الناس

سجن فُرن دمّر المركزي/ وليد بركسية

في سوريا، عدد غير محدد من المعتقلات والسجون سيئة السمعة، من فرع الخطيب بدمشق إلى سجن تدمر العسكري، وسجن صيدنايا الذي وصفته منظمة العفو الدولية “أمنستي” بـ”المسلخ البشري”، ويضاف إليها جميعاً  الآن سجن فرن (فرع) دمر، حيث “اعتُقل” عشرات السوريين في مخبز حكومي بمشروع دمر في دمشق، لساعات، بعد انتهاء الدوام الرسمي.

وتداول ناشطون سوريون مقطع فيديو مروعاً، يظهر احتجاز عشرات المواطنين في فرن حكومي كعقوبة لهم بسبب انتهاء الدوام الرسمي. ولعل الأسوأ من الحادثة نفسها، هو التبرير الرسمي لها، إذ قال مدير مخابز دمشق نائل اسمندر في تصريحات لوسائل إعلام محلية أن القرار أتى لمنع حدوث صِدام بين من يمتلكون الخبز ومن لا يمتلكونه، لعدم توافر خبز يكفي الجميع. ولا يشكل ذلك اعترافاً غريباً بأزمة الخبز التي تعمل الأجهزة الأمنية على قمع كل من يتحدث عنها في تماه مع تصريحات من “القيادة الحكيمة” بأن الأزمة الاقتصادية في البلاد وهمية، بل هو أيضاً اعتراف نادر بالسياسة الرسمية التي تعمد إلى خلق عداوات بين السوريين على مختلف المستويات حتى بين مَن يشتري الخبز ومَن لا يشتريه، وتصوير النظام على أنه الجهة الشرعية القادرة على لجم الفوضى.

ولا تشكل المقارنة اللفظية بين “سجن الفرن”، والسجون الرسمية الأخرى، مقاربة لمستوى العنف الذي يعيشه المعتقلون السوريون من تعذيب طويل الأمد، كما أنها لا تشكل انتقاصاً مما عاشه المحتجزون لساعات عادوا بعدها إلى منازلهم، لكن المقصود هنا هو إسناد الفعلين إلى جذر عنفي واحد يتأصل في طبيعة النظام السوري نفسه، لدرجة أن المسؤولين الكبار في الدولة السورية قد لا يختلفون عن موظفين صغيرين يمتلكون القوة في لحظة ما للتسلط على مواطنين آخرين.

حصول موقف مماثل في دولة تحترم نفسها ومواطنيها، مثل فرنسا أو ألمانيا، كفيل بإحداث صدمة جماعية، لكنه روتيني ومتكرر في سوريا الأسد، ومن المستحيل تقنياً ألا تكون هناك ذكريات كامنة في عقل كل سوري عن موقف يمثل نسخة كربونية مما حصل في الفرن الذي تحول إلى سجن مؤقت، حتى في سنوات قبل الثورة السورية. وإن كانت الصدمة غائبة، فإن الاستهجان كان سيد الموقف، ولو اقتصر لدى موالي النظام على الحديث عن الاهتراء الحكومي والخلل الذي يجب على “القيادة الحكيمة” معالجته.

وقبل أشهر قليلة فقط، انتشر فيديو مماثل لموظفة تدعى “مدام فاتن”، تعامل المراجعين في دائرة رسمية باحتقار وعنف، وقبلها شيّد النظام أقفاصاً حديدية لتنظيم طابور الخبز أمام فرن ابن العميد بدمشق. وقبل سنوات كان الشبان يُقتادون إلى الخدمة العسكرية مربوطين بسلاسل حديدية في مَشاهد لا تشكل حوادث فردية، بل هي في الواقع من الأسباب التي دفعت الشعب السوري إلى الثورة قبل 10 سنوات للمطالبة بالتغيير وإصلاح هذا التعفن عبر اجتثاثه من جذوره.

ولم يكن عبثاً أن تحمل الثورة السورية اسم “ثورة الكرامة”، مع الإشارة إلى أن فكرة الكرامة نفسها تم تشويهها في خطاب النظام، لتصبح مرادفة للولاء للوطن البعثي فقط، وبذلك يصبح كل مَن عارض النظام فاقداً للكرامة وعزة النفس. ويشكل ذلك مدخلاً ربما لفهم عقلية موالي النظام الذين مازالوا يفصلون بين النظام والحكومة عند توجيه انتقادات للواقع المعيشي والاقتصادي، ومازالوا يطالبون بـ”حركة تصحيحية جديدة” على غرار ما قام به حافظ الأسد العام 1970.

المضحك هنا، أن رئيس النظام بشار الأسد يتحدث، منذ خطاب قسم الرئاسة أمام مجلس الشعب العام 2000، عن الإصلاح الإداري، ويعتبر نفسه نموذجاً رائداً فيه، حتى خطاباته الأخيرة العام 2020، من دون حدوث أي تقدم، لأن الحقيقة هي أن النظام نفسه يرعى ذلك الفساد الإداري، ويعمل على خلق عداوات بين السوريين حتى ضمن هذا التصنيف الإداري الذي قد يصبح فيه الموظفون أنفسهم ضحايا وجلادين في وقت واحد.

ويعني ذلك أن من يقوم بالفعل العنيف قد يصبح، بعد ساعات قليلة، ضحية عنف يمارسه عليه شخص آخر في موقع سلطة مختلف، وذلك كتجسيد للآلية الحكومية في سوريا والتي تعتمد إذلالاً ممنهجاً للسوريين من أجل الحصول على أوراق رسمية، أو حتى الحصول على المواد الأساسية التي باتت تتطلب معاملات رسمية معقدة في السنوات الأخيرة.

ومن غير المدهش بالتالي تحول فرن بسيط إلى معتقل مؤقت، ومن غير المدهش أيضاً أن المشهد يحصل فيما يحتكر النظام الخبز وغيره من المواد الأساسية عبر “البطاقة الذكية” التي استبدلت “البونات” التي كانت منتشرة في الثمانينيات والتسعينيات. ومعها يصطف الناس للحصول على حصتهم من تلك المواد، بحيث يضع النظام نفسه في مرتبة صاحب الفضل أمام السوريين، قبل المطالبة بشكره وحمده والصبر معه على المؤامرة الكونية.

يعرف ذلك باسم “كسر النفسية”، وهو نموذج في الحكم يهدف إلى إبقاء السوريين منشغلين بالحاجات الأساسية لبقائهم على قيد الحياة بالحد الأدنى من دون امتلاك “رفاهية” النشاط السياسي والفكري، بغض النظر عن ظروف التخويف والاعتقال التعسفي. وبالتالي عندما يتم تحدي النظام كما حصل خلال الثورة السورية العام 2011، يضمن النظام عدم وجود طبقات وسيطة بين النظام في الأعلى والمدنيين المنتشرين في القاع، والقادرة على تأمين رحيل النظام نفسه بسلاسة من دون الانجرار نحو العنف. وكان النظام بأيديولوجيته المجردة يدرك ذلك، ولهذا طرح شعارات المفاضلة بين النظام والفوضى منذ العام 2011، كما تجلى ذلك أيضاً بنوعية المعارضة السورية الضعيفة والمجزأة، قبل تحول الثورة إلى العسكرة أصلاً.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى