سياسة

صواريخ حماس وكيماوي بشار/ عمر قدور

يتوجه رئيس الأركان الإسرائيلي نهاية هذا الأسبوع إلى الولايات المتحدة في زيارة تستغرق ستة أيام، هذا ليس بالخبر الروتيني إثر العديد من التطورات، آخرها عودة التصعيد المحسوب بعد إطلاق حماس بالونات حارقة والرد الإسرائيلي بغارات محدودة. أيضاً هي ليست بالزيارة الروتينية عطفاً على التغيرات السياسية في البلدين، فقد انتهى ذلك الانسجام التام المتمثل بترامب-نتنياهو، واليوم هناك قيادتان جديدتان لا يُتوقع منهما استعادة جزء معتبر من الانسجام المفقود.

إلا أن الحدث الأبرز الذي يستدعي ذهاب رئيس الأركان لمناقشة الأمنية المشتركة هو الموقف الأمريكي الأخير من المواجهة بين تل أبيب وحماس، والتبدل الحاصل فيه لا يختصره طلب بايدن من نتنياهو وقف إطلاق النار، رغم ما بدا كانحياز أمريكي تقليدي في تعطيل مجلس الأمن حتى يستنفذ القصف الإسرائيلي بنك أهدافه. واحد من أوجه التبدل آنذاك أن يكتب وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن على حسابه في تويتر بعد مطالبته بإيقاف الهجمات الصاروخية لحماس: الإسرائيليون والفلسطينيون، على السواء، يستحقون الحرية والكرامة والأمن والازدهار. ليعود بلينكن، أثناء زيارته للمنطقة بعد وقف إطلاق النار، ويؤكد قوله السابق: نؤمن بقوة أن كلاً من الفلسطينيين والإسرائيليين يستحقون بشكل متساوٍ العيش في أمان واستقرار، والتمتع بفرص متساوية من الحرية والكرامة.

هناك تغير في واشنطن من المرجح أنه يتعدى التغير المعهود بين إدارة جمهورية وأخرى ديموقراطية، وصواريخ حماس التي أُطلقت على تل أبيب سرّعت في كشف الغطاء عن ذلك التغيير، إذا لم يكن هذا الكشف جزءاً أساسياً من أهدافها. ويجدر أن نتذكر، مع حفظ الفوارق، حدثاً كاشفاً في حينه هو استخدام بشار السلاح الكيماوي في آب2013، وكيف كشف ذلك التغيرَ في إدارة أوباما التي كانت قد تراجعت عن إعلان استخدامه الكيماوي خطاً أحمر.

بالنظر إلى الحدثين كحدثين مجردين عن انحيازاتنا السياسية أو الأخلاقية التي قد تتباين إزاء كل منهما، يصعب تصور اتخاذ قرار إطلاق صواريخ حماس باستقلالية تامة، مثلما يصعب تصور اتخاذ بشار قرار استخدام الكيماوي منفرداً؛ في الحالتين علينا عدم إغفال وجود إيران في الخلفية. علينا تالياً الانتباه إلى التوقيت، ففي المرتين كانت هناك مفاوضات أمريكية-إيرانية في الملف النووي، وهناك إدارة أمريكية متلهفة لإنجاز اتفاق.

كان أوباما، بعد التوقيع على الاتفاق النووي، قد صرّح بأن الأمر يعود إلى قادة إيران، ولهم الخيار بين استخدام الأرصدة المفرج عنها من أجل رفاهية شعبهم، أو إنفاقها على تدخلاتهم وميليشياتهم في الجوار. ذلك كان من ضمن التفاهمات المُلحقة بالاتفاق النووي “أو المؤسسة له؟”؛ أن تترك واشنطن لإيران حرية التمدد في المنطقة، أو أن لا تعارضها في المناطق التي صارت تُعتبر مراكز نفوذ إيرانية، من اليمن مروراً بسوريا والعراق إلى الضاحية الجنوبية “وحتى غزة؟”.

في الأصل، من الخطأ تخيّل صفقة تتنازل بموجبها طهران عن طموحاتها النووية فقط لقاء الإفراج عن أرصدة مجمدة، أو رفع عقوبات اقتصادية. تحفظات الجمهوريين “وكذلك تحفظات تل أبيب وعواصم خليجية” على الاتفاق أتت من إقراره الضمني بالتمدد الإيراني، ومن كون الاتفاق “يؤجل” ولا يلغي الطموح النووي، وهذه من أسباب زيارة رئيس الأركان الإسرائيلي الأخيرة، فهو بحسب بيان الجيش “سيناقش المسائل المرتبطة بالتهديد النووي الإيراني وتثبيت إيران نفوذها الإقليمي في المنطقة وجهود حزب الله لتعزيز قواته”. ولعل الحكومة الإسرائيلية الجديدة تحاول استعادة التنسيق مع واشنطن من خلال البنتاغون، والافتراق بين الجانبين عبّر عنه نتنياهو بأولوية التصدي للتهديد النووي الإيراني على العلاقة بين الجانبين، وهو التصريح الأول من نوعه خلال عقود من العلاقة الوثيقة جداً بين الحليفين.

صمتت إدارة بايدن عن الدور الإيراني في الخلفية، قادة حماس هم من تبرع لاحقاً بتوجيه الشكر لطهران وللمنضوين في الحلف الإيراني. هذا من ضمن الدلالات التي يجدر الانتباه إليها، إذ لم تتخذ واشنطن موقفاً صارماً من تهديد مدعوم إيرانياً يطال الحليف الإسرائيلي مباشرة. لقد تغيرت نظرة واشنطن إلى قواعد الاشتباك، فلم تعد إسرائيل وحدها تضرب القوات ومستودعات الأسلحة الإيرانية في سوريا بل يمكن أن تكون هدفاً لألوف الصواريخ المعتمدة على التقنية الإيرانية، ومع صمت أمريكي لم تعكّره ولو إدانات لفظية خفيفة لطهران.

في واشنطن اليوم إدارة الكثير من أركانها يُحسب على تركة أوباما، والأهم أن هؤلاء من ضمن سياسات الحزب الديموقراطي الذي ما يزال أوباما يحظى بنفوذ فيه، مع منافسة مما يوصف بالجناح التقدمي الذي يطالب بسياسات خارجية أكثر “راديكالية”، وفي هذا السياق لا عقدة مع الناخبين اليهود في الولايات المتحدة، فهم تقليدياً يصوتون للحزب وفق حسابات داخلية. فضلاً عن الرئيس الذي كان نائباً لأوباما، أشخاص مثل مستشار الأمن القومي جايك سوليفان ووزير الداخلية بلينكن وروبرت مالي المبعوث لإيران هم من ضمن التيار الذي قبل في عهد أوباما ويقبل الآن بواقع التمدد الإيراني ضمن استعادة الصفقة النووية.

مجدداً، مع الاتجاه الأمريكي شرقاً والتركيز على الصين، تعود الاستراتيجية الأمريكية للإشراف على اقتسام النفوذ في منطقة الشرق الأوسط، ولإيران فيها نصيب كبير بينما تتولى واشنطن تقديم ضمانات لحلفائها التقليديين بحماية أمنهم المباشر من المطامع الإيرانية، لكن عليهم القبول بإيران كقوة إقليمية تحظى برضا أمريكي. سنرى الفريق ذاته المتحمس للاتفاق النووي، وخلفه الدور الإقليمي لإيران، يوجه انتقادات للحلفاء التقليديين، لسياساتهم الداخلية والخارجية على السواء، أنصار هذا الفريق في الكونغرس مثلاً لا يخفون عداءهم للحكم في السعودية ومعارضتهم حربه في اليمن.

يصادف أيضاً أن يحمل أنصار هذا الفريق توجهاً فيه تفهم للقضية الفلسطينية، وقد يصل مع البعض منهم إلى إبداء التعاطف الصريح. ومن المعتاد في عموم الغرب أن نرى لدى المتعاطفين مع القضية الفلسطينية انحيازاً ما إلى إيران، والنظر إلى حكم الملالي كنظام تقدمي بالمقارنة مع تخلف واستبداد جيرانه العرب والخليجيين خاصة! إنها بالطبع ليست وصفة حتمية، لكن وجودها في الواقع يقول أن التعاطف الغربي مع القضية الفلسطينية لا يستتبع حتماً التعاطف مع باقي شعوب المنطقة. على سبيل المبالغة؛ كأننا في الانقسام الأمريكي إزاء يمين أمريكي إسرائيلي ويسار الولي الفقيه. وأن يكون اليسار أفضل للفلسطينيين فهو تفصيل من ضمن استراتيجية أوسع تسحق بموجبها إيران شعوباً أخرى، وبالتأكيد لا يعِد اليمين شعوب المنطقة بالأفضل، فمشكلة ترامب مع بشار الأسد مثلاً تتلخص بتحالفه مع إيران وعدم إتلاف مخزونه الكيماوي، أما بايدن فتوقف فقط عند الجانب الكيماوي، وغابت معاناة السوريين عن اهتمام الاثنين.

اليوم، عندما نسترجع تسامح أوباما مع استخدام بشار الكيماوي، ندرك جيداً الحيثيات التي أحاطت بالتسامح الأمريكي، وقبل ذلك باتخاذ قرار استخدام الكيماوي باطمئنان. بعد سنة من نجاة بشار بصفقة الكيماوي، ومع تقدم مفاوضات الملف النووي، سينقلب الحوثيون على التسوية في اليمن، وكان تدفق الميليشيات الإيرانية إلى سوريا قد انتعش بتدفق الأموال. التطور الأهم هو فهم الرسالة الأمريكية على أن واشنطن لن تدعم بعدُ التغيير الذي وعدت به ثورات الربيع العربي، لأن في استراتيجيتها ترتيبات أخرى للمنطقة وتوازن القوى والنفوذ فيها.

اليوم أيضاً، تنتصر حماس، ثم قبل أسبوعين يهدد رئيس الحركة في قطاع غزة يحيى السنوار بتغيير شكل الشرق الأوسط لو عادت المعركة مع إسرائيل. لا يسعنا أخذ التصريحات بحرفيتها، ولا ردّها إلى مألوف رطانة الممانعة اللفظية. لنا أن نتخيل ماذا سيكون الحال لو حدثت المواجهة بين الطرفين أيام ترامب، وكيف ستكون حكومة نتنياهو طليقة من أي ضغط أمريكي، وربما كان استفاد شخصياً وبقي في رئاسة الوزراء حتى الآن، هذا إذا كانت حماس ومَن خلفها مستعدين للتصعيد لولا المستجدات الأمريكية بمجيء بايدن.

التغير الاستراتيجي الأمريكي أتى وطهران بأمس الحاجة إليه، بدءاً من تدهور الاقتصاد وصولاً إلى استهداف قوتها من سوريا وصولاً إلى قلب مفاعلها النووي. وهو تغير كان ليكتسب زخماً أكبر لو لاقاه حكم الملالي بمرشح معتدل للرئاسة بدل الزج بمرشح محسوب على التيار الأكثر تطرفاً. من هذه الزاوية قد لا تنجح واشنطن، أي لا تنجح في إنقاذ النظام الإيراني من ذاته على المدى البعيد، رغم الأثمان التي دفعها ويدفعها سوريون وعراقيون ولبنانيون لبقائه وتمدده في المدى القريب.  

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى