياسة، وبعضها قانوني. سنحاول في هذا المقال تناول هذه الجوانب كلّها تباعاً.

في الأداء الإعلامي واستراتيجية التقاضي

تواجه إدارة هذا الملفّ من قبل المنظمات السورية العاملة في هذا الشأن انتقادات، وبعضها محقٌ بالفعل، من بينها أنه ليس ثمة أي استراتيجية واضحة للتواصل مع الجمهور السوري؛ هل ما يجري في كوبلنز هو محاكمة جنائية لمجرمين يواجهون الادعاء الشخصي لضحاياهم؟ أم أنّ المحكمة جزءٌ من جهد أوسع ضمن عملية التقاضي الاستراتيجي لدعم ومناصرة قضية المعتقلين السوريين في أوروبا والعالم؟ يتحدث محمد العبد الله في هذا المقال عن هذه المسألة الإشكالية بالتفصيل.

كذلك كان الأداءُ الإعلاميُ المُرافق لقضية كوبلنز، وخاصة تصريحات من قبل أعضاء في جهات سورية عملت على الملف، باباً لانتقادات واسعة محقة، خاصة لجهة الترويج لمحاكمة كوبلنز على أنها محاكمة للنظام السوري، وعلى أنها بداية النهاية للأسدية ولعصر الإفلات من العقاب في سوريا، وهو ما بدا بحق بالنسبة لكثيرين تضليلاً للرأي العام، حتى أن الادعاء العام الألماني أشار صراحة في إحدى مرافعاته إلى أن إياد الغريب «لا يمثل أمام المحكمة نيابة عن النظام السوري».

ترقى هذه الحماسة الكبيرة، التي تجاوزت إمكانيات المحكمة وظروفها، إلى أن تكون تلاعباً غير مقصود بمشاعر الضحايا وذويهم، لن ينتج عنه سوى مزيد من الإحباط في أوساطهم ومزيد من تراجع الأمل بتحقيق أي عدالة. عندما تتعهد للناس بأكثر بكثير مما يمكن تحقيقه، فإنك تفقد مصداقيتك وتؤذي قضيتك، هذا درسٌ أساسيٌ ينبغي أن يكون خصوم النظام السوري قد تعلموه خلال عشر سنوات مريرة.

فضلاً عن الأداء الإعلامي الإشكالي وغياب استراتيجية واضحة ومعلنة للتقاضي، تم توجيه انتقادات أخرى للمنظمات المدنية السورية العاملة على الملف بالشراكة المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، وهي الانتقادات التي فصّلها بشكل موسّع الحقوقي حسام قطلبي في مقال له عن شهادة فراس فياض في المحكمة. في الواقع، ربما يكون استخدام شهادات أشخاص محل شبهات في مسائل أخرى قراراً خاطئاً على الصعيد الإعلامي، كونه قد يفتح الباب للتشكيك في مصداقية المحاكمة، لكن هذا صحيحٌ نظرياً فقط، وإعلامياً فقط، غير أن أي فعل قد يكون ارتكبه فياض خارج سياق محاكمة كوبلنز لا يعني حرمانه من حقه في الشهادة بخصوص ما قد يكون تعرّضَ له من انتهاكات في فرع الخطيب أو غيره. ويبقى أن هذا النقاش كان يمكن له أن يكون صحياً ومفيداً، خاصة أننا سنشهد خلال السنوات القادمة ملفات قضائية ودعاوى كثيرة، لو أنه لم يشهد اتهامات متبادلة وكلاماً عنيفاً، من أمثلته الردود الغاضبة من قبل المحامي أنور البني، التي وصلت حدّ توجيه التهديدات لمن ينتقدون مسار المحاكمة.

ارتُكِبت خطايا إذن في سياق النقاشات المحيطة بمحاكمة كوبلنز، لكن هذا لا يعني بأي حال تجريد المحاكمة من قيمتها، ولا يعني التشكيك في صدقيتها ونوايا القائمين عليها. لقد أقيمت على هامش المحاكمة أنشطة مناصرة لقضية المعتقلين، كان أهالي المعتقلين وذويهم أحد الفاعلين الرئيسيين فيها، وقد أوصلت تلك الأنشطة قضية الاعتقال والاختفاء القسري في سوريا إلى واجهة النقاشات في الإعلام الغربي. تساهم تلك الأنشطة في دعم الأصوات السياسية الأوروبية المناهضة لاستعادة العلاقة مع النظام، وتجعل لخطوة كهذه ثمناً سياسياً قد لا تكون الأحزاب الأوروبية راغبة في دفعه اليوم أو خلال الفترة القادمة.

لكنَّ الأهم هو أن هناك محكمة ذات صدقية، أثبتت عبر عملية قضائية لا مجال للشك في نزاهتها، أن النظام السوري يرتكب جرائم ممنهجة ضد الإنسانية، حتى أن الحكم الصادر بحق الغريب كان يتضمن عبارات من قبيل أن «حافظ الأسد كان قد أسّسَ لحالة من انعدام الثقة المتبادلة والتجسس بين أفراد الشعب». كيف لوثائق قضائية، تتضمن توصيفات وشروحاً تاريخية على هذا القدر من التفصيل، أن تكون خدمة للنظام السوري؟ هذا القرار وثيقة قانونية يمكن البناء عليها في كثير من أنشطة المناصرة والدعم التي يمكن العمل عليها من أجل ملف المعتقلين في سوريا ومن أجل سوريا، وهو سابقة قضائية سيتم البناء عليها في أي محاكمة قادمة.

لن تكون إحدى تبعات محكمة كوبلنز جلب بشار الأسد أو علي مملوك إلى قفص الاتهام، لكنّها قد أنجزت في إطار المناصرة والدعم خطوات هامة للغاية، وهذا ليس إنجازاً صغيراً، خاصةً في ظل الترويج لانتصارات النظام العسكرية باعتبارها حلّاً للمسألة السورية. لن يقود هذا إلى سقوط النظام طبعاً، لكن رفضه بذريعة أنه لا يقود إلى تحقيق العدالة الشاملة ليس إلا ضرباً من العدمية والرغبة في تعطيل كل شيء بانتظار معجزة تؤدي إلى إسقاط النظام ومحاسبة رموزه وأركانه.

في الاعتبارات السياسية

فتحت الانتقادات التي تعرضت لها طريقة إدارة الملف الإعلامي المرتبط بالمحكمة البابَ للطعن بالمحكمة ذاتها، وصولاً إلى اعتبارها محكمة مسيسة، وإلى ظهور أصوات اعتبرت أنها خدمة للنظام، مشككة في نوايا القائمين عليها، ومعتبرة أن ما تقوم به المنظمات السورية الداعمة لملفات التقاضي في أوروبا يهدف إلى الطعن في الثورة السورية، أو يهدف إلى الحصول على تمويلات من جهات أوروبية معادية للثورة، بالإضافة إلى تلميحات بتواطؤ القضاء في الدول الأوروبية مع هذا التوجهات.

لكن القضاء الفرنسي أوقف قبل أيام قليلة ملاحقة ضابط منشق سوري من مدينة الرستن في ريف حمص، هو سامي الكردي، لعدم كفاية الأدلة. أما المحكمة القادمة في ألمانيا نفسها، فالأرجح أنها ستبدأ قريباً، والمدعى عليه فيها هو الطبيب علاء موسى، من أنصار النظام السوري، وهو مُتَّهم بارتكاب أعمال تعذيب وحشية في أحد مستشفيات حمص. إذن لا توجد مؤامرة ضد المنشقين عن النظام إلا في رؤوس من يتخيلونها، إما غرقاً في مظلومية عدمية، أو محاولةً للاستفادة من الجدل بهدف الطعن في مشروعية قضايا أخرى، مثل قضية إسلام علوش في فرنسا. أما لماذا لم يُحاكم كثير من مجرمي النظام السوري وشبيحته حتى الآن، فإن الجواب بسيط جداً؛ لأنهم ليسوا في أوروبا حتى يتم اعتقالهم وسوقهم إلى المحكمة، أو لأنه لم يتم تكوين ملفات قضائية متماسكة ضدهم، ذلك أنه لا يمكن محاكمة أي شخص ما لم يتم إنشاء ملف متكامل يتضمّن أدلة تدين هذا الشخص بالذات لارتكابه جرائم بعينها، كما لا يمكن محاكمة أي شخص لمجرد أنه كان يحمل السلاح في صفوف قوات النظام أو غيرها، ولا يمكن طبعاً محاكمة شخص بسبب موقفه السياسي أياً كان. يُفترض أن يكون هذا من البديهيات.

على أي حال، يقول المعارضون للحكم على إياد الغريب إنه منشق عن النظام السوري، وهو انشقّ باكراً، ولم يشغل في أي وقت موقعاً يجعله صاحب قرار وسلطة فعلية في منظومة النظام الأمنية، وهذا يبعث برسالة مخيفة إلى كل المنشقين أو الراغبين في الانشقاق، قد تجعلهم يندمون على انشقاقهم أو يتراجعون عن رغبتهم في الانشقاق. ولكن لماذا لا يكون العكس؟ لماذا لا يتم النظر إلى هذه المحاكمة، التي تم تخفيف العقوبة فيها لأسباب كثيرة من بينها فعل الانشقاق، على أنها تشجيعٌ على الانشقاق بهدف تجنّب عقوبات ومآلات وخيمة أسوأ بعد سقوط النظام. لم يُحاكَم إياد ولا أنور لأنهما انشقّا عن النظام على ما يحاول كثيرون الإيحاء، بل لأنهما ارتكبا جرائم قبل انشقاقهما. وإذا كان سقوط النظام حتمياً، فإن إظهار الفارق بين المحاكمة القانونية وبين المعاقبة خارج سياق القانون ينبغي أن يكون أمراً مفيداً جداً على صعيد التشجيع على انشقاق. بالمقابل، إذا كُنّا يائسين من سقوط النظام في المدى المنظور، فما هي الفائدة السياسية من التشجيع على الانشقاق أو عدم التشجيع عليه؟

كذلك، يقول كثيرون إن انشقاق الغريب، ومساعدته لمتظاهرين ومناضلين ضد النظام السوري كما قالت شهادات كثيرة، تجعل من أي حكم بسجنه حكماً ظالماً مجافياً للعدالة. في الواقع، إن هؤلاء الذين يتهمون المحكمة بأنها مسيسة لأنها تحاكم منشقين، هم الذين يطالبون بتسييسها عندما يطلبون من القضاء الألماني أن يأخذ الموقف السياسي لإياد الغريب بعين الاعتبار. وفضلاً عن ذلك، ليس معقولاً أن يكون الانشقاق سبباً للمطالبة بإهدار حقّ الضحايا، أو من يمثلهم، في ملاحقة مرتكبي الانتهاكات. من حق الضحايا بالطبع اتخاذ الإجراءات التي يرونها مناسبة في إطار القانون لملاحقة المنتهكين ومرتكبي الجرائم بحقهم، وهذا أمرٌ لا يملك انتقاده أي وجاهة سياسية أو حقوقية، خاصة عندما يصدر في سياق نضال من أجل العدالة مثل النضال السوري ضد الأسدية.

بصرف النظر عن إياد الغريب وأنور رسلان بالذات، يجب أن يكون مُتَّفَقاً عليه أن للضحايا وحدهم حق الصفح عن مرتكبي الانتهاكات بحقهم، وأن هذا الصفح لا ينفي الصفة الجرمية عن الفعل، كما يجب أن يكون واضحاً أن الانشقاق لا يعفي من يرتكبون جرائم ضد الإنسانية من مسؤوليتهم القانونية. وهكذا فإن واقعة انشقاق الغريب لا يجب أن تكون ذات شأن في مسألة إدانته من عدمها، وليس صائباً القول إن الضحايا لم يحضروا في المحكمة، لأن ممثل الضحايا هو الادعاء العام الألماني بحكم القانون.

ثمة ثلاثون ضحية على الأقل لأفعال إياد الغريب، غير أن ميدان نقاش مدى استحقاق الغريب للعقوبة هو القانون لا السياسة، وهو ما سنناقشه بالتفصيل في السطور التالية.

في القانون ومقتضياته

في الشق القانوني، يستند المعارضون للحكم على إياد الغريب إلى نقطتين، الأولى هي أنه لا أدلة تدينه سوى ما أدلى به بنفسه عندما قال إنه ساهم في اعتقال ثلاثين شخصاً في سياق شهادة أدلى بها. والنقطة الثانية هي أنه كان واقعاً تحت الإكراه، بحيث أنه لم يكن يستطيع عصيان الأوامر، ما يمنحه عذراً يعفيه من كل عقاب.

في النقطة الأولى؛ صحيحٌ أن الغريب كان قد أدلى بنفسه بالمعلومات التي أدانته في سياق الإدلاء بشهادة، لكن هذا الجانب خضع لنقاش مستفيض في سياق المحاكمة، التي يمكن الاطلاع على تفاصيلها عبر منابر عديدة باللغة العربية، منها ملخصات ينشرها المركز السوري للعدالة والمساءلة، وأخرى ينشرها المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، والتغطية المستمرة للصحفية لونا وطفة عبر موقع ليفانت.

وقد خلص القضاء الألماني إلى أنه صحيحٌ أن إياد الغريب، عندما أدلى بهذه المعلومات، كان شاهداً وليس مشتبهاً به، لكن المسؤول في مكتب الشرطة الفيدرالية الألمانية قال في شهادته في جلسة الاستماع التي جرت في 27 أيار (مايو) 2020، إنه تم إبلاغ الغريب بكافة حقوقه عند استجوابه كشاهد، بما في ذلك إبلاغه أنه لم يكن مضطراً للإدلاء بأي معلومات تدينه. هذا كان كافياً من وجهة نظر القضاء الألماني لإجازة استخدام المعلومات التي أدلى بها بعد أن تحوَّلَ من شاهد إلى مشتبه به. إذن، شهادة إياد هي الدليل الوحيد على أنه قد اعتقل ثلاثين شخصاً تم اقتيادهم إلى فرع الخطيب، ولولا هذه الشهادة لما أمكنت إدانته، لكن ثمة مغالطة منطقية في القول إنه قد اعتُبِرَ مذنباً بسبب هذه الشهادة فقط، بل إنه قد اعتبر مذنباً لأن مجمل الشهادات التي تم الاستماع إليها في سياق المحاكمة تثبت، على نحو لا يدع مجالاً للشك، أنه قد اشترك في عمليات الاعتقال تلك وهو عالمٌ علم اليقين بالتعذيب الوحشي الذي سيتعرض له من اعتقلهم، ولأن مجمل سيرة الغريب تثبت أنه كان في مقدوره أن لا يضع نفسه في موقع يجعله يرتكب جريمة كهذه.

لا معنى للقول بإن إياد الغريب كان بريئاً، لأنه شارك فعلاً في ارتكاب جرائم، ليصبح الذين يطالبون بتبرئته لأنه هو من أدان نفسه كما لو أنهم يطالبون بالعفو عن كل من يعترف بجريمته. ليس هذا مطلباً منطقياً بحال، أما المطلب المنطقي فهو تخفيف العقوبة، وهو ما حصل عليه إياد الغريب فعلاً، إذ كان يمكن أن تصل العقوبة عن الجريمة التي ارتكبها، وهي التواطؤ لارتكاب جريمة التعذيب وسلب الحرية، إلى أحد عشر عاماً بحسب ما ورد في إحد محاضر جلسات المحاكمة، وربما خمسة عشر عاماً بحسب تقديرات هيومان رايتس ووتش. تنبغي الإشارة هنا إلى أن هذا النوع من الجرائم يترك صلاحيات تقديرية واسعة النطاق للقضاة في تقدير العقوبة، وإنه ليس ثمرة اجتهاد ثابت ومستقرّ ومتفَّقٌ عليه بهذا الشأن، سواء في سياق المحاكمات الدولية أو المحاكمات أمام محاكم الوطنية.

يبقى أن ثمة مسألة إجرائية إشكالية فعلاً، وهي جواز استخدام معلومات أدلى بها شخص كشاهد لتحريك الادعاء العام بحقه، وهي مسألة فيها اجتهادات قضائية كثيرة، وتختلف من قضية إلى قضية ومن بلد إلى بلد، لكن اجتهاد القضاء الألماني هنا كان أنه يجوز ذلك طالما أنه تم إبلاغه بحقوقه أثناء الإدلاء بالشهادة. يستطيع حقوقيون في الواقع أن يشككوا في سلامة هذا الاجتهاد من وجهة نظر قانونية، تتعلق بحقوق الشهود وإجراءات الاستماع لهم ومعايير الاستماع الشكلية، والأرجح أن هذه القضية ستُثار في جلسات الاستئناف المستقبلية كما أثيرت في السابق، لكننا لا نستطيع أن نستند إلى هذا التشكيك للقول ببراءة الغريب، ولا للطعن في نزاهة المحكمة.

يقودنا هذا إلى النقطة التالية، وهي القول بأن إياد الغريب كان مُجبَراً على أفعاله، وأن مخالفته للأوامر كان يمكن أن تقوده إلى حتفه. في الواقع هذه نقطة أساسية في كل المحاكمات المتعلقة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، ودائماً يتذرع مرتكبو الجرائم من هذا النوع بأنهم كانوا ينفذون أوامر لا يستطيعون مخالفتها. لكن الادعاء العام الألماني كان واضحاً في هذا الشأن، عندما اعتبر أنه لا يجوز للأشخاص، الذين وضعوا أنفسهم في مناصب يكون لنظام ظالم فيها سلطة وأمرٌ عليهم، أن يستفيدوا من هذا العذر.

ينطبق هذا على إياد الغريب تماماً، فهو لم يكن مجبراً على الانضمام للمخابرات السورية، بل هو عنصر فيها منذ العام 1996، وليس هناك أدنى احتمال في أن يكون الغريب غير عارف بأنه سيكون مُجبَرَاً على إلحاق الأذى بأشخاص أبرياء وهو يعمل في المخابرات السورية. لا أحد في سوريا يجهل ما هي المخابرات، ومنذ ما قبل الثورة، وهذا كان من بين الأشياء التي استندت إليها المحكمة في حكمها.

إذن على المستوى القانوني، إن المطالبة بعدم الادعاء على إياد الغريب تكاد تكون مطالبة للادّعاء العام الألماني بمخالفة ضميره المهني، عندما يعلم بارتكاب جرائم على هذا القدر من الوحشية ثم لا يتحرّك بشأنها. كما أن مطالبة القضاء الألماني بتبرئة الغريب تساوي مطالبته بمخالفة القانون، أو بمخالفة ما هو مستقرّ في الممارسة القانونية بشأن الجرائم ضد الإنسانية، التي لا يستفيد فيها مرتكب الجرم من حالة الإكراه إلا في ظروف محددة يطول شرحها، من بينها أن لا يكون المتهم هو الذي وضع نفسه في موضع يكون مجبراً فيه على ارتكاب الجرائم، وهو ما لا ينطبق على الغريب بحال من الأحوال.

لكن يبقى أن المطالبة بتخفيف الحكم مطالبة وجيهة، وهو ما قامت به المحكمة، وقبلها الادعاء العام نفسه، الذي كان في مقدوره أن يطلب حكماً بالسجن لسنوات أكثر بكثير، إلا أنه ولاعتبارات عديدة، أبرزها انشقاق الغريب المبكّر ومساهمته الحاسمة في محاكمة أنور رسلان، خفَّضَ مطالبته إلى السجن خمسة سنوات ونصف. ثم للاعتبارات نفسها، خفّضت المحكمة الحكم إلى أربعة سنوات ونصف، ويحتمل أن يعود الاستئناف على الغريب بمزيد من تخفيف الحكم.

عن الغريب والعدالة في سوريا

بصرف النظر عن التفصيلات القانونية والإجرائية، يقول كثيرون من أقارب الغريب وأصدقائه والمتعاطفين معه إنه كان يعيش أوضاعاً اقتصادية صعبة أجبرته على الانضمام إلى المخابرات في عمر مبكر كفرصة عمل، وإن الانضمام إلى المخابرات قبل العام 2011 لم يكن جريمة في حد ذاته. وفي بعض التعليقات، ذهب كثيرون للقول إن كل السوريين أو جلّهم كانوا بشكل أو بآخر أعواناً للنظام، وإن عشرات الآلاف منهم كانوا يعملون في المخابرات لكسب العيش، وفي سياق عملهم كانوا يسهمون في جمع معلومات واعتقالات أو كتابة تقارير أمنية، فهل نحاكمهم جميعاً؟

جوابنا على السؤال الأخير هو نعم، يجب محاكمتهم جميعاً لو أمكن ذلك، لكن هذا لن يكون ممكناً بحال من الأحوال، ولهذا بالتحديد تتضمن بعض صيغ العدالة الانتقالية عفواً عن صغار المساهمين في الجرائم ضد الإنسانية، في سياق مصالحة وصفح عن الجرائم، في مقابل الاعتراف وإعلان الندم، دون أن ينفي هذا الصفحُ طبعاً الصفة الجرمية للأفعال. وعلى أي حال، ليس معقولاً أن لا تتم محاكمة مجرم ما لأنه لا يمكن محاكمة جميع من ارتكبوا مثل فعلته، كما أنه ليس معقولاً المطالبة بتأجيل محاكمة المجرم الصغير المقبوض عليه لأن المجرمين الكبار لا يزالون طلقاء. المطالبة بعدالة مطلقة كهذه ترقى إلى أن تكون مطالبة بما لا يستطيعه البشر، وبما لا يمكن أن يكفله نظام قضائي في الدنيا، لا في الجرائم ضد الإنسانية ولا في غيرها.

لكن قبل ذلك، وما هو أهم من ذلك: ليس صحيحاً أنّ البطالة والفقر مبررات يجب أخذها في الاعتبار عند محاكمة من انضمّ للمخابرات باعتبارها فرصة عمل، في هذا الافتراض احتقارٌ لمئات آلاف السوريين الذين لم يجبرهم فقرهم على الانضمام إلى المخابرات، واحتقارٌ للثورة السورية نفسها، التي قامت بالذات ضد أفرع المخابرات وحكمها الجهنمي. كذلك، ليس صحيحاً أن الانضمام للمخابرات السورية لم يكن جريمة قبل العام 2011، هذا الكلام تضليلٌ محض، لأن أفرع المخابرات السورية أوكارٌ للجريمة المنظمة، ولا يوجد شخصٌ في سوريا لا يعرف ذلك. في الواقع، القيمة الأبرز لحيثيات محاكمة كوبلنز أنها أثبتت أن فرع الخطيب ليس إلا مقراً لممارسة الجريمة المنظمة، ومنذ ما قبل العام 2011.

في سياق كل هذا النقاش، ثمة من يريد أن يقول إن أفعال الغريب في المساهمة في اعتقال الناس أفعالٌ «عادية»، كان يقوم بها في سياق أداء وظيفته. هذا إما أن يكون تضليلاً أو أنه سوء فهم؛ ليس عادياً أن يعمل المرء في جهاز يعتقل الناس ويسوقهم إلى جحيم التعذيب والتغييب واحتجاز الحرية، والموت أيضاً. الاشتراك في هذه الأفعال جريمة لها ضحايا، وضحاياها هم نحن وأهلنا وأحبابنا وأصدقاؤنا، وأعدادهم بمئات الآلاف، وربما الملايين إذا شملنا كل من أُهينَ أو عُذِّبَ أو سلبت حريته في أحد الأفرع الأمنية طوال حكم الأسدية.

لا نعرف في الحقيقة شيئاً عن إياد كشخص، والأرجح أنه كان يريد لنفسه حياة أخرى غير هذه، لكن ظروف البلد لم تسعفه. ربما يكون إياد ضحية للنظام بشكل أو بآخر، لكن في نهاية المطاف قد اشترك طوال نحو خمسة عشر عاماً في أعمال المخابرات السورية القذرة الإجرامية التي نعرفها جميعاً، وكان في مقدوره ألّا يفعل، وهو اليوم يدفع ثمن ذلك. ليتخيل أي واحد منا نفسه من أولئك الثلاثين الذي ساقهم إياد إلى فرع الخطيب، ويتخيل نفسه تحت أبشع أنواع التعذيب؛ هل كان ليصفح عن إياد؟ ربما، لكن ليس من حقنا أن نتحدث باسم الضحايا الآخرين ولا أن نصفح بالنيابة عنهم. كذلك ليس من حقنا أن نطلب من القضاء الألماني أن يأخذ عواطفنا ومواقفنا السياسية بعين الاعتبار، لأن في هذا تقويضاً لأساس عمل القضاء، ولأساس فكرة السعي إلى عالم أكثر عدالة.

لقد انشقّ إياد في النهاية عن الشبكة الإجرامية التي كان يعمل فيها، واختار لسبب أو لآخر أن لا يواصل الاشتراك في ارتكاب الجرائم، ثم إنه ساهم في الكفاح ضد الأسدية على ما تقول شهادات كثيرة، وقدَّم شهادته الحاسمة ضد أنور رسلان، كما أن محاكمته ساهمت في تكوين ملف قضائي يشرح بالتفصيل الآلية الجهنمية لعمل أحد أفرع المخابرات السورية. لكن كل هذا لا يجعله بريئاً، بل يجعله مستحقاً لتخفيف العقوبة، وهو ما نأمل أن يحصل على مزيد منه في المحاكمة التي لم تنتهِ بعد.

موقع الجمهورية

—————————

محاكمة كوبلنز كفرصة لمسار العدالة السوري

في مدينة كوبلنز الألمانية، عند تقاطع نهري الراين وموزيل، في منتصف الطريق بين فرانكفورت وبون، تُعقَد منذ شهر نيسان (أبريل) الماضي جلسات محاكمة ذات أهمية كبرى في سيرورة الصراع في سوريا.

العقيد أنور رسلان، مسؤول التحقيقات السابق في فرع 251 (فرع الخطيب)، أحد مراكز الاعتقال المهمة في دمشق، يواجه عدة اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية والقتل والتعذيب. وإلى جانبه في قفص الإتهام يقبع زميله السابق في الفرع، إياد الغريب. وقد شهدت المحكمة حتى الآن، كما سبق وأن نشرنا، شهادات مروعّة لشهود مباشرين ومشاركين في الدفن الجماعي لضحايا القتل تحت التعذيب، وأكدت تلك الشهادات أن القتل الممنهج أوسع بدرجات مما سبق توثيقه. إنها المرة الأولى التي يُحاكم فيها مسؤولون مباشرون عن الجرائم ضد الإنسانية ضمن النظام السوري، ويأمل المحامون المختصون بحقوق الإنسان ألا تكون الأخيرة.

أحد هؤلاء المحامين هو الدكتور باتريك كروكر، الذي يعمل على الملف السوري في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، والممثل لتسعة من ضحايا الأعمال المنسوبة إلى رسلان والغريب في المحاكمة. في الأول من كانون الأول (ديسمبر)، تحدَّثَ كروكر إلى الجمهورية عبر تطبيق Zoom من كوبلنز إثر انتهاء جلسة المحاكمة لذلك اليوم. أدناه نسخة مكثّفة من المحادثة، تم تحريرها من أجل الوضوح وسهولة القراءة.

دورك الرسمي في إجراءات المحكمة هو «الممثل المشترك للمدّعين الشخصيين». هل بإمكانك أن توضح هذا الدور للقرّاء الذين قد لا يكون لديهم اطلاعٌ كافٍ على معاني المصطلحات القانونية؟ هل تمثل الضحايا دون أن تكون عضواْ في النيابة العامة، ولا في الدفاع؟

هذا صحيح […] بجوار المدعي العام ، هناك «أطراف مدنية» في القضية، [والتي] تعني في الأساس طرفًا آخر في العملية القضائية. […]. من المتعارف عليه أننا ننضمّ للقضية في صفّ الادّعاء، لكننا طرف مستقل بحقوقه، ولذلك لدينا حقوق إجرائية مختلفة.

إن لم يكن دورك هو الادّعاء ولا الدفاع، فما هو إذاً؟ الحصول على أفضل نتيجة للضحايا، مثلاً من حيث التعويضات؟

سؤال جيد. وهذا في الواقع هو مفهوم الطرف المدني في النظام الفرنسي […]. دورنا يعتمد على الموكّلين وما يريدونه، بطبيعة الحال. في بعض الأحيان هناك توافق كبير مع الادعاء. في بعض الأحيان قد يكون هناك اختلاف؛ قد يريد الموكّلون تسليط الضوء على جوانب أخرى مختلفة عمّا يركّز عليه المدّعون العامّون. من الصعب تخيل قضية يكون الطرف المدني فيها قريباً من الدفاع. والسؤال الوحيد هو إلى أي مدى أنت كطرف مدني قريب من الإدّعاء، وأود أن أقول إننا، في أحيان كثيرة، متقاربون مع الادّعاء بطبيعة الحال، لأننا نعمل أيضا لإدانة المتهمين. نؤمن بقوة أن المتهم مسؤول […] عن التهم الموجّهة إليه.

ولكن، لإعطائك مثالاً تختلف فيه آراؤنا، قدمنا الأسبوع الماضي مقترحاً لإدراج جرائم العنف الجنسي كجريمة ضد الإنسانية في لائحة الاتهام، في حين أن النيابة العامة أدرجت الاتهامات بهذه الجرائم باعتبارها نوعاً من [الجرائم] «العادية» فحسب.

ما هو تقييمك العام لمجريات المحاكمة حتى الآن؟ هل تسير الأمور كما هو مأمول لها، أم أن هناك قصوراً في جوانب ما؟

هناك جانب واحد، على الأقل، كانت لائحة الاتهام قاصرة فيه بالنسبة لما أعتقد أنه يحصل فعلاً في مراكز الاحتجاز السورية، وهذا ما ذكرته للتو. قضية العنف الجنسي، وهي برأيي جزء من اعتداء ممنهج وواسع النطاق، وبالتالي فهي أيضًا جريمة ضد الإنسانية. لكن، بشكل عام، أعتقد أنه بالإمكان القول أن المحاكمة سارت على ما يرام حتى الآن.

إن نظرنا إلى مقاصد موكّلينا، سنجد أن النقطة الرئيسية بالنسبة لهم ليست [فقط] الحصول على حكم بإدانة شخصية للمتهم الرئيسي، أنور ر.، بل تسليط الضوء على الوضع العام وإجمالي جرائم التعذيب ضد الإنسانية في مراكز الاعتقال السورية. ولهذا الأمر تأثيرات على كامل مجريات المحكمة، وقد وُضعت أدلة قوية وتوثيقات مهمة في متناول أعمال البحث عن الحقيقة، وهذا أمر مهم للغاية بالنسبة لموكليّ. إن نظام التعذيب والاعتقال هذا مرتبط بشكل وثيق بإخفاء ما يحدث، ومنع الوصول إلى المعلومات، وما إلى ذلك. وهنا لدينا ما يُعاكس ذلك تماماً: […] إذا تخيلت تلك الزنزانة المظلمة لسجن التعذيب، فقد جلبنا بعض الضوء، على الأقل، إليها.

[…]

لقد كان هناك بعض الشهود من داخل المنظومة، والذي أدلوا بشهاداتهم حول عملها، وقدموا شهاداتهم حول دور المتهم الرئيسي ضمنها. أيضاً، كان عرض صور قيصر صادماً، وشهادة الخبير الطبي الذي تفحّص كل صورة من صور قيصر، و[عرضَ] شهادته حول عمله، ثم لخَّصَ نتائج هذا الفحص المستمر منذ عام 2017 حتى الآن.

[…]

ولدينا، بالطبع، المتهمون بأنفسهم، الذين قدموا بعض المعلومات حول دورهم في المنظومة، لكنهم لم يعطوها للمحكمة، بل للشرطة. وقد قدم عناصر الشرطة الذين وثَّقوا إفادة المتهمين المعلومات خلال جلسة الاستماع بوصفهم شهوداً في عملية التقاضي.

فيما يخص النقطة المحددة التي أشرتَ إليها بخصوص الجرائم الجنسية والتباينات بينك وبين النيابة، ما هو الوضع الحالي لذلك؟ هل سيقرر القاضي الآن ما إذا كان سيتم إضافة التهم؟

نعم بالضبط. لقد كان هذا طلباً قدمناه للمحكمة. يمكن للأطراف الأخرى، بما في ذلك الادعاء، أن يقرروا ما إذا كانوا يريدون الانضمام إلى هذا الإجراء أو […] معارضته. وبعد ذلك ستقرر المحكمة في النهاية ماذا يفعلون بالطلب.

لنقم بإجراء مقارنة سريعة، قد تكون ذات صِلة أو لا، وربما عليك التعليق حول مدى ذلك […] لقد رأينا، في لبنان، مع الحكم الأخير في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. على وجه التحديد في «قضية عياش وآخرين»، قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. صدر هذا الحكم في آب (أغسطس)، وكان هناك قدر كبير من خيبة الأمل لدى الرأي العام، إذ أدين واحد فقط من المتهمين الأربعة في نهاية المطاف. وهو عنصر منخفض المستوى نسبيًا في حزب الله، دون إدانة أي شخصيات بارزة أخرى، سواء داخل حزب الله، أو داخل جهاز الأمن اللبناني، أو حتى داخل النظام السوري، الذي يُشتبه على نطاق واسع بتورطه على مستوى ما. وإلى خيبة الأمل هذه يُضاف واقع أن المحكمة قد استغرقت خمسة عشر عاماً، وكلّفت نحو مليار دولار، لتصل في النهاية إلى هذا الحكم. ولم يتم حتى القبض على المتهم المُدان الآن، بل جرت المحاكمة بأكملها غيابيًا. لذلك كان هناك شعور واسع النطاق وعميق بأن هذا لم يكن خيبة أمل للبنان فحسب، بل كان بمثابة ضربة لمفهوم العدالة الدولية نفسها ولمشروعها. إذ حتى مع وضع الأمم المتحدة والمجتمع الدولي ثقلهما لصالح المحكمة الدولية، وخمسة عشر عامًا ومليار دولار، لم يتمكن أفضل المدعين العامين في العالم من إنجاز ما هو أكثر من إدانة هذا الشخص، الذي من الواضح أنه لم يكن قادراً على تخطيط عملية معقدة كهذه وتنفيذها من تلقاء نفسه. وهذا الشخص، في الواقع، هاربٌ من العدالة، إذ من المتوقع أنه لا يزال يعيش حراً في مكان ما في لبنان. هل لديك هواجس من خطر حدوث شيء مشابه في كوبلنز؟ أي أن تكون توقعات الرأي العام غير متناسقة مع ما يمكن أن يحدث بالفعل، حتى في حالة نجاح الادّعاء في الحصول على إدانة، وأن هذا سيؤدي إلى إحباط وخيبة أمل حتمية من العدالة الدولية بين السوريين وغيرهم؟ كيف يمكن إدارة هذه التوقعات بشكل مناسب، دون التقليل من أهمية المحاكمة أو تقويض أهمية المُساءَلة القانونية؟

هذه نقطة جيدة، وكبيرة جدًا، لأنها تتعلق بشرعية هذه المحاكمات والمحاكم الدولية. ما زلت [أقول] أن أوجه الاختلاف بين المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وما يجري بخصوص سوريا أكثر من أوجه التشابه. ولذلك يمكننا فقط استخلاص استنتاجات أو مقارنات [قليلة] نسبيًا بينهم.

[…]

من المهم جدًا أن أضع شيئًا واحدًا في الاعتبار. أعتقد أن المُساءَلة الجنائية أساسية في أي من هذه العمليات، ومن الضروري أن تُدار بطريقة صحيحة. بما يخص محكمة لبنان[…] أعلم أن هناك الكثير من المشاكل، ولكن المسألة تتمحور حول إن كانت حقائق ما حول ما جرى قد كُشفت ووثقت، أو أشارت لمسؤوليات ما؛ تقول إن هذا لم يحصل. أعتقد أن المحكمات المتعلقة بسوريا، أو هذه المحاكمة بشكل خاص، ستكون مختلفة عن المحكمة اللبنانية. هناك، على سبيل المثال، أمرٌ قُدِّمَ كدليل في محكمتنا هذه، صدر عن الإدارة المركزية للأزمة -أعلى مستويات السلطة في سوريا، أولئك المسؤولون مباشرة أمام بشار الأسد- يوجّه كلَّ الأوساط المنتمية للمخابرات بضرورة سحق الاحتجاجات بكل ما يتطلبه ذلك من وسائل. هذا ليس اقتباساً حرفياً من الأمر، إذ تُستخدم كلمات مختلفة، لكن كل من يعرف منطق هذه المنظومة يعي ما يعني هكذا أمر.

أو، [لأخذ] اقتباس واحد فقط من شهادة اليوم، التي ما زلت أفكر فيها، [من] شاهد […] تحدَّثَ أيضاً عن سلسلة القيادة. إذ قال:«وفي أعلى الجميع هناك الإله، والإله قَرَّر». حينها، سأله القاضي:«إذاً، هل لهذا الإله اسم؟»، فضحك الشاهد، وقال:«أجل، طبعاً، اسمه بشار الأسد». تالياً، المحكمة تحدد مسؤوليات، ومسؤوليات من هذا المستوى كذلك.

ومع ذلك، ستكون نسبة الجرائم التي يمكن للقانون الجنائي الدولي أن يتعامل معها قليلة بالمقارنة مع المجمل[…] وكيف يمكن ألا يكون كذلك؟ إنه صراع استمر لما يقرب من عشر سنوات، وآلاف الجرائم ارتُكبت -هذا على فرض إمكانية تحديد كميتها-. لذلك، بالطبع سيكون الأمر انتقائياً للغاية. ولكن يمكن أن يكون لها دور مؤثر؟ هذا هو المهم. أن يتم التقاط هذا التأثير واستخدامه، ليس فقط من قبل الهيئات القضائية الأخرى والمحامين الآخرين لتقديم المزيد من المحاكمات والمشتبه بهم إلى العدالة، ولكن أيضًا من قبل المجتمع المدني عموماً؛ وفي المجال السياسي؛ وعن طريق وسائل الإعلام، والفنون، والتعليم، وكتابة التاريخ، وهكذا دواليك. أعتقد أن المحاكمة يمكن أن تفعل ذلك. وهناك القليل من المؤسسات الأخرى في المجتمع التي يمكن أن تعمل على هذا النحو، لأنه [في المحاكمة] تتم مناقشة الحقيقة، ولدينا المحكمة. أعني، لدينا سبعة قضاة جالسين هناك. سبعة! من أعلى القضاة [تأهيلاً] في ألمانيا. وسوف يقومون بتقييم كل كلمة قيلت على مدى سنوات في هذه التجربة. وعندما يكون لديهم حكم فسيكون ناتجاً عن تداول طويل، ويمكن قراءته وفهمه في مكان آخر.

[…]

لقد أتى فنانون سوريون وأقاموا معارض فنية قوية الرسالة. وسيتم صنع أفلام. وهلم جرا. [الأمل] أن يؤدي هذا إلى شيء ما، حتى لا يُنسى ما حصل أو [يكنس] تحت البساط. أعتقد أن هذا هو المكان الذي يكمن فيه التأثير الكبير.

بخصوص اختيار الشهود في كوبلنز، هل بإمكانك أن تحدثنا قليلاً عن الآلية المتبعة لإيجاد الشهود واختيارهم؟

خلال مدة طويلة، أي شخص لديه معلومات عن هذا الفرع الذي هو موضوع المحاكمة الآن، أي فرع الخطيب بدمشق، وتوجّه نحو سلطات الادعاء، أو إلى سلطات التحقيق، تم سماعه كشاهد.

على من تقع مسؤولية إيجاد الشهود، وتجهيز قائمة بهم وتقديمها للمحكمة؟ على الادّعاء؟

نعم، هذا عمل الادعاء، ولكنهم بالطبع يتعاونون مع المحامين. في بعض الأحيان، أو بالأحرى في كثير من الأحيان، لا يمتلكون القدرة على التواصل؛ الناس لا يثقون بهم، أو لا يريدون التحدث معهم. يشعرون براحة أكبر عند التحدث إلى محامٍ سوري أولاً، ثم ربما محامٍ ألماني يمكنه تقديم المشورة لهم. ففي كل حالة تقريباً هناك مسألة أمنية وأسرية في سوريا، وما إلى ذلك […] الكثير من القضايا لا تمضي دون مساهمة المجتمع المدني، من محامين وناشطين سوريين، و، في مثل هذه الحالة، شركائهم الألمان.

في حال أراد أحدهم أن يتقدم ويدلي بشهادته أمام المحكمة الآن، فهل ما يزال المجال لذلك مفتوحاً؟ ماذا عليه أن يفعل؟

بإمكانه التوجه إلى مركز شرطة وتقديم أي معلومات لديه بهذا الشأن، وسيتم توثيق شهادته ومن ثم إرسالها إلى المدعي العام. [لكن] السؤال هنا قد يكون عن عدد الشهادات التي يستطيع المدّعي العام المرور عليها بعد، أو إن كان قد قرَّرَ أن لديه شهادات كافية لهذه القضية ولم يعد بحاجة للمزيد. ليس لديّ إجابة بخصوص ذلك، لكن إن وُجد من لديه معلومات مباشرة حول الجرائم، فغالباً سيتم استدعاؤه لتقديم شهادته.

[…]

أنصح الناس دائماً بالتواصل مع محامٍ قبل كل شيء. كي يتمكن هذا المحامي من إخبارهم بما سيحصل لهم، وما لديهم الحق بالقيام به، وما يجب أن يلتزموا به. «هذا ما سيحدث، لديك الحق في القيام بذلك، وعليك الالتزام بذلك. أن تكون شاهداً ليس موضوعاً اختيارياً. إن أُخطرت المحكمة أنك شهدتَ شيئاً فسوف يستدعونك لتقديم شهادتك، وحينها سيكون من الواجب عليك أن تقول ما تعرف. وأسباب رفض الشهادة قانونياً قليلة للغاية. ما لا يفهمه كثير من الناس بوضوح هو أنهم لا يستطيعون انتقاء ما يريدون قوله وما لا يريدون. لذلك يُنصح دوماً باستشارة محامٍ مسبقاً.

من وجهة نظرك كمحامٍ، كيف تُقيّمُ التغطية الإعلامية للمحاكمة حتى الآن؟ هل كان هنا تغطيات غير دقيقة أو سوء فهم إشكالي لأي من مجرياتها؟

أعتقد أن التواصل من قبل المحكمة لم يكن مرضيًا حقًا، لأنه كان من الصعب جداً على كثير من الأشخاص أن يُتابعوها، خاصة الأشخاص الناطقين باللغة العربية الذين لا يفهمون المحاكمة باللغة الألمانية. لأن اللغة الوحيدة التي تسمعها في مجلس الحاضرين هي الألمانية. ما لم يتكلم الشاهد باللغة العربية، [حينها] يمكنك سماع ذلك الشاهد، لكنك لن تسمع الأسئلة، أو أي شيء يُقال بالألمانية. وقد حاولنا المطالبة بإجراءات إزاء هذا الأمر، أن تُتاح الترجمة أيضًا للجمهور غير الناطق بالألمانية، وقد رفضت المحكمة هنا هذا الطلب. أيضاً، أراد بعض الأكاديميين تسجيل المحاكمة لأغراض تأريخية بشكل أساسي، وتم رفض هذا الطلب أيضًا. ولذا أعتقد أنها كانت فرصة ضائعة […] لأن لديك جزءاً كبيراً من الناس، وبالتحديد السوريون، الذين لا يستطيعون الوصول إلى معلومات دقيقة حول هذه القضية.

الجلسة التي حضرتها اليوم، على سبيل المثال، كم مِنها متاح للجمهور العام؟

كروكر : لا شيء.

الجمهورية: لا شيء؟

كروكر: لا شيء. بادئ ذي بدء، لا توجد محاضر متاحة للعموم. لذاك فإن الطريقة الوحيدة للحصول على معلومات حول ما يحدث بالفعل في المحكمة هي الجلوس في الجزء المخصص للحضور العام في الصالة والاستماع. وهذا ما يمكنك فعله فقط باللغة الألمانية. ولا حتى باللغة العربية […] أنا متأكد من أنه [إذا كانت هناك ترجمة عربية] فإن المزيد من الناس سيأتون ويستمعون إلى ما يحدث.

تنوعت التوصيفات التي تم إطلاقها على المحكمة، مثل «تاريخية» و«الأولى من نوعها»، ومصطلحات أخرى من هذا القبيل. ما هو التأثير الذي تتوقعه لها على المدى الطويل، إن اعتقدت بوجوده، بما يتعدى التأثير المباشر على المُدّعى عليهم؟ كيف سيتم تَذكُّرُ هذه المحكمة؟ ما الذي ستُغيّره؟

ليس لدينا حكم بعد، ولربما تبدأ محاكمة أخرى تكون أسرع، ولكنني أعتقد أنه سيكون أول حكم ضد أجهزة الاستخبارات السورية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية باستخدام التعذيب ضد المدنيين. وبطبيعة الحال، نحن [نعرف] هذا بفضل هيئات الأمم المتحدة، والمنظمات الدولية، والمنظمات غير الحكومية […] ولكنني أعتقد أن حكم محكمة سيكون له وقع مختلف. أعتقد أنه سيكون لحكم المحكمة تأثير ذو ديمومة. حكم كهذا لا يُمحى […] وأعتقد أن هذا سيؤثر أيضًا في السنوات المقبلة على الإدراك التاريخي لما جرى.

ولكن ، حتى أكثر من ذلك، آمل أن يؤدي حكم المحكمة لانطلاق أنواع أخرى من آليات العدالة؛ أن يصبح من الواضح أنه، حسناً، بحوزتنا الآن حكم محكمة […] وحالما يتم تثبيت الحكم […] فإن المحاكم الأخرى، على الأقل في ألمانيا، سيكون أسهل عليها إثبات ما يَرِدُها من قضايا، لأنها لن تكون مضطرة للعودة مجدداً إلى كل هذه التفاصيل […] يمكنهم حينها القول: «حسنًا، وبما يخص هذه الجزئية، سنقرأ الآن حكم المحكمة في كوبلنز»، أي، سيكون هناك حقيقة مثبتة بالفعل. .

وآمل أن يؤدي هذا أيضًا إلى […] إعادة التفكير في مدى رغبتك حقاً في التعامل مع مثل هذه الحكومة، خصوصاً الآن إذ تفكر العديد من الحكومات في تطبيع علاقاتها مع النظام. والأمر الآخر هو الأمل في أن تتشكل عمليات قضائية وتكون كوبلنز نموذجاً مشجعاً للسوريين للمشاركة أكثر، وللمزيد من المدّعين العامين كي يوجّهوا اتهاماتهم، أو لكي يصدروا أوامر اعتقال بحق مشتبه بهم من مستويات اعلى.

بخصوص هذه النقطة تحديداً. كثيراً ما نستمع لأحاديث غير محددة ومتأملة بخصوص ملاحقات مستقبلية. هل لديك معلومات عن أمثلة محددة لملاحقات يتم العمل عليها، وقد تنطلق في السنوات القليلة المقبلة؟

نعم، هناك قضية ضد طبيب من المشفى العسكري في حمص «علاء م.» أيضا في ألمانيا. وقد تم إلقاء القبض عليه، ونقلت وسائل الإعلام ذلك. ومن المحتمل جداً أن توجّه إليه الاتهامات القضائية قريباً. وهو من المنظومة نفسها، أي المخابرات العسكرية.

لستُ على اطلاع حول قضايا أخرى يتم تجهيزها للبدء، ولكني متأكد من أنها ستتواصل. ولكن حتى تصل القضايا إلى هذا المستوى، يجب أن يكون المشتبه بهم هنا (في ألمانيا)، حاضرًين، حتى يمكن توجيه الاتهام إليهم. على الأقل في النظام القانوني الألماني، وفي معظم الأنظمة القانونية في أوروبا. لكني ما زلتُ آملُ أن يكون هناك المزيد من أوامر القبض، أيضاً، ضد أشخاص غير موجودين. هذا لا يكفي لجلبهم للمحكمة، ولكن يبقى الأمل في أن يتم القبض عليهم يوماً ما عبر الإنتربول، إذا أُصدرت أوامر اعتقال دولية، والإنتربول على علم بذلك. ربما في غضون خمس سنوات، شخص مثل [مدير المخابرات الجوية السابق] جميل الحسن سيرغب في السفر إلى السويد للذهاب للتسوق، أو لأي سبب كان، وقد يتم القبض عليه. أعتقد أنه من المهم أن يستمر هذا.

في الآونة الأخيرة ، انتشرت هذه القصة الصادمة عن ضابط في النظام السوري، خالد الحلبي، الذي وصل إلى فرنسا، حيث رُفض طلب لجوئه، وحسب التقارير تم تهريبه إلى النمسا عن طريق الموساد الإسرائيلي. يبدو الأمر وكأنه حبكة مسلسل على نِتفليكس. وقد علّقتَ على حسابك على تويتر أن هذه ضربة كبيرة لجهود محاسبة مثل هذه الشخصيات. هل لديك أمل، الآن بعد أن ظهرت القصة، وتم الكشف عنه، أن السلطات النمساوية قد تغير مسار ما يحدث؟

أتمنى ذلك. وآمل ألا يكون الوقت قد فات للقيام بذلك، ولست متأكدًا مما إذا كان الإبلاغ عن القصة في الإعلام قد زاد من فرص المضي قدماً في هذه القضية أم قلّلها. لأن الشخص، في حال كان لا يزال متاحاً، قد يهرب. لذلك لست متأكدًا من كيف ستتطور الأمور. ولكني أعتقد أن فضح هكذا أمور محق، لأن حصول هكذا أمور فعلاً فضيحة كبرى […] العدالة بخصوص هكذا جرائم هو أمر لا يمكن المساومة عليه أبداً […] هكذا أمور لا يمكن أن تحصل. هذا عمل قذر، إذا كنت تريد أن تصدق تلك [التقارير ]، وما قامت أجهزة المخابرات بفعله. أعتقد أنه من المهم الكشف عن ذلك وعدم السماح لهؤلاء الأشخاص بالإفلات من العقاب [فقط] لأنهم يحوزون أي نوع من أنواع السلطة.

جلستَ في القاعة أثناء إجراءات المحكمة. على المستوى الشخصي البحت، وبغض النظر عن دورك كمحام، بل من منظور إنساني بحت، كيف يُجلَس في الغرفة نفسها ويستنشق الهواء ذاته مع رجل مثل أنور رسلان؟ خاصة عندما يجلس بعض ضحاياه في المكان نفسه أيضاً.

بالتأكيد، الخبرة الأقوى على المستوى الشخصي هو ما ذكرته، أي أن تكون هناك مع الناس الذين عانوا. أعتقد أن هؤلاء هم الذين أجد نفسي أقرب لهم. المتهمون جالسون هناك، وأفكر «حسناً، هذه ستكون محاكمة عادلة، وهذا ما أريده، وعلى الأقل سنقيّم ما فعلوه فعلاً». لكن المشاعر كانت أقوى في اليوم الأول، حين قُرأت لائحة الاتهام، وكان هناك الكثير من القصص، قصص شخصية، تلخيصات لإفادات شهود، والكثير من هؤلاء الناس أعرفهم، وسمعتُ قصصهم. وأحياناً كنتُ موجوداً معهم حين جلسوا وقدموا إفادتهم للمدّعي العام.

هذا يحصل، وأخيراً، والمتهم، في الوقت ذاته، جالس هناك، ويُسأل «هل فهمت كل شيء؟ هل فهمت المترجمين؟ هل كل شيء على ما يُرام؟ هل تمكنت من فهم كلّ كلمة؟»، «أجل» وحينها عليه أن يستمع لساعة ونصف من هكذا أشياء وهي تُقرأ له.

أو حين عُرضت صور قيصر، وشاهدنا مئات من الصور في ذلك اليوم، وخلف كل صورة هناك قصة شخصية لأحدٍ يعرف أن قريبه قد عُذِّبَ حتى الموت. هذه خبرة مؤثرة جداً، علي أن أقول، وهي ليست أمراً يسهل عيشه على الإطلاق. […] وأنا أفكر أتوماتيكياً عن كيف يمكن أن يعيش الناس هذه الأشياء. نرى جثثاً على الشاشات قد تم تعذيبها حتى الموت، أو تُركت تموت من الجوع، هذا أخ أحدهم، أو أخته، أو غيره. ليس هذا بالأمر السهل، لكنه بطبيعة الحال السبب المركزي لانخراطي الكبير في هذا العمل، من أجل تثبيت حكمٍ وتأريخٍ موثّق، وللعمل من أجل أن تتوقف هذه الجرائم، ومن أجل أن يُحاسب مرتكبوها.

وماذا عن المتهمين؟ وهل هناك شيء تقرؤه على وجوههم في تلك اللحظات التي تعرض فيها صور الجثث؟ هل يعطون أي إشارة للندم، أو أنهم متأثرون بأي شكل من الأشكال، أم أنهم يعرضون «وجه بوكر» بارد؟

عليّ أن أقول أنني لم أرَ الكثير من رد الفعل حين أتت هذه اللحظة. أنور ر، المتهم الرئيسي، يهتمّ أكثر عندما يدلي الناس بشهاداتهم حول كيفية عمل النظام، بشكل أساسي. أي ما يعرفه جيداً وما كان جزءًا منه لعقود؛ يهتم حقاً حين يتحدث الناس عن ذلك، وإذا سمع ما يعتقد أنه كلام خاطئ -حتى لو لم يكن ذو صلة بلائحة الاتهام- يمكنك أن تراه منفعلاً ومتحدثاً إلى محاميه «لا، ليس هذا من كنت أقدم له التقارير»- أنا فقط أعطي هذا كمثال متصور، لأنني لا أعرف ما يقوله حقاً-. لكن هذه هي الأمور التي تجعله يقدم رد فعل أساساً. قصص المعاناة المروية في القاعة لا تحركه كثيراً.

ولكن، كما قال أحدهم لي [في ذلك الوقت]، «هو الوحيد الذي شاهد هذه المشاهد في الحقيقة». من المؤكد أنها كانت أكثر صعوبة حينها، فلذلك قد تكون لديه طريقة ليتمكن من التعامل مع هكذا أمور حينها، وبالتالي ربما اليوم كذلك.

شكراً جزيلاً لك على وقتك يا باتريك.

شكراً لكم.

——————————-

اياد غريب من قصص الثورة/ غسان المفلح

سجل للرجل مواقف ثلاث: الاول انشقاقه عن مخابرات الاسد لصالح الثورة في بداياتها. الثاني اعترافه على نفسه وكل ما قام به. وتقدمه للمحكمة بصفة شاهد لفضح جرائم الاسدية. ثم يتحول إلى متهم ويحكم عليه نتيجة لاعترافاته هذه بأربع سنوات ونصف. كنا نطالبهم بالانشقاق، انشقوا وحملوا على الاكتاف وشاركوا في نشاطات الثورة، احتلت الثورة من قبل اقوى جيوش العالم، في محاولة لهزيمتها كثورة حرية وكرامة. ثم ادخال سورية في وضعية التعفين المزمن. بعد عام 2015 حيث التدخل الروسي بكل انواع الاسلحة. في هذا السياق يحاكم اياد غريب ويتم الحكم عليه في المانيا. إن الحكم عليه لم يعد حكما على رجل من رجالات الاسد ولا بأي حال. من ينظر إلى مسار الثورة يجد ان من كان يحاكم في المانيا هي الثورة المهزومة في ظل الوضعية الاستنقاعية للمستوى السياسي السوري. الحكم على اياد غريب يأتي في سياق مختلف عما يطرحه القائمين عليه. ليس باي حال من الاحوال ان الحكم الصادر عليه هو محاكمة للأسدية. هي محاكمة منشق مهما حاولتم من إطلاق تسميات اخرى. وبغض النظر عن هذه التسميات. انها محاكمة الثورة لجهة المنشقين. السؤال من وضع الإطار العام الحقوقي والسياسي لهذا السياق الذي حوكم بموجبه اياد غريب؟ حتى قبل يومين من تاريخ صدور الحكم كانت كل المعطيات التي املكها تشير ان الرجل سيخرج بصفته شاهدا. هذا تقصير فاضح مني. لا يخفى على أحد في الادارات السياسية الاوروبية كلها والامريكية التي هللت للحكم: ان هذا الحكم ليس محاكمة للأسد على الاطلاق. قبل ان امضي في هذه العجالة، لابد من شكر نوايا السوريين الذين عملوا ويعملوا من اجل محاكمة الاسدية. لكن هم يريدوننا ان نكون صريحين معهم. لأنهم جزء من الثورة هذه. لا اعتب ابدا على القاضي الالماني. ولست معنيا بالحديث عن القضاء الالماني الذي لا اشكك بنزاهته. كما انني ازعم ان القاضي نفسه يعتبر ما قامت به محكمته نصرا للعدالة من وجهة نظره. لكن بالمقابل وزير الخارجية الالماني الذي هلل مع بعض الاوروبيين والامريكان للحكم يعرفون جيدا ان هذه المحكمة ليس بأي حال محاكمة للأسدية لا رمزيا ولا ماديا. إنها محاكمة لمنشقين عن الاسدية. هل وزير الخارجية رجل حقوق ام سياسي؟ من جهة اخرى هل الانشقاق عن الاسدية يعطي صك براءة للمنشق؟ بالتأكيد لا. خاصة إذا كان ممن ارتكبوا جرائم. القضية ابعد من تعاطف مع شخص اياد غريب. القضية سياق تم فتحه دون ضابط سياسي وحقوقي عام وكيف يندرج هذا الحدث في سياق الدفاع عن الثورة وعن مصالح الشعب السوري؟. لماذا دون ضابط للقواعد؟ ببساطة لأنه سياق لا يحاكم نظام الاسد. بل سياق ما ظهر منه حتى اللحظة هو محاكمة منشقين. وكما فهمت من أحد الاصدقاء القائمين على الحملة، ان هذا السياق لا يهتم بالسياسي ولا يهتم بمعاييره، بمعنى لا يهتم بالانشقاق كفعل محسوب على الثورة. هذا من جهة ومن جهة اخرى هو يعتبرها سياسة عندما يقول ويصرح: انها محاكمة لنظام الاسد. هل لايزال اياد غريب وحتى انور رسلان من رجالات الاسد؟ هذا كان تعليقي الاولي على الحكم على اياد غريب” يحق لاي سوري رفع دعوى قضائية على اي منشق او غير منشق. تماما كما يحق لاي منظمة حقوقية. القضاء لا يأخذ بالاعتبارات السياسية والاخلاقية مهما كانت وجاهتها ودوافعها. حتى اعترافات صف الضابط اياد الغريب وكان شاهدا على غيره، لم تشفع له. الاجدى ان نقول ان الوضع الدولي العام والاجندات السياسية في سورية، لم يترك لحقوقيينا سوى ان يحاكموا منشقين!! هذا الوضع الدولي يجعل الحكم على اياد شئنا ام ابينا في جانب منه ورقة حمراء يرفعها الاسد بوجه كل من يفكر بالانشقاق او يمد لسانه للمنشقين!! او كما قرأت لاحد المعلقين يختصر شيئا مما تبدو عليه اللوحة بشكل ساخر” جيد ان قيصر موجود في امريكا ولديه حصانة برنامج حماية الشهود، وإلا لو كان بأوروبا كانوا الشباب حاكموه”. يبدو ان المعارضة ليس لديها برنامج حماية الشهود مثل امريكا. إن أي خطوة قانونية تأتي في سياق سياسي هي سياسة ايضا. من جهة اخرى اي ضحية تستطيع جلب أي جاني منشق او غيره للمحكمة، حقها لكن دون القول انها تحاكم نظام الاسد. لأنها مجرد ذكرها الاسد فهي سياق سياسي. خاصة ان الاسد لايزال يقتل شعبنا. ومن حق الناس محاكمتها سياسيا وعلى كل المستويات العامة والخاصة. ليعذرنا الاصدقاء وليكن صدرهم رحب. من حقنا ان نرى في هذه الخطوة على الاقل ليست باي حال محاكمة لنظام الاسد، بل هي محاكمة لمنشقين عنه. السياق الذي عبر عن نفسه ايضا في حادثة كانت ملفتة للنظر: عند بدء محاكمة انور رسلان تم تناول السيد رياض سيف، بأنه هو من سهل لجوئه إلى المانيا. وكائنا امام حالة ادانة لرياض سيف!! ضابط مخابرات رفيع انشق عن الاسدية، هل كان مطلوب من رياض سيف او غيره تسليمه للأسد مثلا؟ او الا يساعده في طلبه؟ مهما كانت نواياه على فرض انه لايزال مرتبط بالأسد ومخابراته، ورياض سيف لا يعرف وليس لديه معطيات سوى انه ضابط منشق، فهل يدان رياض سيف على ذلك؟ تلك الحملة توضح اننا امام محاكمات سياسة لمنشقين! وايضا لم تتوفر لدى القائمين عليها حتى الآن وثائق تدين منشقين آخرين؟ لو توفرت لكنا سنراهم في المحاكم تحت عنوان محاكمة الاسد!! في النهاية اريد التأكيد للمرة الالف: من حق أي ضحية رفع دعوى على أي مسؤول في الاسدية سواء كان منشقا اما لا، لكن دون تسميتها انتصارا ضد الاسدية او انها” محاكمة للأسدية. محاكمة انور غريب والحكم عليه دون مدعين شخصيين في جزء منه هو سيرة ثورة تكالب عليها القاصي والداني لهزيمتها رمزيا بعدما تم هزيمتها عنفيا واباديا. هزيمة قصصها ورمزياتها، والتي كانت قضية الانشقاق من قبل ضباط الجيش والمخابرات لها رمزيتها الايجابية. لو كان هنالك ادعاء فردي على اياد غريب، وحكم بناء عليه، لقلنا انها العدالة. لكنها ليس محاكمة نظام الاسد.

السفينة

—————————

محكمة كوبلنز بين العاطفة ومنطق العدالة/ طارق عزيزة

الانتهاكات المرتكبة ضدّ حقوق الإنسان، سواء وقعت في أوقات النزاع المسلّح أم في زمن السلم، تعدّ جرائم وفق القانون الدولي وتستوجب محاسبة مرتكبيها، بصرف النظر عن حجم دور المتورّطين فيها، ومن بينها جرائم التعذيب والإخفاء القسري للأشخاص. ولمّا كان عمل أجهزة الأمن والمخابرات جميعها في “سوريا الأسد” ما هو إلا مسلسل متواصل من اقتراف جرائم من هذا النوع، فإنّ قرينة تورّط عناصرها بارتكاب الانتهاكات قائمة، سواء قام بها العنصر مع توفّر النيّة الجرمية لديه، أو في معرض قيامه بالواجبات الوظيفية. هذا يعني أنّ مجرّد عمل المرء في أجهزة المخابرات الأسدية هو تهمة بذاتها، فكيف إذا كانت البلاد في حالة ثورة وأجهزة المخابرات، منذ الأيّام الأولى للتظاهرات الشعبية السلمية، لم تكفّ عن اعتقال الناس وإخفائهم قسراً وتعذيبهم وقتلهم، حتى لمجرّد شبهة المشاركة في المظاهرات أو التعاطف مع الثورة.

رغم كلّ ذلك، ثارت موجة واسعة من الجدل والخلاف في الرأي بين السوريين/ات حول قيام السلطات الألمانية قبل نحو عامين، بتوقيف العقيد أنور رسلان والمساعد أول إياد الغريب، العضوين السابقين في أحد أجهزة مخابرات النظام السوري، وتحديداً المخابرات العامة المعروفة بـ”أمن الدولة”، وذلك على خلفية اتهامات لهما بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية، واستناداً لمبدأ الولاية القضائية العالمية المعمول به في ألمانيا.

ومنذ بدء محاكمتهما في نيسان (أبريل) من العام الماضي أمام المحكمة الإقليمية العليا بمدينة كوبلنز، كان هناك من أيّد الإجراء ورأى فيه خطوةً هامّة على طريق تحقيق العدالة ومحاسبة المتورّطين في ارتكاب انتهاكات بحق السوريين، في حين تعاطف آخرون مع الموقوفَين ووجدوا أنّ من الظلم اعتقالهما ومحاكمتهما، نظراً لأنّهما انشقّا عن النظام في وقت مبكّر نسبياً من عمر الثورة (انشقّ الغريب مطلع عام 2012 ورسلان أواخر العام نفسه). الآن عاد الجدل والخلاف ليتجدّد بعد صدور قرار إدانة إياد غريب، والحكم عليه بالسجن مدة أربع سنوات ونصف، لمساهمته في اعتقال عشرات الأشخاص من مظاهرة سلمية، واقتيادهم إلى الفرع الأمني الذي كان يعمل فيه، فيما تستمرّ محاكمة العقيد أنور رسلان، لأنّ المحكمة فصلت بين القضيّتين.

خلال المحاكمة أتيحت لإياد وفريق الدفاع كل الوسائل، بما فيها استدعاء شهود، لإثبات عدم تورّطه في الجرائم المنسوبة له، باستثناء ما أقرّ واعترف به هو نفسه من مشاركته في اعتقال متظاهرين سلميين، أي أنّ الفرصة كانت متوفرة أمامه للحصول على براءته مما هو بريءٌ منه حقاً أو نما يفتقر لأدلّة تثبته. والمحكمة توصّلت بالفعل إلى نفي كثير من التهم عنه وفصلت مسار قضيّته عن قضيّة العقيد رسلان الطافحة بالتهم، والتي تقدّم ببعضها مدّعون شخصيون ضدّ المتهم.

هناك من استنكروا الحكم، والمحاكمة نفسها، بحجّة أنّ المجرمين الكبار من أركان النظام مازالوا بعيدين عن دائرة العدالة والمساءلة، وأنّ رسلان وغريب ما هما إلا “كبش محرقة” لأسباب لا علاقة لها بتطبيق العدالة حقاً، وبلغ الأمر ببعضهم حدّ اعتبار القضية برمّتها تخدم النظام لجهة الانتقام من الضباط المنشقّين! لكن في الواقع، وخلافاً لهذا الزعم، لم تقتصر المسألة على ما يجري في كوبلنز، لأن الادّعاء الألماني نفسه أصدر بالفعل مذكّرات توقيف دولية بحق بعض كبار قادة النظام الأمنيين، ومن ضمنهم اللواء جميل حسن، المدير السابق للمخابرات الجوية وأحد أشهر مجرمي النظام السوري. والأهمّ أنّ تعليل الحكم الذي صدر بحق إياد غريب لم يتناول شخصه فقط، وإنما استفاض في تعرية منهجية الإجرام التي يتبعها نظام الأسد في قمع معارضيه، استناداً إلى الأدلة والوثائق والشهادات والخبرات التي عُرضت في جلسات المحكمة.

رغم الجدل والانتقادات، فإنّ هذه خطوة هامّة في مسار العدالة الطويل. وإلى حين توفّر الظروف التي تتيح محاسبة كبار المجرمين لا ينبغي أن يُستثنى الصغار منهم من الملاحقة والمحاسبة بذريعة عدم إمكانية الوصول إلى أسيادهم، فالعدالة واحدة وقضيّتها لا تتجزّأ، و”ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جلّه”. وبمثل ما يوجد مجرمون في مواقع المسؤولية أصدروا الأوامر بارتكاب الانتهاكات وقمع المتظاهرين السلميين، هناك مرؤوسون قاموا بتنفيذها. ومبدأ المحاسبة والعدالة يشمل مصدري الأوامر ومنفذيها معاً، فالمسؤولية الجنائية لا تنتفي عن المنفذين لمجرّد القول إنّهم لا يملكون خيار الرفض، أو أنّهم انشقّوا لاحقاً رفضاً للاستمرار في ممارسة الانتهاكات. يمكن أن يُنظر إلى هذه المعطيات بوصفها من الأسباب المخفّفة للعقوبة، خاصّة في حالة المنشقّين الذين أظهروا تعاوناً مع العدالة، وهو ما جرى مع إياد الغريب فعلاً، حيث استفاد من الظروف المخفّفة، سواء في مقدار العقوبة التي طالب بها الإدّعاء العام، أو تلك التي قرّرتها المحكمة في حكمها عليه.

إنّ العدالة في أبسط صورها تعني محاسبة من يثبت تورّطه في جريمة ما، وتبرئة من تثبت براءته وردّ الاعتبار له. فإمّا الوثوق بالقضاء والإيمان بمبدأ العدالة والمحاسبة بالمطلق، كائناً من كان المتهم وأيّاً تكن عواطفنا تجاهه، أو أنّ الكلام عن العدالة سيبقى محض شعارات جوفاء لا قيمة لها.

——————————-

قريب إياد الغريبلـزمان الوصل“: سنطعن بقرار الحكم الألماني وواثقون من براءته

أصدرت المحكمة الإقليمية العليا في مدينة “كوبلنز” الألمانية حكمها بإدانة “إياد الغريب”، وهو صف ضابط (مساعد) منشق عن فرع الأمن الداخلي (251)، أحد الأفرع الأمنية السورية التابعة لإدارة المخابرات العامة في سوريا.

جاء في البيان الصحفي على الموقع الرسمي للمحكمة أن الأخيرة أصدرت قرارها بحق المواطن السوري إياد الغريب 44 عاما بالسجن 4 سنوات و6 أشهر لمساعدته على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

قرار المحكمة لاقى ترحيبا من قبل شريحة واسعة من سوريين معارضين اعتبروه “نصرا للثورة السورية وانتصارا للمعتقلين والشهداء الذين قضوا تعذيبا في أقبية فرع الأمن”، فيما فوجئ البعض ممن كان على اطلاع بتفاصيل القضية بالحكم الصادر بحق “الغريب” الذي كان من أوائل المنشقين عن أجهزة النظام الأمنية بعد قيام الثورة السورية وانطلاق الاحتجاجات المناهضة لنظام الأسد، والتي طالبت عناصر الجيش والأمن بالانشقاق عن النظام.

عائلة “إياد الغريب” التي حضرت جلسة النطق بالحكم، صدمت بالقرار الصادر بحقه، معلنة أنها سوف تطعن بالحكم وفق الأصول القانونية وعن طريق محامي الدفاع عن “إياد الغريب”.

صف الضابط “إياد الغريب” الذي بدأت أولى جلسات محاكمته إلى جانب العقيد “أنور رسلان” (رئيس فرع التحقيق في الفرع 251) في 23/أبريل/ 2020، ظل طوال فترة المحاكمة مخفيا وجهه وملامحه عن عدسة الكاميرات، وبقت الكثير من تفاصيل حياته وملابسات قضيته غامضة بالنسبة لكثير من السوريين، فمن هو “إياد الغريب”؟

“مهدي الناصر” (صحفي سوري)، ابن عم “إياد الغريب”، وشقيق زوجته، آثر الصمت طوال الفترة التي سبقت إصدار الحكم، إلا أنه قرر الخروج عن صمته بعد قرار المحكمة بإدانة ابن عمه، الذي يراه (مهدي) بريئا مما نسب إليه.

“زمان الوصل” كان لها حوار مع “الناصر” للحديث عن ابن عمه “إياد الغريب” وعمله في أجهزة مخابرات النظام حتى انشقاقه عنه ولجوئه إلى ألمانيا حتى صدور قرار الحكم بحقه من قبل المحكمة الإقليمية العليا في “كوبلنز”.

*سيرة ذاتية لـ”الغريب”

ولد إياد الغريب في العام 1976 في مدينة “موحسن” في محافظة دير الزور ، وعاش فيها وتلقى في مدارسها مراحل تعليمه الابتدائية والإعدادية والثانوية، وفقد والده وهو بعمر الأربع سنوات.

وقال ابن عمه “مهدي الناصر” إن وضع أسرة “الغريب” المعيشي اضطره إلى التطوع في أجهزة المخابرات بحثا عن مصدر دخل ثابت (راتب)، أوضاف “هذه المعلومة أذكرها في سياق الحديث عن الدافع الذي دفع إياد للتطوع في أجهزة الأمن السورية، وهو الأمر نفسه الذي دفع الكثير من أبناء سوريا عامة ومو حسن، خاصة للتطوع في أجهزة الأمن أو الشرطة أو الجيش في تلك الفترة للحصول على راتب ثابت، كما أن التطوع والعمل في الأمن والجيش لم يكن يعتبر جريمة قبل العام 2011، وهو ما أدركه إياد بعد الثورة ليكون من اوائل المنشقين”.

*العمل في أجهزة المخابرات

تطوع “الغريب” في المخابرات السورية في عام 1996، وخدم خلال سنوات خدمته في عدد من الأفرع الأمنية، كان أولها في الفرع (295) التابع لإدارة المخابرات العامة، في منطقة “نجها” في ريف دمشق، حيث خدم في ذلك الفرع من عام 1996 حتى عام 2010، بصفة (مدرب رياضة)، وهو ما أكده فريق التقصي في “زمان الوصل”، من خلال شهادة زملاء لـ”الغريب” (إثنان من صف الضباط المنشقين عن القسم 40، سبق وأن تدربا على يديه في الفرع (295).

واستكمل “مهدي” حديثه قائلا إن “الغريب” نُقل عام 2010 إلى الفرع (251) مع عدد من العناصر وصف الضباط وبقي فيه حتى انشقاقه في شهر تشرين الثاني/نوفمبر/2011، بسبب رفضه للقمع الأمني من قبل النظام للمتظاهرين، لينتقل بعدها إلى مدينته “موحسن” في ريف دير الزور، وتوجه في العام 2013 إلى تركيا ليقيم في أحد المخيمات حتى عام 2016.

*اللجوء إلى ألمانيا

ويكشف “الناصر” لـ”زمان الوصل” أن أسبابا صحية خاصة بأحد أفراد عائلته دفعت “إياد الغريب” إلى اللجوء في أوروبا بحثا عن حياة ومستقبل أفضل كحال مئات الآلاف من السوريين المعارضين لنظام الأسد، فأرسل أحد أولاده إلى ألمانيا ليقوم بإجراءات لمّ الشمل لباقي أفراد الأسرة، إلا أن معاملات لمّ الشمل التي تتسم بالروتين والبيروقراطية، وطلب الكثير من الوثائق حال دون ذلك، حيث طلبت السفارة الألمانية في تركيا من “إياد الغريب” وأفراد عائلته استصدار جوازات سفر سورية من القنصلية السورية في اسطنبول! وهو ما رفضه إياد كونه معارضا ومنشقا عن النظام، وقرر اللجوء عبر البحر ووصل اليونان في العام 2016، ومنها إلى ألمانيا في العام 2018، التي تأخر وصوله إليها بسبب إغلاق الحدود الأوروبية في وجه اللاجئين.

*شهادة فاتهام فإدانة!

يقول “مهدي” إن “إياد” لدى وصوله ألمانيا كان عليه التقدم بطلب لجوء إلى المكتب الاتحادي لشؤون الهجرة واللاجئين (BAMF)، وخلال مقابلته مع موظفي المكتب أراد “إياد” الذي عمل لسنوات طويلة في المخابرات السورية، كان شاهدا على ممارساتها القمعية والوحشية بحق المتظاهرين السوريين وانشق عنها لهذا السبب، أراد أن يقدم في إفادة اللجوء معلومات متعلقة بفرع الأمن الداخلي (251) وضباطه وجرائمهم وانتهاكاتهم بحق السوريين وخصوصا ما شهدته مدينة “دوما” في ريف دمشق من قمع واعتقالات، ظنا منه أن تكون شهادته هذه دليلا جديدا يضاف إلى الأدلة التي تدين نظام الأسد أمام المحاكم الأوروبية التي بدأت بملاحقة ضباط وقادة أمنيين وعسكريين سوريين متورطين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

إلا أن “إياد”، والكلام مازال للصحفي “الناصر”، تحول بنظر السلطات الألمانية من شاهد إلى متهم ومن ثم مدان بالمساعدة على ارتكاب تلك الجرائم وصدور قرار بسجنه؟!

*حكم ظالم

واعتبر أن “الحكم كان صادما لنا”، مؤكدا أن “إياد منشق وبريء مما نسب إليه من تهم في قرار الحكم”.

وحول رأي عائلة “إياد” بقرار الحكم الصادر قال المصدر “بداية لا بد أن أنوه إلى أمر، أننا قبل قيام الثورة السورية آذار مارس/2011، قامت عدة ثورات في عدة دول عربية نتج عنها انشقاقات عناصر وصف ضباط وضباط عن أجهزة الأمن والشرطة بناء على مطالب المتظاهرين، كما حدث في الثورة المصرية والليبية والتونسية.

وأردف “عند انطلاق الثورة السورية وإدخال النظام لقوات الجيش والأمن في قمع المتظاهرين السوريين، طالب هؤلاء المتظاهرين، من عناصر الجيش والأمن الانشقاق والانضمام للثورة، فما كان من ابن عمي إياد والكثير من عناصر الجيش والأمن إلا أن لبوا نداء المتظاهرين وانشقوا عندما سنحت لهم الفرصة”.

وأوضح أن عائلة “إياد” ترى قرار الحكم على إياد المنشق منذ بدايات الثورة، “غير عادل ومبنيا على افتراضات غير مستندة إلى أدلة منطقية وواقعية”، وقال إن عائلة “إياد” واثقة من براءته من التهم المنسوبة إليه، ولم يشهد أحد عليه بارتكابها، بل على العكس من ذلك، فإن “إياد” قام خلال تلك الفترة التي شهدت مظاهرات واعتقالات في أنحاء مختلفة من العاصمة دمشق بمساعدة متظاهرين بإخفائهم عن أعين قوات الأمن التي كانت تلاحقهم لاعتقالهم، رغم مايحمله هذا الفعل من خطورة على حياته.

واختتم مؤكدا نية العائلة الطعن في قرار الحكم آملا من القضاء الألماني إعادة النظر في القضية وإنصاف “إياد” وتبرئته.

—————————–

وجهاً لوجه

بدعوة مشتركة من مؤسسة هينرش بُل، والمركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان (ECCHR)، والمركز السوري للعدالة والمُساءَلة، عُقِدَ يوم أمس الثلاثاء مؤتمر صحفي عبر تطبيق زووم، نوقشت فيه المحاكمة المستمرة في مدينة كوبلنز الألمانية، التي يواجه فيها أنور رسلان تهماً بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، تشمل التعذيب والاغتصاب والقتل، أثناء رئاسته لقسم التحقيق في الفرع 251 التابع للمخابرات العامة (أمن الدولة) والمعروف باسم فرع الخطيب في دمشق خلال العامين 2011 و2012، فيما يواجه إياد الغريب فيها تهماً بالتواطؤ لارتكاب جرائم ضد الإنسانية عبر اعتقال أشخاص وتسليمهم للفرع نفسه في خريف العام 2011.

ويأتي هذا المؤتمر الصحفي بعد ثلاث جلسات حوارية باللغة العربية، نظّمتها الجهات نفسها بالشراكة فيما بينها خلال الأسابيع الماضية، تمحورت الأولى منها حول مفهوم الولاية القضائية العالمية، فيما تمّ تخصيص الثانية للحديث عن العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي، والثالثة للحديث عن المحاكمات والقضايا المرفوعة في أوروبا ضد مسؤولين في النظام السوري. وفي بداية المؤتمر الصحفي، قال يواخيم بول، رئيس مكتب بيروت في هينريش بُل إن الهدف من جميع هذه الجلسات، بما فيها جلسة يوم أمس، هو «النفاذ إلى جميع المهتمين بهذه المحاكمات» من الناطقين باللغة العربية، بعد أن «لاحظنا اهتماماً واسعاً بها وصعوبة في الوصول إلى المعلومات عنها بالعربية».

أدار جلسة يوم أمس ناصر ياسين، الأستاذ المشارك في الجامعة الأميركية في بيروت. وبعد الحديث الافتتاحي الذي قدّمه يواخيم بول، تم الانتقال إلى الصحفية والناشطة السورية رويدا كنعان، الشاهدة في محاكمة كوبلنز، والتي تحدثت عن سياق شهادتها وظروفها، وقالت أيضاً إنّ من أهم ما لفت نظرها في المحكمة هو اهتمام القضاة بالسياق السوري ككلّ في العامين 2011 و2012، وليس فقط بما كان يجري في فرع الخطيب وقتها، وأسئلتهم عن المنظومة الأمنية السورية بشكل عام وعن المظاهرات وردّ فعل النظام عليها؛ «لقد أشعرني هذا بارتياح كبير».

بعدها تَحدّثَ وسيم مقداد، الموسيقي السوري المقيم في ألمانيا، الشاهد في المحاكمة وأحد المدعين الشخصيين المشتركين السبعة فيها، الذي تحدّث بدوره عن ظروف شهادته، وقال إنه يعرف معتقلين سابقين رفضوا الادلاء بشهادتهم لأنهم لا يثقون بأيّ مؤسسات ذات صفة رسمية في العالم، ولأنهم يعتقدون إن هذه المحاكمات لا فائدة منها، لكنه مع ذلك يرى أن هذه المحاكمات بالغة الأهمية، لأنها تساعد في إعادة تسليط الضوء على الحكاية السورية، وفي مقاومة سردية النظام التي تتحدث عن أن القضية هي مواجهة يخوضها مع جماعات إسلامية متطرفة.

باتريك كروكر، محامي المدعين الشخصيين في محكمة كوبلنز، والذي يعمل على الملف السوري في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، تَحدَّثَ عن مجريات المحكمة، وقال إنها تؤكد كل ما قالته وسائل الإعلام عن الانتهاكات التي يرتكبها النظام السوري، لكن أهميتها تكمن في أنّ الأدلة على هذه الانتهاكات يتم نقاشها وتقييمها للمرة الأولى من قبل قضاة في محكمة، ولن يقتصر الحكم الصادر عنهم في النهاية على بيان براءة أو إدانة المتهمين، بل سيتطرق إلى القمع الممنهج من قبل النظام السوري، وهو ما نأمل أن يكون مفيداً لمستقبل سوريا.

وفي سياق ردّه على أسئلة بخصوص محاكمة مسؤولين آخرين في النظام السوري، أعاد كروكر التأكيد على أنّ القانون الألماني لا يسمح بمحاكمة المتهمين غيابياً، ما يعني أنه لا يمكن محاكمة شخص غير موجود في قاعة المحكمة، شارحاً أنّ ما يحصل عند بناء ملف قضائي ضد متهمين غائبين هو إصدار مذكرات توقيف دولية بحقّهم، وهو ما حدث فعلاً بخصوص علي مملوك وجميل الحسن، مثلاً.

تحدََّثَ في الجلسة أيضاً حسان قانصو، عضو فريق تحليل البيانات في المركز السوري للعدالة المسالة، وأحد المراقبين لهذه المحاكمة، الذي قال إن أهمية المحكمة تكمن في أنها تسلط الضوء على معلومات داخلية عن آلية عمل الأجهزة الأمنية للنظام السوري، لافتاً إلى أنّه لاحظ أنّ المحكمة باتت مؤخراً أكثر تساهلاً في مسألة إخفاء هوية الشهود الذين يريدون إخفاء هويتهم، خلافاً للمرحلة الأولى التي كانت فيها إجراءات المحكمة على هذا الصعيد أكثر صرامة.

وقد التقت الجمهورية رويدا كنعان ووسيم مقداد على هامش المؤتمر الصحفي، وتناولَ الحديث جوانب عدة تتعلق بالمحكمة والشهادات المُقدَّمة في سياقها، وجوانب ذات صلة بالناجين والناجيات ومسار العدالة.

وبداية الحديث كانت برنامج دعم الشهود في محاكمة كوبلنز، الذي يرعاه المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، قالت رويدا كنعان: «منذ اللحظة الأولى بعد موافقتي على الاشتراك في عملية التقاضي هذه، قدّمت لي السيدة جمانة سيف وفريق المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، عوناً كبيراً على جميع الصعد، ابتداءً من توفير عمليات الترجمة إلى إتاحة كل عون مادي ومعنوي ممكن. وقد جرى سؤالنا إن كنا نحتاج في أي مرحلة من المراحل إلى استشارة أخصائيين بسبب استعادتنا لتلك الذكريات المؤذية والتجارب الصادمة، وفي حال وافقنا كان ذلك متاحاً وبشكل مباشر دوماً. ذلك النوع من العون الذي قدموه لنا كان أساسياً بالطبع في قدرتنا على البدء والاستمرار في المحاكمة وتقديم شهاداتنا».

وسيم مقداد أيضاً تحدث عن البرنامج، وقال إنّه «لولا الدعم الذي قدّمه لنا المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، ومن السيدة جمانة سيف بالتحديد، بالتأكيد لم أكن لأستطيع أن أشارك كشاهد في المحكمة. كان من الصعب عليّ، لولا الدعم التقني الذي قُدّم لنا على صعيد شرح القوانين في ألمانيا وآلية عمل المحاكمة، أن أمتلك الثقة الكاملة اللازمة لخوض هذه التجربة التي تعني اليوم لنا الكثير. في ظل عدم قدرتي على فهم القوانين الألمانية لوحدي، كان سيتطلب الأمر مني سنوات حتى أكون قادراً على اتخاذ مثل هذا الإجراء، وربما لم أكن لأقِدَر عليه».

كيفية التعامل مع العبء الذي يلقيه تسليط الضوء على القضية وشهودها كانت محور أحد الأسئلة، وفي هذا الشأن قالت رويدا كنعان: «كان الخيار لنا منذ اللحظة الأولى في المحاكمة، أن نظهر بأسمائنا الحقيقية وصورنا، أو أن نخفي تلك المعلومات عن أي أحد خارج إطار المحاكمة، بما في ذلك بالطبع الصحافة والإعلام. بالنسبة لي، كان ظهوري باسمي الحقيقي وصورتي ومشاركتي بأحاديث مع الإعلام جزءاً من مهمة أخذتها على عاتقي، وهي أن أعطي صوتاً لمن لا يستطيعون الوصول إلى موارد أو يخافون الظهور. باعتباري ناجية من الاعتقال، وباعتباري امرأة، كان دوماً هذا أحد أولوياتي. نحن نعلم أن الكثير من الناجيات من الاعتقال يَخفنَ الظهور على الإعلام نتيجة أسباب كثيرة تتضافر فيها الوصمة الاجتماعية بالظروف المادية والوضع القانوني، عدا عن الناجين الموجودين داخل سوريا، الذين لا يستطيعون الحديث عن تجاربهم خوفاً على حياتهم بشكل مباشر».

من جهته، أشار وسيم مقداد أيضاً إن هذا كان خياره منذ البداية: «أظنّ أنّ هذا الظهور هو جزء من عمل أوسع لمناصرة قضية المعتقلين في سوريا، وقد تعاملنا معه على هذا الأساس منذ البداية. شخصياً أعتقد أنه تقع علينا، نحن الذين نستطيع الظهور علناً، مسؤولية نقل أوضاع المعتقلين والضحايا في بلادنا. وبالطبع، لم نكن مضطرين لذلك، لكنّنا اخترنا ذلك بناءً على قرار منا».

وعن الدور الذي يمكن أن يلعبه ظهورهم العلني في تشجيع ناجين آخرين على تقديم شهاداتهم، قالت رويدا كنعان: «أظنّ أن ظهوري كناجية من الاعتقال وشاهدة في محكمة تقاضي مجرم حرب سيكون له أثر إيجابي على الناجيات، تحديداً لـ “تشجيعهن” على الشهادة. أعرف أن كلمة “تشجيع” إشكالية هنا، لأن ما ينقص الناجيات تحديداً ليس الشجاعة، بل هناك الكثير من العوائق الاجتماعية والقانونية التي تقف في وجه أي ظهورهنّ للمطالبة بحقوقهنّ القانونية أو التحدث عن تجربتهنّ، لكن إن كان ظهوري علناً يساعد ولو بجزء صغير في هذه المسألة، فإنني سأكون سعيدة للغاية».

وتحدث كل من وسيم مقداد ورويدا كنعان عن رؤيتهم الخاصة لدور محاكمة كوبلنز ضمن مسار العدالة في سوريا، حيث رأى وسيم مقداد أنّ هذه المحكمة قد منحت مسار العدالة سرديّة مكتملةً «لقد كنا بحاجة لأن نمنح مسار العدالة في سوريا سرديةً واضحةً وسياقاً مكتملاً نجد فيه قضايا الانتهاكات تذهب إلى المحاكم ويقف فيها الجناة أمام القاضي ويتم سماع الشهادات فيها، أعتقد أن محكمة كوبلنز فعلت ذلك، لقد قدمّت لنا سرديةً واضحةً يمكن للناس في العالم أن تراها وتفهمها، في بلد يضمن حقوق الجميع وتمتلك محاكِمُه مصداقيةً عالية، ستعطي لهذه المحاكمة والشهادات ضمنها مصداقية أعلى بكثير من الحديث للإعلام أو لما يمكن أن تفعله محاكم في دول الجوار مثلاً».

وعن هذا الموضوع قالت رويدا كنعان «نحن اليوم لا نمتلك الكثير من الخيارات، إذ لا يمكن ضمن الظروف السياسية القائمة في مجلس الأمن الذهاب إلى محكمة الجنايات الدولية على سبيل المثال، ضمن هذه الظروف كان اللجوء إلى بند الولاية العالمية للقضاء الألماني أفضل المتاح أمامنا، ليس لدينا أية أوهام بأنّ هذه المحكمة ستطال بشار الأسد، لكنّها بداية ضرورية جداً لمسار التقاضي ولحصولنا على حقوقنا. لقد منحتني رؤية المجرم وراء القضبان طاقة هائلة، وهي خطوة مهمّة جداً لنا جميعاً».

دور الشهود والمدعين في هذه المحكمة، فتح أيضاً خلال الحوار نقاشاً حول أدوار روابط ومجموعات الضحايا في سوريا والتي بدأت تتشكل وتقوم بمهام كثيرة من دعم ومناصرة قضية المعتقلين، وقد كان رويدا كنعان تميل إلى اعتبار أنّ الدور الأساسي في هذه المرحلة لتلك المجموعات هو التنظيم الذاتي: «لم تستطع مجموعات الضحايا في دول عانت من أوضاع مشابهة مثل البوسنة من القيام بعمل فارق إلّا بعد عشرة أو خمسة عشر عاماً، في الوقت الحالي أظنّ أنّ أهمّ إنجاز لمجموعات الضحايا التي تعمل داخل سوريا أو خارجها هي التنظيم، كما انّ عدد كبير من مجموعات الضحايا تعمل الآن على تقديم العون المعنوي والمادي للضحايا، وهي أولوية لهم الآن أكبر من الانخراط في مسار العدالة بشكل مباشر، عدا عن ارتباط بعض تلك المجموعات ببرامج المنظمات المدنية التي ساعدت أو أشرفت على تشكيلها، وهو ما يربط عملها بتلك البرامج بشكل مباشر، بكل الأحوال أظن أن المجموعات الحالية تقوم بعمل هام جداً وهو التضامن البيني بين الضحايا أنفسهم وتقديم الدعم للذين يحتاجونه».

————————-

كوبلنز” هل هي بداية العقاب للنظام السوري؟/ أحمد الأحمد

بعد صدور هذا الحكم الأول من نوعه، طُرحت أسئلة جدلية حول المرحلة المقبلة، مثل مدى اعتبار هذا الحدث خطوةً على درب العدالة للمعتقلين السوريين، أو مدى اعتبار مدّة الحكم كافية.

“حدثٌ تاريخي” شهدته محكمة مدينة كوبلنز الألمانية، عندما حكمت ضد صف الضابط السوري “إياد أ” بعد أشهرٍ من الجلسات، وإياد هو واحد من متهمين اثنين إلى جانب الضابط “أنور ر” الذي كان رئيس فرع التحقيق في فرع الخطيب سيّئ الصيت في سوريا.

ويُعتبر هذا الحكم الأول من نوعه في العالم المتعلّق بانتهاكات النظام السوري، والقمع الوحشي في السجون السورية.

“إياد أ” أثناء المحاكمة

إياد (44 سنة)، أحد المتّهمين في القضية، انشق عن النظام السوري عام 2012، وخرج من سوريا في شباط/ فبراير 2013 ووصل إلى ألمانيا عام 2018، وأُدين بـ”المساعدة” على جرائم ضد الإنسانية حيث اتهم بأنّه قام باعتقال وحبس وجلب ما لا يقل عن 30 متظاهراً إلى فرع الخطيب في الفترة الممتدة من أيلول/ سبتمبر وتشرين الأول/ أكتوبر 2011، في حين أن التهم الموجّهة للضابط أنور ر، هي قتل 58 شخصاً، وتعذيب 4000 معتقل وممارسة عنف جنسي.

صدر حكم المحكمة بسجن إياد أربع سنوات ونصف السنة، في حين أن قضية أنور يفترض البت فيها في تشرين الأول المقبل.

بعد صدور هذا الحكم الأول من نوعه، طُرحت أسئلة جدلية حول المرحلة المقبلة، مثل مدى اعتبار هذا الحدث خطوةً على درب العدالة للمعتقلين السوريين، أو مدى اعتبار مدّة الحكم كافية، وحتّى جدلية أن المحكمة تحاسب “منشقّين عن النظام”.

الاعتراف بالجريمة أوّلاً

لم يتسنَّ للمدوّن السوري حسين غرير حضور جلسة النطق بالحكم، على رغم أنّه كان حضر جلساتٍ سابقة كأحد الشهود في هذه القضية، ولكنّه خلال النطق بالحكم كان يترقّب أي أخبار صادرة عن المحكمة.

اعتقل غرير في فرع الخطيب وعند صدور الحكم اجتاحته مجموعة من المشاعر المتناقضة لساعات، كان في حالة توتّر وهو ينتظر تفاصيل الجلسة حتّى أن المحامي الخاص به أرسل له كل ما حصل في الجلسة.

يقول غرير: “شعرت بارتياح عندما سمعت تعليل الحكم، وإقرار القضاء بأن ما يحدث في سوريا هو ارتكاب جرائم حرب ممنهجة”.

هل الحكم كافٍ؟ يجيب المدوّن السوري: “من وجهة نظري فإن التعاطي مع عدد سنوات الحكم هو أمرٌ تفصيلي، لقد استقبلتُ الحكم يوم أمس بالطريقة ذاتها التي يمكن أن أستقبلها بها لو كان الحكم 10 سنوات، ولن يُحدث الأمر فرقاً معي”، موضحاً أن كل ما يهم في تلك اللحظة هو أن المحكمة أقرّت بالجريمة، ووجهت إدانة مباشرة وإثباتاً مباشراً لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بغض النظر عن أن العنصر في أسفل هرمية المسؤولية.

يقول غرير: “هناك كمٌ هائل من الأدلة عن ارتكاب الجرائم في سوريا، جمعتها منظمات سورية ودولية عملت على الأمر، وهناك أكثر من خبير قانوني دولي أكّد أنّه لم يسبق في التاريخ أن جُمعت أدلّة بهذه الكمية وهذا المستوى مثلما حدث في سوريا”، مبيّناً أن المهم هو أن محكمة رسمية أصدرت حكمها بناءً على هذه الأدلة، ما يعني أن هناك مستنداً قانونياً واضحاً للجرائم في سوريا.

“شعرت بارتياح عندما سمعت تعليل الحكم، وإقرار القضاء بأن ما يحدث في سوريا هو ارتكاب جرائم حرب ممنهجة”.

ويوضح أيضاً أن السوريين اكتسبوا خبرة في السياق السوري والنظر في الأدلة، وهذه خبرة لا تقدّر بثمن للاستخدام في محاكم مستقبلية في دولٍ أوروبية أخرى، أو إذا أحيل الملف السوري إلى محكمة الجنايات الدولية.

في الجدلية القائمة على “محاكمة منشقّين عن النظام” يوضح غرير أن الكثير من الجدل دار حول هذه النقطة، انطلاقاً من مبدأ أنّنا تركنا الجميع وقمنا بملاحقة المنشقّين عن النظام، وقال: “من الصعب أنّك كناجٍ وكضحية تعمل على تحقيق العدالة وتحصيل الحقوق، ولكن في الوقت نفسه يتم الطعن بأخلاقياتك واتهامك بأنّك تلاحق المنشقّين دوناً عن بقية الناس”، لافتاً إلى أن هذا الأمر أزعجه جداً.

يقول مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” فضل عبد الغني: “هناك جدلية تتمثّل بأن هذا الشخص انشق وأنّه تتم محاسبة منشقين ولكن هناك ضحايا لهذا الشخص رفعوا دعوةً عليه وبالتالي من الضروري التحرك لأن الأهم أن محاسبة الجميع هي غاية من غايات الحراك ولكن هذا الأمر ليس بيد السوريين حالياً”.

في افتتاح الجلسة الأولى من المحكمة، التقى المدون غرير بالمتهم “أنور ر”، الذي كان حينها صامتاً، اقتصر حديثه على التعريف بنفسه.

يقول غرير: “حينها قابلته وهو كان بموقع المتّهم وشاهدت كيف فكّوا القيود من يده ووضعوه في مكان المتّهم، شعرت باسترداد جزء من الكرامة الإنسانية، لأنّنا عندما كنّا معتقلين كُنا منتهكي الكرامة بشكلٍ كامل، شعرت لحظتها انّني أخيراً صاحب الحق وبمكان المدعي، في حين أن المجرم هو من يقف داخل قفص الاتهام… إنّها لحظة أتمنّاها لكل ناجٍ”.

كانت نظرات الضابط أنور ر “اشمئزازية” وفوقية لكل من هم داخل المحكمة، بحسب غرير الذي أكّد أنّه حتّى آخر جلسة لم يغير أنور هذه النظرة السلطوية، وهو ما يؤكّد أكثر أنّه كان عضواً فاعلاً داخل النظام السوري.

ويشير غرير إلى أن تجربة الاعتقال، هي جرح عميق لا يمكن نسيانه بتقادم الوقت، ولكن ما يهم الآن هو الاعتراف بهذه الجرائم، والوصول بسوريا إلى أن من يرتكب جريمة هو شخص مدان قانونياً واجتماعياً ويخضع للمحاسبة، وفي هذه اللحظة سوف أشعر بأن اعتقال لم يذهب هدراً.

خلال دراسته في كلية الطب في دمشق، اعتقل الشاب السوري وسيم المقداد في أواخر أيلول 2011 من مدينة دوما، ومكث لأيام في فرع الخطيب ثم في فرع المخابرات العام.

في إجابته على سؤال عن رأيه بمدّة الحكم الصادرة في كوبلنز قال المقداد: “لا يوجد مدّة حكم يمضيها المتهمون في السجن قادرة على إرجاع شهيد تحت التعذيب، لذلك فإن الموضوع بالنسبة إلي رمزي أكثر مما هو محدود بعدد سنوات، وتكمن أهميته في السير على طريق العدالة الطويل الذي لن ينتهي إلّا بمقاضاة بشار الأسد وقادة جيشه وأفرعه الأمنية أمام القضاء”.

في قضية كوبلنز، كان المقداد شاهداً ضد المدعى عليهما “إياد أ” و”أنور ر” كما أنّه أحد المدعين ضد أنور، ولكنّه لا يعرف إذا كان قد التقى بهما في فترة الاعتقال في فرع الخطيب، لأن عينيه كانتا معصومتين طيلة فترة التحقيق.

المقداد موسيقي حالياً يعيش في ألمانيا، ويعرف جيّداً أن القضاء في سوريا معطّل بسبب سيطرة النظام السوري على المحاكم، في حين أن آلية المحاكم الدولية معطّلة بسبب “الفيتو” الروسي والصيني داخل مجلس الأمن، ولكنّه يؤكّد أن على السوريين طرق الأبواب الممكنة لمقاضاة المتورّطين بجرائم ضد المدنيين.

على رغم إقراره بصعوبة مثول الأسد أمام المحاكم حالياً، ولكن انطلاقاً من أن النظام السوري لن يستمر بالحكم، وأن الدعم الروسي له لن يستمر أيضاً، يبقى لديه الأمل في محاكمة الأسد، إلّا أن هذه المحاكمة قد لا تكون في المدى القريب.

خلال جلسة النطق بالحكم ضد “إياد أ” كان المقداد يشاهد الحكم هناك، ويقول إنّه ظلَّ يراقب القاضية وهي تتلو الحكم لمدّة ساعتين تقريباً، وكان يتذكر السياق الذي تمّت فيه الجريمة، والوضع في سوريا، ويستحضر مشاهد من الاعتقال: “لم يكن يغيب عن ذهني في تلك اللحظة أنه ما زال هناك معتقلون في سوريا يعيشون ظروفاً لا إنسانية، ويعانون من التعذيب والتجويع وسوء المعاملة وغياب التمثيل الحقوقي، إضافةً إلى الخوف من فكرة ألّا يخرجوا أحياءً من الاعتقال، بالنسبة إلي هذا الحكم هو أول اعتراف دولي موثّق بآلامهم”.

جدلية مدّة الحكم

يقول مدير الشبكة السوري لحقوق الإنسان فضل عبد الغني: “في القانون الدولي هناك عوامل تساهم في تخفيف الحكم وتنطبق بشكلٍ كبير على (إياد أ)، ومن هذه العوامل أنّه صف ضابط برتبة منخفضة وكانت تأتيه الأوامر من مرؤوسيه، ولكن هذا لا يعفيه من المسؤولية”.

ومن شروط الحكم المخفف أيضاً، أن إياد تعاون مع الادعاء بشكلٍ كامل واعترف بالانتهاكات التي قام بها وأظهر نوعاً من الندم، وهو في الوقت نفسه ليس مسؤولاً رفيع المستوى وقد انشق وانسحب من هذا العمل، والادعاء استند في إدانته إلى اعترافاته وهذه العوامل تسمى بـ”الظروف المخففة” وبالتالي صدر الحكم مخففاً.

كما أشار إلى أن الشهود الذين ادعوا ضد إياد أقل بكثير من المدعين ضد أنور، لافتاً إلى أن قرار المحكمة اليوم مفصلي ومهم ويندرج في سياق محاسبة المنظومة التي تمارس القتل والتعذيب.

وتابع: “إياد رتبته عادية فهو عبارة عن رقيب صف ضباط وهناك من هم أهم منه بكثير وبالتالي قبل الانتقال السياسي لن يكون هناك محاكمات ضد ضباط كبار، إذ لا تمكن محاكمتهم كونهم غير موجودين على الأراضي الأوروبية وبالتالي المسار طويل جداً”.

“طريق العدالة لا يمكن الوصول إليه إلّا بتحقيق انتقال سياسي، فطالما أن النظام السوري هو المسيطر لن تكون هناك عدالة انتقالية ولا محاسبة للمجرمين”

ولكنّه رأى في المقابل، أن هذه المحاكمة تعطي دفعة بأن هذا الحراك الديموقراطي يتابع حتى من ارتكبوا جرائم محدودة وبالتالي لن يتساهل مع الأسدية ومرتكبي الانتهاكات الأكبر.

ولكن هل تفتح هذه المحاكمة الباب أمام محاسبة مجرمي الحرب الرئيسيين في سوريا؟ يوضح عبد الغني أن ذلك لن يتحقّق على الأقل في المدى المنظور.

ويقول: “طريق العدالة لا يمكن الوصول إليه إلّا بتحقيق انتقال سياسي، فطالما أن النظام السوري هو المسيطر لن تكون هناك عدالة انتقالية ولا محاسبة للمجرمين، ولن تنتقل سوريا للاستقرار وبالتالي للتخلّص من الأسد ونقل البلاد إلى حكم ديموقراطي وهذا يتطلّب سنوات نضال طويلة وصبراً ومتابعة”.

آراء حقوقية حول القضية

تعقيباً على الحكم، صدرت آراء عدة من منظمات حقوقية سورية ودولية، كان أبرزها بيان “المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية” الذي يرأسه المحامي أنور البني.

واعتبر المركز في بيانٍ أن قرار المحكمة “”تاريخي” ونقطة مضيئة في تاريخ القضاء الألماني وتاريخ العدالة العالمية.

وقال البيان: “نعتبر هذا القرار وإن كان خاصاً بمتهم واحد لكن حيثيات قرار الاتهام ومطالبة النيابة العامة تطاول نظام الجريمة المنظمة والممنهجة الذي يحكم سوريا بالحديد والنار والخوف والإرهاب، ذلك النظام المجرم بجميع أركانه وشخصياته كان حاضراً كمتهم بكل جلسات المحاكمة في قرار الاتهام وفي شهادات الشهود والضحايا والخبراء كما كان حاضراً بتهديد الشهود وتهديد عائلاتهم في سوريا”.

وأضاف المركز، أن تجريم المتهم إياد والحكم عليه لم يكن بسبب قيامه بجريمة منفردة من تلقاء نفسه، بل لكونه جزءاً من آلة جهنمية منظمة وممنهجة وبأوامر عليا لاعتقال المدنيين السلميين وإخفائهم قسراً وتعذيبهم وقتلهم تحت التعذيب وإخفاء جثثهم بمقابر جماعية وبطريقة مهينة جداً، وهذه المنهجية تخضع لسلسلة أوامر وقيادة تصل إلى رأس هرم الجريمة الممنهجة في سوريا مع كل أركانه. لذا فالحكم على إياد يعني الحكم هرم تلك الجريمة كله، وبما فيه رأسه وأركانه.

وقالت لين معلوف، نائبة مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في “منظمة العفو الدولية“، تعقيباً على قرار المحكمة: “يعد الحكم التاريخي الصادر اليوم- وهو الأول من نوعه في ما يتعلق بالجرائم التي يرتكبها مسؤول حكومي سوري بموجب القانون الدولي- بمثابة انتصار رائع لعشرات آلاف السوريين، ضحايا التعذيب والاختفاء القسري، وكذلك للمنظمات السورية والدولية المعنية بحقوق الإنسان والدعاوى القضائية التي ناضلت معاً من دون كلل أو ملل من أجل الكشف عن الحقيقة وتحقيق العدالة. فقد ساعدت هذه المنظمات على ضمان توثيق الجرائم، وإعداد ملفات قانونية للمحاكمة، ولولاها لما كانت هذه المحاكمة ممكنة”.

وأضافت أن هذا “الانتصار” يبعث رسالة واضحة إلى الحكومة السورية مفادها أن المسؤولين عن الانتهاكات المروعة سيتم تقديمهم إلى ساحة العدالة. ويأتي هذا الحكم بعد نحو 10 سنوات من اندلاع الاحتجاجات السلمية الأولى في سوريا، وهي سنوات استعملت خلالها الدولة آليتها الوحشية ضد شعبها في مختلف مراكز الاحتجاز والسجون.

درج

—————————

محكمة كوبلنز بين العاطفة ومنطق العدالة/ طارق عزيزة

الانتهاكات المرتكبة ضدّ حقوق الإنسان، سواء وقعت في أوقات النزاع المسلّح أم في زمن السلم، تعدّ جرائم وفق القانون الدولي وتستوجب محاسبة مرتكبيها، بصرف النظر عن حجم دور المتورّطين فيها، ومن بينها جرائم التعذيب والإخفاء القسري للأشخاص. ولمّا كان عمل أجهزة الأمن والمخابرات جميعها في “سوريا الأسد” ما هو إلا مسلسل متواصل من اقتراف جرائم من هذا النوع، فإنّ قرينة تورّط عناصرها بارتكاب الانتهاكات قائمة، سواء قام بها العنصر مع توفّر النيّة الجرمية لديه، أو في معرض قيامه بالواجبات الوظيفية. هذا يعني أنّ مجرّد عمل المرء في أجهزة المخابرات الأسدية هو تهمة بذاتها، فكيف إذا كانت البلاد في حالة ثورة وأجهزة المخابرات، منذ الأيّام الأولى للتظاهرات الشعبية السلمية، لم تكفّ عن اعتقال الناس وإخفائهم قسراً وتعذيبهم وقتلهم، حتى لمجرّد شبهة المشاركة في المظاهرات أو التعاطف مع الثورة.

رغم كلّ ذلك، ثارت موجة واسعة من الجدل والخلاف في الرأي بين السوريين/ات حول قيام السلطات الألمانية قبل نحو عامين، بتوقيف العقيد أنور رسلان والمساعد أول إياد الغريب، العضوين السابقين في أحد أجهزة مخابرات النظام السوري، وتحديداً المخابرات العامة المعروفة بـ”أمن الدولة”، وذلك على خلفية اتهامات لهما بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية، واستناداً لمبدأ الولاية القضائية العالمية المعمول به في ألمانيا.

ومنذ بدء محاكمتهما في نيسان (أبريل) من العام الماضي أمام المحكمة الإقليمية العليا بمدينة كوبلنز، كان هناك من أيّد الإجراء ورأى فيه خطوةً هامّة على طريق تحقيق العدالة ومحاسبة المتورّطين في ارتكاب انتهاكات بحق السوريين، في حين تعاطف آخرون مع الموقوفَين ووجدوا أنّ من الظلم اعتقالهما ومحاكمتهما، نظراً لأنّهما انشقّا عن النظام في وقت مبكّر نسبياً من عمر الثورة (انشقّ الغريب مطلع عام 2012 ورسلان أواخر العام نفسه). الآن عاد الجدل والخلاف ليتجدّد بعد صدور قرار إدانة إياد غريب، والحكم عليه بالسجن مدة أربع سنوات ونصف، لمساهمته في اعتقال عشرات الأشخاص من مظاهرة سلمية، واقتيادهم إلى الفرع الأمني الذي كان يعمل فيه، فيما تستمرّ محاكمة العقيد أنور رسلان، لأنّ المحكمة فصلت بين القضيّتين.

خلال المحاكمة أتيحت لإياد وفريق الدفاع كل الوسائل، بما فيها استدعاء شهود، لإثبات عدم تورّطه في الجرائم المنسوبة له، باستثناء ما أقرّ واعترف به هو نفسه من مشاركته في اعتقال متظاهرين سلميين، أي أنّ الفرصة كانت متوفرة أمامه للحصول على براءته مما هو بريءٌ منه حقاً أو نما يفتقر لأدلّة تثبته. والمحكمة توصّلت بالفعل إلى نفي كثير من التهم عنه وفصلت مسار قضيّته عن قضيّة العقيد رسلان الطافحة بالتهم، والتي تقدّم ببعضها مدّعون شخصيون ضدّ المتهم.

هناك من استنكروا الحكم، والمحاكمة نفسها، بحجّة أنّ المجرمين الكبار من أركان النظام مازالوا بعيدين عن دائرة العدالة والمساءلة، وأنّ رسلان وغريب ما هما إلا “كبش محرقة” لأسباب لا علاقة لها بتطبيق العدالة حقاً، وبلغ الأمر ببعضهم حدّ اعتبار القضية برمّتها تخدم النظام لجهة الانتقام من الضباط المنشقّين! لكن في الواقع، وخلافاً لهذا الزعم، لم تقتصر المسألة على ما يجري في كوبلنز، لأن الادّعاء الألماني نفسه أصدر بالفعل مذكّرات توقيف دولية بحق بعض كبار قادة النظام الأمنيين، ومن ضمنهم اللواء جميل حسن، المدير السابق للمخابرات الجوية وأحد أشهر مجرمي النظام السوري. والأهمّ أنّ تعليل الحكم الذي صدر بحق إياد غريب لم يتناول شخصه فقط، وإنما استفاض في تعرية منهجية الإجرام التي يتبعها نظام الأسد في قمع معارضيه، استناداً إلى الأدلة والوثائق والشهادات والخبرات التي عُرضت في جلسات المحكمة.

رغم الجدل والانتقادات، فإنّ هذه خطوة هامّة في مسار العدالة الطويل. وإلى حين توفّر الظروف التي تتيح محاسبة كبار المجرمين لا ينبغي أن يُستثنى الصغار منهم من الملاحقة والمحاسبة بذريعة عدم إمكانية الوصول إلى أسيادهم، فالعدالة واحدة وقضيّتها لا تتجزّأ، و”ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جلّه”. وبمثل ما يوجد مجرمون في مواقع المسؤولية أصدروا الأوامر بارتكاب الانتهاكات وقمع المتظاهرين السلميين، هناك مرؤوسون قاموا بتنفيذها. ومبدأ المحاسبة والعدالة يشمل مصدري الأوامر ومنفذيها معاً، فالمسؤولية الجنائية لا تنتفي عن المنفذين لمجرّد القول إنّهم لا يملكون خيار الرفض، أو أنّهم انشقّوا لاحقاً رفضاً للاستمرار في ممارسة الانتهاكات. يمكن أن يُنظر إلى هذه المعطيات بوصفها من الأسباب المخفّفة للعقوبة، خاصّة في حالة المنشقّين الذين أظهروا تعاوناً مع العدالة، وهو ما جرى مع إياد الغريب فعلاً، حيث استفاد من الظروف المخفّفة، سواء في مقدار العقوبة التي طالب بها الإدّعاء العام، أو تلك التي قرّرتها المحكمة في حكمها عليه.

إنّ العدالة في أبسط صورها تعني محاسبة من يثبت تورّطه في جريمة ما، وتبرئة من تثبت براءته وردّ الاعتبار له. فإمّا الوثوق بالقضاء والإيمان بمبدأ العدالة والمحاسبة بالمطلق، كائناً من كان المتهم وأيّاً تكن عواطفنا تجاهه، أو أنّ الكلام عن العدالة سيبقى محض شعارات جوفاء لا قيمة لها.

————————–

عدالة الحكايات عن أرض الغائبين/ محمد برو

بالأمس تكللت جهود ناشطين وحقوقيين سوريين بالنجاح، بخطوةٍ ربما تكون الأولى في إدانة مجرمٍ من المجرمين الذين شاركوا في المقتلة السورية.

في الرابع والعشرين من شهر شباط 2020 كانت الجلسة الستون، جلسة النطق بالحكم على رجل الأمن السوري إياد الغريب والذي كان يتولى

لكنَّ الجريمة الأساسية التي تم الحكم عليه بموجبها، هي واقعة اعتراض المتظاهرين السلميين في مدينة دوما والمشاركة بإطلاق النار عليهم، الأمر الذي أدى لقتل العديدين منهم. وذلك في الشهر التاسع أو العاشر من العام 2011، أمام الجامع الكبير في مدينة دوما.

لم تكن هذه القضية وحدها كافيةً أو مبرراً لإدانته، إنما احتاج المدعي العام الألماني إلى تعزيز شهادته، بعشرات الروايات التي أكدها شهودٌ وموثقون وحقوقيون، عن طبيعة التعذيب والتصفيات التي كانت تجري يومها في فروع الأمن في دمشق، ومنهم أو في مقدمتهم فرع الخطيب والذي يرمز إليه بالفرع 251.

استمرت مرافعة المدعي العام الألماني الأخيرة عدَّة ساعات، قاطعتها بضع استراحات. تحدث خلالها عن الربيع العربي وصولاً إلى سوريا التي سماها “أرض الغائبين” كما نقلت الصحافية الفرنسية جارانس لو كين.

لم يكن “إياد الغريب” ضابطاً أو صاحب رتبةٍ عليا في جهاز الأمن ذاك، إنما هو أحد القتلة الذين شاركوا في مئات عمليات القتل والتعذيب، إلا أن محاكمته وإدانته والحكم عليه سيكونان بلا أدنى شكٍّ، عاملاً مهماً في بدء سلسلة قد لا تنتهي قريباً، من الشهادات التي سيسعى أصحابها لإثباتها وتوثيقها، والتي ستشير بأصابع الاتهام لمئات المجرمين الذين كانوا أدوات النظام الأسدي في قمع وقتل الشعب السوري.

هذه الشهادات ستكون كالسيف المشهر، والمسلط على حاضر ومستقبل أولئك القتلة، وهذا التهديد المستمر والذي نتمنى أن تتسع رقعته، فتشمل جميع دول الاتحاد الأوربي، سيؤكد في جانبه الأهم أنه مهما تدنت الرتبة الوظيفية للجاني، فإنَّ العدالة ستطارده وستناله يوماً ما، فالعبرة بطبيعة الجريمة المثبتة وليست برتبة الجاني.

ولا ينبغي النظر إلى هذه القضية اليوم على أنها إدانة وتجريم لعنصرٍ صغيرٍ في سلسلةٍ هائلةٍ تمتد لعشرات آلاف المجرمين والمشاركين، فالسلسلة الطويلة دائماً تبدأ بحلقات قليلة، والسيل يبدأ بقطرات تهمي ثم لا تلبث أن تتكاثر وتتسارع وتيرتها، إلى أن تحدث الطوفان.

هذه المسيرة الوعرة والطويلة، تحتاجنا جميعاً لبناء جدارٍ صلبٍ من الحكايات الممتزجة بصراخ ضحايانا ورائحة دمائهم وعتمة زنازينهم، نحتاجها لثقب جدار الصمت وهدم هياكل الخوف التي طالما قيدت أرواح السوريين قبل أجسادهم.

وليسمع العالم ولسنواتٍ طويلةٍ مئات آلاف قصص التعذيب والتغييب، والقتل الممنهج والعشوائي، قصص آلاف الأطفال الذين أبصروا النور وهم يتامى، قصص مئات آلاف الأمهات اللائي كفكفن دموعهن خوفاً من افتضاح الحزن في وجوههن على فلذات أكبادهن.

بالتفاتةٍ سريعةٍ لمحاكمة الرئيس العراقي الأسبق “صدام حسين” أحد أشهر المجرمين الذين حكموا العراق وأذاقوا الشعب العراقي ويلات القتل والتعذيب والرعب المهين، وبالرغم من ضلوع صدام حسين بمئات وربما بآلاف الجرائم التي ارتكبت بحق رفاقه البعثيين أولاً، وبحق معارضين وعوائلهم الكبيرة، إلا أن القضية التي تمت إدانته فيها هي قضية الدجيل، والتي يمكن أن تكون واحدةً من جرائمه الصغيرة، قياساً لما فعله في شعب العراق، إلّا أنَّ الآليات القضائية لها منهجيتها الخاصة في إثبات الوقائع وسبل الحكم عليها، الأمر الذي يحدو بنا إلى عدم الاستخفاف بأية جريمة أو قصة اعتقال أو تغييب تعسفي، أو غيرها من أدوات القمع، التي طالما كانت وسيلة نظام الأسد في حكم الشعب السوري.

في عصر الميديا وسيادة شبكات التواصل ووفرة مساحات التخزين السحابية، لم يعد التوثيق وحفظ الحكايات أمراً صعباً ولا محصوراً بمتخصصين قانونيين، فكل حكاية قد تروى على لسان أم أو أخت ستكون مستقبلاً مادة أولية للتحقق والتثبت منها عبر متخصصين، ليصار إلى استخدامها في معركة العدالة الطويلة، لكن الأهم من هذا أنها ستنتج مع آلاف الحكايات، وثيقةً تاريخيةً عن مدى إجرام هذا النظام، ومادةً أوليةً لعشرات الكتب والروايات والأعمال المصورة، التي ستعيد الاعتبار لآلاف الضحايا وذويهم، وستكون صوت العدالة المستمر، الذي سيؤرق ليل أولئك الجناة، ويجعل حياتهم رهينة الخوف من وصول يد العدالة إليهم.

تلفزيون سوريا

——————————

دفع لقانون أوروبي شبيه بـقيصر“: مهمة صعبة لحشد إجماع/ عماد كركص

يبدو أن بدء المحاكم الأوروبية التعاطي مع الانتهاكات والجرائم المرتكبة بحق المدنيين في سورية، لا سيما محكمة كوبلنز الألمانية التي بدأت قبل عام محاكمة شخصين مشتبه بارتكابهما جرائم حرب وأدانت أحدهما قبل أيام، شجع منظمات حقوقية سورية، وبالشراكة مع منظمات ومراكز أبحاث حقوقية في أوروبا، للتحرك بشكل فاعل أكثر ضد النظام السوري. يأتي هذا على الرغم من التباين على الصعيد السوري بالتعاطي مع قرار محاكمة كوبلنز، سواء بالترحيب بقرار إدانتها ضابط الصف إياد غريب، والحكم عليه بأربعة أعوام ونصف العام، قابل للطعن، أو اعتبار الكثير من النشطاء والحقوقيين السوريين أن غريب كان “كبش فداء”، بالمقارنة مع مجرمين حقيقيين لا يزالون خارج دائرة العقاب والملاحقة.

وانطلاقاً من إفادات قدمت داخل محكمة كوبلنز، لما بات يعرف بالشاهد “z30″، أو “حفار القبور”، الذي قدّم شهادات مروعة عن مقابر جماعية دفن فيها نحو مليوني جثة، تم حفرها في مناطق متفرقة على أيدي فرق مختصة تعمل يومياً طيلة أعوام، كان هو من بينهم، وكان الضحايا الذين دفنوا في تلك المقابر، من الذين قضوا داخل السجون والأفرع الأمنية للنظام أو المجازر المختلفة لا سيما في دمشق وريفها، بات حقوقيون يسعون لتحويل الشاهد “z30” إلى “قيصر 2″، بهدف التحرك والضغط لإصدار عقوبات جديدة للضغط على النظام ورموزه والحد من إعادة تعويم النظام ضمن أي صفقة دولية.

وكشف المحامي والحقوقي أنور البني، الذي يدير “المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية”، ومقره ألمانيا، أن منظمات حقوقية سورية وحقوقيين سوريين يعملون لتوحيد الجهود بهدف الضغط لإصدار قانون عقوبات جديد، على غرار “قانون قيصر” الأميركي، يفرضه الاتحاد الأوروبي على النظام.

وتحاول المنظمات جمع شهادات المعتقلين والمنشقين عن النظام، بالإضافة إلى كثير من الأدلة على تورط النظام ورموزه في مجازر الإبادة الجماعية، وعمليات القتل، والتعذيب بحق الأفراد في السجون والمعتقلات وغيرها، ليكون لديهم ملف كامل لدعم الحملة أمام الاتحاد الأوروبي. وكانت الحملة قد بدأت فعلياً قبل فترة، بالتواصل مع سياسيين أوروبيين للاستفادة من جهودهم في تحريك الملف، بغية إخراج المشروع إلى النور، ليكون قانوناً أوروبياً فاعلاً.

وأشار البني، في حديث لـ”العربي الجديد”، إلى أن لقاءات عدة جمعتهم، أي المنخرطين في الحملة، مع سياسيين أوروبيين فاعلين خلال الأشهر الأخيرة، تضمّنت طرح الفكرة ومناقشة حيثياتها، كاشفاً عن اجتماع جديد سيكون الأهم بين تلك الاجتماعات مع البرلمان الأوروبي في الثالث من مارس/آذار المقبل. وعلى الرغم من أن البني امتنع عن تفصيل الجهات المشاركة في الحملة من السوريين، إلا أنه أوضح أن مشروع القانون سيتطلب موافقة 27 دولة أوروبية سيجري التنسيق معها جميعاً، مشيراً إلى أن المهمة صعبة، كون الكثير من الدول الأوروبية لا تزال ترتبط مع النظام بعلاقات، أو لا يعتبرونه عدواً على الأقل، وبالتالي من الصعب حشد الإجماع الأوروبي لقانون شبيه لـ”قيصر” الأميركي. لكن البني أكد أن المساعي مستمرة، بالعمل مع دول تتبنى قضايا وحقوق الإنسان، ولا سيما دول أوروبا الغربية، كألمانيا وبريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا والسويد والنرويج والنمسا، على سبيل المثال، وهذه الدول لديها دعاوى موجّهة ضد النظام أمام قضائهم. وقال: “علينا العمل وسنقوم بما يمكن، وبأفضل الوسائل”.

واستفسرت “العربي الجديد” من البني حول الدور الذي من الممكن أن تلعبه بريطانيا في هذا المشروع، لا سيما أنها باتت خارج الاتحاد الأوروبي، بعد دخول اتفاقية “بريكست” حيز التنفيذ، فأشار إلى أنه “حتى وإن كانت بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي، إلا أنه من المهم الانضمام إلى هذا المشروع، أو إصدار مشروع أو قانون خاص بها، في هذا الخصوص”.

في سياق متصل، أشار مصدر من داخل لجنة التحقيق الدولية الخاصة في سورية، في حديث مع “العربي الجديد”، إلى أن تقريراً جديداً سيصدر عن اللجنة حول الجرائم المرتكبة في سورية، متوقعاً ألا يتجاوز موعد إصداره نهاية الأسبوع المقبل. وفي حين علمت “العربي الجديد” من مصادر متقاطعة أن دعوى جديدة سيتم الإعلان عنها في فرنسا، تتعلق باستخدام النظام السوري للسلاح الكيميائي ضد المدنيين في عدد من الوقائع. وأشارت المصادر إلى أن من بين المدعى عليهم قد يكون رئيس النظام بشار الأسد وشقيقه ماهر قائد “الفرقة الرابعة” في قوات النظام، وربما أحدهما، إلى جانب العديد من أسماء مسؤولين عن إعطاء أوامر، أو شاركوا بمجازر ارتكبت بحق المدنيين عبر استخدام السلاح الكيميائي، لا سيما في الغوطة الشرقية عام 2013، وخان شيخون في 2017.

وكانت لندن قد أعلنت، مطلع العام الحالي، عن نقل العقوبات الأوروبية المفروضة على النظام لتكون ضمن نظام عقوبات مستقل وخاص بها، قابل للتحديث والإضافة بشكل مستمر، وذلك بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وأعلنت وزارة الخارجية البريطانية، حينها، التزامها بمحاسبة المسؤولين عن الجرائم في سورية. وأشارت، في بيان، إلى أنه اعتباراً من مطلع 2021، “ستنقل المملكة المتحدة عقوبات الاتحاد الأوروبي ضد نظام الأسد وأعوانه إلى نظام العقوبات البريطاني المستقل والخاص بسورية”. وأضافت “تهدف عقوباتنا إلى إنهاء القمع الوحشي للمدنيين من قبل نظام الأسد، وزيادة الضغط عليه من أجل حل سياسي دائم لكل السوريين”. ونبّهت إلى أن “المملكة المتحدة تدعم بالكامل العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة، ويجب على النظام السوري التعامل معها بجدية من أجل رفع هذه العقوبات”.

وفي الولايات المتحدة، وقبيل انتهاء العام الماضي بأيام، قدّمت لجنة الدراسات في الحزب الجمهوري مشروع قانون جديد ضد نظام الأسد، يحمل بين بنوده ومواده مفاعيل أقوى من تلك التي جاءت ضمن “قانون قيصر”، الذي وقّعه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب نهاية العام 2019 وبدأ سريانه منتصف العام الماضي. وجاءت مسودة القانون الجديد، الذي حمل عنوان “أوقفوا القتل في سورية”، في 32 صفحة، تقدّم بها 150 نائباً للكونغرس، تتضمّن مزيداً من المقترحات لعقوبات أوسع وأشمل لشل قدرة النظام، بل إطاحته في حال إصدار القانون وتطبيقه.

وتأتي كل هذه التحركات مع استمرار النظام بتعطيل العملية السياسية، على الرغم من كل الجهود الرامية لإجباره على الجلوس إلى طاولة التفاوض، من خلال مسارات الأمم المتحدة، المدعومة غربياً، لحل القضية السورية. ولم تنفع كل الجهود الدولية والغربية لدفع النظام التعاطي بجدية في عملية التفاوض، والذهاب نحو تغيير سياسي في البلاد، على الرغم من كل العقوبات الأوروبية والأميركية والبريطانية المفروضة عليه، وعشرات مذكرات التوقيف بحق رموزه وأجهزته والكيانات المرتبطة به، في ظل دعم كامل من روسيا، لا سيما في مجلس الأمن، واستخدام حق النقض “الفيتو” لصالحه.

أما “حفار القبور” أو الشاهد “z30″، فهو رجل سوري، جرى تجنيده من قبل أحد عناصر المخابرات السورية، ليعد فريقاً مختصاً بدفن جثث الذين قضوا في المعتقلات والأفرع الأمنية التابعة للنظام. ودفن، مع فريقه، بين العامين 2011 و2017، آلاف الجثث في حفر ضخمة بالقرب من دمشق، قبل أن يخرج من سورية إلى أوروبا ويتحول إلى شاهد ضد النظام. بيد أنه سيتحول كذلك إلى “قيصر 2″، نظراً لتطابق ما في جعبته نوعاً ما، مع ما خرج به المصور العسكري في الشرطة العسكرية للنظام، المقلب “قيصر”، الذي حمل 55 ألف صورة لـ 11 ألف معتقل قضوا في سجون النظام تحت التعذيب، والذي أصدرت الولايات المتحدة قانوناً حمل اسمه نهاية 2019، وفرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية على النظام.

العربي الجديد

——————————–

الأصفاد لجلادي الأسد/ ناصر السهلي

الحكم الصادر في ألمانيا، الأربعاء الماضي، بسجن أحد جلادي النظام السوري، لارتكابه جرائم ضد الإنسانية، ليس عادياً في سياق جهود سوريي الشتات لتحقيق بعض العدالة للضحايا.

الادعاء الألماني ليس وحده من استحضر الصور الأولى للثورة الشعبية السلمية، في مارس/آذار 2011، بل إعلام محلي وأوروبي اعتبر المحاكمة تاريخية، مع تنويه بجهود ناشطين وحقوقيين سوريين في دول اللجوء، لفضح أبشع آلة قمع شهدها المشرق العربي خلال العقود الماضية. المحاكمة المستمرة بملاحقة جلاد آخر من مسؤولي أجهزة الاستخبارات القمعية، تفتح الأفق لملف قضائي أوسع أمام محاكم أوروبية أخرى، وبرسالة واضحة: لا ملاذ آمناً لمرتكبي التعذيب وجرائم ضد الإنسانية.

وعلى الرغم من الفيتو الروسي لمنع تحويل التحقيق في الجرائم إلى المحكمة الجنائية الدولية، استطاع هؤلاء التغلب على آثار التعذيب المُدمرة لتصفيد جلاديهم، والسعي لتحقيق عدالة جزئية، لهم وللمخفيين قسرياً.

بالتأكيد الخبر ليس ساراً لمجرمي الحرب في سورية، إذ إن فضح تسلسل الأوامر لا بد قادم في محاكمات تتوسع أوروبياً،على نسق الكوسوفوية والرواندية. فالقضاء الأوروبي، في فضاء الاتحاد الأوروبي والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، يقوم على القياس والسوابق، لقبول المباشرة بتحقيقات ومحاكمات من هذا النوع الثقيل، بتواصل جهود سوريي المهجر لملاحقة أمنيي نظام بشار الأسد.

استحضار عشرات آلاف الوثائق، والصور الدالة على التوحش والهمجية، سيضع صخرة كبيرة في طريق تلميع النظام، من بوابة الخدمات الأمنية، ونبش مقبرة مخيم اليرموك مرة أخرى، برعاية الكرملين، بحثاً عن عظام جنود الاحتلال، كعربون أولي للتعويم والدفع بمفاوضات تحت الطاولة. فهذه المحاكمة، وفقاً لخبراء قانونيين ألمان وأوروبيين، خطوة أولى لإضاءة نفق طويل من التعتيم على جرائم واسعة، منذ بداية الدوس على رقاب المحتجين السلميين، وطلب ترديد تأليه أسرة الأسد، إلى الإبادة وتهجير الملايين تحت شعارات “سورية أنحف… سورية أجمل”، ثم التباكي لاستعادة اللاجئين ونهب جيوبهم، واستدرار عطف أوروبا بحجة “إعادة التعمير”.

وعلى الرغم من ذلك، ثمة أصوات مثيرة للاشمئزاز، ترتفع باسم “الممانعة” ومحاربة “المؤامرة على سورية الأسد”، تتهم الضحايا بأنهم “عملاء للغرب”، وبعضهم يقيم في مدنه مستمتعاً بمزايا الرفاهية والديمقراطية، التي ينكرونها على العرب والسوريين. فاستحضار تسريبات صور “قيصر”، لآلاف الهياكل البشرية، وصور حمزة الخطيب وغياث مطر وإبراهيم القاشوش، وأرقام وصور عشرات آلاف المغيبين قسرياً، يقرأها مؤيدو التوحش والتطهير على أنها تشويه لـ”نظام المقاومة”، دون وخز ضمير أو سؤال عن سبب تحويل الوطن السوري، تحت البراميل المتفجرة والسلاح الكيميائي، إلى أطلال بلد يعلوه قصر المهاجرين.

وليست العاصمة الألمانية، برلين، وحدها تضم مهاجرين ولاجئين يتغنون بالدكتاتور السوري. فهؤلاء منتشرون من كندا إلى فرنسا، يتنمرون ويهددون الضحايا وكل من يفضح حقيقته، ويفركون بالملح جراح من حفظ صور الجلادين، من معذبيهم وقاتلي أحبتهم. وعلى الرغم من ذلك يُظهر الضحايا، رغم الترهيب والتهديد بمعاقبة الأهل، جرأة وقوة في مواصلة جهودهم الحقوقية والإنسانية، نيابة عن الملايين، في سورية نفسها وفي الشتات، لإشاعة بصيص أمل عن أن العدالة لا تتقادم.

العربي الجديد

—————————-

نافذة أمل سورية من محكمة ألمانية؟/ الياس حرفوش

العدالة لا تعيد الحياة لضحايا النظام السوري، ولا تخفف الآلام التي عانى منها مَن تعرضوا للتعذيب على يد المجرمين الذين يشتغلون عند هذا النظام. لكن العدالة تفتح نافذة للأمل، مهما كانت صغيرة، في أن الجرائم لن تتكرر وأن المسؤولين عن ارتكابها لن يقطفوا ثمار ما ارتكبوه.

وعندما يقول أحد ضحايا التعذيب في سجون بشار الأسد، تعليقاً على الحكم الذي صدر عن محكمة كوبلنز الألمانية بحق إياد الغريب، إحدى أدوات التعذيب والقتل التي كان يستخدمها النظام السوري: «آمل أن أتمكن من النوم أفضل هذه الليلة، وآمل أن يتمكن الضحايا الآخرون من النوم أيضاً»، فإن هذا الرجل كان يقصد أن غياب العقاب على الجرائم التي ارتكبها هذا النظام يصبح بمثابة مكافأة عليها عندما تبقى من دون محاسبة.

علق وزير خارجية ألمانيا هايكو ماس على الحكم الذي صدر بسجن إياد الغريب 4 سنوات ونصف السنة بالقول: إنه أول حكم يصدر بحق أحد المسؤولين عن التعذيب في سجون النظام السوري، كما أنه رسالة لهذا النظام بأن ما ارتكبه لن يبقى من دون عقاب.

رسالة لهذا النظام؟ من السهل أن ينجرف المرء إلى آمال بعيدة بناء على ما يقوله الوزير. لكن السنوات العشر الماضية من عمر «الثورة» السورية علمتنا أن الإغراق في التفاؤل بشأن ما يؤول إليه انتقاد ممارسات النظام السوري ليس دائماً في محله. فكل الرهانات على عدم قدرة هذا النظام على البقاء في الحكم فوق دماء ما لا يقل عن نصف مليون سوري، فضلاً عن مئات آلاف الجرحى وملايين المهجرين والمشردين، الذين فاق عددهم أعداد المهجرين خلال الحرب العالمية الثانية، ظهر أنها لم تكن مستندة إلى واقع.

رغم ذلك يسجل لألمانيا ولمحكمتها أنها تجرأت على ما لم يفعله آخرون، معتمدة على مبدأ الولاية القضائية العالمية، الذي يتيح ملاحقة مذنبين بارتكاب جرائم وقعت خارج حدود ألمانيا. انطلقت المحكمة الألمانية من أن هناك قيمة للمواطن السوري، وأن هناك ثمناً يجب أن يدفعه من ارتكبوا الجرائم بحقه. ومع أن الحكم على إياد الغريب لا يتفق مع حجم ما ارتكبه، فإنه يفتح باباً لمحاكمات لاحقة، سيكون الغريب شاهداً فيها، ومن أبرزها محاكمة «معلمه» أنور رسلان، الذي تنتظره عقوبة قد تصل إلى السجن المؤبد، بتهمة تعذيب 4 آلاف سجين قضى 58 منهم تحت التعذيب.

لم ينقص في أي يوم العثور على إثبات على جرائم نظام بشار الأسد بحق السوريين. ولنقتصر اليوم على الحديث عن الضحايا من السوريين، وتجاوز ما ارتكبه هذا النظام بحق الفلسطينيين سواء في لبنان أو في سوريا، ومخيم اليرموك أفضل شاهد، أو بحق اللبنانيين خلال «وصايته» على هذا البلد التعيس، وما زال عشرات المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية مجهولي المصير إلى اليوم.

من أبرز الإثباتات، الوثائق والصور التي سربها «قيصر»، المصور في أجهزة الاستخبارات السورية الذي تجرأ على الهرب وبحوزته 50 ألف صورة تثبت أعمال التعذيب الوحشي بحق ما لا يقل عن 7 آلاف معتقل. كان يمكن أن تكون تلك الوثائق كافية لتسبب القلق لهذا النظام على مصيره، لكنها لم تفعل، رغم العقوبات الأميركية التي فرضت بموجب هذا القانون على عدد من كبار المسؤولين فيه. كما كان يمكن للقرارات الدولية التي صدرت ضده، وأبرزها القرار 2254، أن تشكل حافزاً لتغيير نهج القمع والتعذيب، لكنها حتى الآن لا تزال حبراً على ورق.

والنتيجة أن بشار الأسد باقٍ في الحكم منذ 21 سنة، ويستعد لخوض انتخابات رئاسية تمهيداً لتولي ولاية جديدة لسبع سنوات، وربما لسبع سنوات أخرى بعد ذلك. ويعطل كل السبل أمام عملية الانتقال السياسي للسلطة كما حددها القرار الدولي رقم 2254، وليس سراً أنه يراهن على ترميم علاقات سوريا مع محيطها العربي وعلى إعادة تواصلها مع العالم الخارجي، انطلاقاً من حاجة هذه الدول إلى الاعتراف بالنظام الموجود، في ظل غياب أي بديل.

يبني النظام السوري حساباته على معطيات كثيرة، عرف كيف يستخدمها خلال مراحل الأزمة السورية، وبالأخص منذ عام 2015، عندما تحول إلى مجرد ورقة في ملعب التفاوض الروسي – الإيراني مع الدول الغربية. كما عرف كيف يوظف الظهور المريب لتنظيم «داعش» وتحويله الرقة إلى إحدى «عواصمه»، ليظهر بمظهر من يقف في صف الحرب على الإرهاب، اعتقاداً منه أن من السهل تسويق نفسه تحت عباءة كهذه. ولم يقصر أصدقاؤه الروس في استخدامها أيضاً للدفاع عنه في أي محفل دولي شاركوا فيه.

طهران تعتبر كذلك أن نظام الأسد أساسي في «محورها» وترى أن سقوطه يشكل هزيمة لمشروعها ويقطع طريقها إلى وكيلها اللبناني «حزب الله». وموسكو ترى فيه محطة مهمة لقواعدها العسكرية البرية والبحرية ولاستعادة النفوذ الذي كان دائماً مهماً لها في منطقة شرق المتوسط. أما واشنطن فقد تخلت فعلياً عن أي دور في مواجهة نظام بشار الأسد، منذ سقوط «الخط الأحمر» الذي كان باراك أوباما قد هدد به لمنع هذا النظام من استخدام أسلحته الكيماوية ضد شعبه. استخدمت تلك الأسلحة في غوطة دمشق في أغسطس (آب) 2013، ولم يظهر شيء من معالم ذلك الخط، وسارعت موسكو إلى نجدة بشار الأسد من خلال خطة لعب فيها الغش الروسي دوراً كبيراً، وسمحت بإيهام إدارة أوباما بتخلي الأسد عن أسلحته الكيماوية، رغم أن وكالات الاستخبارات الغربية ومفتشي الأسلحة الدوليين ظلوا يشككون في قيام الأسد بإخفاء بعض مستودعات السلاح الكيماوي، مع أنه أعلن التخلي عن هذا البرنامج بشكل كامل، ضمن الاتفاقية التي توسطت فيها روسيا مع الولايات المتحدة.

ذهب أوباما وجاء دونالد ترمب. ورغم تشدد إدارته في تعاملها مع النظام السوري، فإن قدرته على «الصمود» لم تتزعزع، واستفاد من التقارب بين إدارة ترمب والقيادة الروسية، ما سهل لموسكو دوراً أكثر نفوذاً في القرار السوري.

يحب المتفائلون بحكم المحكمة الألمانية أن ينظروا إلى عقاب إياد الغريب على أنه عقاب للنظام السوري. تفاؤل لا أظن أنه تماماً في محله. إذ فيما يقبع ذلك المجرم في السجن الألماني، لا يزال بشار الأسد حراً طليقاً، وحاكماً لسوريا.

الشرق الأوسط

————————————-

محكمة كوبلنز بداية لتحقيق العدالة للسوريين أم هبة بلا قادم؟/ محمد العويد

لم أصدق رواية صديقي المعتقل السابق، لسنوات في سجون نظام الأسد، فيوميات عذابه مع سجانه كانت بادية على ملامحه، وكل تفاصيله وحياته الجديدة بعد المعتقل، باتت تحكي ما يقصر بقوله، وليس يوميات الاعتقال ما أثار فضولي وشكوكي، فقد تراكمت صوتا وصورة وتوثيقا بعد الثورة السورية.

كانت رواية “بسام” مختلفة، يتحدث كيف بذل قصارى جهده، بعيد خروجه بإيصال رسائل لسجانه عبر وسطاء، أبعد من ذلك، وجه دعوة لزيارته في منزله، ورفضت لخوف السجان، حتى شاءت الصدف التقاءهما في مقهى النوفرة الشعبي وسط العاصمة دمشق.

يقول بسام: “شددته من يده، سائلا إياه معقول ما عرفتني، أصابه ارتباك وذهول حد الصدمة، وظن أني قاتله، فحضنته كمشتاق، مرددا على مسامعه بعد طلب الضيافة له أنت أخي ومسامحك كما أرسلت لك سابقا، أنا وأنت ويلي بعدهم بسجنك، بدنا نتجاوز الانتقام لنعرف نعيش بهالوطن، يلي ظلمني هو ذاته يلي ظلمك”.

سألت محدثي هل كنت قادراً حينها للثأر من عذابك، أم لا فهربت إلى القدسية والمسامحة”؟.

“لن تجد أسهل من الانتقام وتوافر طرقه ومسبباته، المهم أن تقتنع أنه طريق مغلق لن يوصلك لما أردته، مستحيل…” يرد بسام الاسم الحقيقي لسجين سابق يقيم اليوم في سوريا.

استحضرت بأس محدثي، وتجربته، مع اختلاط شعوري، بين فرح لنيل ضحايا فرع الخطيب في محكمة كوبلنز الألمانية، والتي أصدرت قرارها بسجن المدان “إياد الغريب” صف ضابط ومدرب رياضي سابق ـ بأربع سنوات ونصف سجنا، وهو ما يعني متابعة قريبة لملف الضابط المنشق “إياد الغريب”، وبين قيم الثورة التي كانت في سنوات انشقاق المساعد والضابط نهايات 2012 مرحبة ومستجيرة، وتجير من جاءها نصرة أو إيمانا، وأن هدفها المستقبلي، العيش المشترك لبناء وطن للجميع. وتعي بداخل حواملها المجتمعية، أن ثمة قاتلاً ومساعداً ومجبراً، وبين حق الضحية وتضميد جراحه، وقد راهنت كما “بسام” أن انتصار الثورة سيضمد جراح الضحايا، ولا ينهي حقهم في التقاضي، بإحاطة بكافة الظروف التي أنشأت العلاقة بين الضحية والجاني، ومسؤولية كل طرف، في سياق مسؤوليات السلطة التي بنت ورعت ودعت واستثمرت في تأجيج العداء بين مختلف مكونات المجتمع السوري.

جاءت محكمة كوبلنز في التوقيت السوري الأصعب، فلم يسبق لمحكمة أن قاضت الجناة قبل التسوية النهائية، وعادة يبدأ المشهد بالمسؤولين المباشرين عن أوامر التعذيب أو القتل، طبقت في العراق فحوكم صدام وقياداته، ولم نسمع عن محاكمات النسق الثالث، وفي ألمانيا ذاتها بلد المحكمة، نوفمبر 1945، شهدت “نورمبرغ” أكبر محاكمة في التاريخ، حوكم فيها 21 من كبار القادة النازيين، للمرة الأولى أمام العدالة الدولية، مثلها القادة اليابانيون، ولكنها جاءت بعد نهاية حكمه وانتصار الحلفاء.

لذات التوجه القضائي، أنشئت المحاكم الدولية من قبل الأمم المتحدة، للانتصار للضحايا، ومحاكمة مجرمي الحرب في كلا من الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة 1993 فحاكمت الرئيس ميلوسوفيتش وعسكريين صرب وكروات وبوسنيين أدينوا بجرائم حرب.

كما أعقب هذه المحكمة تشكيل محكمتين أخريين الأولى لمحاكمة مجرمي الحرب في رواندا عام 1995 والثانية لمحاكمة مجرمي الحرب في سيراليون 2001.

لكن قدر السوريين، بعد عشر سنوات من الموت والقتل المستمر والممنهج، أن يقتنعوا اليوم أن محكمة كوبلنز بحسب بيانها “بقرار تاريخي، وإن ألمانيا تجري هذه المحاكمة على جرائم ضد الإنسانية لمصلحة المجتمع الدولي، الذي يجب ألا يسمح بالتعذيب دون عقاب، وإن ألمانيا لا يمكن أن تكون ملاذاً للأشخاص الذين ارتكبوا جرائم بموجب القانون الدولي”، وأضاف المدعي الفيدرالي للمحكمة: أن المحاكمة في كوبلنز “ليست سوى البداية”، وسيتبع ذلك مزيد من المحاكمات على الجرائم في سوريا”.

فيما يؤكد بيان هيومن رايتس ووتش “نشعر بالارتياح لرؤية العدالة في أسوأ الجرائم في العالم، بصرف النظر عن مكان وقوعها. مع انسداد العديد من السبل الأخرى للعدالة، فإن القضايا الوطنية هذه، التي تستخدم الولاية القضائية العالمية، تمنح الضحايا السوريين الأمل”.

فيما ستحتفي المنظمات الحقوقية السورية بالمنجز “الجزئي” طالبة من جمهورها الموافقة على أن قرار المحكمة، سيؤدي “قريبا” لـقرارات مماثلة تطول رموز النظام، وأننا أمام بداية لمسار قضائي جنائي، سيطول الجميع، ويشمل كل من تلطخت يداه بدماء السوريين.

حداثة المحكمة، ونوعية القضايا التي نظرت بها، إضافة لعدم أسبقية شبيهاتها في التاريخ الحديث فيما يخص الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، إضافة لاستمرار القتل لليوم في سوريا، جميعها عوامل ستلقي بظلالها على القرارات بين مرحب ومعارض، فالجميع بات يدرك أن قوى كبرى تلطخت أيديها بدماء السوري لن يطالها الحساب لا اليوم ولا غدا، أمام عسر المجتمع الدولي، وانقسامه بشأن المشهد السوري برمته فيكتب أحدهم متسائلا هل عجزت المعارضة عن المجرم الحقيقي، فاحتفت بمحاكمة مساعد في الأمن سبق له الانشقاق، بظروف يفهمها السوريون أكثر من غيرهم بظروف بلدهم الشديدة التعقيد في الجانب الأمني، وما يستتبعه من اعتقالات تطول غالبية أفراد عائلة المنشق، وبضابط لم يدع عليه لغايته أحد”، رغم القواسم المشتركة مع الضحايا لدى عموم السوريين، كمنتج عمم من السلطة الأسدية.

تلفزيون سوريا

————————-

تعذيب حتى الموت.. أدلة توثق بطش الأسد بالسوريين

سلسلة جرائم التعذيب والقتل والاختفاء القسري نفذها نظام بشار الأسد ضد الشعب السوري، تكشفها نحو 900 ألف وثيقة رسمية، ألقى الضوء عليها برنامج “ستون دقيقة” الذي تبثه محطة “سي بي أس”.

الوثائق التي تحققت منها وأرشفتها لجنة العدل والمساءلة الدولية، والتي يقودها ستيفن راب، وهو دبلوماسي أميركي سابق ومتخصص شؤون العدالة الجنائية الدولية، تدين الأسد ونظامه، في جرائم بعضها يصل إلى حد الإبادة لشعبه، مثلما حصل في 2013 عندما سمح للجيش السوري بقصف أحياء سكنية بغاز الأعصاب المحرم دوليا وقتل حينها قرابة 1400 شخصا من الرجال والنساء وحتى الأطفال.

“We’ve got better evidence against [Bashar al-Assad and his regime] than we had against the Nazis at Nuremberg,” says Stephen Rapp. “[T]he Nazis didn’t actually take individual pictures of each of their victims with identifying information on them.” https://t.co/RAzwSgAuV7 pic.twitter.com/XzqDt8pwDM

— 60 Minutes (@60Minutes) February 22, 2021

الأدلة التي أمضت اللجنة سنوات في أرشفتها تضم صورا ووثائق ومراسلات بين فروع الاستخبارات ولجنة أمنية، كان قد شكلها الأسد لقمع التظاهرات، والتي كانت تعرف باسم “خلية إدارة الأزمة المركزية”.

الأسد حاضرا في غالبية الوثائق

وقام الأسد شخصيا بتعيين أعضاء “خلية إدارة الأزمة المركزية”، بمن فيهم ماهر الأسد ورؤساء عدة فروع استخباراتية، وتظهر الوثائق نوعا من الهوس بالتنسيق بين الوكالات، إذ كانت تمرر معلومات مفصلة عبر سلاسل القيادة الاستخباراتية من أعلى الرتب إلى أدناها.

900 ألف وثيقة تثبت تورط نظام بشار الأسد في جرائم حرب

تهريب وثائق تدين نظام الأسد “أكثر من الأدلة ضد النازيين”

وكشفت قناة “سي بي أس” نيوز الأميركية، عن تسريب آلاف الوثائق الحكومية، خارج سوريا، قام بأرشفتها لجنة العدل والمساءلة الدولية، الممولة جزئيا من قبل الولايات المتحدة وسوريا.

ويشير راب أثناء مقابلته في برنامج “ستون دقيقة” أن الأسد، كان يشرف بشكل مباشر على تنظيم سياسات القمع والتحقيق والتعذيب، مستدلا بذلك على وجود اسم الأسد في العديد من الوثائق والتقارير الموثقة.

“The moment that I received [the photos] is a moment that I will never forget,” says Syrian Emergency Task Force’s Mouaz Moustafa about receiving thousands of photos of civilians, allegedly tortured to death by the Assad regime. https://t.co/HT0TG4Ioy6 pic.twitter.com/0k3GMtAm69

— 60 Minutes (@60Minutes) February 22, 2021

ودعا إلى ضرورة محاسبة الأسد ونظامه، حتى لا تبقى جرائم التعذيب والقتل من دون عقاب للمتسببين أو المنظمين لها، مؤكدا انه متفائل باحتمالية نجاح محاكمة الأسد خاصة في ظل توفر دلائل ووثائق مؤكدة تظهر النظام على حقيقته.

قيصر وجثث القتلى

وخلال اللقاء الذي شارك فيه “قيصر” الذي كان يعمل مصورا عسكريا لنحو 13 عاما، قال إن مهمته، منذ عام 2011، تركظت على تصوير جثث اللذين قتلوا جراء التعذيب في فروع المخابرات المختلفة، حيث ستجد أن بعضهم مات مصعوقا بالكهرباء، أو الأسلحة البيضاء مثل السكاكين وكوابل حديدية.

وكشف قيصر كيف أنه استطاع نقل الصور التي التقطها لصديق له “سامي” وهو اسم مستعار، والذي كان يحفظ الصور على معدات تخزين.

وتظهر الصور كيف أن نظام الأسد لم يكن مهتما بالتعريف بأسماء القتلى، حيث كانت توضع عليهم ثلاثة أرقام، تكشف رقم المعتقل، وفرع المخابرات الذي مات فيه، ورقم تسلسلي يتعلق بتعداد الجثث.

وأشار قيصر إلى أن التعذيب الظاهر على أجساد القتلى يظهر أنهم تعرضوا له لأشهر طويلة، حيث كانت أجسادهم نحيلة وعلامات التعذيب ظاهرة عليهم.

استهداف المدنيين

ونقل تقرير برنامج “ستون دقيقة” شهادات من أشخاص تعرضوا للتعذيب، حيث قال أحدهم إنه رغم الجحيم الذي كان فيه خلال التعذيب، إلا أنه كان يعتصر ألما على صراخ طفل لا يتجاوز عمره 13 عاما، ينادي على والدته بعدما سُكب الماء الساخن عليه.

والوثائق تكشف أن الأسد لم يفرق بين مستشفى أو مدرسة أو مناطق مدنيين، كلها كانت أهداف لدمشق وحليفتها موسكو التي استهدفت هذه المناطق بالقصف الجوي، ناهيك عن استخدام الإمدادات الطبية والغذائية كسلاح في الحرب السورية، حيث كان نظام بشار يمنع وصول الإمدادات الهامة لخارج مناطق النظام.

وتسببت الجرائم في سوريا في أكبر موجات تدفق للاجئين في المنطقة، وهذه الوثائق ستجعل تلك الجرائم قابلة للمحاكمة في بعض دوائر الاختصاص، مثل الدول التي يحمل فيها الضحايا السوريون جنسية مزدوجة، وفق ما قال راب في تصريحات سابقة.

يذكر أن لجنة العدل والمساءلة الدولية تتكون من مجموعة متنوعة من المهنيين من أجل العدالة، ولديهم خبرة كمحققين، ومحللين، ومحامين، من بلدانهم الأصلية.

وأسفرت الحرب السورية منذ اندلاعها في عام 2011، عن مقتل أكثر من نحو 387 ألف شخص، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، وبنزوح أكثر من نصف سكان سوريا، وأحصت الأمم المتحدة 6.7 ملايين نازح و5.5 ملايين لاجئ.

https://www.cbsnews.com/news/bashar-al-assad-syria-evidence-war-crimes-60-minutes-2021-02-21/?ftag=CNM-00-10aab7d&linkId=111830147

الحرة – واشنطن

—————————

من صيد الوثائق إلى محاكمة النظام السوري/ فايز سارة

كشفت لجنة العدل والمساءلة الدولية عن مجمل نشاطها في كشف الوثائق السرية، التي جرت من خلالها حرب نظام الأسد ضد السوريين في السنوات العشر الماضية، وتضمنت المحصلة أكثر من تسعمائة ألف وثيقة سرية، شملت قرارات وتعليمات وتوجيهات للأجهزة العسكرية والأمنية والمدنية التابعة للنظام، عما ينبغي القيام به، وأين ومتى وكيف في إطار حرب التقتيل والتدمير والتشريد. ومما زاد في أهمية الكشف، قيام محطة «سي بي إس نيوز»، وهي إحدى أهم قنوات الإعلام الأميركي بالحديث عنه عبر برنامج «60 دقيقة» الموصوف بأنه واحد من أهم برامج المحطة، وجرى إبراز ثلاث نقاط أساسية، الأولى تتصل بعدد الوثائق ونوعها، وقيل إنها تزيد على 900 ألف وثيقة، تشمل كل مجالات إجرام النظام، والثانية تأكيد أنها ترتبط بالأسد شخصياً وكبار معاونيه؛ إذ هي صادرة من الأعلى إلى الأسفل في سلم إدارة النظام، متضمنة توجيهات الأسد وعليها توقيعه، والنقطة الثالثة هي أن الوثائق تكشف عن أدلة تورط النظام ورئيسه بجرائم أكثر وأهم منتلك التي استخدمت لإثبات جرائم النازيين، التي جرى ارتكابها في الحرب العالمية الثانية.

ما وصلت إليه لجنة العدالة والمساءلة الدولية من نتائج، جزء من محصلة جهود سورية ودولية، تشارك فيها أفراد ومؤسسات ودول، بذلوا جهوداً كثيرة وبعضها خارق للوصول إلى وثائق تثبت حيثيات الجرائم، وتكشف عن بعض تفاصيل، يصر البعض، وخاصة في المحاكم على وجودها باعتبارها أدلة لمحاكمة النظام ورموزه؛ مما جعل جهود لجنة العدالة والمساءلة هي الأبرز والأهم بما توفر لها من بيئة نجاح؛ إذ ضمت في صفوفها محققين ومحللين، ومحامين من بلدان مختلفة، عملوا في تجارب مشهودة، وتوفرت لديهم إرادة وجدية كافيتين للعمل، كما توفرت لها ميزانية، تساعد في تنفيذ أعمالها ونشاطاتها، والتي كان في مقدمتها اختيار وتدريب عشرات من كوادر سورية لمتابعة الوثائق وتدقيقها؛ مما عزز عمليات اللجنة، وأعطاها مستوى عالياً من المصداقية على ما ظهر في محتويات تقاريرها من نتائج.

لم يكن عمل اللجنة (ولا عمل غيرها) سهلاً في سوريا، حيث الصمت والكتمان سمة أساسية في نظام الأسد المغلق والدموي منذ أن أقامه الأسد الأب عام 1970، وتابعه الوريث في عام 2000، وذهب به إلى الأسوأ، حسب ما بينت الوقائع والوثائق، ولعل الأشهر والأبرز فيها عمليات القتل تحت التعذيب على نحو ما بينت عشرات آلاف الصور التي قام بتهريبها قيصر ورفيقه سامي، ومثلها الكشف عن مسار عمليات الإعدام اليومية لعشرات المعتقلين في سجن صيدنايا العسكري حسب ما قاله شهود، واستيراد وتشغيل أجهزة حرق جثث المعتقلين ممن يتم إعدامهم أو قتلهم تحت التعذيب لإخفاء تلك الجرائم، إضافة إلى استخدام الأسلحة الكيماوية في مجازر ضد المدنيين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.

إن القاسم المشترك في الجرائم السابقة، أنها جرت بواسطة الأجهزة العسكرية والأمنية مباشرة، لكن ثمة جرائم أخرى، ارتكبها نظام الأسد بواسطة مؤسسات وأجهزة النظام المدنية، كما تبين أمثلة، كشفت عنها وثائق وشهادات، منها استخدام المشافي العامة في عمليات تعذيب وقتل معتقلين جرحى، كما حدث في مشفى دمشق الوطني، واستخدام محاكم وزارة العدل وخاصة محاكم الجنايات في تجريم متهمين بتهم خارج القانون، وقيام شركات المياه والكهرباء والهاتف، التي تسيطر عليها الحكومة بقطع إمداداتها عن المناطق المحاصرة في إجراءات، في حين تولت البلديات مصادرة عقارات وأراض في مناطق ثارت على النظام في إطار جرائم تختلط فيها جرائم العقوبات الجماعية مع جرائم التغيير الديموغرافي، وهذا ما قامت به محافظة مدينة دمشق، ولم يكن لهذه المؤسسات أن ترتكب مثل هذه الجرائم إلا بتدخل مباشر من جانب رأس النظام وقادة الأجهزة الأمنية، حسبما تتضمن وثائق سرية تم الوصول إليها.

إن الوصول إلى وثائق النظام السرية، لا يكشف عن جرائم نظام الأسد فقط، إنما يبين سعي النظام وأجهزته لإخضاع السوريين وإعادتهم إلى بيت الطاعة عبر مختلف الوسائل، بما فيها القوة الوحشية مجسدة بعمليات القتل والاعتقال والتعذيب والتهجير والتدمير، والنهب والتعفيش والابتزاز، وكلها أسس تربت عليها أجهزة النظام، وأكدتها مرات كما في أحداث ثمانينات القرن الماضي، ومنها أحداث مدينة حماة، وكررتها حيث تطلبت الحاجة كما في تعاملها مع الفلسطينيين واللبنانيين في عقود التدخل السوري في لبنان.

غير أن الأهم في كشف الوثائق، تعميم محتوياتها لدى الرأي العام وتحشيده ضد النظام، وتقديمها إلى جهات معنية بالحصول عليها، مثل المحاكم ومنظمات حقوق الإنسان والدول، لاتخاذ ما يمكن من خطوات، يمكن حالياً ملاحظة ثلاثة تعبيرات منها؛ أولها قيام الولايات المتحدة بإصدار قانون قيصر الذي يشمل بعقوباته النظام وشخصيات فيه، وأطرافاً خارجية لها دور في جرائم نظام الأسد. والتعبير الثاني سلسلة من العقوبات الأورو – أميركية ضد كيانات وشخصيات سورية نتيجة دورها في الجرائم ضد السوريين ودعم سياسات الأسد. والتعبير الثالث استخدام الوثائق في محاكمات عناصر النظام، كما ظهر الأمر في محاكمة أنور رسلان وإياد الغريب الجارية في ألمانيا، والتي بات من المؤكد تكرارها في بلدان أخرى.

لقد فتحت الوثائق المسربة الباب ليحمل أصحاب الجرائم والذين يصدرون أوامر القيام بها مسؤولية أعمالهم، وعلى نحو ما حصل في المحاكمة الجارية في المانيا، فإن قادة النظام وأجهزته سيلاقون المصير ذاته بسوقهم إلى محاكم، سواء كانت على غرار المحكمة الألمانية أو محكمة الجنايات الدولية، أو محكمة خاصة سيتم تشكيلها لمحاكمة مسؤولي نظام الأسد على غرار محكمة نورمبيرغ التي حاكمت عام 1945 مجرمي حرب القيادة النازية بعد سقوط الرايخ الثالث، وفي الفترة الثانية، حاكمت الأطباء الذين أجروا التجارب الطبية على البشر.

كاتب وصحفي سوري

الشرق الأوسط

————————————-

محاكمات كوبلنز تعزز الآمال السورية: ماذا ينتظر أنور رسلان؟/ عدنان نعوف

مع صدور حُكم محكمة كوبلنز الألمانية على الضابط السوري السابق إياد الغريب، بدا واضحاً أن هذه القضية تتخطى حدود الحالة الفردية، ليس لأنها تمثّل جزءاً من طبيعة عمل نظام الأسد وحسب، بل لكونها ترتبط بمسار عدالة مُستقبلي أيضاً.

وكانت المحكمة حكمت على الغريب بالسجن أربع سنوات ونصف السنة، بعد إدانته بالمشاركة في اعتقال 30 متظاهراً على الأقل في دوما بغوطة دمشق الشرقية، في أيلول/سبتمبر وتشرين الأول/أكتوبر 2011 ونقلهم إلى مركز اعتقال تابع لأجهزة الاستخبارات السورية.

وعقب البتّ بملف إياد الغريب، يُنتظر أن تتواصل الجلسات في قضية الضابط السابق في المخابرات السورية أنور رسلان، وهو صاحب ملف أكبر وأعقد، ومُتّهم بالإشراف والمشاركة بالتعذيب داخل الفرع 251 الذي يُعرف باسم “فرع الخطيب”.

ويُعدّ تعامل محكمة كوبلنز مع هذه الملفات سابقةً أوروبية “تدفعنا إلى القول بأنها عملياً تُحاكم النظام السوري وإجرامه المتواصل منذ خمسين عاماً” بحسب النائب السابق في البرلمان الألماني من أصل سوري “جمال قارصلي”.

واعتبر قارصلي في تصريح ل”المدن”، أن “أقل ما يقال عن القرار الصادر بحق إياد الغريب هو أنه تاريخي، فالحُكم صدر في ألمانيا ضدّ شخص قام بأفعال إجرامية في سوريا، وهذا يمثل رسالة إلى المجرمين الآخرين بأن الدول الديمقراطية ليست مخبأً لهم”.

وعن إمكانية متابعة “مسار العدالة” في دول أوروبا، أكد قارصلي أن “ذلك يعتمد بالدرجة الأولى على شجاعة الضحايا من اللاجئين، وعلى مصداقيتهم ومبادرتهم للقيام بخطوات مماثلة من خلال التواصل مع المنظمات الإنسانية، إلى جانب امتلاكهم الوثائق والأدلة المطلوبة التي تدين المجرمين”.

وتشكّل وفرة الأدلة عاملاً مهماً لإنزال أقصى عقوبة ممكنة. وهو ما شدّد عليه مدير مشروع التقاضي الاستراتيجي في “المركز السوري للاعلام وحرية التعبير” المعتصم الكيلاني. وأشار الكيلاني إلى نقطة لا يجب تجاهلها في الحكم الصادر بحق إياد الغريب وهي أن “الانشقاق المبكر ليس عذراً يُعفي من العقوبة، لكنه يمكن أن يكون عذراً مُخفِفاً”.

وكان الغريب قد خدمَ كصفّ ضابط (مساعد أول) تحت إمرة حافظ مخلوف، وبقي في سوريا حتى عام 2013 حيث غادرها، ليصل ألمانيا في نيسان/أبريل 2018 بعد رحلة طويلة في تركيا واليونان.

واللافت في هذا السياق أن ألمانيا كانت سبّاقة في تطبيق مبدأ “الولاية القضائية” الذي يتيح محاكمة شخص ارتكب جريمته على أرضٍ غير ألمانيّة. ويُرجع الكيلاني ذلك إلى وجود المشتبه بهم والشهود والضحايا في هذا البلد بنسبة أكبر من باقي الدول الأوروبية. دون أن ننسى أيضاً النية القضائية وما يتبعها من نية سياسيّة” على حد تعبيره.

ويستند البُعد السياسي لهذه المحاكمات إلى حقائق عديدة تحيط بها. فقبل كل شي “لو لم توجد إرادة أوروبية للعمل بالولاية القضائية، ولولا الدفع من قبل الادعاء العام في ألمانيا لتقديم ملفات للتقاضي، لما كنا وَصلنا إلى هذه المرحلة” كما تقول الحقوقية والصحافية السورية لونا وطفة التي قامت بتغطية جميع الجلسات في محكمة كوبلنز، وعايشت تفاصيلها لحظة بلحظة.

وأشارت وطفة في حديث ل”المدن”، إلى أن مقاضاة إياد الغريب جاءت بعد أن ثبتَ وجود “منهجية في هذه الجرائم. بمعنى أنه لم يقم بارتكاب جريمة فرديّة وحسب، بل كان أحد الأفراد المسؤولين عن ارتكاب انتهاكات ممنهجة، لتبلغ بالنتيجة مرحلة الجرائم ضد الإنسانية، وقد أوضحت القاضية هذا الجانب في جلسة الحكم على الغريب عندما تحدثت عن تاريخ نظام الأسد الوحشي في قمع المعارضة”.

وحول تقديراتها لما ستؤول إليه قضية المتّهم الثاني أنور رسلان قالت: “من واقع حضوري لجلسات المحكمة، ومتابعتي لكيفية تعاطي القضاة والمحامين مع الملفات والشهادات، فقد لاحظت أن لديهم فهماً لعمل المخابرات السورية، وعليه أرى أن قضية أنور رسلان ستتجه للإدانة، فالمسؤولية واقعة عليه لا محالة، وبالتالي من المحتمل أن يُحكم بالموبّد لأسباب عديدة أبرزها أنه لم يتعاون أو يعترف بجرائمه، وهناك الكثير من التُهم والمُدّعين والشهود ضده”.

وشرحت وطفة طبيعة قضية رسلان قائلةً: “في ملفه هناك 4000 حالة اعتقال وتعذيب، و58 حالة قتل تحت التعذيب، وحالتا إدعاء بجريمتي عنف جنسي، وهناك ما لا يقل عن 27 مُدّعياً بالحق المدني ضده حتى الآن. كما توجد أدلة مكتوبة وهي عبارة عن أوامر إدارية عُرضت في إحدى الجلسات، وتحمل توقيع رسلان. وهذا مهم جداً، ويُثبت أنه على عكس ما قال، فهو لم يكن مجمّداً في عمله، بل كان فاعلاً ومسؤولاً عن كل ما كان يحدث من انتهاكات في فرع الخطيب”.

وفيما كشفت وطفة عن وقوع حالات تهديد لبعض الشهود لثنيهم عن الإدلاء بشهاداتهم، أعربت بالمقابل عن تمنيها بأن يشعر المزيد من السوريين بمسؤوليتهم في هذه المحاكمات، وأن يستغلوا الإرادة الأوروبية للدفع بهذا المسار، ويدلو بما لديهم من معلومات لأن هذه فرصة تاريخية لتحقيق العدالة”.

ولفتت في ختام حديثها إلى وجود “عشرات الملفات قيد الدراسة تخصّ قضايا مماثلة، وتنتظر الوصول إلى مرحلة التقاضي كما جرى في كوبلنز”. وتوقّعت أن نرى خلال الأعوام القليلة القادمة محاكمات على مستوى أعلى في مدن ألمانية وأوروبية.

المدن

————————–

روسيا تهزأ بمحكمة نورنبرغ السورية/ بسام مقداد

قد لا تكون محكمة كوبلنز الألمانية ، والأحكام الصادرة عنها بحق قاتل سوري صغير ، على قدر الألم العظيم ، الذي أحدثه الوحش في السنوات العشر المنصرمة في جسم السوريين ، إلا أنه لا ينبغي لهذا الألم أن يغطي على أهمية هذه المحكمة وحكمها . وليس لأنها لم تنته بعد ، وتعد بكثير قادم على قاتل أكبر جريمة وحجماً ، بل لأن الألم العظيم لا ينبغي ، أن يتصاغر إلى حجم قتلة صغار ، وتقع على عاتقه مهام جلل ، لا بد سيحل موعدها.

حكم المحكمة الألمانية لم يتصاغر لمستوى جريمة فردية ، بل ، وعلى قلة حجم عقابه لقاتل صغير ، صدر على جريمة ضد الإنسانية جمعاء وجريمة حرب ، مرتفعا بذلك إلى مستوى آلام شعب يقتل ويعذب ويفتقر ويجوع منذ عقد من السنين . والتقطت مواقع إعلامية روسية وغربية رسالة هذا الحكم ضئيل العقاب ، ورأت فيه “حكماً على نظام الأسد” ، “الغرب يعلن مطاردة النخبة السورية” ، “أول محكمة في التعذيب والقتل من قبل نظام الأسد” ، “برغي في آلة التعذيب”.

حين إنطلقت محكمة كوبلنز في نيسان/أبريل العام الماضي ، نشرت صحيفة الكرملين “vz” نصاً بعنوان “ألمانيا بدأت “عملية نورنبرغ” ضد سوريا” . لا يظنن أحد ، بأن الصحيفة فكرت بمقارنة النظام السوري بنظام النازيين ، الذين جرت محاكمتهم في محكمة مدينة نورنبرغ الدولية ـــــــ مهد النازية ، بل كانت تسخر من الصحف العالمية ، التي رأت في المحكمة الحالية نورنبرغ التاريخية و محكمة لاهاي الدولية . وقالت حينها ، أن من يجلس في مقاعد المتهمين الآن ، ليس بمستوى متهمي لاهاي ونورنبرغ . فإذا كانوا قد حاكموا في الحالتين قادة دول ، فهم يحاكمون الآن “عقيداً واحداً لا غير” (أنور رسلان) ، يحملونه المسؤولية عن “جرائم نظام الأسد” . وحرصت على وضع المزدوجين للسخرية من تحميل مخابراتي واحد مسؤولية نظام بأكمله عن جرائم إرتكبها بالشراكة مع حليفه الكرملين.

ذكرت الصحيفة ما قالته حينها النيويورك تايمز والدويتشه فيله ومديرة مركز الأبحاث والتوثيق في قضايا جرائم الحرب في جامعة ماربورغ الألمانية . فقد قالت مديرة المركز ، بأن رسالة المحكمة الرئيسية إلى كل ممثلي نظام الأسد في سوريا وسائر أنحاء العالم : ليس بوسعكم أن تبقوا آمنين . إذا كنتم تشاركون في خروق جدية لحقوق الإنسان ، فهناك خطر دائم ، بأنكم ستحاكمون لاحقاً . وقالت الدويتشه فيله ، بأنهم سيحاكمون في كوبلنز جرائم وقعت على بعد آلاف الكيلومترات ، إرتكبها أشخاص مارسوا بحق الناس تعذيباً لا يطاق ، وسخروا منهم ، لهدف واحد وحيد ـــــــــ أن تبقى عائلة بشار الأسد في السلطة مهما كان الثمن . ورأت النيويورك تايمز ، أن المحكمة الجنائية الدولية حاكمت أنظمة سقطت في رواندا ويوغسلافيا السابقة ، أما محاكمة السوري ، فهي المحاكمة الأولى ضد حكومة لا تزال في السلطة . ورأت صحيفة الكرملين في هذه التعليقات “بعض السخرية” , لأن من يُحاكَم كان حتى وقت قريب “عدو نظام الأسد” وممثلاً بارزاً للمعارضة السورية برأيها.

الصحيفة الإلكترونية الأقدم في روسيا “Gazeta.ru ، علقت على الحكم على إياد غريب ، بنص عنونته “حكم على “نظام الأسد” : ألمانيا أدانت عاملاً سابقاً في أجهزة المخابرات السورية” ، قالت فيه ، بأن محكمة في ألمانيا أصدرت أول إدانة في قضية التعذيب في سوريا . ورأت ، أن المحكمة أصدرت “حكماً تاريخياً” على السوري إياد غريب ، وهو الإجراء القانوني الأول في العالم خارج الحدود السورية بشأن القتل والتعذيب في سوريا.

وتنقل هذه الصحيفة عن أحد أساتذة المدرسة العليا للإستشراق تعليقه على مبدأ الولاية الشاملة ، الذي استند إليه الحكم ، بانه مهم فعلاً ، إذ من الممكن جداً ، أن تتوالى بكثافة مثل هذه الأحكام المستندة إليه . ويتساءل مستغرباً عن علاقة ألمانيا بالحرب الأهلية السورية والصراع في سوريا ، وإذ ينفي وجود أية علاقة ، يقول ، بأن المحكمة الألمانية أصدرت حكماً قضائياً على جريمة أرتكبت على أراضي دولة أخرى ذات سيادة ، وليس لها أية علاقة بالقانون الألماني . ويستنكر التعميم في وصف جرم السوري إياد غريب ، بأنه جريمة ضد الإنسانية وجريمة حرب ، ويقول بأنها عملية قضائية محددة ضد شخص محدد ، وليس ضد ما يسمونه “النظام اللاإنساني في دمشق”.

وتقول الصحيفة ، بأن الكثيرين من الخبراء والمدافعين الغربيين عن حقوق الإنسان ، يرون في حكم المحكمة الألمانية سابقة تتيح إمكانية البدء بالملاحقة القانونية لممثلي “النظام الدموي” . وكمثال على ذلك ، تنقل عن كبير محامي المنظمة الأميركية ” Open Society Justice Initiative” قوله ، بأن على البلدان الأخرى أن تسارع إلى الإمتثال بألمانيا ، ولا سيما تلك البلدان ، التي يعيش فيها “مجرمو الحكومة السورية”.

وبعد أن تنقل الرأي المعروف للمحامي السوري أنور البني ، نقلت الصحيفة عن رويتر قولها ، بأن هذا الحكم الأول في قضية التعذيب في سوريا ، يشجع 800 ألف لاجىء سوري في ألمانيا ، الذين تعرضوا ، على قولهم، للتعذيب في المؤسسات الرسمية السورية ، وفشلوا في إقامة محكمة دولية بشأن سوريا.

وتشير الصحيفة ، إلى أن إقتراحات إقامة محكمة دولية بشأن سوريا ، وقفت بوجهها ، جزئياً ، روسيا . ونقلت عن الناطقة بإسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا قولها ، بأن إقامة مثل هذه المحكمة الدولية تضع تحت الشك شرعية السلطة السورية ، ولهذا بالذات ، على العدالة السورية أن تقرر مصير مجرمي سوريا العسكريين.

ويقول الخبير الروسي المذكور للصحيفة ، أن أعمال ألمانيا يمكن إدراجها في السياق ، الذي تحدثت عنه زاخاروفا ، لأنها (ألمانيا) بمعاقبتها مواطنين سوريين تنتزع من سوريا جزءاً من سيادتها ـــــ محاكم جرائم الحرب . ويتوافق هذا مع خط محاولات الغرب الإطاحة ب”النظام الدموي” في دمشق . ويشير ، إلى أنه كان هناك إتجاهان خلال السنوات الأخيرة : إتهام الأسد بالتعذيب ، وإستخدام السلاح الكيميائي ، الذي تبخر مؤخراً . وفي كلتا الحالتين من السهل توجيه الإتهام ، لكن من الصعب إثباته . أما قصة التعذيب ومدى إستثمارها لاحقاً ، سيتوقف الأمر على موقف الإدارة الأميركية الجديدة من دمشق ، إذ أن واشنطن في هذه المسائل ، هي برأيه ، التي تفصل أثواب اللاعبين.

صحيفة “NG” ، التي تقول بأنها مستقلة ، علقت على حكم المحكمة الألمانية بنص للكاتب في الشؤون الدولية إيغور سوبوتين عنونه بالقول “الغرب يعلن مطاردة النخبة السورية” ، وقال ، بأن أوروبا تبدأ ملاحقات قضائية لأنصار الأسد . ورأى، أن حكم المحكمة الألمانية يدفع للقول ، بأن الملاحقة القضائية للممثلين السياسيين والعسكريين السابقين للنخبة السورية ، سوف تتخذ طابعاً شمولياً . ونقل عن فريدريك هوف ، الدبلوماسي الأميركي ، الذي عمل في الخارجية الأميركة زمن هيلاري كلينتون ، قوله للصحيفة ، بأن الحكم على إياد الغريب هو “بلا شك خطوة نحو تحميل المسؤولية القانونية” لأمثال الغريب ، الذين غادروا سوريا ، وحاولوا إيجاد ملجأ في البلدان الغربية.

ردة الفعل الغربية المرحبة بحكم المحكمة الألمانية ، والمناقضة لردة الفعل الروسية ، من المشكوك فيه أن تواصل مسارها نحو محكمة سورية دولية على غرار نورنبرغ أو لاهاي ، إذ أنها ستصطدم حتماً بجدار الفيتو الروسي التقليدي . لكن التطورات اللاحقة في محاكمة أنور رسلان ، وما سيحيط بها من ردود فعل وتطورات في سوريا والمنطقة ، لا سيما النزاع الأميركي الإيراني ، سوف يقرر مصير قيام مثل هذه المحكمة.

المدن

—————————

================

تحديث 03 أذار 2021

————————

محاكمات كوبلنز خطوة على طريق الألف ميل/ حسان الأسود

لم يكن الحكم الذي أصدرته محكمة كوبلنز بتاريخ 24/2/2021 بحق أحد عناصر الأمن السوري المنشقين السيد إياد غريب مُرضياً لجميع السوريين، وقد أثار لغطاً وجدالاً واسعين عبر صفحات التواصل الاجتماعي. تبدو أسباب الجدل منطقيّة جداً إذا ما أخذناها من وجهة نظر القائلين بعدم تناسب العقوبة المفروضة مع فداحة وخطورة الجرائم المرتكبة في سوريا والتي ما زالت تُرتكب منذ اندلاع الثورة السورية في آذار عام 2011 إن لم نقل منذ انقلاب البعث في آذار عام 1963، أو من وجهة نظر المعارضين لملاحقة المنشقين عن جيش النظام السوري وأجهزته الأمنية المختلفة. لكنّ هذه الوجاهة تتقلّص إلى أن تصل حدّ العدم عندما ننظر إليها من وجهة نظر القانون والقضاء، ومن وجهة نظر حياديّة غير منخرطة في الصراع.

سنحاول في هذا الحيّز المختصر أن نسلّط الضوء على هذه الحجج ووجهات النظر، آخذين بعين الاعتبار الطبيعة القضائية للموضوع وأبعاده السياسية والاجتماعية بنفس الوقت.

القضاء الألماني

لا بدّ بداية من التأكيد على الثقة الكبيرة التي يحوزها القضاء في عيون الألمان والأوروبيين عموماً، ونحن بدورنا نؤكد على كفاءة النظام القضائي الألماني وعلى خبرة وحيادية ونزاهة القضاة الألمان، وهذا المدخل سيساعد كثيراً في وضع الحدود والفواصل بين التداخل الطبيعي للقانون والسياسة في هذا الملف الكبير الهام والحساس.

مبدأ الولاية القضائية العالمية

تنطلق المحاكمات من مبدأ الولاية القضائية العالمية الوارد في القانون الجنائي الألماني كما في غيره من القوانين الوطنية للعديد من الدول الأخرى، ويستند هذا المبدأ إلى مبررات أهمها عدم محدودية أثر الجرائم الدولية الخطيرة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية في أماكن ارتكابها، مما يفرض على الدول التضامن فيما بينها في إطار إنفاذ مبدأ عدم الإفلات من العقاب، وهذا لا يقتصر على مساهمات الدول ضمن إطار القانون الدولي ومؤسساته فقط، بل يجب أن يتعدّاه إلى التزامات داخلية تتناسب وقدرة كلّ دولة على تحقيق متطلبات العدالة وإمكانياتها في هذا المجال.

تتحكم عوامل عديدة في لجوء الدول إلى مبدأ الولاية القضائية العالمية لملاحقة ومحاكمة المشتبه بهم فيما سبق ذكره من جرائم، وغالباً ما تكون الاعتبارات السياسية ذات أولوية قصوى في فتح المجال من عدمه، كما تتحكم المصالح السياسية في مواقف الدول من قضايا قانونية وأخلاقية حسّاسة جداً. على سبيل المثال، ولتبيان مدى التداخل والتشابك بين السياسة والقانون الدولي، نورد معارضة ألمانيا من ضمن سبع دول حذت حذوها مسألة قبول فلسطين كدولةٍ طرفٍ أمام المحكمة الجنائية الدولية، وكذلك معارضة كندا مسألة انضمام فلسطين لميثاق روما الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية، رغم أنّ كلتا الدولتين من أهمّ ممولي هذه المحكمة ومن أكثر الدول احتراماً للقانون الوطني الداخلي والدولي.

السياسة والقانون

يوضح لنا ما سبق ذكره من أمثلة كيف أنّ السياسة ذات تأثير كبير على مسارات القانون حتى في الدول الديمقراطية، من هنا نجد أنّ الأجواء السياسية العامة والمواقف السائدة من الحالة السورية لعبت دوراً هاماً في فتح أبواب ملاحقة مرتكبي الجرائم ليس في ألمانيا فحسب، بل في السويد وفرنسا والنمسا وإسبانيا وغيرها من دول أوروبا الغربية، ولولا الموقف السياسي العام المتأثر باعتبارات وجوب احترام حقوق الإنسان لما رأينا هذه الملاحقات كما هي الآن. ويجب أن نوضح هنا أنّ تأثير السياسة يبقى محدوداً في المجالات العامة التي تسبق انطلاق العمليات القضائية بشكل فعلي، أمّا بعد ذلك تصبح هذه العمليات بمنأى عن أيّ تدخّل من قبل السلطات التنفيذية أو الأحزاب أو السياسة. ومردّ ذلك بكل تأكيد إلى عراقة المؤسسات القضائية واستقلالها وحيادها ونزاهة الكوادر القضائية كما أسلفنا.

الملاحقات القانونية

تدخل اعتبارات كثيرة في نجاعة عمليات الملاحقة القانونية لمرتكبي الجرائم المذكورة، منها توافر الأدلّة وإمكانيات الأجهزة القضائية وضمانات إنفاذ الأحكام حال صدورها وكثير من المسائل الفنيّة الدقيقة التي لا يمكن حصرها، كذلك تدخل اعتبارات كثيرة غير مرئية، منها قدرة الدولة ذاتها وقوّة اقتصادها، فلا يمكن أن نتوقّع من اليونان الغارقة في الديون مثلاً أن تحمّل خزينتها أو جهازها القضائي أعباءً هائلة كتلك التي تتكبدها ألمانيا في هذا الإطار، على الرغم من وجود إمكانية كبيرة لجمع الأدلّة من مصادر متعددة أهمها الضحايا والشهود من اللاجئين المقيمين على أراضيها.

المعايير القضائية

يجب أن نلاحظ هنا أنّ العدالة لا تأخذ بعين الاعتبار دين المشتبه بهم أو قومياتهم أو انتماءاتهم ومواقفهم السياسية، أو غيرها من الاعتبارات التي هي محلّ جدل بين السوريين، فلا ينظر القضاة إلى أنّ المتهم الماثل أمامهم منشقٌّ عن النظام أم لا، وهل هو من الجيش الحر أم من أحد التنظيمات الإرهابية أو الميليشيات الطائفية أو غيرها من المجموعات المسلّحة، لكنه ينظر إلى اعتبارات قانونية بحتة مثل طبيعة الجرم وأركانه وأدلّة الإثبات أو النفي والضحايا. لكن بالمقابل، وباعتبار أنّ القضاة ينظرون بجرائم معروضة عليهم من خارج بلادهم، وهي ذات طبيعة خاصّة، فلا بدّ لهم من التطرّق إلى السياق العام الذي حدثت به هذه الجرائم، مما يستدعي منهم بحث ومناقشة كثير من المسائل التي لا يتطرقون لها عادة في أحكامهم، مثل النظام السياسي والاجتماعي والثقافي في البلاد التي وقعت بها تلك الجرائم. من هنا نجد بعض الآراء التي تقول بأنّ هذه المحاكمة هي في جزء منها محاكمة لنظام بشار الأسد، فعندما توصف سوريا بأنه دولة تعذيب، يكون المقصود هو نظام بشار الأسد السياسي لا مؤسسات الدولة المجرّدة.

الحجج المتضاربة

يقودنا هذا إلى مناقشة بعض الحجج التي سيقت ضدّ القرار وعمليات الملاحقة من أساسها، وبعض الآراء التي رأت فيه طريقاً للخلاص من الهولوكوست السوري المُستدام.

يرى البعض أنّ ملاحقة الضباط والجنود المنشقين تصبّ في مصلحة نظام الأسد، لأنها ببساطة ستجعل مؤيديه وأركان حكمه أكثر التصاقاً به، مما يعني من حيث النتيجة إطالة عمره ومدّه بأسباب البقاء والاستمرار. لكن بالمقابل يرى آخرون أنّ الانشقاق بكلّ مستوياته لم يستطع أن يزعزع بنية النظام الصلبة أبداً، فالبنية المؤسسية لهذا النظام مركّبة بطريقة تجعله قائماً مهما حصل في أطرافه وجسده من تصدعات، فما لم تصل هذه الخروقات إلى العمود الفقري والجهاز العصبي للنظام ورأسه بكل تأكيد، لن يحصل فيه أيّ تغيّر يذكر.

يحاجج البعض أيضاً بأنّ كثيراً من المحسوبين على النظام موجودون في أوروبا ولم تشملهم الملاحقات، ويردّ عليهم رأي وجيه مقابل بالقول، إنّ هذا الأمر لا علاقة للقضاء به، بل هو مسؤولية الأفراد السوريين من الضحايا والعاملين في الشأن القانوني والسياسي والمدني وكذلك من المنظمات الحقوقية السورية وحتى الأجنبية العاملة في هذا الشأن، لأنّ القضاء هنا لا يعمل في مجالاته المعتادة والمدّعون العامّون لن يتحركوا من تلقاء أنفسهم لفتح هذه القضايا، ولا بدّ من تقديم الملفات إليهم عبر الطرق القانونية ووفق المعايير المعتمدة في الدولة المعنية حتى يتحرّك وينظر فيها.

يرى البعض الآخر أنّ العقوبة لا تتناسب مع الجرائم المرتكبة في سوريا، كما يرون أنّ ملاحقة بعض العناصر من رتب متدنية ليس أكثر من ذرّ للرماد في العيون، ويردّ عليهم أصحاب الرأي الآخر بالقول، إنّ المسؤولية الجنائية فردية لا جماعية، وإنّ المرء يُسأل عن مساهماته الجرمية فقط لا غير، ولو توفر للقضاء الألماني أو غيره في أوروبا الغربية ملفات بحق مشتبه بهم من القادة أو ذوي المسؤولية العليا، ولو تحققت الشروط القانونية لملاحقة هؤلاء المشتبه بهم هنا، لكانت العقوبات في حال الإدانة متناسبة بكل تأكيد مع ما يثبت بحقهم من جرائم، وهذا أمر لا شكّ فيه ولا جدال. مع ذلك ليس ثمّة مانع من التنبّؤ بإمكانية تخفيف الحكم أو فسخه كلياً وإعلان براءة المحكوم عليه، فما يراه قضاة الدرجة الأولى كافياً للإدانة قد يراه قضاة الاستئناف مشكوكاً فيه غير قاطع للشك باليقين، وهذا أمرٌ يعرفه جيداً العاملون في الحقل القضائي.

الولاية القضائية العالمية والعدالة الانتقالية في سوريا

ينظر بعض السوريين إلى أنّ المحاكمات وفق مبدأ الولاية القضائية العالمية هو بداية الطريق إلى نهاية المحرقة السورية، ويعتبرون الحكم الصادر عن محكمة كوبلنز فتحاً غير مسبوق لطريق العدالة الانتقالية في سوريا، ويرى آخرون – ومن بينهم كاتب هذه السطور – أنّ هذا القول يعطي المسار القضائي المذكور حجماً أكبر من حجمه، ويبني عليه نتائج لا يمكن أن يحملها. أمر العدالة في سوريا أعقد بكثير من أن ينجزه مسار المحاكمات الجنائية وحده، فما بالنا بالمحاكمات المستندة إلى مبدأ الولاية القضائية العالمية. نحن بحاجة لبرنامج عدالة انتقالية متكامل خاص بسوريا تكون المحاكمات أحد مفرداته، وهذا ما سيكون موضوع مقال آخر أكثر تركيزاً.

مع ذلك، يبقى الحكم المذكور خطوة على طريق الألف ميل، خطوة لازمة لكنها غير كافية.

تلفزيون سوريا

—————————–

اياد الغريب، الثورة والانعتاق من ارث المنظومة القمعية/ د. سميرة مبيض

لا بد أن أول خطوة علينا اتخاذها عندما نبدي رأياً بقضية ما هي أن نفكر من موقع الشخص المعني بالحدث، والحدث اليوم بما يشغل نقاشات السوريين هو الحكم بالسجن لمدة أربعة أعوام ونصف على الضابط المنشق اياد الغريب، ضابط سابق في أحد فروع الأمنية لنظام الأسد والذي انشق بعد قرابة عام من بدء الثورة السورية ومن ثم لجأ لألمانيا عام 2019 وصدر بحقه مؤخراً حكم بالسجن ضمن سياق مجريات محكمة كوبلنز في المانيا.

تنحصر النقاشات الحادة للسوريين بحدث الحكم بالسجن وتغفل ما قبله ما بعده، تغفل بشكل رئيسي مساراً هاماً لمواقف وقرارات اياد الغريب، صاحب الشأن، والذي منذ وصوله لألمانيا في نيسان من عام 2019 كان صريحاً وواضحاً بما قدمه عن طبيعة عمله لدى فروع المخابرات في سوريا وبالمعلومات التي قدمها عن عمليات التعذيب التي تجري في هذه الفروع، وعن دوره ضمنها ولم يكن اياد الغريب يجهل أنه يُشكل جزءاً من هذه المنظومة وأن ما سيقدمه هو ادلاء شهادة ستؤخذ بكافة جوانبها وتفاصيلها كقرائن ودلائل ضد نظام الأسد الذي كان جزءاً منه وانشق عنه، حتى قرار الانشقاق بحد ذاته لم يكن يجهل خطورته على نفسه وحياته وحياة عائلته على الأخص لمن كان في موقع على درجة من الاطلاع على تفاصيل تتعلق بانتهاكات إنسانية تُمارس في اقبية هذه الفروع ضد المعتقلين.

نحن إذاً أمام ضابط سوري اتخذ بملأ ارادته قرار الانشقاق، بل واتخذ قرار تقديم شهادته أمام محكمة أوروبية لكشف الممارسات الرهيبة التي تجري في المعتقلات رغم ادراكه أنه يشهد بشكل بديهي على موقعه السابق ومهامه السابقة وأنه سيُحاسب على ما شارك به من انتهاكات ورغم ذلك قام بما يمليه عليه واجبه كشخص اتخذ قراراً فعلياً وليس صورياً بالانشقاق أي يمكننا القول إنه اختار الانعتاق من ارث المنظومة القمعية والوقوف ضد الظلم في لحظة محددة وواضحة.

بالمقابل أخذت المحكمة بعين الاعتبار هذا الامر وجاء الحكم مخففاً، نسبة لما كان يمكن أن يكون عليه لو أن الشخص المعني حاول إخفاء هذه الحقائق أو المراوغة عن مهامه السابقة حين كان على رأس عمله في المنظومة الأمنية للنظام، تعاونه مع المحكمة الألمانية يظهر مساره أقرب لقرار بالانعتاق والانفكاك عن جرائم الأسد والوقوف بالضفة المحاربة، قرار واعي بالنتائج قبل حصولها فلم يُقدم اياد الغريب انشقاقه والحكم بأربع سنوات ونصف الذي سيقضيه في السجون الألمانية الا لقاء الوصول لهدف هو اثبات الجرم على منظومة القمع والتعذيب، وذلك أمر على درجة كبيرة من الأهمية.

لنخرج اذاً من هذا النقاش المُغرق في متاهة الأسد، ما هي طائفة هذا الضابط أو ذاك وكيف ولماذا تتم هذه المحاكمة ولا تتم تلك المفترضة انها الاكثر عدلاً، ولنحترم مسار صاحب القضية واختياره الحر بالانشقاق، فهو لم يطرح على نفسه تلك الاسئلة قبل ان يتخذ قرار انعتاقه من هذه المنظومة، ولم يسأل، لحسن الحظ، عن ما سيحدث من سيل من اللغو بعد قراره. فالجوهر والعبرة من مساره ومواقفه قد ثبته وانتهى وهو يشابه كثيراً طموح الثورة السورية ذاتها، وهو وقوف من تم الزج بهم في بوتقة هذه المنظومة اللا إنسانية ليقولوا بوضوح نحن لا ننتمي لهذا الظلم والتردي بكافة اشكاله، وندينه، ونرفع عن أنفسنا وزره، ونعلّي انسانيتنا مهما كان الثمن، وبالمقابل ادانة نظام الأسد وتثبيت جرمه والدفع بخطوة هامة نحو عدم إعادة تأهيله، نحو توصيف حكمه من جهة قانونية كنظام تعذيب واستبداد، هي محصلة هامة للغاية ساهم بصنعها اياد الغريب مع المنظمات الحقوقية والجهات القانونية الألمانية التي صنعت بمجملها هذه الحدث، وما تبقى فهو لغو لا قيمة له.

وربما يكون هدفنا المعلن اليوم، بعد مسار الغريب، أن يسعى للانعتاق كل من انحرف قسراً عن وعيه الإنساني نتيجة حقبة حكم همجي أخضع مجتمعاً بكامله لوسائل وأدوات تدميرية ممنهجة، وأن نصمت برهة عن الترهات المُغرقة في هذه الأدوات التدميرية ونلتفت للعناية بنتيجة ما قدمته هذه الشهادة للثورة السورية وللشعب السوري فالناجون من موقع الجلاد لا يقلون أهمية في الدفع قُدماً بقضية الشعب السوري عن الناجين من موقع الضحية، في الواقع السوريون هم مجتمع ضحية وليسوا بأفراد ضحايا لأن ضخ الفتنة والكراهية والتسلط والفساد في المجتمع لمدة نصف قرن وجعلها صفات ((الصعود والنجاح)) وبالمقابل محاربة وتهميش الأصوات المدافعة الحق وعن المظلومين والضعفاء هي أمور لن تمر دون أثر كارثي.

مجتمع ضحية اذاً، والتعافي جمعي وان حصل سيكون هو المسار السليم، لنبدأ بردم ما انتجته الحقبة الكارثية ونتوقف عن حفر المزيد من الأخاديد العميقة هذا الطريق الهش أساساً، لنترك للضحايا سُبل انعتاقهم من دور الجلاد في هذه المنظومة ولنوطد بإيجابية كل ما يدفع قُدماً بسوريا والسوريين نحو مسار الحياة بعيداً عن الموت والفتنة والتفرقة وصانعيها.

موقع نواة

————————-

تلك المحكمة الألمانية ومفهوم العدالة في سورية/ عمار ديوب

أثار الحكم على ضابط الصف المنشق عن النظام السوري، إياد الغريب، بأربع سنوات ونصف سنة سجناً في ألمانيا، نقاشات إشكالية في أوساط المعارضة. بداية، هناك ضرورة لمحاكمة كلّ من أجرم بحق السوريين، وقام بالتعذيب والقتل، في مؤسسات النظام أو الخارجة عنه؛ فهذا حقٌّ للأفراد ولعائلاتهم، ولطيّ أيّة أحقاد مجتمعية مستقبلاً، ووفاءً لتضحيات السوريين، أقلّها منذ 2011.

تتضمّن بعض تلك النقاشات تبرّيراً للمجرمين بسبب انشقاقهم عن مؤسسات السلطة، بينما تفترض الرؤية الثورية حزماً دقيقاً، لا سيما بشأن من ارتكب الجرائم، أو كان فاسداً وناهباً؛ فهذه أفعال تضرّرت منها أغلبية الشعب السوري. الانشقاق عن النظام لا يَجبُّ ما قبله، وبالتالي كيف للسوريين أن يؤسّسوا دولة حديثة، كل الأفراد فيها متساوون، ويلغي فيها أيّ استغلالٍ للعمل العام، أو إساءةٍ تحطّ من كرامة الأفراد وحقوقهم وواجباتهم. هناك سؤالٌ مشروعٌ يُطرح هنا: لماذا تظهر هذه الإشكالية، ألم تكن الثورة تبتغي إسقاط كل شكل للاستبداد أو الاستغلال وتنهض بالمجتمع؟

للنظام مؤسساته في القمع والفساد والنهب، والثورة قامت ضد ذلك كله وسواه. هنا، يجب التفريق، وبشكلٍ نهائي، بين الثورة والمعارضة، وضمن الأخيرة هناك معارضات. لم تكن المعارضة/ المعارضات ممثِلة للثورة، وأسوأ ما ارتكبته رفضُها الإقرار باستراتيجية متكاملة، تكون المرجعية لأعمالها ولتطوّرات الثورة ولمستقبل سورية، وللإشكالات التي عانت منها. دفعت الفكرة الأخيرة محللين كثيرين إلى القول إن الثورة انتهت، بعد أن تعسكرت وتطيفت وتأسلمت وتأقلمت وتدولت، حيث لا مصلحة للشعب السوري بذلك.

يرتبط سؤالي عن نقاشات ما بعد الحكم أعلاه بغياب تلك الاستراتيجية؛ غيابها هو ما سمح بكل التطورات أعلاه. وبالتالي، وبدلاً من محاكمة أوّليّةٍ للمنشقين، ولحظة انشقاقهم، وعبر مؤسساتٍ قضائية تابعة للثورة، وتبيان مسؤوليتهم، تمّ الاحتفاء بهم، لتحفيز آخرين لذلك. ثم، وكأنّ بالمنشقين تنجح الثورة، وأن الشعب الذي ثار لم يكن يكفي لإطاحة النظام، وأن الثورة يجب أن تضم كل الشعب السوري، وحينها تنجح؛ هذا تفكير طفولي بامتياز، أي غير ثوري بكل بساطة، وهو ما هيمن على المعارضة. في هذا هناك نقدٌ دقيق لنتائج العسكرة والانشقاقات، حيث كانت وبالاً على الثورة، بينما توسعت الأخيرة، وهدّدت النظام حينما كانت العسكرة والتطييف وأقلمتها وتدويلها أقل، أي في أعوامها الأولى.

لا يكتمل مفهوم العدالة لدى السوريين إلّا إثر الانتقال السياسي وبتطبيق مبادئ دقيقة لها، وتسري على الجميع، بينما المحاكمات في ألمانيا، وخارج سورية وقد تتوسع، ستكون نتائجُها محدودة. الانتقال وحده ما يؤسّس للسلم الأهلي وطيِّ صفحة الحرب والجرائم، والتأسيس لسورية موحدة ومستقلة. عدم تطبيق مفهوم العدالة سيُبقي أغلبية السوريين موزَّعين لولاءات خارجية، ألم نسمع بحديثٍ يقول مرحباً روسيا، ومرحباً تركيا، ومرحباً أميركا و.. و..؛ هذه كلها من نتائج سياسات النظام والمعارضة. وتطبيق العدالة، وتنفيذ الأحكام، وبإشراف قضائي مستقل ونزيهٍ، سيقي سورية من مصير يوغسلافيا أو التفكّك في العراق أو لبنان مثلاً.

لا خيار وفقوس في قضايا الحقوق، وإذا كان الحكمُ صدر بحق “مجرم” صغير، فالعدالة ستطاول رفيقه في المحاكمة، العقيد أنور رسلان، وستطاول آخرين، منشقّين وغير منشقين. الفكرة الأخيرة تتعلق بما قَبل الانتقال السياسي، بينما حين البدء فيه، ستطاول المحاكمات الجميع، وهذا مؤجّل إلى لحظة التوافق عليه. نعم ليس هناك من عدالةٍ مطلقة، ولا سيما إن بدأت بالمنشقين، ولكن ذلك يتطلب وضوحاً شديداً، ومن سلطةٍ قضائية، وليس من سواها؛ هي فقط ما يؤسّس لتجاوز الانتقام والثأر والحقد بكل أشكاله، وكذلك يطوي صفحة النقاشات الإشكالية.

تكرّرت في أوساط السوريين النقاشات بشأن المنشقين عن النظام، عسكريين وساسة. مشكلتُنا في غياب تلك الاستراتيجية، وسيادة الفوضى والحزبية والشللية والتبعية للخارج، وكان من نتائج ذلك تهميش المنشقّين بأنواعهم، وسيادة معارضات وفصائل لا تمثل الثورة. وضمن ذلك، لم تُهدر فقط تضحيات أهل الثورة، بل وخبرات المنشقين. أيّة نظرة إلى واقع الفئة الأخيرة، سنراها مهمشة أولاً، وثانياً ملحقة بمعارضاتٍ وفصائل مسلحة مُلحقةٍ بدورها بدولٍ إقليمية. أيضاً، شكّل غياب الاستراتيجية، وأن تشمل كامل سورية، سبباً لتسلّط الفصائل السلفية والجهادية “وشرعنتها”، والأنكى أنها انقسمت على بعضها وخاضت حروباً بالجملة، وفي كل المدن السورية. نعم، لا علاقة لها بالثورة من قريب أو بعيد، فممارساتها أدّت إلى تعزيز مصالح النظام أو الدول الإقليمية، وهذا أمعن في تأزيم الوضع السوري، وأسّس لإشكالات كبيرة، وتطاول أوجه المجتمع كافة؛ فالانقسام في سورية صار عميقاً، دينياً وقومياً، ومناطقياً، وهناك التبعية للخارج.

بعيداً عن النقاشات السلبية، فإن إصدار الحكم الأوّل أعلاه، إضافة إلى تقارير كثيرة أمام المحاكم والمنظمات الدولية تدين النظام، وتدين ممارسات فئات في المعارضة والفصائل، وتزايد حدّة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وتراجع قدرة روسيا وإيران عن دعم النظام، أقول إن ذلك كله يدفع السوريين، معارضين وموالين للتفكير بالمستقبل، وبكيفية تأسيس استراتيجية جديدة للنهوض بسورية؛ القضية التي رفضها النظام والمعارضة، وآثروا المصالح الضيقة والتبعية للخارج.

وصلت سورية إلى لحظة خطيرة في تطوّر أحداثها، وأصبح النفوذ الإقليمي والدولي على الأرض السورية أقرب إلى الخرائط الثابتة لهذه الدولة أو تلك، وفقط يمكن التبادل بين الدول المحتلة لسورية في بعض المناطق. يقول هذا الوضع بضرورة التسوية للمسألة السورية؛ حيث تم تثبيت مناطق النفوذ، وفشلت المسارات الروسية، ولا جدوى للقرارات الدولية، فأميركا وأوروبا لم تضغطا من أجل تطبيقها منذ إقرارها. ولكن المواقف الأميركية لم تتوقف، ومنها قانون قيصر، وتأمين الغطاء للضربات الإسرائيلية ضد الأهداف الإيرانية، وقيام أميركا بقصف شديد لأهدافٍ إيرانية في البوكمال.

الفقرة الأخيرة هي حالة التدخل الدولي في سورية، وهناك حدّة الأزمة الاقتصادية، وأخيراً إثارة النظام نقمة جديدة لدى الناس بقصة الانتخابات الرئاسية، وهو غير قادرٍ على تلبية أية حاجات، والخدمات في غاية السوء. أقول إن مسار العدالة الذي بدأ في محكمة كوبلنز في ألمانيا لن يتوقف هناك، ولكنه لن يكتمل إلّا على الأرض السورية، وبعد إجراء الانتقال السياسي؛ والأخير تستدعيه الوقائع المتأزمة بقوّة. الجفاء بين الرئيسين، الروسي بوتين والأميركي بايدن، ليس نهاية المطاف، وربما هو ذاته يكون بداية التسوية للمسألة السورية.

العربي الجديد


====================

تحديث 05 أذار 2021

————————-

أفكار حول محاكمة مرتكبين سوريين/ أكرم البني

لم تهدأ وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي من تداول الحكم الذي أصدرته محكمة كوبلنز الألمانية بحق صف ضابط سوري عمل لسنوات في أحد أسوأ الفروع الأمنية وتهمته المساعدة في اعتقال العشرات، ما يمهد لإصدار حكم بحق ضابط التحقيق في الفرع نفسه، يمثل أمام المحكمة ذاتها، ومتهم باعتقال آلاف المدنيين وقتل العشرات منهم تحت التعذيب.

وإذ حظي الحكم بالترحيب والتشجيع وبدا كأنه اختراق لحالة الإحباط واليأس التي يعيشها السوريون بعد عشر سنوات عجاف من إعلان ثورتهم، لكن المشهد لم يخلُ من انتقادات واعتراضات، بعضها ممن حكمت مواقفهم مزايداتٌ وآثروا النظر إلى الأمر من زاوية ضيقة، وبعضها ممن غابت عنهم بعضُ التفاصيل والمعطيات، وربما لم يبذلوا جهداً كافياً للتدقيق في الحيثيات والوقائع.

أولاً، ما كان لهذه المحكمة أن تنعقد لولا التوظيف العالمي المغرض لمبادئ حقوق الإنسان، وتعطيل بعض الأطراف الأممية، ولأسباب سياسية، دور المحكمة الجنائية الدولية في متابعة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية في سوريا، يحدوها تواطؤ وصمت البعض الآخر على فظاعة ما تعرض له المدنيون السوريون من انتهاكات، ما فتح الباب لتفعيل واستثمار مبدأ الولاية القضائية العالمية الذي اعتمدته بعض الدول الأوروبية، ومنها ألمانيا عام 2002 وتبيح ملاحقة المشتبه باقترافهم جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، كجرائم التعذيب والإبادة، أياً تكن جنسياتهم وأيا يكن موقع الجريمة، ومقاضاتهم على ما ارتكبوه.

ثانياً، تعرض هذا الخيار للكثير من التشكيك والاستهانة وأحياناً السخرية، وبخاصة من معارضين سوريين، بعضهم لم يجد قيمة أو جدوى فيما يقوم به الحقوقيون من جمع الأدلة وعرض القرائن وتقديم شهادات الناجين، وبعضهم اعتبر ما يجري مجرد لهو وعبث غايتهما حرف الصراع السوري عن مجراه السياسي الحقيقي، وصل الأمر، بعد أن أثمرت الجهود أول حكم يصدر بحق أحد المرتكبين، إلى توجيه اتهامات بأن محاكمة سوريين يعيشون في أوروبا هو محاولة لتقديم أكباش فداء تمهيداً لتبرئة النظام السوري والرؤوس الأكثر إجراماً فيه، كذا!

الغريب، ألا يدرك هؤلاء المعارضون أنهم بموقفهم هذا، إنما يستهينون بضحايا الاعتقال والتعذيب، ويستهزئون ممن تجرأوا وقدموا شهادات حية عما عانوه، بل ويسمحون لأنفسهم بمصادرة حق هؤلاء الضحايا في مقاضاة جلاديهم، خاصةً أن بعضهم يغامر بمصيره ومصير أقاربه في سوريا، حين يتمسك بتقديم شهادته ويتجاهل ما يصله من تهديد ووعيد! والأشد غرابة أن تستمر تلك الاتهامات بعد أن أفضى الدفاع عن المرتكبيْن، بأنهما ينفذان أوامر الجهات الأعلى، إلى وضع النظام السوري بمختلف أركانه وشخصياته في قفص الاتهام، فكيف الحال وقد تضمنت حيثيات قرار الحكم وقرائن ملف الاتهام ومطالبة النيابة العامة عبارات صريحة وأمثلة تاريخية، كأحداث حماة 1980 تؤكد حصول جرائم منظمة وممنهجة في سوريا على يد سلطة حكمت البلاد بالحديد والنار والإرهاب! وهل هو لهو وعبث عندما تسمح المحكمة للشهود بتوثيق ما قامت به الآلة السلطوية الجهنمية من اعتقال المدنيين وإخفائهم قسراً وقتلهم تحت التعذيب وطمر جثامينهم بطريقة يندى لها الجبين، كالشهادة المرعبة لأحد المأمورين بحفر قبور جماعية لعشرات آلاف الهياكل البشرية الممهورة برقم الفرع الأمني الذي اعتقلها؟!

ثالثاً، إن انشقاق أي مسؤول في النظام السوري ووقوفه على الحياد أو انضمامه للمعارضة لا يلغي مسؤوليته القانونية والأخلاقية عما ارتكبه قبل انشقاقه ما دامت أفعاله تندرج ضمن نطاق الجرائم ضد الإنسانية، كما لا يلغي الحق البديهي للضحايا الذين نصبوا أنفسهم كمدعين شخصيين بمحاكمة جلاديهم، لكن ربما ما يثير بعض التسامح ويمنح المرتكب أسباباً تخفيفية هو مسارعته للاعتراف بجرائمه أمام المحكمة والاعتذار لضحاياه، وكشف ما يمتلكه من معلومات وأدلة، تفضح التسلسل الهرمي المسؤول عن إصدار الأوامر، كي توثق الأسماء والجرائم وتضاف إلى لائحة الاتهام، ما يفسر الحكم المخفف، لمدة أربع سنوات ونصف، على المتهم الأول الذي بادر بنفسه لتقديم اعترافات، تحولت لشهادة ضد أركان السلطة وضد المتهم الآخر الذي أنكر ما ارتكبه، ولا يزال ينكر، كالنظام السوري، وجود تعذيب وقتل في المعتقلات السورية!

رابعاً، إن هذا المسار من العدالة عابر للأديان والقوميات وجوهره محاسبة كل مرتكب تبعاً لملفه الإجرامي من دون النظر إلى منبته وأصله، ومثلما هناك دعاوى ضد مرتكبين من مختلف الطوائف والإثنيات، فإن القصاص لا يقتصر على جلادي النظام وشبيحته، أصحاب السجل الأوسع والأفظع من الانتهاكات، بل يمتد ليطاول الجرائم الخطيرة التي ارتكبها قادة وأفراد في مناطق المعارضة، وفي مناطق الفصائل الكردية، بمن فيهم قادة الميليشيات الموالية لإيران وأمراء التنظيمات الإسلاموية الذين عاثوا إجراماً وفساداً حيثما حلوا.

خامساً، صحيح أن ثمة ما يشبه الإجماع بأن ما حصل خطوة تاريخية وغير مسبوقة في طريق النضال من أجل تحقيق العدالة، وأنها تبعث ببعض الأمل والتفاؤل في نفوس ملايين السوريين الحالمين بمحاكمة كل من انتهك إنسانيتهم، وصحيح أن لهذا العمل الحقوقي وجهاً سياسياً بتجريم النظام وعرقلة محاولات تعويمه ومنحه شرعية دولية، لكنه ليس سوى حلقة من سلسلة حلقات تتمفصل وتتكامل، كملف صور قيصر، ومحاكمات مماثلة تجري في غير دولة أوروبية، ودعوة قضائية رفعت في ألمانيا من قبل ثلاث منظمات حقوقية «مبادرة عدالة المجتمع المفتوح» و«الأرشيف السوري» و«المركز السوري للإعلام وحرية التعبير» حول استخدام السلاح الكيماوي عامي 2013 و2017 وأخيراً ما أثير عن وجود أكثر من 900 ألف وثيقة حكومية جمعت خلال سنوات الحرب وتم تهريبها لتشكل أدلة قوية على تورط النظام السوري، بمختلف رموزه، بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

لم تتسع الفرحة صدر إحدى الفتيات فسارعت للاتصال بأمها كي تكون أول من ينقل إليها قرار الحكم وأول من يؤكد لها أن دماء أبيها وأخويها المغيبين منذ سنوات في أحد أقبية المخابرات السورية لن تذهب هدراً، بدت مزهوة، وكأن حملاً ثقيلاً رفع عن كاهلها، وهي تتقدم نحو ركن صغير أمام مبنى المحكمة يكتظ بصور العشرات من المعتقلين والمختفين قسرياً، افترشت الأرض بجانب صورة لشاب يفتر ثغره عن ابتسامة ساحرة تفيض بالحياة، وأجهشت بالبكاء.

الشرق الأوسط

——————————

محاكمة مجرمي الحرب السوريين: رواية كبش الفداء والمنفذ الصغير/ عماد كركص

أثبت قرار محكمة كوبلنز الإقليمية العليا غرب ألمانيا، أخيراً، بإدانة ضابط صف منشق عن أحد الأجهزة الأمنية للنظام السوري والحكم عليه بالسجن لأربعة أعوام ونصف العام، وجود إمكانية لمحاسبة مسؤولي نظام بشار الأسد على الجرائم التي ارتكبوها بحق الشعب منذ اندلاع الاحتجاجات ضده مطلع عام 2011 وحتى اليوم. لكن هذا القرار لم يخلُ من جدل حوله، خصوصاً أن المحكوم، ويدعى إياد غريب، انشق عن النظام في الأشهر الأولى للثورة.

ورحّب جزء كبير من السوريين والمنظمات الدولية والسورية وحكومات الدول المعنية في الشأن السوري بالقرار باعتباره نقطة مضيئة على طريق محاسبة مجرمي الحرب، غير أن أصواتاً أخرى ارتفعت في المقابل متحفظة على قرار المحكمة القاضي بتجريم المدعى عليه، المساعد أول إياد غريب، لا سيما بسبب انشقاقه في الأشهر الأولى من الثورة. حتى إن البعض ذهب للإشارة إلى أن غريب استُخدم كـ”كبش” فداء صغير، فيما ذهب آخرون مطلعون على هذا الملف إلى شرح كيف أن غريب هو من اعترف بشأن دوره في اعتقال عدد من السوريين وقدّم أدلة ضد نفسه، فضلاً عن الدعوة للتفريق بين آليات عمل القضاء الألماني والقضاء الخاضع للنظام السوري.

ويتشارك المحاكمة مع غريب، الذي كان يخدم في “فرع الخطيب – فرع أمن الدولة 251” ومقره دمشق، قبل انشقاقه في النصف الثاني من عام 2011، الضابط أنور رسلان، الذي كان رئيس قسم التحقيق في الفرع المذكور، وانشق عن النظام. وفي حين صدر قرار الإدانة بحق غريب، فإن رسلان الذي انشق عن النظام في سبتمبر/ أيلول من عام 2012، ينتظر مزيداً من جلسات المحاكمة لإصدار الحكم عليه، وفي وقت متوقع نهاية العام الحالي. مع العلم أنه  بالتزامن مع إلقاء القبض على غريب ورسلان، جرى وبأمر من الادعاء العام الفرنسي توقيف العنصر في فرع الخطيب عبد الحميد شعبان، لكن تم إطلاق سراحه ووضعه تحت الإشراف القضائي قبل نحو عام  لعدم وجود شاهد قادر على الإدلاء بشهادة تؤكد ارتكابه للجرائم المتهم بها وفي مقدمتها ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. كذلك رد القضاء الفرنسي قبل أيام دعوى بحق ضابط منشق يدعى سامي الكردي بعد أن كان التحقيق بشأن ارتكابه “جرائم ضد الإنسانية وتعذيب وجرائم حرب” قد فتح بحقه منذ عام 2017.

ترحيب وانتقادات

ورحّب كل من “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” الذي يديره الناشط مازن درويش، و”المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية” الذي يديره الحقوقي أنور البني، وهما منظمتان شاركتا في تحريك الدعوى ضد غريب ورسلان عن طريق “المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان”، بقرار المحكمة بحق غريب باعتباره “قراراً تاريخياً ونقطة مضيئة في تاريخ القضاء الألماني وتاريخ العدالة العالمية”. في المقابل، وجّه نشطاء سوريون ورواد وسائل التواصل، وحتى مسؤولون في منظمات سورية مدنية وحقوقية، أصابع النقد تجاه المنظمتين، اللتين شاركتا في إحضار الشهود للمحكمة ضد المتهمين والتنسيق مع “المركز الأوروبي للحقوق الدستورية”، بهذا الشأن، بالإضافة إلى تقديم شهادة شخصية من قبل الناشط مازن درويش ضد أحد المتهمين.

وتتركز الانتقادات على اتهام المنظمتين بالانتقائية، باعتبار أن المتهمين من أوائل المنشقين الذين اختاروا الابتعاد عن المنظومة الأمنية لنظام بشار الأسد منذ العام الأول للثورة، فيما لا يزال الكثير من المشتبه في ارتكابهم جرائم ضد الإنسانية خارج إطار المحاسبة والملاحقة، حتى بعد وصولهم إلى أوروبا في الأعوام الأخيرة، ولا يزالون يعلنون تأييدهم للنظام. كذلك أشار بعض مسؤولي المنظمات الحقوقية إلى أن المتهمين ليسا بذات الحجم والخطر والإجرام مقارنة مع باقي أركان السلطة في دوائر النظام المختلفة، وتحديداً إياد غريب، الذي اعتبر عدد ممن تحدث إليهم “العربي الجديد” أنه كان ضحية لعدم فهمه بالقوانين في ألمانيا.

من وجهة نظر الصحافي ياسر علاوي، وهو ابن مدينة موحسن في ريف دير الزور التي ينحدر منها المدان إياد غريب، فإن الأخير يعد بريئاً من التهم المنسوبة إليه، مشيراً في حديث مع “العربي الجديد” إلى أن “إياد غريب لم يكن من ضمن السجانين أو المحققين في الفرع الذي يخدم فيه، بل كانت مهامه تقتصر على الدوريات خارج الفرع”. وأكد أن “غريب انشق عن النظام في النصف الثاني من عام 2011، أي في وقت مبكرة من عمر الثورة، وقصد مدينته موحسن وشارك في التظاهرات ضد النظام، ومن ثم انتسب إلى صفوف الجيش الحر لحماية هذه التظاهرات”. وأضاف أن “غريب انتقل إلى تركيا في وقت لاحق بعد أن توسعت قاعدة التنظيمات الإسلامية في سورية، ليحافظ على حياته، وأقام في مخيم لسنوات، ومن ثم لجأ إلى ألمانيا”.

وأشار علاوي إلى أنه “منذ وصول إياد غريب إلى ألمانيا سلّم نفسه للسلطات الألمانية وأخبرهم بمكان خدمته والمعلومات التي لديه عن الفرع الذي كان يؤدي فيه الخدمة”، مؤكداً أن غريب طُلب كشاهد للمحكمة، لكونه كان يخدم في ذات الفرع مع رسلان، لكن بعد أربع أو خمس جلسات شهادة تم تحويله إلى متهم.

وتحدث علاوي عن اعتراف المحامي أنور البني، المشارك في تقديم الشكاوى بحق إياد غريب وأنور رسلان أمام المحكمة الألمانية، بأن غريب أصبح في دائرة الاتهام كونه وصل في “الوقت الغلط”، أي مع فتح تحقيق ضد رسلان. وزوّد علاوي “العربي الجديد” بتسجيل صوتي مرسل من قبل البني إليه، يؤكد ذلك. وفي التسجيل، يقول البني مجيباً على استفسارات العلاوي: “لم نتهم إياد ولا نعرفه ولم يكن ضمن الملف، والدليل الوحيد على إياد هي إفادته أمام دائرة اللجوء عند وصوله إلى ألمانيا، ومشكلته أنه وصل إلى ألمانيا في الوقت الغلط، عندما كان التحقيق مفتوحاً ضد أنور رسلان، وأعطى إفادة أمام الشرطة الألمانية بأنه كان في الفرع وماذا كان يفعل، وبالتالي اضطر المدعي العام لضمه للملف”. ويضيف البني في التسجيل “لو كان غريب أتى إلينا وسألنا ماذا يفعل لكنا جنّبناه أن يكون هنا في هذا الموقف (يقصد المحكمة)، لكنه اعترف ولم يجد المدعي العام بداً من ضمه للملف”، متابعاً “المعلومات التي لدينا عن إياد إيجابية، لكن ليس لدينا سلطة أن نقرر، وهناك اعترافات أمام القاضي والشرطة ودائرة الهجرة، وستأخذ بعين الاعتبار”. واتهم علاوي محركي الادعاءات في أوروبا، بأنهم يستهدفون المنشقين عن النظام، والذين اتخذوا موقفاً لصالح الثورة في وقت مبكر، ولم ينخرطوا في أعمال إجرامية.

وسأل “العربي الجديد” المحامي البني، المقيم في ألمانيا، عن التسجيل المرسل من قبله، بتاريخ 25 إبريل/ نيسان 2020، وعن تغيير موقفه تجاه غريب بعد صدور الحكم، فرد أن موقفه لم يتغير، مؤكداً أنه في حينها كان يشرح أن غريب هو من قدّم الأدلة ضد نفسه، مضيفاً: “هذه الإفادة التي اعتمدت عليها المحكمة”.

وكان الناشط الحقوقي حسام القطلبي، قد أثار في تحقيق موسع نشره في موقع “رصيف 22″ منتصف العام الماضي، مسألة تقديم إفادات مغلوطة من قبل أحد الشهود أمام المحكمة كوبلنز، متهماً المخرج والمعتقل السابق فراس فياض الذي قدّم إفادات ضد المتهم أنور رسلان، بتقديم شهادة متناقضة التفاصيل وتواريخ اعتقال مختلفة، مشككاً في مسار المحكمة الألمانية وتعاطيها مع إفادات الشهود، والتالي محاكمة المتهمين. لكن المحامي البني رد في تصريح لـ”العربي الجديد” حول هذه الشكوك بأن المحكمة “لا تأخذ بما يُنشر على فيسبوك وغيره، وهي تأخذ بما يُقدّم أمامها من إفادات”، واصفاً ما تمت إثارته بـ”ترهات ولعي وكلام أطفال”. ونفى أن “تكون هناك شهادات مغلوطة أمام المحكمة بالمطلق، وأنها استندت إلى شهاداته وشهادة الناشط مازن درويش وبعض الخبراء”.

جدل الحكم على غريب

لكن الناشط الحقوقي محمد العبد الله، وهو مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، ومقره الولايات المتحدة، والذي يتخذ صفة المراقب في محاكمة كل من غريب ورسلان، كشف في حديث مع “العربي الجديد” أنه شخصياً، مع حقوقيين آخرين منهم القطلبي، أوضحوا للبني أن من الخطأ تقديم شاهد يقدّم إفادات مغلوطة للمحكمة، بالإشارة إلى المخرج فراس فياض، وكان رد البني كالتالي: “حتى لو كنت أعلم أن الشاهد يكذب، يجب دعم إفادته، لأن النظام يفعل أكثر من ذلك، ولدينا شخص ويجب تجريمه”، بالإشارة إلى رسلان.

وحول المحكمة، أشار العبد الله إلى أنه من خلال اطلاعه على أدق التفاصيل في المحكمة، يعتقد بأن الحكم بحق إياد غريب أقسى مما يجب، مضيفاً: “التهمة المنسوبة إليه أنه شارك في اعتقال 30 شخصاً، وهذا أمر تلقاه من جهة أعلى منه، ولم يكن أمامه سوى التنفيذ”، وتابع: “عملياً، إياد غريب حاول مساعدة المحكمة، بتقديم معلومات حول المتهم الآخر أنور رسلان، لكن المحكمة قررت تجريمه على خلفية المشاركة باعتقال الأشخاص الثلاثين، معتبرة أنه كان بإمكانه التهرب من مهمة الاعتقال”. وأضاف: “بالنسبة لأنور رسلان، هناك كثير من الدلائل على تورطه، ما يرجح إدانته بحكم أكبر من حكم غريب، لكن لا مبرر لوجود شهود مطعون بإفاداتهم، فقط لتحقيق إنجاز للبعض من خلال تصدرهم للمشهد”.

وأشار العبد الله إلى أنه على الرغم من تقديم شكاوى بحق شخصيات رئيسية من النظام، على رأسهم علي مملوك وجميل الحسن وغيرهما، مع صعوبة إلقاء القبض عليهم وجلبهم للمحكمة، إلا أن مجرد قبول الدعاوى ضدهم والبدء بمحاكمتهم غيابياً، يعتبر مهماً في سياق “التقاضي الاستراتيجي” الذي تنشط جهات مختلفة للعمل عليه في القضية السورية.

من جهته، رأى دياب سرية، وهو مؤسس شريك في “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”، أنه من خلال متابعته للمحكمة عبر التقارير التي أصدرتها منظمات مستقلة منحتها المحكمة صفة المراقب، يستطيع القول إن “بعض الشهادات كانت ملفقة ومبالغاً بها ووُظّفت لحساب وغايات أخرى لا تخص قضية الحقيقة والعدالة”، مضيفاً في تصريح لـ”العربي الجديد” أن “شهادة المخرج فراس فياض مثال على هذا، فالرجل قدّم العديد من المعلومات المغلوطة عن مدة اعتقاله وأسبابه وعن التعذيب الذي تعرض له خلال فترة الاحتجاز”، مشيراً إلى شهادة أخرى مشكك فيها لشاهد أخفى اسمه كان يعمل في دفن جثث المعتقلين في مقبرة نجها. وتابع: “أستطيع القول جازماً من خلال المعلومات والتوثيقات التي نملكها أن الشهادة ملفقة ومبالغ بها، الرجل ادعى أن عدد الأشخاص الذين دفنهم يصعب عده ويعتقد أنه دفن ما بين 3 و5 ملايين إنسان وأنه دفن من فرع الـ40 التابع للمخابرات العامة ما يقدر بـ5000 شخص وحده، مع العلم أن فرع الـ40 هو منزل سكني في الجسر الأبيض وهو أقرب إلى نظارة صغيرة يتم اعتقال الأشخاص فيه لساعات أو أيام لا تتجاوز الأسبوع، ثم يتم تحويلهم إلى فرع الخطيب لاستكمال التحقيق أو إطلاق سراحهم ولم يتم توثيق حالة واحدة خلال السنوات الماضية وحتى الآن قُتلت تحت التعذيب في فرع الـ40”.

ورأى سرية أن “المحكمة غير مؤهلة بما فيه الكفاية للنظر بمثل هذه القضايا، فهذه هي المرة الأولى في تاريخ المحكمة التي تنظر بها بقضية لها علاقة بجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية”، مشيراً إلى أن “المحكمة هي محكمة إقليمية صغيرة لا يملك كادرها التدريب الكافي والخبرة للعمل على مثل هذه الملفات”. وأشار سرية إلى أن “المؤسسات السورية بالغت بدورها في هذه المحكمة والذي كان محصوراً بجلب الشهود وسد بعض الثغرات في سياق الأحداث، وساهم بعض المحامين السوريين بتضخيم القضية ورفع سقف التوقعات بشكل كبير لدى الناجين/ات من مسالخ الأسد، وهؤلاء المحامون ما انفكوا حتى الآن عن تقديم نفسهم على أنهم حماة العدالة ومحققها في سورية وأن العدالة إن لم تمر من بابهم فهي ليست بعدالة”، مضيفاً “هذا المجد الشخصي سعوا إليه عبر محكمة كوبلنز، متجاهلين تطلعات الناجين/ات وتجاهلوا مشاعرهم، حتى إنهم لم يكلفوا نفسهم عناء شرح طبيعة المحاكمة والهدف منها”. وتابع: “نتطلع لمحاسبة جميع من ارتكب جرائم بحق الشعب السوري بغض النظر عن انتمائهم القومي أو الديني، ونتطلع لمحاسبة كل شخص تسبّب بأذية أي شخص مدني في سورية، لكننا أيضاً نطمح إلى أن تكون هذه المحاسبة أمام محاكم مختصة تنظر في الجرائم التي ارتكبت في سورية وتقول حقيقة ما جرى ضمن مسار واضح لعملية عدالة انتقالية حقيقية”.

ونقل “العربي الجديد” للناشط مازن درويش كل ما أُثير حول المحاكمة، سواء تجاه غريب ورسلان، ووضعه بصورة الاتهامات التي تطاوله مع المحامي البني حول الانتقائية في المساهمة بتحريك الدعاوى ضد بعض المشتبه بارتكابهم جرائم وانتهاكات، من خلال التركيز على المنشقين الأوائل من العسكريين، وبناء على “خلفية مذهبية”، بحسب ما يقول بعض المتابعين للقضية. فقال درويش “بالنسبة إلينا لا تعنينا الخلفية الطائفية لأي شخص، ما يهمنا وجود أشخاص مشتبه في ارتكابهم جرائم، ولدينا ما يكفي من الأدلة القانونية عليهم، والموضوع ليس كما كان في سورية، أن تكتب تقريراً أمنياً للسلطة بحق شخص ويتم توقيفه، المسألة هنا مختلفة تماماً، والعمل على جمع الأدلة قد يستمر لسنوات”.

وأوضح درويش أنه من أول من قام برفع دعوى ضد جهاز المخابرات الجوية في ألمانيا، والتي صدرت على إثرها مذكرة توقيف بحق الرئيس السابق للجهاز اللواء جميل الحسن، كما رفع مركزه دعوى في فرنسا ضد فرع التحقيق في المخابرات الجوية، وصدرت بعدها ثلاث مذكرات توقيف بحق علي مملوك وجميل الحسن وعبد السلام محمود، بالإضافة إلى دعاوى عدة في كل من فرنسا وألمانيا والسويد والنرويج. وتحدث عن دعوى جديدة تتعلق باستخدام الأسلحة الكيميائية سيتم الإعلان عنها في فرنسا (وهو ما تم بالفعل الثلاثاء الماضي)، قائلاً إن العمل على هذه الدعوى مستمر منذ عام 2013. وقال “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” في بيان، إن مجموعة من الناجين من الهجمات الكيميائية في سورية “قدّموا شكوى جنائية لقاضي التحقيق في فرنسا حول هجمات الأسلحة الكيميائية على مدينة دوما والغوطة الشرقية في أغسطس/ آب 2013”.

أما بخصوص محاكمة رسلان وغريب، فأشار درويش إلى أن “رسلان هو من ذهب بنفسه إلى الشرطة الألمانية وقال لهم إن لديه مخاوف من استهدافه من قبل النظام، حينها أبلغهم بأنه ضابط كبير في المخابرات، وعلى هذا الأساس تم فتح ملف اللجوء الخاص به وتحوّل بعدها إلى المحكمة”، مضيفاً: “نحن لم نختر ولم ننتقِ إياد غريب أو أنور رسلان لتقديم الشكوى بحقهما، لكنهما دفعا بنفسيهما إلى ذلك”، معتبراً أن الاعتقاد أو الترويج بأن القضاء الألماني يستهدف المتهمين بناء على خلفياتهم يعد استخفافاً بعقول السوريين.

أما بخصوص الشهادة المغلوطة لفراس فياض أمام المحكمة، والإشارة إلى أنهم من دفعوا بهذا الشاهد من ضمن مهمتهم في جمع الشهود للمحكمة، فقد نفى درويش أن يكون لهم أي دور بتقديم فياض من قبل الجهة المدعية المتعاونين معها، متابعاً “هو لديه محاميه الخاص من خارج المحامين الذي نتعامل معهم، وشارك في الدعوى كحق له، أما أن يكذب أو يصدق فهذا شأنه وليس لنا حق بمنع أحد من تقديم إفادته”. وختم بالقول “أي أحد يعتقد أن هناك خللاً قانونياً ضمن العمل الذي نقوم به، ندعوه للجوء إلى القانون لتقديم شكوى ضدنا، نحن مؤسسة حقوقية مرخصة في أكثر من مكان حول العالم”.

متورطون خارج المحاسبة

تتحدث الكثير من المنظمات والنشطاء المختصون بقضايا المحاسبة وملاحقة مرتكبي جرائم ضد الإنسانية في سورية، الذين تواصل معهم “العربي الجديد”، عن وصول مئات الأشخاص إلى أوروبا بعد عامي 2015 و2016، منهم من عليه أدلة دامغة على تورطه بجرائم وانتهاكات، وكثير منهم لا يزالون يعلنون تأييدهم للنظام، لكنهم خارج إطار الملاحقة، بسبب غض المنظمات المختصة بالملاحقة الطرف عنهم.

الصحافي قتيبة ياسين، الذي نشط في متابعة تحرك المجرمين ومرتكبي الانتهاكات الذين وصلوا إلى أوروبا وقدّموا أنفسهم على أنهم فارون من جحيم الحرب في سورية، من خلال منصة “مجرمون لا لاجئون” على موقع “فيسبوك” في الفترة الممتدة بين عامي 2014 و2017، سأله “العربي الجديد” عن العدد الذي تم توثيقه خلال فترة نشاطه، فأوضح أن العدد الكامل يقارب 280 مشتبهاً بارتكابهم جرائم، عليهم أدلة إدانة من قبيل حمل السلاح واللباس العسكري والوجود مع قوات النظام أو المليشيات.

وتقصّى “العربي الجديد” أيضاً بعض خلفيات المتهمين والمشتبه بارتكابهم جرائم في سورية قبل لجوئهم إلى أوروبا، والذين كانوا تحت الأنظار دون تحرك المنظمات السورية ضدهم لتقديم شكاوى بحقهم لتقديمهم إلى المحاكم ومحاسبتهم. ومن بينهم علاء موسى، طبيب في مستشفى حمص العسكري، شارك بجرائم فظيعة لدى خدمته في المستشفى قبل لجوئه إلى ألمانيا وعمل في مستشفيين فيها. وقدّم زملاء سابقون في المستشفى شهادات ضده، قبل أعوام، ولم يتم التحرك ضده إلا عندما نشرت قناة “الجزيرة” تحقيقاً استقصائياً مصوّراً حمل عنوان “البحث عن جلادي الأسد”، وقدّم التحقيق أدلة دامغة على تورطه مثبتة بالشهود والوقائع، ما دفع القضاء الألماني لاعتقاله، بناء على شكاوى شخصية، وبحكم الأدلة لديه.

أيضاً يبرز اسم محمد العبد الله، المعروف بـ”أبو الحيدرين”، مقاتل سابق في صفوف إحدى المليشيات الرديفة لقوات النظام، له صوة وهو يدوس على جثث عدد من القتلى الذين يرتدون الزي المدني، في حين يرتدي هو زياً عسكرياً ويحمل بندقية. رفع أشخاص، من بينهم المحامي رامي حميدو، دعوى ضده في السويد، لكن القضاء السويدي أفرج عنه بعد ثمانية أشهر من الاعتقال لإدانته بإهانة جثث الموتى، وتم إلغاء لجوئه وطرده من السويد. حينها كتب المحامي البني على صفحته في “فيسبوك”: “لم نستطع دعم جهود زميلنا المحامي رامي حميدو في السويد، والنشطاء السوريين، والشاهد في ألمانيا الذي تقدّم للشهادة ضده، ولم نستطع أن نثبت قيامه بالقتل فحكم عليه القاضي بمدة ثمانية أشهر، أمضاها بالسجن بتهمة إهانة الكرامة الإنسانية”.

كذلك، يبرز العقيد سامر بريدي، وهو ضابط أمن في إدارة المخابرات العامة، شغل رئاسة قسم أمن الدولة في مدينة دوما في الغوطة الشرقية، منذ بداية الاحتجاجات، وهو متهم بارتكاب جرائم قتل ومجازر جماعية في دوما والغوطة الشرقية، وتشير معلومات إلى أنه يشغل حالياً منصب مدير مكتب علي مملوك، رئيس مكتب الأمن القومي. وصل مع وفد النظام المفاوض إلى سويسرا لحضور الجولة الثالثة من مسار جنيف في بداية العام 2016، وعلى الرغم من أن حقوقيين سوريين مستقلين قدّموا دعوى ضد بريدي حينها في سويسرا، فقد غابت عن الدعوى منظمتا درويش والبني. وعلى الرغم من مشاركة بريدي مع وفد النظام في الجولة الرابعة من مسار جنيف في فبراير/ شباط 2017، إلا أن المنظمتين تجاهلتا ذلك، على الرغم من الزخم الإعلامي حينها حول مشاركته في المفاوضات.

وللعلم فإن رفعت الأسد، شقيق رئيس النظام السابق حافظ الأسد، وعم بشار الأسد، المتهم بارتكاب جرائم إبادة جماعية في حماة عام 1982، والمتهم كذلك بعمليات غسيل أموال وفساد، لم يخضع للمحاكمة أمام القضاء الفرنسي إلا بعد تقديم جمعية “شيربا” الفرنسية لمحاربة الفساد، شكوى ضده، على الرغم من وجود “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” في فرنسا كمنظمة حقوقية مرخصة هناك، ويحمل مديره الجنسية الفرنسية.

كما صدر في ألمانيا وفرنسا عدد من مذكرات التوقيف بحق عدد من الشخصيات الرئيسية في النظام، منهم جميل الحسن وعلي مملوك وعبد السلام محمود، بموجب الولاية القضائية العالمية التي تتيح ملاحقة مرتكبي الجرائم، أياً كان مكان ارتكاب جرمهم. لكن قانونيين يشيرون إلى أن المذكرات تبقى رمزية لسببين، الأول صعوبة إلقاء القبض على مثل هذه الشخصيات، وثانياً أن دولة مثل ألمانيا لا تسمح قوانينها بالمحكمة الغيابية للأفراد، وبالتالي ستنحصر المحاكمات وفرض العقوبات على من هم بدرجة أدنى، والذين يوجدون في أوروبا، لكي يمثل المتهم أمام المحكمة ويأخذ حقه بالدفاع عن نفسه.

العربي الجديد

—————————-

تحركات دولية لمحاسبة النظام السوري على انتهاكات حقوق الإنسان/ عدنان أحمد

تتزايد المطالب الدولية بضرورة محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان في سورية، فيما أكدت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سورية أن لديها ما يكفي من المعلومات الموثوقة عن تورط أكثر من 120 شخصا في سورية بارتكاب جرائم حرب أو انتهاكات لحقوق الإنسان.

وفي هذا السياق، بدأت كندا بالتحرك رسمياً لمحاسبة النظام السوري على ارتكابه انتهاكات وجرائم بحق الشعب السوري منذ عام 2011، وذلك عبر طلبها إجراء مفاوضات رسمية بموجب اتفاقية الأمم المتحدة المناهضة للتعذيب لمحاسبة النظام على انتهاكاته التي وصفتها بأنها “لا تحصى”.

وقال وزير الخارجية الكندي مارك غارنو إنه “في بيان له أمس الخميس على مدى العقد الماضي، شن النظام السوري هجمات وحشية ومروعة على شعبه، وأمل كندا أن يخدم عمل اليوم لتقريبنا من الحقيقة والعدالة والمساءلة. شعب سورية لا يستحق أقل من ذلك”، وفق “رويترز”.

وأضاف غارنو أن “كندا دعت مراراً نظام الأسد إلى إنهاء الانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان ضد مواطنيه، من خلال قيادة قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكنه تجاهل ذلك”، وهو ما يدفع كندا لـ”طلب التفاوض بشأن نزاعها بموجب اتفاقية الأمم المتحدة المناهضة للتعذيب، وضرورة محاسبة النظام في سورية على الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي”.

وأكد غارنو أن “موقف كندا الراسخ بأن حقوق الإنسان غير قابلة للتفاوض”، وأن “السوريين عاشوا عقدا من المعاناة التي لا توصف على يد نظام الأسد، وسيكون السلام المستدام ممكناً فقط بعد محاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات”.

وكانت هولندا تقدمت بطلب مماثل في سبتمبر/ أيلول العام الماضي، وتم توثيقه من قبل لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بشأن سورية.

وكانت اللجنة الدولية المستقلة المعنية بسورية أعلنت أن لديها ما يكفي من المعلومات لإدانة 121 شخصا من جميع أطراف النزاع في البلاد، بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، غالبيتهم من النظام السوري. 

وقالت اللجنة، في تقرير لها قدمته قبل أيام لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، إن “لديها ما يكفي من المعلومات الموثوقة عن تورط 121 من هؤلاء الأفراد في ارتكاب جريمة أو انتهاك على نحوٍ يفي بمعيار الإثبات الذي وضعته من جميع الأطراف”، مشيرة، في مقدمة تقريرها، إلى أن معظمهم من قوات النظام السوري، عندما قالت “كانت اللجنة قد وثّقت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وجرائم ضد الإنسانية ارتكبتها القوات الحكومية، ومجموعة من انتهاكات حقوق الإنسان ارتكبتها الجماعات المسلحة غير الحكومية”.

وأوضحت اللجنة أنه “منذ بدء عملها بتجميع قوائم سرية بأسماء مرتكبي الانتهاكات والجرائم في سورية من جميع أطراف النزاع، جمعت معلومات أولية عن أكثر من 2003 أشخاص من الجناة المزعومين”.

ولفتت إلى أن ما تملكه من معلومات عن هؤلاء سوف تستخدمه لمساعدة عمليات المساءلة الدولية وتلك التابعة لدول ثالثة، بما في ذلك الآلية الدولية المحايدة، للمساعدة في التحقيق والملاحقة القضائية للأشخاص المسؤولين عن الجرائم الأشد خطورة، وفق تصنيف القانون الدولي.

ويقول حقوقيون سوريون إن الأسماء الواردة في التقرير عن النظام السوري تضم، إلى جانب ماهر الأسد شقيق رئيس النظام، 8 أسماء من القوى الجوية التابعة للنظام، والذين أُدينوا سابقا بتنفيذ ثلاث ضربات كيماوية على اللطامنة 2017 بريف حماة، يتصدرهم الطيار محمد الحاصوري، فضلا عن اللواء جميل الحسن، رئيس المخابرات الجوية سابقا، وعلي مملوك رئيس “مكتب الأمن الوطني”، واللواء عبد السلام محمود رئيس فرع التحقيق في المزة.

وكان رئيس لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بسورية باولو سيرجيو بينيرو أكد، خلال ندوة رفيعة المستوى أقيمت في جنيف الثلاثاء الماضي، أن مطالب الضحايا بتحقيق العدالة والمساءلة “تعد عنصرا جوهريا لإقامة السلام الدائم في سورية”.

وشدد على “ضرورة فعل المزيد لإطلاق سراح المعتقلين تعسفيا، وتحديد أماكن وهويات المفقودين، واستعادة التوثيق المدني وحماية حقوق الإنسان فيما يتعلق بالمسكن والأرض والممتلكات من بين أمور أخرى”.

وذكر رئيس لجنة التحقيق المستقلة أن “الأطراف المتحاربة في سورية تحاول منذ عقد من الزمن حل الصراع بالسبل العسكرية، مما سمح بانتهاك جميع حقوق الإنسان”. وقال إن “أطراف الصراع ارتكبت تقريبا كل الجرائم ضد الإنسانية المدرجة في ميثاق روما الأساسي للعدالة الجنائية، وجرائم الحرب التي تنطبق على الصراعات المسلحة غير الدولية”.

من جهتها، قالت السفيرة الأميركية المُعينة حديثا لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد، خلال الندوة، إن بلادها تقف إلى جانب الشعب والمجتمع المدني السوري، وأكدت أن “مجموعة واسعة من الشركاء الدوليين يطالبون بالمساءلة، ويدعمون الحل السياسي وفق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254”.

وطالبت بالكشف عن وضع عشرات الآلاف من المدنيين المحتجزين في سورية منذ عام 2011، مؤكدةً ضرورة إعادة جثث القتلى إلى ذويهم، وفق وكالة “أسوشيتد برس” الأميركية.

والاثنين الماضي، نشرت “لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سورية” تقريرها حول انتهاكات وتجاوزات وصفتها بـ”التاريخية والمستمرة” خاصة بآلاف المدنيين الذين اعتقلوا تعسفيًا في سورية.

وتحدثت اللجنة، في تقريرها المؤلف مما يزيد على 30 صفحة، عن النطاق الهائل للاعتقال والاختفاء وأنماط الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها حكومة النظام السوري، والفصائل المعارضة المسلحة، و”قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، بالإضافة إلى انتهاكات من قبل فصائل مسلحة مصنفة إرهابية من قبل الأمم المتحدة، مثل “هيئة تحرير الشام” وتنظيم “داعش”.

وقالت المفوضة الأممية كارين كونينج أبو زيد، في سياق التقرير، إن “غزارة الأدلة التي جُمعت على مدى عقد من الزمان مذهلة، ومع ذلك فإن أطراف النزاع قد فشلوا في التحقيق مع قواتهم، باستثناء حالات قليلة جدًا” فيما يخص قضايا الاعتقال التعسفي، لأنه “يبدو أن التركيز ينصب على إخفاء الجرائم المرتكبة في مراكز الاحتجاز، وليس التحقيق فيها”، وفق المفوضة.

وأوضح التقرير كيف عمدت حكومة النظام، وبدرجة أقل الأطراف المسلحة الأخرى، إلى إطالة معاناة أفراد أسر المعتقلين وعائلاتهم.

وبحسب الأمم المتحدة، أسفر الصراع السوري عن مقتل ما يقرب من نصف مليون شخص، وتشريد نصف سكان البلاد، بما في ذلك خمسة ملايين لاجئ في الخارج.

وفي تقرير لها صدر أمس الخميس، وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أبرز الانتهاكات في فبراير/ شباط الماضي، مشيرة الى مقتل 138 مدنياً، بينهم 23 طفلاً و11 سيدة، إضافة إلى مقتل 14 شخصاً بسبب التعذيب.

ووفقاً للتقرير، فإن ما لا يقل عن 171 حالة اعتقال تعسفي واحتجاز، بينها 11 طفلاً و7 سيدات، تم تسجيلها في فبراير/شباط على يد أطراف النزاع والقوى المسيطرة في سورية، كانت النسبة الأكبر منها على يد “قوات سورية الديمقراطية” في محافظتي الحسكة ودير الزور.

العربي الجديد

———————-

العدالة للضحايا السوريين/ جمانة فرحات

عشر سنوات على اندلاع الثورة السورية كانت خلالها المطالبة بالحرية للشعب تتكرّر على الألسن، تماماً مثل العدالة. ولكن، كما كل شيء في هذا البلد، المنقسم عمودياً وأفقياً، مذهبياً وسياسياً وعسكرياً، تصبح العدالة موضع تساؤل عندما تبدأ بالتحقّق، ولو جزئياً، تحت عناوين من قبيل: لماذا محاسبة الصغار قبل الكبار؟ لماذا محاكمة هذا الشخص وليس ذاك؟ على غرار ما بدأ يتردّد بعد الحكم الصادر أخيرا في ألمانيا بحق أحد العناصر الأمنيين الذي انشقّ في الأشهر الأولى من الثورة.

تغيب عن أصحاب هذه الطروحات حاجة الضحايا السوريين، المواطنين، إلى إنهاء حالة الإفلات من العقاب، سواء أكان مرتكب الجريمة في صف النظام أو المعارضة أو التنظيمات المتطرّفة، وجعل كل من تلوثت يداه بدماء الشعب وانتهاك حقوقه وكراماته، من خلال عمليات القتل والتعذيب والإخفاء القسري، يُفكر بدل المرة ألفاً قبل أن يظنّ نفسه آمناً.

والأهم أن على هؤلاء إدراك أن العدالة تعني حكماً إنصاف جميع من تعرّضوا للانتهاك بالوسائل القانونية. والبداية تكون بمن تتوفر أدلة على تورّطه أولاً، سواء كان مُصدِراً للأوامر من أصحاب المراتب العليا أو مجرد عنصر يطبق ما يطلب منه من خلال قصفه مناطق سكنية، أو اعتقاله مواطنين ثم رميهم في السجون، ليتعرّضوا للتعذيب أو القتل أو الحرمان من الحرية. من ظنوا أن وجودهم في بلدان أوروبية تحت صفة لاجئين سيحميهم اكتشفوا، على مدى السنوات الماضية، عدم صحة هذا الرهان. وجميع الناجين الذين وجدوا أنفسهم في دول أوروبية تعتمد مبدأ الولاية القضائية العالمية عثروا على خيارٍ حقيقيّ لتقديم شكاوى بحق جلاديهم.

الدعاوى القانونية التي ترفع في أكثر من دولة أوروبية، مثل ألمانيا وفرنسا، هي الخيار المتاح حالياً، لا سيما أن محاكمة كبار المسؤولين/ المجرمين لا تزال بعيدة المنال، في غياب الإرادة السياسية الدولية لمحاسبة النظام، ومع الغطاء الذي يحظى به على وجه الخصوص من روسيا والصين، واستحالة تحويل الفظائع السورية إلى المحكمة الجنائية الدولية، لعدم توفر التوافق المطلوب في مجلس الأمن، ناهيك عن غياب أي فرصةٍ حالياً للملاحقة القضائية المحلية.

ما يتحقق راهناً من تحرّك للقضاء في أكثر من دولة أوروبية، وإنْ بتفاوت، حيث رُدت بعض الدعاوى، وأطلق عدد من المتهمين، ليس ثانوياً، بل خطوة يمكن البناء عليها مستقبلاً، إذ من شأنها تشجيع الضحايا على التبليغ عن الجرائم المرتكبة بحقهم، لأنهم باتوا يدركون أن المحاسبة ممكنة، ولكن من دون آمال زائفة، أو تضخيم لحجم ما قد يتحقق، لأن محاكمة الجميع، وبناء على التجارب العالمية في هذا المجال، تقود إلى خلاصة استحالة تحقّق ذلك.

وذلك كله يتطلب، حكماً، من المنظمات الحقوقية السورية العاملة في هذا المجال، أن تكون على قدر المسؤولية، خصوصاً في ما يتعلق بعمليات الرصد والتوثيق لشهادات ضحايا الانتهاكات، وتنقيتها، لأن من شأن أي خطأ، وهو وارد الحدوث في مثل هذه الحالات، وبسبب نقص الخبرات، أن يلحق أضراراً تصيب الهدف الأساس، أي محاسبة المجرمين الحقيقيين، وعدم السماح بتحويل هذا المسار إلى عملية انتقام عشوائية.

أما مسألة صفح الضحايا أو ذويهم عن أصحاب المراتب الدنيا، أي المنشقّين الأوائل، فيمكن أن تحدث عندما تطبق العدالة الانتقالية وتتقدّم، أي تتوفر إمكانية المصالحة، لا في المرحلة الأولى الحالية التي يمكن وضعها تحت خانة المحاسبة أولاً.

العربي الجديد

————————

جوستين أوجييه: “مئات السوريين والأوروبيين يعملون على ألا يستمر الإفلات من العقاب

ترجمة بدر الدين عرودكي

تواصل الكاتبة النضال ضد نسيان جرائم بشار الأسد مع كتابها “بضرب من معجزة“، صورة ياسين الحاج صالح، المثقف السوري المنفيّ في ألمانيا.

جوستين أوجييه

كان الكتاب السابق لجوستين أوجييه “عن الاضطرام De l’ardeur“ (آكت سود، 2017) صورةً للعالم العربي بما يطويه من الأفضل والأسوأ، عبر سورية والشخصية المضيئة للمحامية ولوجه الثورة السورية رزان زيتونة؛ أما كتابها الجديد (بضرب من معجزة) فهو صورة أوروبا، في كل ما يمكنها أن تطويه من الأسوأ والأفضل. يجري الحديث فيه خصوصًا عن ألمانيا، مكان لجوء مئات الآلاف من السوريين. بطل هذا العمل السوري الثاني هو ياسين الحاج صالح، مثقف منشق مرّ بسجون نظام الأسد. عبر نظرة هذا المنفيّ السياسيّ على أوروبا وعلى ألمانيا، التي يكتشفها، تتحدث جوستين أوجييه عنّا، وعن قيمنا، وعن تنازلاتنا.

بعد كتاب “عن الاضطرام”، هل كنتِ تفكرين أنك قادرة على الابتعاد من سورية والانتقال إلى شيء آخر؟

فكّرت بذلك قليلًا، وأدركت أن الأمر لم يكن ممكنًا. في أصل كتاب “عن الاضطرام” شعورٌ كان شديد القوة واستمر. شعور بالفضيحة في مواجهة سحق الثورة السورية وفي مواجهة اللامبالاة. لم أتعافَ من هذا السحق المزدوج. نحن اليوم بعد عشر سنوات من حدوث ذلك. بعد أن عرفت حجم الجرائم المقترفة، يبدو لي أن هذا النسيان وهذه الحصانة يقولان شيئًا ما عن حالة العالم.

هذه القصة تعنيني بوصفي فردًا، بوصفي أوروبية. حين علمتُ أن [المثقف المعارض لبشار الأسد] ياسين الحاج صالح، مع كل التاريخ الذي يحمله، كان قد استقرّ في برلين، في هذه المدينة ذات التاريخ الذي نعرفه، جسَّد َذلك هذا الشعور بكوني معنية. ولهذا السبب أيضًا أكتب. لكي أتذكر وأناضل ضد هذه المحاولات في السحق، في النسيان. النسيان هو إحدى كلمات عصرنا الكبيرة، ولكن مفهوم النتيجة، في النسيان، يتضرَّر، واللغة أيضًا تتضرَّر.

لماذا اللغة؟

حين تُلْفظُ الكلمات ولا تؤدّي إلى نتيجة، تفقد اللغة قدرتها على قول الواقع وعلى تغييره. ذلك شيء وعيته بفضل رزان زيتونة. بعد الهجمات الكيمياوية على الغوطة في عام 2013 التي كان الغربيون قد وضعوها بوصفها “خطًا أحمر“، كانت في المكان، وكانت توثّق، وتساعد في دفن الموتى في جوّ حافل بخوف رهيب. لكنها كانت تفعل ذلك وهي تؤمن بأن ثمة تدخلًا. لم يكن بوسعها أن تصدّق أنه إذا كانت هذه الكلمات قد لفظت، فلن يكون لها نتائج. وكان لا بدَّ لها من مرور أسابيع كي تفهم ذلك. في البداية، اعتبرتُ ذلك سذاجة ثم وجدتُ أنه شديد الجمال: ثمة هنا شيء ما من التذكير بما يجب.

ما هي خصوصية الدراما السورية؟ هل هي نهاية “لن يتكرر ذلك أبدًا” أم نهاية فكرة أنه، مع البراهين، لا يمكن للجرائم ضد الإنسانية أن تُقترف؟

دائمًا ما تكون الجرائم في ذاتها فريدة، وليس المقصود مقارنتها بمفردات الحدّة أو القسوة. خصوصية سورية تكمن في معرفة غير عادية بأن لدينا من هذه الجرائم. لقد قام السوريون بعمل توثيقي لا يصدق، لأن هذا النظام حرمهم من الذاكرة طوال العديد من السنوات. لم يكن من الممكن كتابة التاريخ، لأن النظام كان يريد أن يكون أبديًّا. آلاف مؤلفة من السوريين أنتجوا نصوصًا، وصورًا، وتسجيلات صوتية. كان هناك أيضًا صور قيصر [اسم المصور العسكري المكلف بتصوير الجثث الخارجة من مراكز التعذيب الذي نجح في مغادرة سورية مع عشرات آلاف الصور التي تبرهن على الإساءات التي اقترفها النظام]. يبدو لي من غير المعقول أن هذه الصور قد غمرت العالم، وأننا نفكر بشكل من أشكال التطبيع مع الأسد. ههنا إنما تقع خيانة العالم: فجأة، لم يعد لكل القيم التي زعمنا أن الاتحاد الأوروبي أسس عليها، مثلما لم يعد لشكلٍ ما من العالمية عند الخروج من الحرب العالمية الثانية، أي قيمة.

هل أثارت وفرة الصور ضربًا من التعب والقرف؟

هذه الطريقة شديدة المباشرة في إدراك الأحداث هي عرضُ من أعراض العصر. صور تطرد صورًا أخرى، وكلمات تطرد كلمات أخرى. نحن تمامًا في العاطفية المحضة، الذهول. لكن الذهول لا يفيد شيئًا، ولا يسهم في إعداد جواب أخلاقي وسياسي. سوى أن هذه الصور هي القاعدة التي تعتمد عليها كل محاولات العدالة في أوروبا بناء على مبدأ الاختصاص العالمي. مئات الأشخاص السوريين والأوروبيين يعملون على ألا يستمر الإفلات من العقاب. هذا قليل جدًا، وهذا هائل.

هل محاولات العدالة هذه هي شكل من التصحيح؟

العدالة هي دومًا أمرٌ نتابعه، إنها لا تكفي أبدًا للتصحيح. حين نرى في محكمة كوبلنز [ريناني ــ بلاتينا، ألمانيا] سوريين يشهدون أمام أنور رسلان، الذي كان يدير مركزًا للتعذيب والمتهم بالعنف الجنسي وبالقتل، فهذا اعتراف بما لم يكن يجب حصوله. لكن العدالة لا تتعلق بالماضي وحسب، إنها تتناول فكرة ما عن المستقبل.

ما الذي ينتجه هذا اللقاء بين هؤلاء المنفيين السوريين وألمانيا؟

هناك صعود اليمين المتطرف في أوروبا، وخصوصًا في ألمانيا، الذي عرف انتقالات إلى العنف مكررة وشديدة الأهمية، لكن ثمة أيضًا أشياء في طريقها إلى أن تبتكر ذاتها، وكان لدي رغبة في الاهتمام بها. خصوصًا وجود مئات الألوف من السوريين، الذين ثاروا وأرادوا ابتكار طريقة جديدة في الحكم، اليوم هنا، في وسط أوروبا. إنهم يحملون إيمانًا بإمكانات مختلفة، مخيلة كاملة لم نعد نمتلكها.

هل يُحيي هؤلاء اللاجئون المثل الأعلى الثوري في أوروبا التي تبدو في طريق مسدود؟

الثورة هي قبل كلّ شيء أمرٌ شديد الحميمية. حين ننزل إلى الشارع، حين نسمع صوتها للمرة الأولى، لا نفقد هذه القوة، حتى بعد عشر سنوات، وإنْ أعدنا صنع حياتنا في أمكنة أخرى. وإلى هذا إنما كنت أرغب في العودة. إنه درسٌ عميق لنا، نحن الذين نعيش في واقع مسحوق. إنها قوة إلهام في أوروبانا المنغلقة ضمن حدودها وفي طريقتها في فهم العالم والهويات.

على أي مثقف أوروبي اليوم، وإنْ لم تكن سورية في قلب اهتماماته، أن يفكر بطريقة جديدة في سكن العالم، بألا يستسلم للانغلاق بفعل انطباع عن واقع محاصر. وهذا يمرّ، بالضرورة، عبر الانتباه إلى آلام الآخر، وإلى رفض هذه الفضيحة الهائلة التي هي احتقار بعض الحيوات.

تُقيمين مقارنة بين ياسين الحاج صالح (الشخصية الرئيسة في كتابك) والفيلسوفة حنة آرنت [1906ـ1975]. لماذا؟

بالنسبة إليه، يوجد في الطريقة التي يستحوذ بها اللاجئون على العالم، بمساعدة أرخبيل أصحاب الضمير، بوادر إعادة ابتكار السياسة. هذا شيء أؤمن به كثيرًا: وجهة نظر اللاجئ أساس، والعالم يحتاج إليها. حين جاء ياسين الحاج صالح إلى برلين، بحث عن أدوات من أجل أن يفهم على نحو أفضل المأساة السورية، والتقى فكر حنا آرنت التي صارت بطلته. قرأها كما لو أن فكرها كان موجَّهًا إليه. إنهما يشتركان في القدرة على متابعة محادثة في حدِّ ذاتها، وهي ضامنة سلوك أخلاقي، وفي مسألة النظر إلى الفعل السياسي في كل نبله.

خلال أعوامه الستة عشر التي قضاها في السجن، تخلص ياسين الحاج صالح مما تنطوي عليه الأيديولوجية من انغلاق ورفض المفاجأة. إنه شخص بنى نفسه بنفسه مع قراءاته. لديه طريقة في التفكير شديدة الفرادة، حرّة للغاية. إنه لا ينتمي إلى أي ضفة، وسيعثر على حنه آرنت هناك. كان خلال زمن طويل يحذر من مفهوم العالمية، لأنه كان يبدو له معتمدًا من الإمبريالية. لكنه اليوم يرى أن ثمة عالمية تنتظر بناءها من حول قيم أساس أدرك أهميتها في كيانه الحي. 

نقد

على مقربة من إنسان ومن ألمه

إنها تتمة منطقية وطبيعية. كانت أول حكاية كتبتها حوستين أوجييه، عن الاضطرام تعمل على إعادة إحياء شخصية رزان زيتونة، وجه الثورة السورية، التي كان النظام يلاحقها، واختطفتها أخيرًا جماعة متمردة سلفية في المنطقة “المحررة” التي كانت قد وجدت فيها ملجأ لها. أما الحكاية الثانية، بضرب من معجزة، فهي تقصُّ نتائج سحق هذه الثورة: منفى الضحايا، وإفلات القتلة من العقاب، والبحث عن العدالة ومتابعة الثورة خارج الأسوار.

إنه ياسين الحاج صالح الذي يقيم الرابطة بين الاثنتين. هذا المثقف العصامي، الشيوعي السابق الذي قضى ستة عشر عامًا في سجون النظام قبل ثورة 2011، هو زوج سميرة الخليل، المناضلة من أجل حقوق الإنسان. سوى أن هذه الأخيرة كانت قد اختطفت في الوقت نفسه الذي اختطفت فيه رزان زيتونة مع رفيقيهما الآخريْن سيئي الحظ. لم يعثر على أي واحد من “رباعي الغوطة”، المكان الذي اختفوا فيه في ضواحي دمشق، حتى بعد استعادة هذه المنطقة من قبل النظام في نيسان/ أبريل 2018.

يقف بضرب من معجزة على مقربة من هذا الإنسان ومن ألمه. لكنه ألمٌ خصب يبحث، عبر اتصاله بأوروبا وتاريخها، عن طريق عالمية جديدة. يكتشف ياسين الحاج صالح، وقد صار لاجئًا في برلين، فكر حنه آرنت في الوقت الذي يعمل فيه سوريون آخرون، لاجئون مثله، عن وسائل ملاحقة سجّانيهم السابقين قضائيًّا. وعبرهم، إنما تتكلم جوستين أوجييه عنا وعن تخلّينا وعن نسياننا.

عنوان المادة: Justine Augier :Des centaines de Syriens et d’Européens travaillent à ce que l’impunité ne perdure pas »

الكاتب، أجرى اللقاء: كريستوف عياد Christophe Ayad

المترجم: بدرالدين عرودكي

مكان وتاريخ النشر:le 23/01/2021 Le Monde,

رابط المقال: http://bit.ly/3aUwgA9

مركز حرمون

——————————

======================

تحديث 06 اذار 2021

————————

محكمة ألمانية في غير سكّة العدالة السورية/ أحمد جبر

كان وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، كغيره، ينتظر لحظة نطق الحكم من محكمة كوبلنز في بلاده ضد السوري إياد الغريب، ليسارع مباشرة لوصف القرار بالتاريخي. وعلى الرغم من أن الوزير نفسه، في البيان الذي نشره عبر “تويتر”، قال إن القرار يضمن بعض العدالة، ويحمل معنى رمزيا رفيعا لناسٍ كثيرين، إلا أن معظم القنوات الإخبارية والصحف السياسية العالمية والعربية تلقفت وصفه (الوزير ماس)، لتعنون أخبارها ذات الصلة بالوصف نفسه، لا بل إن مواقع إلكترونية لم تكتف بالوصف التاريخي، لتذهب إلى أبعد من ذلك، وتضيف أنه حكم “إدانة بحق النظام السوري كله”.

ليس هناك ما يبرّر كل هذا التهويل الإعلامي الذي رافق جلسات القضية، والذي وصل إلى ذروته مع قرار الإدانة بحق إياد الغريب. والواضح أن معظم من هللوا للحكم كانوا يجهلون الرجل، وليس لديهم معلومات عنه. لا بل وحتى وبعد يومين من إصدار الحكم، لم يكن من اليسير على أحد العثور على أي معلومات في محرّكات البحث على الإنترنت، تخص إياد الغريب. وهو صف ضابط (مساعد) متطوّع في المخابرات السورية منذ عام 1996، حيث بدأ مدربا للرياضة في مركز نجهة للتدريب البدني، التابع لإدارة المخابرات العامة حتى عام 2010، ثم انشق عن فرع الأمن الداخلي 251، وهذا أحد الأفرع الأمنية السورية التابعة لإدارة المخابرات العامة في سورية. وكان من أوائل المنشقّين عن أجهزة النظام الأمنية (نهاية عام 2011 ومعلن عنه في الشهر الأول من 2012)، بعد قيام الثورة السورية، وانطلاق الاحتجاجات المناهضة لنظام الأسد، والتي طالبت عناصر الجيش والأمن بالانشقاق عن النظام.

حكمت المحكمة الألمانية، في 24 من الشهر الماضي (فبراير/ شباط) أنّ الغريب ساعد في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، استنادا إلى قانون الجرائم ضد القانونين، الدولي والجنائي الألماني، وبذلك حكمت المحكمة عليه بالسجن أربع سنوات ونصف السنة. وهو حكم اعتبر تاريخيا، كونه الأول الذي يصدر استناداً إلى مبدأ الولاية القضائية العالمية، المعتمد في ألمانيا منذ عام 2002، والذي يتيح للادّعاء العام الألماني تحريك الدعوى ضد من يشتبه بارتكابه جرائم حرب، أو جرائم ضد الإنسانية، من دون الحاجة لأن تكون الجريمة قد وقعت على الأراضي الألمانية، أو أن يكون الجاني أو المجني عليه ألمانيا. إلا أن المجموعات المدافعة عن المحكمة ونزاهتها استهجنت تراخيها بالحكم على إياد الغريب، فصار من الرائج سماع بعض التهكمات، من قبيل “لو أن شخصا سرق دجاجتين لحكم بمدة أطول” وغيرها كثير. وكأننا أمام مشهد هوليودي، يصوّر تعذيب أحد المارقين على الملأ، وسط مطالب الحاضرين بمزيد من التعذيب والعنف، في حالة من الهياج الهستيري غير المفهوم، فيبدون كطغمة هائجة ومتوحشة. وهنالك من يحاجِج بأهمية المحكمة، كونها المرة الأولى التي يحكم فيها بإدانة مسؤول في النظام السوري بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، بسبب انتهاكات ارتُكبت خلال الثورة السورية. ويتجاهل هؤلاء حقيقتين جليتين: الأولى أن إياد الغريب لم يكن مسؤولا، وانما صف ضابط (مساعد) كما ذكر سابقاً. والثانية أنه منشق عن النظام ولم يعد جزءا منه. ولذلك كان الأحرى لسلامة التوصيف القول إنها “المرّة الأولى التي يُحكم فيها بإدانة منشقين عن النظام السوري”.

وفي مقابل الضجّة الإعلامية، تنادت أصواتٌ، وجلها من ناشطي الثورة، تحاول إنصاف إياد الغريب، وتستهجن حكم الإدانة بحقه، ومنهم عضو الهيئة السياسية السابق في الائتلاف عن كتلة الحراك الثوري في دير الزور، أكرم العساف، متحدّثاً لـ”زمان الوصل” عن بعض ما قدّمه الغريب لخدمة الثورة، قبل انشقاقه وبعده “عندما اندلعت الثورة السورية، لم يتأخر إياد عن تأييدها، وساعد بتسريب معلومات لأشخاص كان الفرع 40 ينوي اعتقالهم”.

وبالنسبة للحكم المعتمد على قانون الجرائم ضد القانونين، الدولي والجنائي الألماني، بحسب توصيف المحكمة، كان مستغربا أن هيئة المحكمة التي أثبتت اهتمامها بأدق التفاصيل، خلال عملية المحاكمة، تجاهلت تماما الاستفسار عن القانون السوري والإحاطة به. ومن المستغرب أكثر تجاهل محامي الدفاع عن الرجل إثارة هذه النقطة، بعد أن غفلت عنها هيئة المحكمة، حيث إن براءته موجودة بين سطور هذا القانون القائم على الترهيب والإكراه. فتنص الفقرة د من المادة 112 من قانون العقوبات العسكري السوري: “إذا وقع التمنّع أثناء مجابهة العدو أو المتمرّدين تكون العقوبة الاعتقال المؤقت لمدة لا تنقص عن العشر سنوات. وإذا نجم عن التمنع ضرر جسيم تكون العقوبة الإعدام. وإذا كان الفاعل ضابطاً ومنح الأسباب المخففة فيقضى عليه فوق ذلك بعقوبة الطرد”. وتنص الفقرة هاء من المادة نفسها: “يعاقب بالإعدام كل عسكري أبى إطاعة الأمر بالهجوم على العدو أو المتمرّدين”. وللتوضيح، يوجب التذكير أن النظام السوري اعتبر كل المشاركين في الثورة السورية متمرّدين وإرهابيين، لا بل إن رأس النظام بشار الأسد ذهب إلى أبعد من ذلك، حين ضمن الإرهاب للحاضنة الشعبية للثورة.

ويوضح نص القانون هذا، بما لا يدع مجالا للشك، أن إياد الغريب، وبمناسبة ممارسة عمله كان مهددا، وبحكم القانون؛ بالإعدام في حال رفض تنفيذ الأوامر الموجهة إليه، ما يعني أن الرجل كان تحت إكراه معنوي مهدّد للحياة، ما يعد من أسباب موانع المسؤولية الجنائية. وهذا ما يتطابق مع نص المادة 33 فقرة 1 الحالة أ من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية “في حالة ارتكاب أي شخص جريمة من الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة، لا يعفى الشخص من المسؤولية الجنائية، إذا كان ارتكابه تلك الجريمة قد تم امتثالا لأمر حكومة أو رئيس، عسكريا كان أو مدنيا، عدا في الحالات التالية: (أ) إذا كان على الشخص التزام قانوني بإطاعة أوامر الحكومة أو الرئيس المعني”.

ولا يخفى على أحد أن أدوات النظام كانت تقوم بتصفية مباشرة للعناصر والعسكريين الذين يرفضون تنفيذ الأوامر، من دون الحاجة حتى لإخضاعهم إلى محكمة عسكرية تنطق بحكم الإعدام بحقهم. وفي هذا السياق، تنص المادة 31 فقرة 1 جزء د من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية “إذا كان السلوك المدّعى أنه يشكل جريمة تدخل في اختصاص المحكمة قد حدث تحت تأثير إكراهٍ ناتج عن تهديد بالموت الوشيك، أو بحدوث ضرر بدني جسيم مستمر أو وشيك ضد ذلك الشخص أو شخص آخر، وتصرّف الشخص تصرفا لازما ومعقولا لتجنب هذا التهديد، شريطة ألا يقصد الشخص أن يتسبّب في ضرر أكبر من الضرر المراد تجنبه. ويكون ذلك التهديد: صادرا عن أشخاص آخرين؛ أو تشكّل بفعل ظروف أخرى خارجة عن إرادة ذلك الشخص”.

كانت نصوص القانون السوري، إضافة إلى واقع الحال الذي يمكن إثباته بالشهادة والخبرة، كفيلة بثبوت الإكراه المعنوي المهدد للحياة. كما أن انشقاق إياد الغريب مبكّرا، وتعدّد الشهادات حول المخاطرة بتقديم المساعدة (كتحذير المطلوبين أمنياً) منذ بداية الثورة حتى انشقاقه، يعد القرائن القانونية لغياب أي نيةٍ جرميةٍ لديه، وعدم قبوله ممارسات النظام كاملة.

وخلال جميع جلسات المحكمة الممتدة عشرة أشهر لم يتقدّم أي شخص بادّعاء شخصي بحق إياد الغريب، وهذا ما أكدته المحكمة التي أقرّت أن حكم الإدانة كان مبنيا على شهادة إياد نفسه، شهادة قدّمها طواعية بمحاولة منه إدانة النظام السوري.

ربما نختلف حول تسمية ما يجري في كوبلنز الألمانية. ولكن المؤكّد أن ما يجري لا يمكن اعتباره بأي شكل محاكمة بحق رموز النظام السوري. ومؤكّد أيضا أنه لا يوجد أي نية دولية لمحاسبة النظام السوري على جرائمه التي وثّقت محكمة كوبلنز بعضها، وسبقها في ذلك صور قيصر الشهيرة، والأهم تقرير لجنة التحقيق في استخدام الأسلحة الكيميائية في سورية.

خلاصة الحديث، لا يمكن اعتبار محاكمة كوبلنز جزءا من مسار العدالة الانتقالية، وربما قطار العدالة المنطلق فيما يخص النظام السوري وجرائمه قد سار على غير سكّته، فالعدالة الانتقالية لا يمكن أن تبدأ إلا بعد سقوط النظام. ومحكمة كوبلنز أقرب إلى ما يمكن تسميتها العدالة الانتقائية المشكوك بعدالتها تجاه الوضع والشعب السوري تحديدا، لجهلها بالظرف والوضع السوري، الذي يتحمل مسؤوليته الطرفان، المدّعي والمدافع عن إياد، إضافة إلى هيئة المحكمة. ببساطة القول هي محاكمة بحق المنشقين عن النظام السوري، وإدانة لهم في المحاكم الأوروبية، حيث تبدو كأنها مساعدة ربما بلا قصد للنظام الذي يطمح إلى الانتقام من عناصره وضباطه المنشقين الذين شكلوا العمود الفقري للجيش السوري الحر.

———————

جدل العدالة الانتقالية في سوريا/ رضوان زيادة

جدل كبير بين الباحثين حول تاريخ مفهوم العدالة الانتقالية، بيد أن الربط بين ضمان تحقيق إجراءات تتعلق بالعدالة خلال فترات الانتقال السياسي يعد الأصل التاريخي الذي يعود له المفهوم في تطبيقاته التاريخية المختلفة. لقد جرت صياغة هذا المصطلح في وقت مبكر من تسعينيات القرن الماضي عندما أصبح علماء السياسة وحقوق الإنسان والعدالة يهتمون بشكل متزايد في كيفية انتقال دول الموجة الثالثة للديمقراطية في تصالح مع ماضيها السلطوي.

حدوث التحول السياسي بعد فترة من العنف أو الحرب الأهلية التي يمر بها مجتمع من المجتمعات. تجد الحكومة الانتقالية والمجتمع المدني والمحلي أنه أمام تركة صعبة من انتهاكات حقوق الإنسان، ولذلك تسعى الدولة إلى التعامل مع جرائم الماضي رغبة منها في تعزيز العدالة والسلام والمصالحة، ويفكر المسؤولون الحكوميون وناشطو المنظمات غير الحكومية في انتهاج مختلف السبل القضائية وغير القضائية للتصدي لجرائم حقوق الإنسان الواسعة الانتشار.

بعدئذ يتشكل المفهوم من خلال عدد من المصطلحات التي تدخل ضمنه من مثل إعادة البناء الاجتماعي، والمصالحة الوطنية، وتأسيس لجان الحقيقة، والتعويض للضحايا، وإصلاح مؤسسات الدولة العامة التي غالبًا ما ترتبط بها الشبهات أثناء النزاعات الأهلية الداخلية المسلحة مثل الشرطة وقوى الأمن والجيش.

روتي تيتيل أول من اشتق المفهوم وبدأ بالكتابة عنه، وبالنسبة لها مر مفهوم العدالة الانتقالية بثلاث مراحل، المرحلة الأولى تركز بشكل كبير على العقاب الجنائي أو القصاص. حيث تستند العدالة على القناعة القائمة على أنه يجب على مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان أن يعاقبوا في المحاكم أو على الأقل الاعتراف علنا بجرائمهم ومن ثم طلب الصفح أو السماح، أما المرحلة الثانية فقد ترافقت مع الموجة الثالثة للديمقراطية حيث تم التخلي عن العدالة الجزائية إلى حد كبير لصالح العدالة التصالحية. فبدلا من التركيز على معاقبة المجرم أصبح التشديد يقوم على المصالحة واستعادة العلاقات بين الضحايا والجناة.

المرحلة الثالثة فبدأت في منتصف التسعينات وتميزت من خلال “توسيع تطبيق العدالة الانتقالية” خاصة مع التحولات التي شهدها العالم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي حيث بدأ التفكير كيف يمكن التعامل مع إرث الانقلابات العسكرية، والحروب الأهلية، والإبادة الجماعية، والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وتميزت المرحلة الثالثة ببعدها الدولي حيث أسست المحاكم الدولية والهجينة والأجنبية.

مرت كثير من المجتمعات بما مرت به سوريا من قبل في فترة الثمانينات وما تمر به اليوم، لاسيما في أفريقيا وأميركا اللاتينية، لكنها استطاعت فيما بعد أن تخرج من تلك الفترة السوداء في تاريخها عبر فتح صفحة جديدة قائمة على الحقيقة والمحاسبة والعدالة ومن ثم المصالحة، وهو ما يطلق عليه “العدالة الانتقالية”. فالعدالة الانتقالية تشير إلى حقلٍ من النشاط أو التحقيق يركز على المجتمعات التي تمتلك إرثاً كبيراً من انتهاكات حقوق الإنسان والإبادة الجماعية أو أشكال أخرى من الانتهاكات تشمل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية أو الحرب الأهلية، وذلك من أجل بناء مجتمع أكثر ديمقراطية لمستقبل آمن.

إن تطبيق ثقافة المساءلة مكان ثقافة الإفلات من العقاب التي سمحت بارتكاب الانتهاكات، يعطي إحساساً بالأمان للضحايا ويوجه تحذيراً لمن يفكرون في ارتكاب انتهاكات في المستقبل. كما أنه يعطي قدراً من الإنصاف لمعاناة الضحايا، ويساعد على كبح الميل إلى ممارسة العدالة الأهلية أو القصاص (أي أن يقتص الناس لأنفسهم بأنفسهم)، كما أنه يتيح فرصة مهمة لتوطيد مصداقية النظام القضائي الذي أصابه الفساد والدمار، أو الذي لم يكن يعمل على نحو سليم فيما مضى.

إن إطلاق عملية العدالة الانتقالية في سوريا من أصعب وأعقد الأمور التي ستواجه المجتمع السوري بعد انتهاء الحرب، إذ لا يمكن لأحد أن يتحدث باسم الضحايا أو ينطق باسمهم، وقضية تحقيق العدالة بالنسبة لكثير من أسر الضحايا لا تسامح معها ولا التفاف أو تهاون فيها، وإذا أُخذ بعين الاعتبار الانهيار الكامل لمؤسسات الدولة السورية كمؤسسات ذات مصداقية لدى العديد من المواطنين السوريين يتضح حجم الأذى الفادح الذي لحق على سبيل المثال بجهاز كالجهاز القضائي وبدوره في الحياة العامة في سوريا، وعليه فلن يكون النظام القضائي معداً أو مهيأً أو حتى قادراً على إطلاق عملية المحاسبة الضرورية التي ينشدها أهالي الضحايا.

تلفزيون سوريا

————————–

تضحيات المنشقين و”العدالة الانتقالية”/ العقيد عبد الجبار عكيدي

عدالة انتقالية، انتقائية، انتقامية مصطلحات دارت حولها حوارات ساخنة على كافة وسائل التواصل الاجتماعي بين من يُفترض أنهم في خندق واحد في مجابهة منظومة الإجرام الأسدية وصلت إلى حد التشكيك بنوايا القائمين على المراكز الحقوقية التي تتابع محاكمة العقيد أنور رسلان والمساعد إياد غريب المنشقين عن إدارة المخابرات العامة ( أمن الدولة)، وَكَيلِ وابل من الاتهامات الغاضبة بعد صدور أول حكم من محكمة كوبلنز الألمانية.

كان من الطبيعي أن يتفاقم هذا الغضب مع انتشار صور للناطق الرسمي باسم جيش الإسلام (مجدي نعمة) المعتقل في فرنسا منذ أكثر من عام وقد تعرض للتعذيب الجسدي على يد الشرطة الفرنسية، حتى ظننا للوهلة الأولى أنه في زنازين النظام، وذهب البعض إلى أبعد من ذلك باعتبار هذه المحاكمة هي إحدى السهام التي انطلقت من جعبة الثورة المضادة.

قبل الحديث عن ردة فعل المنشقين، ضباط وضباط صف وأفراد وكيف استقبلوا قرار الحكم الصادر بحق المساعد المنشق إياد غريب، لا بد أولاً من توضيح مخاطر عملية الانشقاق بحد ذاتها، وما يرافقها من مخاطر جسيمة على المنشق وأفراد عائلته وجميع أقاربه.

المنشق الذي تجرأ على هذه المخاطرة ووضع نصب عينيه الموت أو الاعتقال والتنكيل بجميع أفراد أسرته، ويعلم تماماً أنه سيحكم عليه بالإعدام، وتُصادر جميع أملاكه، لم يخطر على باله أبداً أنه سيوضع في قفص الاتهام كما هو حال رسلان والغريب.

أضاع مستقبله ومستقبل أولاده وزهد في المنصب والجاه والبيوت والسيارات، وألقى برتبته العسكرية التي شقي طول عمره للوصول إليها، تاركاً خلفه شقاء عمره ومستقبل أولاده، مفضلاً الاصطفاف مع شعبه وأهله، وثورة لطالما حلم بقيامها للتخلص من نظام دكتاتوري، أكثر من عانوا من طائفيته هم الضباط الوطنيون الأحرار.

كلمة الانشقاق تتردد على الألسن دون معرفة مراحلها المحفوفة بالموت من كل جانب بالنسبة للمنشق، وزوجته وأولاده ذاهبين إلى المجهول، متنقلين من بلدة إلى بلدة، متخفين بمساعدة الأهالي الطيبين خشية أن يتعرف إليهم أحد..

ينام المنشق بعين مغمضة والأخرى مفتوحة خوفاً على عائلته وأطفاله، متنقلاً من بيت إلى آخر والأمن والجيش يمشطان المناطق بحثاً عن الناشطين والثوار والمنشقين، إلى حين تأمين وصولهم إلى حدود إحدى دول الجوار متخطين رحلة موت لا شبيه لها.

المؤلم أكثر هو حال المنسيين الذين لا يذكرهم أحد، ولا حتى المنظمات والجمعيات التي تطالب بالإفراج عن المعتقلين والمغيبين قسرياً، هم الضباط المعتقلون بتهم محاولة الانشقاق أو رفض الأوامر بإطلاق النار على المدنيين، والذين يزيد عددهم على ألفي ضابط، بالإضافة إلى آلاف من صف الضباط والمجندين، استشهد كثير منهم تحت التعذيب، وآخرون كثر تم إطلاق النار عليهم من الخلف لأنهم رفضوا أو ترددوا في إطلاق النار على أهلهم، ومعتقلات النظام مليئة بكثير من أهالي المنشقين، منهم على سبيل المثال لا الحصر أشقاء البطل الذي كان أول من سن سنة الانشقاق بين الضباط، المقدم حسين الهرموش، وما زالوا جميعاً مجهولي المصير، ومثلهم الآلاف.

مما لا يعرفه البعض أن كثيرا من المنشقين، ودون أن يعلم بهم أحد قدموا خدمات ومساعدات للثورة والثوار وهم على رأس عملهم أكبر بكثير من مرحلة ما بعد انشقاقهم، ولمن لا يعلم فإن فصائل الجيش الحر لولا التنسيق والتعاون مع الشرفاء من الضباط والعناصر داخل القطعات العسكرية لما استطاعت تحرير أي منها، فعملية الانشقاق هي سلوك وموقف سابق يبدأ عند صاحبه منذ أول صرخة حرية في درعا وينتهي بعملية الانشقاق، ومن غير المعقول أن تجد جلاداً أو ظالما ويستفيق فجأة وينشق.

التساؤلات كثيرة عند المنشقين، فلماذا، مثلاً وبعد عشر سنوات ووجود آلاف الشبيحة والعناصر والقادة من تنظيم بي كي كي المصنف على لوائح الإرهاب في دول أوروبا، وبموجب الولاية القضائية العالمية التي تعتمدها العديد من هذه الدول في قوانينها الوطنية، مثل ألمانيا وهولندا والسويد وفرنسا، لم نسمع أنه تم فتح ملفات بحق هؤلاء، رغم تقديم  كثير من اللاجئين السوريين في هذه الدول والمنظمات الحقوقية السورية المعلومات والأدلة على تورطهم بارتكاب انتهاكات وجرائم مخالفة للقانون الدولي .

بالمقابل تحولت قضية إياد غريب وأنور رسلان إلى قضية رأي عام، وبعد صدور الحكم بحق إياد نظر المنشقون بعين الشك والريبة اتجاه هذا الحكم الذي رأوا فيه توجهاً انتقامياً في تطبيق العدالة، وينقل رسالة سلبية للمنشقين عن النظام بأنهم جميعاً قد يتعرضون لمثل ما تعرض له إياد، ما زاد من شكوكهم ومخاوفهم من تسييس مسارات العدالة لتكون ذريعة لتعرضهم في المستقبل للمساءلة والمحاسبة بسبب وقوفهم إلى جانب الثورة.

نقول هذا الكلام ونحن نعلم أن هناك آراء لمنظمات حقوقية ناشطة في هذا المجال تحاول ترويج الحكم الصادر بحق إياد على أنه انتصار لمنطق العدالة، مع العلم أن الحقائق تقول خلاف ذلك، فما زالت غالبية ضحايا النظام السوري، وهم بالملايين يرون أن المتسبب الرئيسي في مأساتهم ما زال حراً طليقاً ومستمراً بارتكاب جرائمه، محمياً من أن تطوله المحاسبة، وبالتالي فالحكم الذي صدر على إياد غريب إذا لم تتبعه محاكمات بحق الشبيحة ومجرمي النظام فسيزيد من علامات الاستفهام حول مغزى ودلالات هذه القضية.

أيضاً، وعلى عكس ما يروج، فإن الخطوات التي تتم ليس لها علاقة بمفهوم العدالة الانتقالية، فهذا مسار يحتاج الى تطبيق القرارات الدولية المتعلقة بهيئة الحكم الانتقالي بعد التوافق على تشكيل هيئة تنفيذية كاملة الصلاحيات يكون أحد اختصاصاتها تطبيق مسار العدالة الانتقالية، وبما أن أفق الحل السياسي ما زال مسدوداً فهذا يعني أننا لا يمكن أن نرفع سقف التوقعات بأن يكون تطبيق الدول الأوربية لنظام الولاية القضائية الدولية هو ما سيؤدي الى تحقيق العدالة في سوريا، فقد تعلمنا من تجاربنا المريرة أن لغة المصالح السياسية ما زالت تعلو على قيم العدالة، وكبار القضاة والفقهاء في مجال القانون الدولي الجنائي والقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان في دول متحضرة مثل أميركا وأوربا، لا ينكرون وجود تأثير كبير للمصالح السياسية للدول على مسارات العدالة.

أيضاً كثيرون يرون أنه بعد انسداد أفق الحل السياسي وتعنت النظام، لم يبق أمام الدول التي وقفت موقف المتفرج على أكبر الجرائم في التاريخ ترتكب بحق شعب طالب بالحرية والديمقراطية، لم يبق أمامها لحفظ ماء وجهها سوى تسييس بعض القضايا الصغيرة وإيهام الناس أنه من خلال ملف المحاكمات الانتقائية سيسقط الأسد.

لذلك فإن من المهم التذكير أن العدالة التي يسعى إليها السوريون هي التي تتحقق ضمن إطار مسار وطني شامل ومحاكمة كل من ارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية عبر محاكم وطنية وفقا لمعايير دولية، علماً أنني شخصياً وكثيرين من زملائي المنشقين لسنا ضد تطبيق العدالة مستقبلاً، ولكن أن تكون بمعايير واحدة وبوقت وظروف ومكان واحد، وتشمل كل من كان موجوداً منذ بداية الثورة في مؤسسات الدولة السورية، لا أن تكون عدالة منقوصة وانتقائية تخضع لأهواء وسياسات كل دولة وكل جهة، فالعدالة والحقوق لا تتجزأ، والثورة التي قامت ضد الظلم والاستبداد لا تحتمل نظرة معيارية للعدالة.

تلفزيون سوريا

———————–

محاكمة مجرمي الحرب السوريين: رواية كبش الفداء والمنفذ الصغير/ عماد كركص

رفع دعوى جديدة في فرنسا تتعلق باستخدام الأسلحة الكيميائية

قتيبة ياسين: نحو 280 مشتبهاً بارتكاب جرائم وصلوا إلى أوروبا

العبد الله: الحكم بحق إياد غريب أقسى مما يجب

أثبت قرار محكمة كوبلنز الإقليمية العليا غرب ألمانيا، أخيراً، بإدانة ضابط صف منشق عن أحد الأجهزة الأمنية للنظام السوري والحكم عليه بالسجن لأربعة أعوام ونصف العام، وجود إمكانية لمحاسبة مسؤولي نظام بشار الأسد على الجرائم التي ارتكبوها بحق الشعب منذ اندلاع الاحتجاجات ضده مطلع عام 2011 وحتى اليوم. لكن هذا القرار لم يخلُ من جدل حوله، خصوصاً أن المحكوم، ويدعى إياد غريب، انشق عن النظام في الأشهر الأولى للثورة.

ورحّب جزء كبير من السوريين والمنظمات الدولية والسورية وحكومات الدول المعنية في الشأن السوري بالقرار باعتباره نقطة مضيئة على طريق محاسبة مجرمي الحرب، غير أن أصواتاً أخرى ارتفعت في المقابل متحفظة على قرار المحكمة القاضي بتجريم المدعى عليه، المساعد أول إياد غريب، لا سيما بسبب انشقاقه في الأشهر الأولى من الثورة. حتى إن البعض ذهب للإشارة إلى أن غريب استُخدم كـ”كبش” فداء صغير، فيما ذهب آخرون مطلعون على هذا الملف إلى شرح كيف أن غريب هو من اعترف بشأن دوره في اعتقال عدد من السوريين وقدّم أدلة ضد نفسه، فضلاً عن الدعوة للتفريق بين آليات عمل القضاء الألماني والقضاء الخاضع للنظام السوري.

ويتشارك المحاكمة مع غريب، الذي كان يخدم في “فرع الخطيب – فرع أمن الدولة 251” ومقره دمشق، قبل انشقاقه في النصف الثاني من عام 2011، الضابط أنور رسلان، الذي كان رئيس قسم التحقيق في الفرع المذكور، وانشق عن النظام. وفي حين صدر قرار الإدانة بحق غريب، فإن رسلان الذي انشق عن النظام في سبتمبر/ أيلول من عام 2012، ينتظر مزيداً من جلسات المحاكمة لإصدار الحكم عليه، وفي وقت متوقع نهاية العام الحالي. مع العلم أنه  بالتزامن مع إلقاء القبض على غريب ورسلان، جرى وبأمر من الادعاء العام الفرنسي توقيف العنصر في فرع الخطيب عبد الحميد شعبان، لكن تم إطلاق سراحه ووضعه تحت الإشراف القضائي قبل نحو عام  لعدم وجود شاهد قادر على الإدلاء بشهادة تؤكد ارتكابه للجرائم المتهم بها وفي مقدمتها ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. كذلك رد القضاء الفرنسي قبل أيام دعوى بحق ضابط منشق يدعى سامي الكردي بعد أن كان التحقيق بشأن ارتكابه “جرائم ضد الإنسانية وتعذيب وجرائم حرب” قد فتح بحقه منذ عام 2017.

ترحيب وانتقادات

ورحّب كل من “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” الذي يديره الناشط مازن درويش، و”المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية” الذي يديره الحقوقي أنور البني، وهما منظمتان شاركتا في تحريك الدعوى ضد غريب ورسلان عن طريق “المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان”، بقرار المحكمة بحق غريب باعتباره “قراراً تاريخياً ونقطة مضيئة في تاريخ القضاء الألماني وتاريخ العدالة العالمية”. في المقابل، وجّه نشطاء سوريون ورواد وسائل التواصل، وحتى مسؤولون في منظمات سورية مدنية وحقوقية، أصابع النقد تجاه المنظمتين، اللتين شاركتا في إحضار الشهود للمحكمة ضد المتهمين والتنسيق مع “المركز الأوروبي للحقوق الدستورية”، بهذا الشأن، بالإضافة إلى تقديم شهادة شخصية من قبل الناشط مازن درويش ضد أحد المتهمين.

وتتركز الانتقادات على اتهام المنظمتين بالانتقائية، باعتبار أن المتهمين من أوائل المنشقين الذين اختاروا الابتعاد عن المنظومة الأمنية لنظام بشار الأسد منذ العام الأول للثورة، فيما لا يزال الكثير من المشتبه في ارتكابهم جرائم ضد الإنسانية خارج إطار المحاسبة والملاحقة، حتى بعد وصولهم إلى أوروبا في الأعوام الأخيرة، ولا يزالون يعلنون تأييدهم للنظام. كذلك أشار بعض مسؤولي المنظمات الحقوقية إلى أن المتهمين ليسا بذات الحجم والخطر والإجرام مقارنة مع باقي أركان السلطة في دوائر النظام المختلفة، وتحديداً إياد غريب، الذي اعتبر عدد ممن تحدث إليهم “العربي الجديد” أنه كان ضحية لعدم فهمه بالقوانين في ألمانيا.

من وجهة نظر الصحافي ياسر علاوي، وهو ابن مدينة موحسن في ريف دير الزور التي ينحدر منها المدان إياد غريب، فإن الأخير يعد بريئاً من التهم المنسوبة إليه، مشيراً في حديث مع “العربي الجديد” إلى أن “إياد غريب لم يكن من ضمن السجانين أو المحققين في الفرع الذي يخدم فيه، بل كانت مهامه تقتصر على الدوريات خارج الفرع”. وأكد أن “غريب انشق عن النظام في النصف الثاني من عام 2011، أي في وقت مبكرة من عمر الثورة، وقصد مدينته موحسن وشارك في التظاهرات ضد النظام، ومن ثم انتسب إلى صفوف الجيش الحر لحماية هذه التظاهرات”. وأضاف أن “غريب انتقل إلى تركيا في وقت لاحق بعد أن توسعت قاعدة التنظيمات الإسلامية في سورية، ليحافظ على حياته، وأقام في مخيم لسنوات، ومن ثم لجأ إلى ألمانيا”.

وأشار علاوي إلى أنه “منذ وصول إياد غريب إلى ألمانيا سلّم نفسه للسلطات الألمانية وأخبرهم بمكان خدمته والمعلومات التي لديه عن الفرع الذي كان يؤدي فيه الخدمة”، مؤكداً أن غريب طُلب كشاهد للمحكمة، لكونه كان يخدم في ذات الفرع مع رسلان، لكن بعد أربع أو خمس جلسات شهادة تم تحويله إلى متهم.

وتحدث علاوي عن اعتراف المحامي أنور البني، المشارك في تقديم الشكاوى بحق إياد غريب وأنور رسلان أمام المحكمة الألمانية، بأن غريب أصبح في دائرة الاتهام كونه وصل في “الوقت الغلط”، أي مع فتح تحقيق ضد رسلان. وزوّد علاوي “العربي الجديد” بتسجيل صوتي مرسل من قبل البني إليه، يؤكد ذلك. وفي التسجيل، يقول البني مجيباً على استفسارات العلاوي: “لم نتهم إياد ولا نعرفه ولم يكن ضمن الملف، والدليل الوحيد على إياد هي إفادته أمام دائرة اللجوء عند وصوله إلى ألمانيا، ومشكلته أنه وصل إلى ألمانيا في الوقت الغلط، عندما كان التحقيق مفتوحاً ضد أنور رسلان، وأعطى إفادة أمام الشرطة الألمانية بأنه كان في الفرع وماذا كان يفعل، وبالتالي اضطر المدعي العام لضمه للملف”. ويضيف البني في التسجيل “لو كان غريب أتى إلينا وسألنا ماذا يفعل لكنا جنّبناه أن يكون هنا في هذا الموقف (يقصد المحكمة)، لكنه اعترف ولم يجد المدعي العام بداً من ضمه للملف”، متابعاً “المعلومات التي لدينا عن إياد إيجابية، لكن ليس لدينا سلطة أن نقرر، وهناك اعترافات أمام القاضي والشرطة ودائرة الهجرة، وستأخذ بعين الاعتبار”. واتهم علاوي محركي الادعاءات في أوروبا، بأنهم يستهدفون المنشقين عن النظام، والذين اتخذوا موقفاً لصالح الثورة في وقت مبكر، ولم ينخرطوا في أعمال إجرامية.

وسأل “العربي الجديد” المحامي البني، المقيم في ألمانيا، عن التسجيل المرسل من قبله، بتاريخ 25 إبريل/ نيسان 2020، وعن تغيير موقفه تجاه غريب بعد صدور الحكم، فرد أن موقفه لم يتغير، مؤكداً أنه في حينها كان يشرح أن غريب هو من قدّم الأدلة ضد نفسه، مضيفاً: “هذه الإفادة التي اعتمدت عليها المحكمة”.

وكان الناشط الحقوقي حسام القطلبي، قد أثار في تحقيق موسع نشره في موقع “رصيف 22″ منتصف العام الماضي، مسألة تقديم إفادات مغلوطة من قبل أحد الشهود أمام المحكمة كوبلنز، متهماً المخرج والمعتقل السابق فراس فياض الذي قدّم إفادات ضد المتهم أنور رسلان، بتقديم شهادة متناقضة التفاصيل وتواريخ اعتقال مختلفة، مشككاً في مسار المحكمة الألمانية وتعاطيها مع إفادات الشهود، والتالي محاكمة المتهمين. لكن المحامي البني رد في تصريح لـ”العربي الجديد” حول هذه الشكوك بأن المحكمة “لا تأخذ بما يُنشر على فيسبوك وغيره، وهي تأخذ بما يُقدّم أمامها من إفادات”، واصفاً ما تمت إثارته بـ”ترهات ولعي وكلام أطفال”. ونفى أن “تكون هناك شهادات مغلوطة أمام المحكمة بالمطلق، وأنها استندت إلى شهاداته وشهادة الناشط مازن درويش وبعض الخبراء”.

جدل الحكم على غريب

لكن الناشط الحقوقي محمد العبد الله، وهو مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، ومقره الولايات المتحدة، والذي يتخذ صفة المراقب في محاكمة كل من غريب ورسلان، كشف في حديث مع “العربي الجديد” أنه شخصياً، مع حقوقيين آخرين منهم القطلبي، أوضحوا للبني أن من الخطأ تقديم شاهد يقدّم إفادات مغلوطة للمحكمة، بالإشارة إلى المخرج فراس فياض، وكان رد البني كالتالي: “حتى لو كنت أعلم أن الشاهد يكذب، يجب دعم إفادته، لأن النظام يفعل أكثر من ذلك، ولدينا شخص ويجب تجريمه”، بالإشارة إلى رسلان.

وحول المحكمة، أشار العبد الله إلى أنه من خلال اطلاعه على أدق التفاصيل في المحكمة، يعتقد بأن الحكم بحق إياد غريب أقسى مما يجب، مضيفاً: “التهمة المنسوبة إليه أنه شارك في اعتقال 30 شخصاً، وهذا أمر تلقاه من جهة أعلى منه، ولم يكن أمامه سوى التنفيذ”، وتابع: “عملياً، إياد غريب حاول مساعدة المحكمة، بتقديم معلومات حول المتهم الآخر أنور رسلان، لكن المحكمة قررت تجريمه على خلفية المشاركة باعتقال الأشخاص الثلاثين، معتبرة أنه كان بإمكانه التهرب من مهمة الاعتقال”. وأضاف: “بالنسبة لأنور رسلان، هناك كثير من الدلائل على تورطه، ما يرجح إدانته بحكم أكبر من حكم غريب، لكن لا مبرر لوجود شهود مطعون بإفاداتهم، فقط لتحقيق إنجاز للبعض من خلال تصدرهم للمشهد”.

وأشار العبد الله إلى أنه على الرغم من تقديم شكاوى بحق شخصيات رئيسية من النظام، على رأسهم علي مملوك وجميل الحسن وغيرهما، مع صعوبة إلقاء القبض عليهم وجلبهم للمحكمة، إلا أن مجرد قبول الدعاوى ضدهم والبدء بمحاكمتهم غيابياً، يعتبر مهماً في سياق “التقاضي الاستراتيجي” الذي تنشط جهات مختلفة للعمل عليه في القضية السورية.

من جهته، رأى دياب سرية، وهو مؤسس شريك في “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”، أنه من خلال متابعته للمحكمة عبر التقارير التي أصدرتها منظمات مستقلة منحتها المحكمة صفة المراقب، يستطيع القول إن “بعض الشهادات كانت ملفقة ومبالغاً بها ووُظّفت لحساب وغايات أخرى لا تخص قضية الحقيقة والعدالة”، مضيفاً في تصريح لـ”العربي الجديد” أن “شهادة المخرج فراس فياض مثال على هذا، فالرجل قدّم العديد من المعلومات المغلوطة عن مدة اعتقاله وأسبابه وعن التعذيب الذي تعرض له خلال فترة الاحتجاز”، مشيراً إلى شهادة أخرى مشكك فيها لشاهد أخفى اسمه كان يعمل في دفن جثث المعتقلين في مقبرة نجها. وتابع: “أستطيع القول جازماً من خلال المعلومات والتوثيقات التي نملكها أن الشهادة ملفقة ومبالغ بها، الرجل ادعى أن عدد الأشخاص الذين دفنهم يصعب عده ويعتقد أنه دفن ما بين 3 و5 ملايين إنسان وأنه دفن من فرع الـ40 التابع للمخابرات العامة ما يقدر بـ5000 شخص وحده، مع العلم أن فرع الـ40 هو منزل سكني في الجسر الأبيض وهو أقرب إلى نظارة صغيرة يتم اعتقال الأشخاص فيه لساعات أو أيام لا تتجاوز الأسبوع، ثم يتم تحويلهم إلى فرع الخطيب لاستكمال التحقيق أو إطلاق سراحهم ولم يتم توثيق حالة واحدة خلال السنوات الماضية وحتى الآن قُتلت تحت التعذيب في فرع الـ40”.

ورأى سرية أن “المحكمة غير مؤهلة بما فيه الكفاية للنظر بمثل هذه القضايا، فهذه هي المرة الأولى في تاريخ المحكمة التي تنظر بها بقضية لها علاقة بجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية”، مشيراً إلى أن “المحكمة هي محكمة إقليمية صغيرة لا يملك كادرها التدريب الكافي والخبرة للعمل على مثل هذه الملفات”. وأشار سرية إلى أن “المؤسسات السورية بالغت بدورها في هذه المحكمة والذي كان محصوراً بجلب الشهود وسد بعض الثغرات في سياق الأحداث، وساهم بعض المحامين السوريين بتضخيم القضية ورفع سقف التوقعات بشكل كبير لدى الناجين/ات من مسالخ الأسد، وهؤلاء المحامون ما انفكوا حتى الآن عن تقديم نفسهم على أنهم حماة العدالة ومحققها في سورية وأن العدالة إن لم تمر من بابهم فهي ليست بعدالة”، مضيفاً “هذا المجد الشخصي سعوا إليه عبر محكمة كوبلنز، متجاهلين تطلعات الناجين/ات وتجاهلوا مشاعرهم، حتى إنهم لم يكلفوا نفسهم عناء شرح طبيعة المحاكمة والهدف منها”. وتابع: “نتطلع لمحاسبة جميع من ارتكب جرائم بحق الشعب السوري بغض النظر عن انتمائهم القومي أو الديني، ونتطلع لمحاسبة كل شخص تسبّب بأذية أي شخص مدني في سورية، لكننا أيضاً نطمح إلى أن تكون هذه المحاسبة أمام محاكم مختصة تنظر في الجرائم التي ارتكبت في سورية وتقول حقيقة ما جرى ضمن مسار واضح لعملية عدالة انتقالية حقيقية”.

ونقل “العربي الجديد” للناشط مازن درويش كل ما أُثير حول المحاكمة، سواء تجاه غريب ورسلان، ووضعه بصورة الاتهامات التي تطاوله مع المحامي البني حول الانتقائية في المساهمة بتحريك الدعاوى ضد بعض المشتبه بارتكابهم جرائم وانتهاكات، من خلال التركيز على المنشقين الأوائل من العسكريين، وبناء على “خلفية مذهبية”، بحسب ما يقول بعض المتابعين للقضية. فقال درويش “بالنسبة إلينا لا تعنينا الخلفية الطائفية لأي شخص، ما يهمنا وجود أشخاص مشتبه في ارتكابهم جرائم، ولدينا ما يكفي من الأدلة القانونية عليهم، والموضوع ليس كما كان في سورية، أن تكتب تقريراً أمنياً للسلطة بحق شخص ويتم توقيفه، المسألة هنا مختلفة تماماً، والعمل على جمع الأدلة قد يستمر لسنوات”.

وأوضح درويش أنه من أول من قام برفع دعوى ضد جهاز المخابرات الجوية في ألمانيا، والتي صدرت على إثرها مذكرة توقيف بحق الرئيس السابق للجهاز اللواء جميل الحسن، كما رفع مركزه دعوى في فرنسا ضد فرع التحقيق في المخابرات الجوية، وصدرت بعدها ثلاث مذكرات توقيف بحق علي مملوك وجميل الحسن وعبد السلام محمود، بالإضافة إلى دعاوى عدة في كل من فرنسا وألمانيا والسويد والنرويج. وتحدث عن دعوى جديدة تتعلق باستخدام الأسلحة الكيميائية سيتم الإعلان عنها في فرنسا (وهو ما تم بالفعل الثلاثاء الماضي)، قائلاً إن العمل على هذه الدعوى مستمر منذ عام 2013. وقال “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” في بيان، إن مجموعة من الناجين من الهجمات الكيميائية في سورية “قدّموا شكوى جنائية لقاضي التحقيق في فرنسا حول هجمات الأسلحة الكيميائية على مدينة دوما والغوطة الشرقية في أغسطس/ آب 2013”.

أما بخصوص محاكمة رسلان وغريب، فأشار درويش إلى أن “رسلان هو من ذهب بنفسه إلى الشرطة الألمانية وقال لهم إن لديه مخاوف من استهدافه من قبل النظام، حينها أبلغهم بأنه ضابط كبير في المخابرات، وعلى هذا الأساس تم فتح ملف اللجوء الخاص به وتحوّل بعدها إلى المحكمة”، مضيفاً: “نحن لم نختر ولم ننتقِ إياد غريب أو أنور رسلان لتقديم الشكوى بحقهما، لكنهما دفعا بنفسيهما إلى ذلك”، معتبراً أن الاعتقاد أو الترويج بأن القضاء الألماني يستهدف المتهمين بناء على خلفياتهم يعد استخفافاً بعقول السوريين.

أما بخصوص الشهادة المغلوطة لفراس فياض أمام المحكمة، والإشارة إلى أنهم من دفعوا بهذا الشاهد من ضمن مهمتهم في جمع الشهود للمحكمة، فقد نفى درويش أن يكون لهم أي دور بتقديم فياض من قبل الجهة المدعية المتعاونين معها، متابعاً “هو لديه محاميه الخاص من خارج المحامين الذي نتعامل معهم، وشارك في الدعوى كحق له، أما أن يكذب أو يصدق فهذا شأنه وليس لنا حق بمنع أحد من تقديم إفادته”. وختم بالقول “أي أحد يعتقد أن هناك خللاً قانونياً ضمن العمل الذي نقوم به، ندعوه للجوء إلى القانون لتقديم شكوى ضدنا، نحن مؤسسة حقوقية مرخصة في أكثر من مكان حول العالم”.

متورطون خارج المحاسبة

تتحدث الكثير من المنظمات والنشطاء المختصون بقضايا المحاسبة وملاحقة مرتكبي جرائم ضد الإنسانية في سورية، الذين تواصل معهم “العربي الجديد”، عن وصول مئات الأشخاص إلى أوروبا بعد عامي 2015 و2016، منهم من عليه أدلة دامغة على تورطه بجرائم وانتهاكات، وكثير منهم لا يزالون يعلنون تأييدهم للنظام، لكنهم خارج إطار الملاحقة، بسبب غض المنظمات المختصة بالملاحقة الطرف عنهم.

الصحافي قتيبة ياسين، الذي نشط في متابعة تحرك المجرمين ومرتكبي الانتهاكات الذين وصلوا إلى أوروبا وقدّموا أنفسهم على أنهم فارون من جحيم الحرب في سورية، من خلال منصة “مجرمون لا لاجئون” على موقع “فيسبوك” في الفترة الممتدة بين عامي 2014 و2017، سأله “العربي الجديد” عن العدد الذي تم توثيقه خلال فترة نشاطه، فأوضح أن العدد الكامل يقارب 280 مشتبهاً بارتكابهم جرائم، عليهم أدلة إدانة من قبيل حمل السلاح واللباس العسكري والوجود مع قوات النظام أو المليشيات.

وتقصّى “العربي الجديد” أيضاً بعض خلفيات المتهمين والمشتبه بارتكابهم جرائم في سورية قبل لجوئهم إلى أوروبا، والذين كانوا تحت الأنظار دون تحرك المنظمات السورية ضدهم لتقديم شكاوى بحقهم لتقديمهم إلى المحاكم ومحاسبتهم. ومن بينهم علاء موسى، طبيب في مستشفى حمص العسكري، شارك بجرائم فظيعة لدى خدمته في المستشفى قبل لجوئه إلى ألمانيا وعمل في مستشفيين فيها. وقدّم زملاء سابقون في المستشفى شهادات ضده، قبل أعوام، ولم يتم التحرك ضده إلا عندما نشرت قناة “الجزيرة” تحقيقاً استقصائياً مصوّراً حمل عنوان “البحث عن جلادي الأسد”، وقدّم التحقيق أدلة دامغة على تورطه مثبتة بالشهود والوقائع، ما دفع القضاء الألماني لاعتقاله، بناء على شكاوى شخصية، وبحكم الأدلة لديه.

أيضاً يبرز اسم محمد العبد الله، المعروف بـ”أبو الحيدرين”، مقاتل سابق في صفوف إحدى المليشيات الرديفة لقوات النظام، له صوة وهو يدوس على جثث عدد من القتلى الذين يرتدون الزي المدني، في حين يرتدي هو زياً عسكرياً ويحمل بندقية. رفع أشخاص، من بينهم المحامي رامي حميدو، دعوى ضده في السويد، لكن القضاء السويدي أفرج عنه بعد ثمانية أشهر من الاعتقال لإدانته بإهانة جثث الموتى، وتم إلغاء لجوئه وطرده من السويد. حينها كتب المحامي البني على صفحته في “فيسبوك”: “لم نستطع دعم جهود زميلنا المحامي رامي حميدو في السويد، والنشطاء السوريين، والشاهد في ألمانيا الذي تقدّم للشهادة ضده، ولم نستطع أن نثبت قيامه بالقتل فحكم عليه القاضي بمدة ثمانية أشهر، أمضاها بالسجن بتهمة إهانة الكرامة الإنسانية”.

كذلك، يبرز العقيد سامر بريدي، وهو ضابط أمن في إدارة المخابرات العامة، شغل رئاسة قسم أمن الدولة في مدينة دوما في الغوطة الشرقية، منذ بداية الاحتجاجات، وهو متهم بارتكاب جرائم قتل ومجازر جماعية في دوما والغوطة الشرقية، وتشير معلومات إلى أنه يشغل حالياً منصب مدير مكتب علي مملوك، رئيس مكتب الأمن القومي. وصل مع وفد النظام المفاوض إلى سويسرا لحضور الجولة الثالثة من مسار جنيف في بداية العام 2016، وعلى الرغم من أن حقوقيين سوريين مستقلين قدّموا دعوى ضد بريدي حينها في سويسرا، فقد غابت عن الدعوى منظمتا درويش والبني. وعلى الرغم من مشاركة بريدي مع وفد النظام في الجولة الرابعة من مسار جنيف في فبراير/ شباط 2017، إلا أن المنظمتين تجاهلتا ذلك، على الرغم من الزخم الإعلامي حينها حول مشاركته في المفاوضات.

وللعلم فإن رفعت الأسد، شقيق رئيس النظام السابق حافظ الأسد، وعم بشار الأسد، المتهم بارتكاب جرائم إبادة جماعية في حماة عام 1982، والمتهم كذلك بعمليات غسيل أموال وفساد، لم يخضع للمحاكمة أمام القضاء الفرنسي إلا بعد تقديم جمعية “شيربا” الفرنسية لمحاربة الفساد، شكوى ضده، على الرغم من وجود “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” في فرنسا كمنظمة حقوقية مرخصة هناك، ويحمل مديره الجنسية الفرنسية.

كما صدر في ألمانيا وفرنسا عدد من مذكرات التوقيف بحق عدد من الشخصيات الرئيسية في النظام، منهم جميل الحسن وعلي مملوك وعبد السلام محمود، بموجب الولاية القضائية العالمية التي تتيح ملاحقة مرتكبي الجرائم، أياً كان مكان ارتكاب جرمهم. لكن قانونيين يشيرون إلى أن المذكرات تبقى رمزية لسببين، الأول صعوبة إلقاء القبض على مثل هذه الشخصيات، وثانياً أن دولة مثل ألمانيا لا تسمح قوانينها بالمحكمة الغيابية للأفراد، وبالتالي ستنحصر المحاكمات وفرض العقوبات على من هم بدرجة أدنى، والذين يوجدون في أوروبا، لكي يمثل المتهم أمام المحكمة ويأخذ حقه بالدفاع عن نفسه.

—————————-

تحركات دولية لمحاسبة النظام السوري على انتهاكات حقوق الإنسان/ عدنان أحمد

تتزايد المطالب الدولية بضرورة محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان في سورية، فيما أكدت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سورية أن لديها ما يكفي من المعلومات الموثوقة عن تورط أكثر من 120 شخصا في سورية بارتكاب جرائم حرب أو انتهاكات لحقوق الإنسان.

وفي هذا السياق، بدأت كندا بالتحرك رسمياً لمحاسبة النظام السوري على ارتكابه انتهاكات وجرائم بحق الشعب السوري منذ عام 2011، وذلك عبر طلبها إجراء مفاوضات رسمية بموجب اتفاقية الأمم المتحدة المناهضة للتعذيب لمحاسبة النظام على انتهاكاته التي وصفتها بأنها “لا تحصى”.

وقال وزير الخارجية الكندي مارك غارنو إنه “في بيان له أمس الخميس على مدى العقد الماضي، شن النظام السوري هجمات وحشية ومروعة على شعبه، وأمل كندا أن يخدم عمل اليوم لتقريبنا من الحقيقة والعدالة والمساءلة. شعب سورية لا يستحق أقل من ذلك”، وفق “رويترز”.

وأضاف غارنو أن “كندا دعت مراراً نظام الأسد إلى إنهاء الانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان ضد مواطنيه، من خلال قيادة قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكنه تجاهل ذلك”، وهو ما يدفع كندا لـ”طلب التفاوض بشأن نزاعها بموجب اتفاقية الأمم المتحدة المناهضة للتعذيب، وضرورة محاسبة النظام في سورية على الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي”.

وأكد غارنو أن “موقف كندا الراسخ بأن حقوق الإنسان غير قابلة للتفاوض”، وأن “السوريين عاشوا عقدا من المعاناة التي لا توصف على يد نظام الأسد، وسيكون السلام المستدام ممكناً فقط بعد محاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات”.

وكانت هولندا تقدمت بطلب مماثل في سبتمبر/ أيلول العام الماضي، وتم توثيقه من قبل لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بشأن سورية.

وكانت اللجنة الدولية المستقلة المعنية بسورية أعلنت أن لديها ما يكفي من المعلومات لإدانة 121 شخصا من جميع أطراف النزاع في البلاد، بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، غالبيتهم من النظام السوري. 

وقالت اللجنة، في تقرير لها قدمته قبل أيام لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، إن “لديها ما يكفي من المعلومات الموثوقة عن تورط 121 من هؤلاء الأفراد في ارتكاب جريمة أو انتهاك على نحوٍ يفي بمعيار الإثبات الذي وضعته من جميع الأطراف”، مشيرة، في مقدمة تقريرها، إلى أن معظمهم من قوات النظام السوري، عندما قالت “كانت اللجنة قد وثّقت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وجرائم ضد الإنسانية ارتكبتها القوات الحكومية، ومجموعة من انتهاكات حقوق الإنسان ارتكبتها الجماعات المسلحة غير الحكومية”.

وأوضحت اللجنة أنه “منذ بدء عملها بتجميع قوائم سرية بأسماء مرتكبي الانتهاكات والجرائم في سورية من جميع أطراف النزاع، جمعت معلومات أولية عن أكثر من 2003 أشخاص من الجناة المزعومين”.

ولفتت إلى أن ما تملكه من معلومات عن هؤلاء سوف تستخدمه لمساعدة عمليات المساءلة الدولية وتلك التابعة لدول ثالثة، بما في ذلك الآلية الدولية المحايدة، للمساعدة في التحقيق والملاحقة القضائية للأشخاص المسؤولين عن الجرائم الأشد خطورة، وفق تصنيف القانون الدولي.

ويقول حقوقيون سوريون إن الأسماء الواردة في التقرير عن النظام السوري تضم، إلى جانب ماهر الأسد شقيق رئيس النظام، 8 أسماء من القوى الجوية التابعة للنظام، والذين أُدينوا سابقا بتنفيذ ثلاث ضربات كيماوية على اللطامنة 2017 بريف حماة، يتصدرهم الطيار محمد الحاصوري، فضلا عن اللواء جميل الحسن، رئيس المخابرات الجوية سابقا، وعلي مملوك رئيس “مكتب الأمن الوطني”، واللواء عبد السلام محمود رئيس فرع التحقيق في المزة.

وكان رئيس لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بسورية باولو سيرجيو بينيرو أكد، خلال ندوة رفيعة المستوى أقيمت في جنيف الثلاثاء الماضي، أن مطالب الضحايا بتحقيق العدالة والمساءلة “تعد عنصرا جوهريا لإقامة السلام الدائم في سورية”.

وشدد على “ضرورة فعل المزيد لإطلاق سراح المعتقلين تعسفيا، وتحديد أماكن وهويات المفقودين، واستعادة التوثيق المدني وحماية حقوق الإنسان فيما يتعلق بالمسكن والأرض والممتلكات من بين أمور أخرى”.

وذكر رئيس لجنة التحقيق المستقلة أن “الأطراف المتحاربة في سورية تحاول منذ عقد من الزمن حل الصراع بالسبل العسكرية، مما سمح بانتهاك جميع حقوق الإنسان”. وقال إن “أطراف الصراع ارتكبت تقريبا كل الجرائم ضد الإنسانية المدرجة في ميثاق روما الأساسي للعدالة الجنائية، وجرائم الحرب التي تنطبق على الصراعات المسلحة غير الدولية”.

من جهتها، قالت السفيرة الأميركية المُعينة حديثا لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد، خلال الندوة، إن بلادها تقف إلى جانب الشعب والمجتمع المدني السوري، وأكدت أن “مجموعة واسعة من الشركاء الدوليين يطالبون بالمساءلة، ويدعمون الحل السياسي وفق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254”.

وطالبت بالكشف عن وضع عشرات الآلاف من المدنيين المحتجزين في سورية منذ عام 2011، مؤكدةً ضرورة إعادة جثث القتلى إلى ذويهم، وفق وكالة “أسوشيتد برس” الأميركية.

والاثنين الماضي، نشرت “لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سورية” تقريرها حول انتهاكات وتجاوزات وصفتها بـ”التاريخية والمستمرة” خاصة بآلاف المدنيين الذين اعتقلوا تعسفيًا في سورية.

وتحدثت اللجنة، في تقريرها المؤلف مما يزيد على 30 صفحة، عن النطاق الهائل للاعتقال والاختفاء وأنماط الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها حكومة النظام السوري، والفصائل المعارضة المسلحة، و”قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، بالإضافة إلى انتهاكات من قبل فصائل مسلحة مصنفة إرهابية من قبل الأمم المتحدة، مثل “هيئة تحرير الشام” وتنظيم “داعش”.

وقالت المفوضة الأممية كارين كونينج أبو زيد، في سياق التقرير، إن “غزارة الأدلة التي جُمعت على مدى عقد من الزمان مذهلة، ومع ذلك فإن أطراف النزاع قد فشلوا في التحقيق مع قواتهم، باستثناء حالات قليلة جدًا” فيما يخص قضايا الاعتقال التعسفي، لأنه “يبدو أن التركيز ينصب على إخفاء الجرائم المرتكبة في مراكز الاحتجاز، وليس التحقيق فيها”، وفق المفوضة.

وأوضح التقرير كيف عمدت حكومة النظام، وبدرجة أقل الأطراف المسلحة الأخرى، إلى إطالة معاناة أفراد أسر المعتقلين وعائلاتهم.

وبحسب الأمم المتحدة، أسفر الصراع السوري عن مقتل ما يقرب من نصف مليون شخص، وتشريد نصف سكان البلاد، بما في ذلك خمسة ملايين لاجئ في الخارج.

وفي تقرير لها صدر أمس الخميس، وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أبرز الانتهاكات في فبراير/ شباط الماضي، مشيرة الى مقتل 138 مدنياً، بينهم 23 طفلاً و11 سيدة، إضافة إلى مقتل 14 شخصاً بسبب التعذيب.

ووفقاً للتقرير، فإن ما لا يقل عن 171 حالة اعتقال تعسفي واحتجاز، بينها 11 طفلاً و7 سيدات، تم تسجيلها في فبراير/شباط على يد أطراف النزاع والقوى المسيطرة في سورية، كانت النسبة الأكبر منها على يد “قوات سورية الديمقراطية” في محافظتي الحسكة ودير الزور.

العربي الجديد

——————————-

هل تحقق محاسبة مجرمي الحرب في سوريا العدالة والإنصاف للضحايا؟/ طارق صبح

بسام، رب أسرة يبلغ من العمر الآن 70 عاماً، يعمل في مجال الخياطة في أحد معامل ريف دمشق، ويسكن في حيٍّ شهد كثيرا من التظاهرات وعدة أشكال من الاحتجاج السلمي، إلا أنه أدرك منذ البداية أن النظام سيستخدم كل ما يستطيع من الوسائل، بما فيها الاعتقال والقتل، لوقف هذا الحراك، لذلك منع بسام أبناءه من المشاركة في أي نشاط ثوري مهما كان بسيطاً، واكتفى بمساعدة النازحين إلى دمشق من مناطق حمص الثائرة في ذلك الوقت، معتبراً أن هذه المساعدة هي مشاركته الفعلية والحقيقية في دعم الثورة، مفضلاً ذلك على احتمال أن يعتقل أحد أبنائه إذا ما شاركوا في التظاهرات.

لكن يوم 7 من تموز من العام 2012، حمل لبسام أسوأ ما كان يخاف منه، ففي ذلك اليوم شهد الحي تظاهرة تشييع لشبان قتلوا خلال المظاهرات، وأثناء التشييع لاحق عناصر أمن النظام المتظاهرين، اعتقلوا وقتلوا العديد منهم، بعد ذلك اقتحم الشبيحة منازل الحي بحثاً عمن استطاع الاختباء من المتظاهرين.

في صباح ذلك اليوم أكد بسام على نجله الأكبر موسى، 16 عاماً، ألا يذهب إلى المدرسة ويبقى في المنزل حرصاً على سلامته، لكن بعد ما حصل في مظاهرة التشييع، لم يستطع موسى رؤية رفاقه جرحى دون أن يساعدهم، فاستطاع سحب أحدهم كان ملقى في الشارع، وأدخله إلى المنزل وضمد جراحه معتقداً أنه أنقذه، إلا أن عناصر الشبيحة دهموا المنزل وألقوا القبض على الجريح وسلموه للأمن، بينما قيّدوا موسى على كرسي في إحدى الغرف وأشعلوا النار به ليقضي حرقاً مع كامل محتويات المنزل.

يقول بسام إنه في البداية كان يريد إمساك القاتل والثأر لولده بمثل ما فعل القاتل وفق مبدأ القصاص، لكن بعد مرور الوقت ورؤيته لمختلف أشكال الانتهاكات التي وقعت على السوريين، يؤكد أن ما يريده الآن هو محاسبة قاتل ولده مع من حرّضه ومن أطلق يده ومن زوّده بالسلطة لفعل ذلك أمام المحكمة، وعند ذلك يعتبر بسام أنه حصل على العدالة والقصاص لولده.

يشير بسام إلى أن التعويض المالي لا يعنيه، وإن كان هناك ما يجبر الضرر عما حصل له فإن ذلك سيكون في مثول مرتكبي هذه الجريمة أمام قضاء نزيه يكون هو نفسه شاهدا ومدّعيا عليهم، مشدداً على أن “المحاسبة هي العدالة، ولا شيء سواها”.

ماذا تعني المحاسبة في السياق السوري؟

خلال عشر سنوات أمعن نظام الأسد في انتهاكاته لحقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب العلنية التي ارتكبها بحق السوريين العزّل، وتعدّت الانتهاكات جميع المواثيق والأعراف والقوانين الدولية ذات الشأن، حتى إنها أثارت بوحشيتها الضمير العالمي والإنساني حول العالم.

إلا أن فشلاً واضحاً اتّسمت به الجهود الدولية لاتخاذ خطوات جدية في إطار وقف هذه الانتهاكات ومحاسبة مرتكبيها، حيث قيّدت روسيا مجلس الأمن الدولي بحق “الفيتو”، وعرقلت اتخاذ القرارات اللازمة للمحاسبة وضمان عدم الإفلات من العقاب، مثل إحالة ملف الانتهاكات في سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية، ما جعل النظام بمنأى عن المحاسبة، ما عدا عقاب صوري بعد أن استخدم النظام السلاح الكيماوي، وكان سقف هذا العقاب اتفاقا روسيا أميركيا نصَّ على تجريد النظام من ترسانته الكيماوية، دون أي محاسبة أو ملاحقة لرموزه.

ومع تواصل العجز الدولي، بدأت في الأشهر الأخيرة تبرز دعوات رسمية صادرة عن حكومات وهيئات دولية، وغير رسمية دعت إليها منظمات حقوقية ومدنية غير حكومية، تطالب بمحاسبة مجرمي الحرب والمسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان وسائر الجرائم والانتهاكات في سوريا منذ العام 2011.

فما هي المحاسبة التي يطلبها ضحايا الانتهاكات في سوريا؟ وهل يمكن اعتبار المحاسبة هي العدالة التي ينشدونها؟ وما دور العقوبات الغربية، بما فيها “قانون قيصر”، في تعزيز عدم الإفلات من العقاب؟

في هذا الملف، يتحدث، لموقع “تلفزيون سوريا”، حقوقيون وقانونيون وموثقو انتهاكات عن المحاسبة وعدم الإفلات من العقاب في سوريا، وعن المحاكم القضائية والآليات اللازمة لذلك، ومن يجب أن يخضع لها، بالإضافة إلى الجهود الدولية ودور العقوبات في ضمان عدم إفلات مرتكبي الانتهاكات من العقاب.

إنصاف وجبر للضرر وردع للمجرمين

يرى الحقوقي والمتخصص بقضايا حقوق الإنسان والناطق السابق باسم “هيومن رايتس ووتش” في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فادي القاضي، أن المحاسبة في السياق السوري هي “إطار للمصلحة والمنفعة، وتوضع في سياق هدفين، الأول قريب المدى ويتمثّل في الإنصاف وجبر الضرر وإعادة الاعتبار لمن تضرر وتأذى وقضى بسبب السلوك الإجرامي أو السلوك الذي ينطوي على جرائم ضد أفراد أو جماعات، وهو هدف ضروري لأي مجموعة بشرية تريد العيش في ظل نظام يقوم على المسائلة والمعاقبة على السلوك الذي يعادي القيم البشرية”.

ويضيف القاضي أن “الهدف الثاني وهو بعيد المدى مؤلف من شقين، يقوم أولهما على فكرة الردع، فإن قمنا بمحاسبة ومساءلة الأفراد أو التجمعات التي ارتكبت سلوكاً جرمياً في سياق الحرب، فنحن بالضرورة نقوم بالتأسيس لفكرة أن ارتكاب مزيد من هذه الجرائم في المستقبل سيكون صعباً وشاقاً، أو أنه على الأقل لن يقابل بالسكوت والموافقة والتساهل، وما يسمى بالإفلات من العقاب، والذي هو اصطلاح عميق يقوم على أن التساهل مع من ارتكبوا جرائم سيؤدي حتماً إلى فتح الباب أمام ارتكاب مزيد من الجرائم”.

أما المحامي السوري البريطاني والمتخصص بالقانون الدولي، بسام طبلية، يعتبر أن “العدالة الانتقالية بمفهومها الضيق تعني المحاسبة من أجل عدم الإفلات من العقاب، لكنها بمفهومها الواسع تشمل جبر الضرر والإصلاح المؤسسي ومعرفة الأسباب التي أدت إلى الانتهاكات، بالإضافة لتعويض المتضررين”، مؤكداً أن “محاسبة نظام الأسد عما اقترفه من جرائم، مع ترك الضحية تعاني من خسائرها الروحية والمعنوية والمادية، لا يمكن أن يحقق العدالة الانتقالية”.

ويعتبر البعض أن محاسبة رموز نظام الأسد وأركانه وإنهاء عدم إفلاتهم من العقاب من الأهمية بمكان أنه وسيلة للخروج من الأزمة في سوريا، حيث يقول مدير الحملات في منظمة العفو الدولية “امنستي”، كريستيان بينديكت، إن “إنهاء الإفلات المزمن من العقاب الذي يتمتع به أولئك الذين أمروا بارتكاب الفظائع في سوريا، هو طريق رئيسي للخروج من الأزمة، ويعتمد على التعافي وإعادة الإعمار والعدالة في سوريا”.

ويشدد بينديكت على أنه “إذا استمر المجرمون الرئيسون في التحرر من العقاب الفعال، ولم يتم منعهم من ارتكاب مزيد من الجرائم، فلا نهاية للأزمة السورية، تلك حقيقة لا مفر منها”.

هل تحقق المحاسبة الإنصاف للضحايا؟

تشير المحاسبة وعدم الإفلات من العقاب إلى مجموعة من التدابير القضائية وغير القضائية التي تتعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان، وتتضمن الملاحقات القضائية ولجان التحقيق والحقيقة، وبرامج جبر الضرر وإصلاح المؤسسات، وصولاً إلى العدالة الانتقالية والاعتراف بحقوق الضحايا وتعويضهم وسيادة القانون وتحقيق السلام المجتمعي.

يقول مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني، إن “جهود المحاسبة تؤدي إلى استقرار المجتمع، وهدأة الثأر عند الضحايا عندما يرون مرتكبي الانتهاكات تمت محاكمتهم وتجريدهم من مناصبهم وامتيازاتهم واسترجاع الأموال التي نهبوها، ومن دون المحاسبة لن يكون هناك استقرار، بل سنبقى في حالة من دورات العنف اللامتناهية، فالمحاسبة ركن أساسي في تحقيق العدالة”.

ويوضح أن “المحاسبة هي جزء من العدالة للضحايا، لكنها ليست كل العدالة، وفي الحالة السورية، مهما بلغت هذه المحاسبة فهي لن تطول جميع مرتكبي الانتهاكات، ولا حتى الغالبية منهم، فتجارب النزاعات السابقة علمتنا ذلك”.

ويرى عبد الغني أن المحاسبة لن تطول جميع مرتكبي الانتهاكات، لكنها ترمز لملاحقتهم، وهي مطلوبة لتحقيق الاستقرار في المجتمع، لكنها يجب أن تكون بحق الصفوف الأولى من مرتكبي الانتهاكات.

ويصنّف مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان مرتكبي الانتهاكات في سوريا وفق سلّم من 100 درجة، تضم الدرجة الأولى منه رئيس النظام ودائرته القريبة ورؤساء فروعه الأمنية، بينما تضم الثانية قادة فرق الجيش التي تتلقى الأوامر، وصولاً إلى الدرجات الأخيرة التي تضم أصغر مرتكبي الانتهاكات.

ويشير إلى أن المحاكم الأوروبية تلاحق مرتكبي الانتهاكات من الدرجة 97 أو ما بعد، ولكن بالرغم من ذلك يؤكد عبد الغني أن “هذا هو الخيار الوحيد المتاح حالياً، ويجب عند محاسبته أن نقول إننا نحاسب هذه الدرجة، لا أن نهوّل ونبالغ في ذلك”.

يوافق الحقوقي والمتخصص بقضايا حقوق الإنسان، فادي القاضي، فضل عبد الغني فيما يقوله، ويضيف أن “العدالة فكرة طويلة الأمد، أركانها متعددة، لكن المحاسبة خطوة أولى وكبيرة وضرورية، تؤسس لمسار يعود بجبر الضرر، ويعيد وضع الضحايا أو مكانتهم الاعتبارية إلى ما كانت عليه قبل ارتكاب الجرم”.

ووفق القاضي، فإن تحقيق ذلك مسار طويل وصعب ويحتاج إلى جهود مؤسسية في المجتمع والحكم، بالإضافة لإطار من العون الاقتصادي والنفسي والصحي، وتأمين الممارسة الحرة والمشروعة للأعمال والأفكار والتعبير عنها.

من جانبه، يقارب السياسي والبرلماني الألماني من أصل سوري، جمال قارصلي، الانتهاكات التي حصلت في سوريا بتجارب أخرى حول العالم، ويشير إلى أن “محاكمات نورمبرغ”، التي تناولت مرتكبي الانتهاكات ومجرمي الحرب خلال الحقبة النازية بعد سقوط الرايخ الثالث، بين عامي 1945 و1946، وحاكمت 24 شخصية من قادة ورموز ألمانيا النازية، بينما خضع الآلاف من أعضاء الحزب النازي وجنود الجيش لبرنامج من المصالحة المجتمعية، وصممت برامج حكومية لتعويض الضحايا.

يضيف قارصلي أن “المحاسبة ستكون لكبار المجرمين بحق الشعب السوري، وقسم من صغار مرتكبي الانتهاكات لا يمكن محاسبتهم، فمن الصعب محاسبة كل من أجرم، فذلك يحتاج إلى جهود طويلة ووقت أطول”.

ويتوقع قارصلي أن تُبنى في سوريا مستقبلاً دولة مؤسسات، تعمل على جبر الضرر للضحايا، والتخفيف من آثار الانتهاكات التي لا تصل إلى حد وصفها بجرائم حرب، ويتم حلّها وفق برامج تصالحية وتسامح مجتمعي.

محاكم الولاية القضائية الدولية أم المحاكم المحلية؟

خلال الأشهر الأخيرة، بدأ المسار القانوني في بعض الدول الأوروبية يتخذ خطوات مهمة باتجاه اتخاذ إجراءات محاسبة مجرمي الحرب والمتورطين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في سوريا، وكان ذلك نتاج جهود مؤسسات حقوقية جمعت أدلة ووثقت انتهاكات ورفعت دعاوي أمام عدة محاكم في السويد وألمانيا وفرنسا وهولندا وغيرها، فضلاً عن دعوات عديدة لإحالة ملف الانتهاكات في سوريا إلى محكمة الجنايات الدولية.

واستندت الدول الأوروبية إلى مبدأ في قوانينها يدعى “الولاية القضائية الدولية”، الذي يخوّلها بالتحقيق في جرائم ارتكبت خارج أراضيها، حتى لو كان المجرم أو الضحية من جنسية دول أخرى، وبناء عليه أقرّت فرق عمل ولجان تحقيق حول الجرائم في سوريا، استعداداً للدعاوى القانونية.

إلا أن ذلك طرح عدة تساؤلات حول مدى صلاحية قضاء تلك الدول في محاسبة أشخاص غير أوروبيين، وعن مدى حيادية واستقلال هذا القضاء في الملاحقة وإصدار الأحكام، وماذا عن المحاكم المحلية، وكيف تقوم بدورها في المحاسبة والمساءلة؟

في هذا الإطار، يرى جمال قارصلي أن المحاكمات ستجري في كل دولة وفق قوانينها ومحاكمها، لكن المحاكمات الأبرز يجب أن تتم عبر المحاكم الدولية مثل المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة لاهاي، مثل ما حصل مع المجرم اليوغوسلافي سلوبودان ميلوشيفيتش، الذي خضع لمحكمة الجنائية الدولية.

بينما يقول المتحدث السابق باسم منظمة “هيومن رايتس ووتش”، فادي القاضي، إنه “كي نتحدث عن إمكانية إجراء محاكمات أو محاسبة أو فتح دعاوى تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سوريا، هناك العديد من الشروط غير المنطبقة”، ويوضح أنه ليس هناك في الوقت الراهن على الصعيد الدولي فضاءات قانونية مؤهلة للمحاسبة أو الشروع في محاسبة نظام الأسد، وأقرب فكرة لذلك هي المحكمة الجنائية الدولية، وهي كيان مستقل ومنفصل عن الأمم المتحدة وخارج إطارها، كما أن سوريا ليست عضواً فيها.

ويضيف القاضي “حتى لو توفرّت النية لدى بعض الدول لمحاسبة نظام الأسد، فإن مجلس الأمن فشل وأخفق في التوافق والتصويت إيجاباً على إرسال ملف سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية”.

من جانب آخر، يؤكد القاضي أن المحاكم المحلية في معظم أرجاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وضمن شكلها الحالي بحسب البنية والقدرات، ليست مؤهلة ولا تملك القدرات الفنية والبنية القضائية والخبرة المختصة في التقاضي في مجال الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي حصلت في سوريا.

ويؤكد القاضي أنه نظراً للوضع الراهن للمحاكم الوطنية في سوريا فإنها ليست مؤهلة على الإطلاق ولا يجوز النظر إليها باعتبارها قادرة على التقاضي في مثل هذه القضايا والمواضيع العميقة، مشيراً إلى أنه “حتى لو افترضنا زوال نظام الأسد، سيلزم النظم القضائية في ظل النظام الجديد فترة طويلة من الوقت لتكتسب الخبرة والحكمة والبنية التحتية الفنية للتقاضي في مجال جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

أما المحامي السوري البريطاني، بسام طبلية، فيرى أنه “من الممكن طلب تشكيل لجان قضائية ولجان تقصي حقائق دولية، على غرار لجنة تقصي الحقائق الدولية فيما يتعلق باستخدام السلاح الكيماوي، واللجنة المعنية بمعرفة مصير المعتقلين، أو يمكن طلب إنشاء آليات في هذا الصدد”.

ويشير طبلية أن “المصلحة السورية تقضي بتدريب كوادر قضائية وقانونية متخصصة، وأن تكون الملاحقة القضائية وإصدار الأحكام أمام محاكم سورية، تراعى فيها المعاهدات والإجراءات الدولية، وتكون تحت رقابة أممية”، مضيفاً أنه “لا يوجد ما يمنع من تبنّي قواعد في أصول المحاكمات وقواعد قانونية للتجريم متفق عليها بشكل عام، فالعبرة هي لآلية التطبيق والشفافية والنزاهة والحيادية في تطبيق القانون”.

هل تسير دعوات المحاسبة في الاتجاه الصحيح؟

بالرغم من الثغرات القانونية، التي يمكن وصفها بالهائلة، في مسألة توثيق جرائم الحرب التي ارتكبت في سوريا، إلا أن الزخم الدولي بشأن دعوات محاسبة نظام الأسد يتصاعد ويتطور بشكل متسارع خلال الأشهر القليلة الماضية، ويعتبر بعض المراقبين أن هذا الزخم يمكن أن يؤسس لتقديم المجرمين للمحاكمات أمام العدالة.

يقول المدير في منظمة العفو الدولية “أمنستي”، كريستيان بينديكت، إن “التقدم في تحقيق العدالة للسوريين كان بطيئاً للغاية، لكن الزخم الآن يتزايد في الاتجاه الصحيح”، معتبراً أن ذلك تجلى في إدانة الضابط السابق في استخبارات نظام الأسد إياد الغريب في محكمة كوبلنز بألمانيا.

ويصف بينديكت قرار إدانة الغريب بأنه “حكم تاريخي، والأول من نوعه على جرائم خاضعة للقانون الدولي ارتكبها مسؤول في نظام الأسد، كما أنه انتصار ساحق لعشرات الآلاف من السوريين الناجين من التعذيب وضحايا الاختفاء القسري، وكذلك للمنظمات الحقوقية التي ناضلت لسنوات من أجل الحقيقة والعدالة”، مؤكداً أن هذه الإدانة هي الأولى، ولكنها لن تكون الأخيرة.

وعن التنسيق المشترك بين الدول لدعوات محاسبة نظام الأسد وضمان عدم إفلات رموزه من العقاب، يقول بينديكت إن هذا “أمرا إيجابيا، لأنه يظهر نية العمل من أجل تحقيق عدالة ومساءلة ذات مصداقية”.

وأضاف أن منظمة العفو الدولية تفضل أن ترى تنسيقاً عالمياً في هذا الإطار، على غرار إعلان كندا وهولندا الأسبوع الماضي عن خطواتهما المشتركة لمحاسبة نظام الأسد، وتأكيد التزامهما بدعم المجتمع الدولي لوضع نظام الأسد تحت المحاسبة، مشيراً إلى أن ذلك يؤدي إلى قيام مجلس الأمن بإحالة الوضع في سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية، لضمان أن الجناة من جميع أطراف النزاع، بما في ذلك الأكثر مسؤولية من كبار مسؤولي وقادة النظام، يواجهون العدالة.

ولفت بينديكت إلى “الجهود الطيبة التي نراها في ألمانيا”، مؤكداً أن منظمة العفو الدولية تريد أن ترى مزيدا من الدول تحذو حذو ألمانيا من خلال التحقيق مع الأفراد المشتبه بارتكابهم جرائم حرب أو جرائم أخرى بموجب القانون الدولي في سوريا، ومحاكمتهم من خلال محاكمها الوطنية بموجب مبدأ “الولاية القضائية الدولية”.

كما يؤكد على ذلك جمال قارصلي، معتبراً أن “الدعوات الرسمية بدأت تبدو أكثر جدية، خاصة بعد أن أصبحت تصدر عن مسؤولين كبار ورؤساء دول، ما يعني أنها ستؤخذ على محمل الجد، وستؤدي لاتخاذ خطوات ناجعة من أجل تحقيق العدالة الانتقالية”.

ويشير إلى أن “هناك عوائق بالتأكيد، مثل أن لكل دولة قوانينها، وبعض الدول ترفض تسليم المجرمين لدول أخرى، أو بعض الدول ذات أنظمة ديكتاتورية تحمي المجرمين، وبالرغم من ذلك فإن الدعوات بدأت تذهب في الاتجاه الصحيح”، مطالباً المنظمات الحقوقية ومؤسسات المعارضة السورية والضحايا والمتضررين العمل على جمع الأدلة والإثباتات الدقيقة والدامغة حول المجرمين وانتهاكاتهم، استعداداً لما هو قادم.

أما مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني، فيعتبر أن هذه الجهود هي المتاحة في الوقت الراهن، لكنها لا تسير بشكل كافٍ في الاتجاه الصحيح، فالاتجاه الصحيح هو مسار كامل من العدالة الانتقالية، يفضي إلى محاسبة جميع مرتكبي الانتهاكات، وخاصة من الصفوف الأولى بشكل أساسي، في المحكمة الجنائية الدولية، وهذا ما تعرقله روسيا في مجلس الأمن الدولي.

وفي مقابل هذه الآراء، يعتقد الحقوقي والمتخصص بقضايا حقوق الإنسان، فادي القاضي، أن الدعوات الرسمية التي تطلقها الحكومات، أو تدعو إليها أجسام أو وكالات دولية الطابع، “تحمل قدراً كبيراً من التسيس والفراغ، لأنها تفتقر إلى الإرادة السياسية، والتي يجب تفسيرها في إطار مفهوم يتجاوز النوايا الحسنة وحب الثورة أو كره النظام، إلى التزام منصوص عليه في الخطاب السياسي والقانوني لدولة أو حكومة معينة يتبعه، كما تفتقر لاتخاذ ما يكفي من الإجراءات التي تكفل أو تسهّل أو تضمن أو تشق طريقاً نحو تحقيق خطوة أولى نحو العدالة بالشروع في مجرى المحاسبة”.

أما الدعوات التي تتبناها المنظمات غير الحكومية والجماعات المدنية الضاغطة في المنطقة وخارجها، فيرى القاضي أنها “دعوات جادة”، لكنه يشير إلى أنها “تنطلق من أجسام وبنىً لا تمتلك القرار السياسي، ولا يمكنها أن تفعل ما يتجاوز الضغط”.

ويضيف أن “بعض هذه الجهود أثمرت نجاحات يمكن اعتبارها محدودة، لكنها تؤسس لسوابق، مثل اللجوء لاستخدام ما يسمى بالولاية القضائية الدولية للتقاضي أمام محاكم في دول يسمح نظامها القضائي بمحاكمة مجرمي الحرب ومن ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية في بلدان أخرى على هذه الجرائم حتى في هذه الدول”.

محكمة كوبلنز: هل تشمل كبار المسؤولين عن الانتهاكات؟

شهدت مدينة كوبلنز الألمانية، صباح 24 من شباط الماضي، إدانة المحكمة الألمانية العليا للضابط السابق في مخابرات نظام الأسد إياد الغريب، بعد اتهامه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وتعذيب معتقلين في فروع النظام الأمنية، وأصدرت عليه حكماً بالسجن لأربع سنوات ونصف، استناداً إلى القانون الجنائي وقانون العقوبات الألمانيين.

وتعتبر محاكمة كوبلنز أولى المحاكمات في العالم بشأن التعذيب وجرائم الحرب في سوريا، في سابقة عدَّتْها شخصيات ومنظمات حقوقية “علامة فارقة في النضال ضد الإفلات من العقاب”، كونه يؤكد أنه في سوريا ترتكب جرائم ضد الإنسانية، وليس كما يرد في التقارير أنها “ربما ترتقي إلى جرائم ضد الإنسانية”.

من الجانب الآخر، رافق هذه المحاكمة جدل كبير بين السوريين، حول محاكمة الأعضاء السابقين في قوات الأمن الذين انشقوا عن نظام الأسد كمتهمين، أم معاملتهم كشهود في مسعى لتقديم كبار المسؤولين في النظام للعدالة.

وأثار هذا السؤال انقساماً كبيراً بين السوريين اللاجئين ومن يعيشون في المنفى، حيث اعتبر بعضهم أن هذه المحاكمة “خطأ استراتيجيا وأخلاقيا”، حيث خاطر المنشقون بحياتهم للانضمام إلى المعارضة وتقديم أدلة انتهاكات النظام لحقوق الإنسان.

ورأى البعض الآخر أن بدء المحكمة الألمانية ذات الولاية الدولية بمحاكمة عنصر أمن سابق برتبة صف ضابط، فيه إيهام كبير حول إحقاق العدالة بين صغار المسؤولين وإفلات كبارهم من العقاب.

اسم “بشار الأسد” ورد خمس مرات في قرار محكمة كوبلنز

حول ذلك، يقول المحامي والحقوقي السوري ومدير “المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، أنور البني، إن “قرار محكمة كوبلنز صدر على إياد الغريب ليس باعتباره عنصرا قام بارتكاب جريمة، وإنما باعتباره جزءا من حالة ممنهجة ارتكبت جرائم ضد الإنسانية، وهذا يعني أن هذه الجرائم ارتكبتها دولة، وكل المسؤولين في هذه الدولة، بداية من رأسها، مسؤولون عن هذه الجرائم”.

وأوضح أن اسم “بشار الأسد” ورد خمس مرات في القرار، ليؤكد أن هذه الجرائم الممنهجة صادرة من أعلى مستوى في الدولة، وبالتالي يشتمل القرار على إدانة كاملة لكل النظام، بما فيهم رأسه، كما أن أي مسؤول في هذا النظام هو متهم الآن، ومُدان بارتكاب هذه الجرائم، ومحاكمة هؤلاء المجرمين تأتي تباعاً عندما يتم إلقاء القبض عليهم.

ويؤكد المحامي أنور البني أن إياد الغريب تعاون مع المحكمة، وقدّم كل الأدلة التي لديه، لكن القضاء لا يستطيع، ولا يتوجب عليه، غض النظر عن ارتكابه ومشاركته بجرائم ضد الإنسانية في سوريا، مشدداً على أن “الموقف السياسي لأي متهم لا يمكن أن يمنع محاكمته في حال ارتكب جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب”.

وأشار إلى أن المحكمة وجدت أن إياد الغريب كان يمكنه التملص من تنفيذ الجرائم، وكان أمامه أكثر من فرصة متاحة لعدم تنفيذ الأوامر والابتعاد جانباً، لكنه لم يقم بذلك، ما دفعها لاتخاذ القرار بأنه شارك في هذه الجرائم في حين كان يمكنه أن يبتعد عن ذلك.

ووفق البني، فإن محكمة كوبلنز قدّرت أن إياد الغريب انشق عن النظام، وساعد القضاء الألماني بمعلومات كثيرة عن المجرمين في سوريا، ولأجل ذلك خفّضت له الحكم إلى أقل من الحد الأدنى، معتبراً أن هذا “بادرة مهمة جداً، تشير إلى أن القضاء يتعامل مع كل شخص بشكل مستقل، ويناقش وضعه وانشقاقه ومساعدته للقضاء وأخذ ذلك في عين الاعتبار”.

ويشدد المحامي والحقوقي السوري على أن “المسألة ليست محاسبة عنصر من النظام، بل هي محاكمة للنظام كاملاً، وهذا ما حصل في محاكمة كوبلنز وسيحصل في محاكمات أخرى”، مضيفاً “نحن نريد محاسبة النظام كله، من أصدر الأوامر، ومن نفذها، ومن كان يعلم بها ولم يقم بأي إجراء لوقفها”.

هل تحتمل العدالة نظرة معيارية؟

من الجهة المقابلة، يرى العقيد المنشق عن جيش النظام، عبد الجبار العكيدي، أن “المنشق الذي تجرأ على هذه المخاطرة ووضع نصب عينيه الموت أو الاعتقال والتنكيل بجميع أفراد أسرته، ويعلم تماماً أنه سيحكم عليه بالإعدام، وتُصادر جميع أملاكه، لم يخطر على باله أبداً أنه سيوضع في قفص الاتهام كما هو حال رسلان والغريب”.

ويضيف أنه “مما لا يعرفه البعض أن كثيراً من المنشقين، ودون أن يعلم بهم أحد، قدموا خدمات ومساعدات للثورة والثوار وهم على رأس عملهم، أكبر بكثير من مرحلة ما بعد انشقاقهم، ولمن لا يعلم فإن فصائل الجيش الحر لولا التنسيق والتعاون مع الشرفاء من الضباط والعناصر داخل القطعات العسكرية لما استطاعت تحرير أي منها، فعملية الانشقاق هي سلوك وموقف سابق يبدأ عند صاحبه منذ أول صرخة حرية في درعا وينتهي بعملية الانشقاق، ومن غير المعقول أن تجد جلاداً أو ظالما ويستفيق فجأة وينشق.

ويتساءل العكيدي حول “ازدواجية المعايير” في المحاكم الأوروبية، حيث يوجد اليوم آلاف الشبيحة والعناصر والقادة من تنظيم “بي كي كي”، المصنّف على لوائح الإرهاب في دول أوروبا، وبموجب الولاية القضائية الدولية، التي تعتمدها العديد من هذه الدول، لم نسمع أنه تم فتح ملفات بحق هؤلاء، رغم تقديم كثير من اللاجئين السوريين في هذه الدول والمنظمات الحقوقية السورية المعلومات والأدلة على تورطهم بارتكاب انتهاكات وجرائم مخالفة للقانون الدولي.

ويشير إلى أنه بعد صدور الحكم بحق إياد الغريب “نظر المنشقون بعين الشك والريبة تجاه هذا الحكم، الذي رؤوا فيه توجهاً انتقامياً في تطبيق العدالة، وينقل رسالة سلبية للمنشقين عن النظام، بأنهم جميعاً قد يتعرضون لمثل ما تعرض له الغريب، ما زاد من شكوكهم ومخاوفهم من تسييس مسارات العدالة، لتكون ذريعة لتعرضهم في المستقبل للمساءلة والمحاسبة بسبب وقوفهم إلى جانب الثورة”.

ويؤكد العقيد المنشق أنه “من المهم التذكير بأن العدالة التي يسعى إليها السوريون هي التي تتحقق ضمن إطار مسار وطني شامل، ومحاكمة كل من ارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية عبر محاكم وطنية وفقاً لمعايير دولية، علماً أنني شخصياً وكثيرين من زملائي المنشقين لسنا ضد تطبيق العدالة مستقبلاً، ولكن أن تكون بمعايير واحدة وبوقت وظروف ومكان واحد، وتشمل كل من كان موجوداً منذ بداية الثورة في مؤسسات الدولة السورية، لا أن تكون عدالة منقوصة وانتقائية تخضع لأهواء وسياسات كل دولة وكل جهة، فالعدالة والحقوق لا تتجزأ، والثورة التي قامت ضد الظلم والاستبداد لا تحتمل نظرة معيارية للعدالة”.

العقوبات وقانون قيصر والمأمول من المجتمع الدولي

دخل قانون “حماية المدنيين في سوريا” الذي يعرف اختصاراً باسم “قانون قيصر” حيز التنفيذ في 17 من حزيران الماضي، وفرض معادلة جديدة على مسار الأزمة السورية، تهدف إلى زيادة عزلة نظام الأسد السياسية، وفرض نمط جديد شديد يحكم الحصار المالي والاقتصادي ضده، ومعاقبة حلفائه، بغية إجباره على القبول بالحل السياسي على أساس قرار مجلس الأمن 2254.

كما يمنح “قانون قيصر” الإدارة الأميركية مزيداً من الأدوات لفرض عقوبات على شخصيات نظام الأسد المسؤولة عن الجرائم المرتكبة بحق السوريين، وملاحقتها ومحاسبتها على هذه الجرائم.

وفي الاتحاد الأوروبي، تحاول منظمات حقوقية سورية جمع شهادات المعتقلين والمنشقين عن النظام، بالإضافة إلى أدلة تورط النظام ورموزه في مجازر الإبادة الجماعية، وعمليات القتل، والتعذيب بحق الأفراد في السجون والمعتقلات وغيرها، ليكون لديهم ملف كامل لدعم إصدار قانون عقوبات أوروبي، على غرار “قانون قيصر”، يفرضه الاتحاد الأوروبي على نظام الأسد.

فهل تساعد العقوبات الغربية في تقدّم إجراءات المحاسبة وتحقيق العدالة للضحايا؟ وما المأمول من المجتمع الدولي من أجل تعزيز عمليات المحاسبة وإنهاء الإفلات من العقاب في سوريا؟

بحسب المحامي والمعارض السياسي السوري، حسن عبد العظيم، فإن أخطر ما يواجه رموز النظام المدنية والعسكرية والأمنية بعد “قانون قيصر” هو المحاكم الجنائية الدولية، التي باشرت بمحاكمة بعض عناصره بجرائم حرب لم يعد إخفاؤها ممكناً.

ويؤكد عبد العظيم أن “قانون قيصر” يأتي أولاً من حيث الخطورة لأنه “يحاصر النظام ورموزه وداعميه والمتعاونين معه، حتى لو كانوا من أصدقاء أميركا”.

أما المحامي أنور البني فيرى أن “قانون قيصر” يؤكد على أن “مسألة محاسبة وملاحقة مجرمي الحرب في سوريا لن تكون على الصعيد القضائي فحسب، بل على الصعيد السياسي أيضاً، والقرارات القضائية تجبر السياسيين على اتخاذ قرارات متوافقة مع القرارات القضائية باعتبارها ملاحقة المجرمين”.

يوافق السياسي والبرلماني الألماني من أصل سوري، جمال قارصلي، المحامي البني في رأيه، ويضيف “يجب على المجتمع الدولي أن يسخّر كل إمكانياته وقوانينه لجلب المجرمين أمام القضاء، ودعم المعارضة والمتضررين والوصول إلى حقوقهم، وأن يعطي المثال والرسالة لدكتاتوريات في دول أخرى تفيد بأن العقاب آت لكل من أجرم في حق شعبه، أو في حق الإنسانية”.

من جانبه، وصف مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني، “قانون قيصر” بأنه “قانون فيروسي متعدٍ، يفرض عقوبات على من يرتكب انتهاكا ومن يخرق القانون ومن يتعاون معه”، مشيراً إلى أن القانون ساهم بشكل من أشكال المحاسبة ضد نظام الأسد.

ويضيف أن “التقارير والوثائق الحقوقية هي أيضاً شكل من أشكال الإدانة والمحاسبة وفضح ممارسات النظام، وإن كان قانون قيصر وحده لا يكفي والإدانات وحدها لا تكفي، ويجب أن تترافق هذه الجهود وتصب في إطار دفع أكبر لعملية سياسية، وتضييق الخناق على نظام الأسد، وتحقيق الانتقال السياسي، الذي يمكن اعتباره أيضاً من أشكال محاسبة النظام”.

ويطالب عبد الغني المجتمع الدولي ببذل مزيد من الجهود لمحاسبة النظام، وبحسب قوله فإن “المحاسبة ليست فقط قضائية، بل مقاطعة سياسية واقتصادية وفضح مرتكبي الجرائم والاستمرار بعزلهم، ومن ثم الحشد باتجاه انتقال سياسي يُفقد النظام السلطة”.

أما المحامي المتخصص بالقانون الدولي، بسام طبلية، فيعتبر أن “العقوبات الغربية في إجراءات المحاسبة ما زالت غير ناجعة في الوقت الحالي، لعدم وحدة الموقف السياسي والدولي، ولذلك لا نجد نتائج ملموسة على الأرض يمكن أن ترضي الشعب السوري، وبالتالي، ما زال الجور والظلم قائماً في سوريا”.

ويرى طبلية أن على المجتمع الدولي تدريب وتأهيل الكوادر القانونية القضائية، من أجل البدء بعملية العدالة الانتقالية والإصلاح للمؤسسات في سوريا.

تلفزيون سوريا

—————————–

======================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى