تحقيقات

الفساد يلاحق مستقبل السوريين: شبكة تزوير شهادات مدرسية وجامعية

بالمقارنة مع جرائم النظام الأخرى، قد يبدو تزوير شهادات جامعية مسألة بسيطة، لكنها ليست كذلك. لأنها تقتل مستقبل التعليم في سوريا، وتحيل أجيالاً إلى الاتكالية والفشل وتصنع نظاماً تعليمياً قائماً على التزوير والفساد.

الأرجح ما عادت الشهادة الجامعية تشكل هاجساً أمام كسالى العلم والتعليم، ولم يعد يهم الوقت أو المستوى والتحصيل العلمي. فقط كل ما يلزم مبلغ من المال و”سرّية” في التعامل، ليحصل من يريد، على أيّ شهادة يرغب بها بما في ذلك شهادة الدكتوراه!

كيف؟ هذا يحدث في سوريا، التي تأكل الحرب مؤسساتها، وفي الحرب كل شيء يصير مباحاً، بما في ذلك التزوير. وبالمقارنة مع جرائم النظام الأخرى، قد يبدو تزوير شهادات جامعية مسألة بسيطة، لكنها ليست كذلك. لأنها تقتل مستقبل التعليم في سوريا، وتحيل أجيالاً إلى الاتكالية والفشل وتصنع نظاماً تعليمياً قائماً على التزوير والفساد.

مصدر تلك الشهادات شخصيات نافذة ضمن مديرية التربية في محافظة الحسكة. تؤمن هذه الشبكة لكل من غادر البلاد دون أن يُكمل تحصيله العلمي، أو لمن يرغب بشهادة جامعية أو مدرسية، الحصول عليها لقاء مبالغ مالية، تختلف بحسب نوعية الشهادة وسنة الصدور والفرع المطلوب.

ضرار (49 سنة) (اسم مستعار)، موظف في مديرية التربية في الحسكة يقول لـ”درج”: “شبكة تزوير معروفة بأسمائها وأماكن تواجدها ومسمّياتها الوظيفية، تؤمن شهادات مزورة لكنها مصدقة أصولاً من جميع الجهات المطلوبة، صادرة عن جامعات دمشق، حلب، الفرات أو مديرية التربية أو دائرة الامتحانات بالحسكة”.  ويتحدث الفندي عن تجربته الشخصية في هذه القضية “بعد أن فشل ولدي لدورتين متتاليتين بالحصول على شهادة الثانوية العامة، وبعد وصوله إلى أوروبا في العام 2021، تكرر الطلب إليه بالحصول على شهادة الثانوية العامة؛ للاستفادة منها في دراسة التعليم المهني”. لم يحتر ضرار في الأمر كثيراً، وهو العالم بخبايا وأسرار مديريته، ليتواصل مباشرة مع مدير شبكة التزوير ويحصل على ما يريد خلال 48 ساعة: ” أرسلت لولدي شهادة الثانوية العامة مصدقة أصولاً من مديرية الامتحانات ومن القنصلية السورية في الحسكة وبمعدل جيد أخترته أنا، كل ذلك لقاء 300 ألف ليرة سورية(حوالي 75 دولاراً بحسب سعر الصرف) فقط لا غير”.

وأكدت المصادر التي التقى بها معدّ التقرير أن “تسعيرة الشهادات تبدأ من 200 ألف ليرة سورية للثانوية العامة(حوالي خمسين دولاراً)،  300 ألف للمعاهد(75$)،   500 ألف(125$)  لأي فرع جامعي من كليات الأدب، التربية، العلوم،1000,000ل.س(250$) لخريجي كليات الهندسات، 2-3 مليون ل.س للأفرع الطبية والماسترات المختلفة، وهذه حسب التخصص والمعدل العام، و4-5 مليون (1000- 1250$) لشهادات الدكتوراه في مختلف التخصصات، يُضاف إليها رسوم التصديق من القنصلية، وتختلف الأسعار بحسب درجة المعرفة الشخصية بأفراد عصابة التزوير، أو العملة المستعملة. ويشترط السماسرة على مشتري الشهادات عدّم التقدم بها إلى أيّ جهة حكومية سواء للتوظيف أو للدراسة، لأنها ستكشف حتّماً، لكنها تُـعتمد بالتوظيف لدى المنظمات الدولية، ومؤسسات الإدارة الذاتية، وبعض الدول الخارجية التي لا تبحث في مصدر الشهادة الثانوية، بسبب الحرب وفقدان الأوراق الثبوتية.

حين وصل مروان، 29 عاماً إلى النمسا في 2015 قادماً من المالكية/ديرك في أقصى الشمال الشرقي لسورية، لم يكن يحمل سوى شهادة التعليم الإعدادي، يقول “لم ارغب في العمل في المطاعم، فهو مجهد ومتعب، ونظراً لصعوبة التأقلم مع البلدان الأوروبية بسبب حاجز اللغة والوقت الذي يستغرقه الحصول على شهادة جامعية، فإن أسهل الطرق للعمل المربح والمفيد هو التعليم المهني، الذي يخول خريجيه العمل في شتى المجالات” تواصل مروان مع أحد أصدقائه في القامشلي الذي وعده بتأمين شهادة الثانوية المهنية ومعهد المعلوماتية مع شهادة خبرة: ” أرسل لي صديقي الشهادات المطلوبة -بكالوريا، معهد، خبرة- مصدقة أصولاً من مديرية التربية في الحسكة، ومصدقة أيضاً من القنصلية السورية، كل ذلك لقاء مبلغ وقدره 550ألف ل.س”. ونظراً لخبرة مروان في مجال الكمبيوترات التي كان يعمل كفني وصيانة لها في ديرك قبل سفره، فإنه كان يحتاج فقط إلى شهادة نظامية لتخوّله الدخول إلى أي معهد فني بعد اجتياز شرط اللغة، عوضاً عن مشقة الحصول على شهادة البكالوريا الألمانية التي يصفها اللاجئون بالصعبة جداً.

ووفقاً لبعض المصادر غير رسمية، فإن آلاف الشهادات المزورة صدرت من مختلف مديريات التربية والتعليم العالي في سوريا منذ بداية الحرب في سوريا. وترجح تلك المصادر أن الاجهزة الأمنية وشبكات الفساد تشترك في عملية التزوير، لسببين: الربح السريع، وإغراق دول اللجوء بتلك الشهادات وما ستتسبب به من ارتباك وفشل وضغط المجتمع المحلي على حكوماتهم.

دول إقليمية تتخذ إجراءات صارمة ضد التزوير

التقى “درج” مع حسن، موظف في قسم تعادل الشهادات في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق، الذي أكد على سلاسة الإجراءات والتدابير التي اتخذتها الحكومة في بدايات الحرب في سورية، واستقبلت مدارس وجامعات الإقليم عشرات الآلاف من الطلبة والمدرسين والأكاديميين، من دون إجراءات معقدة و”اكتفينا بإبراز النسخ الأصلية للشهادات”. وقبل أكثر من عام “اشترطت وزارة التعليم إبراز عدد أكبر من الوثائق المطلوبة، كما يقول حسن، نتيجة لزيادة عدد طلبات التعديل للتدريس في الجامعة/المدارس الخاصة والحكومية، تتمة الدراسة في الجامعة، وعدّم رد وزارة التعليم العالي السورية على أكثر من كتّاب وجه إليها من قبلنا للتأكد من صحة تلك الشهادات. وقررت الوزارة بعد سلسلة اجتماعات، اشتراط قبول التعديل بعد تقديم الأوراق الثبوتية التالية: شهادة المرحلة الابتدائية، تسلسل دراسي وجلاء مدرسي للمرحلتين الإعدادية والثانوية مع وثائق شهادتي الإعدادية والثانوية العامة، كشف علامات وقرار التخرج لخريجي الجامعات والدراسات العليا، على أن تكون كافة الثبوتيات مصدقة أصولاً”. وينهي حسن حديثه لــ”درج” قائلاً “ليس لدينا أيّ نية لإحراج أو الضغط على الطلبة السوريين، فغالبيتهم العظمى هم من الكُرد الذين فروا من الحرب التي اختبرناها ونعرف مرارتها جيداً، لكننا ايضاً نعلم الغبن الواقع على المجتهدين والمتخرجين بشكل نظامي، من حملة الشهادات المزورة، ولنا في تجربة البرلمان العراقي وحجم التزوير للشهادات خير دليل”.

في الحرب كل شيء يصير مباحاً، بما في ذلك التزوير.

وسبق أن قررت جامعة غازي عنتاب التركية، إجبار الطلبة السوريين المقيدين في فروعها في شمال غرب سوريا، يإعادة تقديم امتحان الشهادة الثانوية بإشراف المجالس المحلية التابعة للولايات التركية في شمال وشرق حلب. ويعيد أستاذ جامعي في كلية التربية في عفرين، وهي كلية تابعة لـجامعة غازي عنتاب” التركية، قرار الجامعة إلى اكتشافها حجم التزوير الكبير في عدد شهادات الثانوية العامة الصادرة عن النظام السوري، وضعف الامتحانات وعمليات الفساد التي رافقتها تحت إشراف الحكومة السورية المؤقتة. ويقول الأستاذ: “في البداية جرى قبول الشهادات على الرغم من أن القانون التركي يؤكد ويحصر عملية معادلة الشهادات بتواجد صاحب العلاقة في تركيا، وتصديق الشهادات من خارجية دولة الطالب، وتم تقدير الظروف نتيجة هروب أعداد كبيرة من الطلاب، وعدّم تصديق الشهادات والأوراق الرسمية لغير صاحب العلاقة، خاصة المطلوبين لخدمة العلم، أو عدم التمكن من دخول تركيا بشكل نظامي، لكن تضخم عدد الشهادات، وبتواريخ صدور لم يكن للحكومة السورية من وجود رسمي في وقت صدورها في شمال غرب سوريا، كشف عن عمليات تزوير ضخمة”.

ويبدو لبنان أكثر الدول تداركاً لقضية التحايل وتزوير الشهادات، فوزارة التعليم العالي في بيروت تتواصل مع نظيرتها في دمشق، بغية التأكد من قضية صحة تلك الأوراق من عدمها، وهو ما أثمر عن كشف تزوير شهادة دراسة ثانوية عامة سورية قدمها المواطن السوري “م.ش” وفقاً لوسائل إعلام مختلفة، تقدم بها لتصديقها، لتبادر عناصر من الأمن العام اللبناني بإيقافه في مبنى وزارة الخارجية والمغتربين  بعدما حضر لتصديق شهادة دراسة ثانوية عامة سورية تبيّن أنّها مزوّرة. واعترف الشاب بحصوله على شهادة مزورة عبر سماسرة يضعون أرقامهم وإعلانات عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي ، لاستلام الشهادة خلال شهر مقابل 300$ أميركي، ليُحكم بعقوبة الأشغال الشاقة مدة ثلاث سنوات، وإلزامه بدفع خمسة ملايين ليرة لبنانية للجهة المدعية (وزارة التربية والتعليم العالي ممثلةً برئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل) كتعويض عن العطل والضرر اللاحق بها.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى