بداية الحلم الدستوري الوطني.. الجمعية التأسيسية السورية (1949 – 1950)/ طالب الدغيم

2025.04.04
جرت انتخابات الجمعية التأسيسية في سوريا في 15 من تشرين الثاني/نوفمبر 1949، ومع أن تلك الانتخابات كانت شديدة الأهمية في سوريا، إلا أن نسبة إقبال الناخبين عليها كان فاتراً، ولم تتجاوز 45% في دمشق، و31% في حلب.
ولعل سبب الفتور هو التنافس والصراع بين الأحزاب السياسية، إذ دعا الحزب الوطني المواطنين لمقاطعة الانتخابات بعد رفض الحكومة الأتاسية العودة إلى دستور 1930، ورَفضِها دعوة البرلمان الذي حله حسني الزعيم للانعقاد، ليكون بديلاً عن انتخابات جديدة.
رأى كثيرون بأن انتخابات الجمعية كانت أول انتخابات نيابية حرةٍ في تاريخ سوريا الحديث، حيث أُعطيت تعليمات للناخبين للإدلاء بأصواتهم سراً، وتحت إشراف حكومي دقيق. ونظراً لحرية تلك الانتخابات، أعلنت أكثر الصحف الحزبية “الإسلامية والقومية اليسارية” المتابعة، بأنها كانت من أكثر الانتخابات نزاهة في سوريا حتى ذلك التاريخ[1]. وقد شهد رجال الصحافة المحليون والأجانب، بأن الحرية التي مارسها الناخبون في انتخاب أعضاء الجمعية لم يكن لها مثيل في المشرق العربي[2].
وبذلك تحولت مقاعد الجمعية إلى ائتلاف جديد، مبني على تحالف شعبي إسلامي (بين حزب الشعب والجبهة الإسلامية)، بعد فوز حزب الشعب بـتسعةٍ وأربعين مقعداً، والجبهة الاسلامية بأربعةِ مقاعد، ونال المستقلون أربعين مقعداً. وأخذت العشائر تسعةَ مقاعد، وفق القانون الانتخابي الجديد[3].
بدأت أولى جلسات الجمعية التأسيسية في 29 من كانون الثاني/يناير 1949، وانتُخب رشدي الكيخيا (أمين عام حزب الشعب) رئيساً لها. وتم اختيار لجنةٍ دستوريةٍ عامة مؤلفة من ثلاثةٍ وثلاثين عضواً، واختارت اللجنة ناظم القدسي رئيساً لها، وكُلفت بوضع دستور جديد[4]. وتكونت اللجنة من أعضاء حزبيين وقانونيين ومستقلين، كانوا قد نالوا الثقة الشعبية في الانتخابات.
عَقدت اللجنة الدستورية العامة في الجمعية اجتماعاتٍ تمهيدية، وانتخبت لجانا فرعية “لجنة تحضيرية ولجنة صغرى”.
وتداولت اللجنة التحضيرية في خمسةٍ وأربعين اجتماعاً مُقترحات اللجنة الصغرى، وقرأت خلالها نحو خمسة عشر دستوراً أوروبياً وآسيوياً، من بينها دساتير عربية. وبعد ذلك، أحيلت خلاصة نقاشات اللجنتين إلى اللجنة العامة لتعديلها. وقد تجاوزت اجتماعات اللجنة العامة تسعة وعشرين اجتماعاً، وقامت بقراءةِ مسودة الدستور مرتين. ثم عرضت المسودة على الجمعية التأسيسية للحصول على الموافقة أو التعديل أو الرفض، وذلك في نيسان/ أبريل 1950[5]. وقد استغرقت مرحلة إعداد اللجان الثلاثة للدستور نحو ثلاثةَ أشهر كاملة تقريباً[6].
ومع ذلك، فلم تُعتَمدْ مسودة الدستور بشكل مباشر، بسبب عدم التوصل لاتفاق حول قضايا خلافية في عدد من مواده[7]. فانتخبت الجمعية لجنةً حزبية مشتركة، للوصول إلى حلٍ وسط حول تلك المواد. وقد أنهت اللجنة أعمالها في تموز/يوليو 1950. ومن ثم وافقت الجمعية بالأكثرية على تعديلات اللجنة النهائية في 5 من أيلول/سبتمبر 1950[8].
أكد دستور الجمعية لعام 1950 في مادته الأولى، على عروبة سوريا، ونظامها الجمهوري النيابي (م1). وأنها وحدة سياسية لا تتجزأ (م1). وأضيف لها بأن السيادة من حق الشعب، وتقوم على مبدأ “حكم الشعب بالشعب وللشعب” (م2). وكانت تلك الفقرة مستمدة من دساتير أميركا الشمالية، ومن دستور فرنسا لعام 1946، وأضيفت لها عبارتا “ديموقراطية” و”ذات سيادة” حتى تتناسب مع الأوضاع السياسية المتأزمة في سوريا في تلك المرحلة.
وفي سياق المرحلة، نشبت خلافات ساخنة حول المادة الثالثة، التي نصت على أن دين الدولة الاسلام. فأخذت تلك المادة حيزاً كبيراً من النقاشات. وجرى تثبيت المادة كما وردت في دستور سوريا للعام 1930، بأن يكون دين رئيس الجمهورية الإسلام، وتكون حرية الاعتقاد مصونة للجميع على اختلاف طوائفهم وانتماءاتهم[9].
وقد تمثل الإنجاز القانوني المهم في دستور 1950 في طرحه مواد تتعلق بالحريات الفردية، وتأكيده على المساواة الاجتماعية والاقتصادية بين المواطنين(م28). واعتبر عبد الوهاب حومد بأن دستور 1950 حقق ما يمكن تسميته بــ “مساواة الحظوظ الاجتماعية”، ووصفه بالقول: “هو مسألة خبزٍ، وبطن جائع، وهو رسالةُ عدالةٍ يتبناها الإسلام”[10].
شمل الدستور الجديد وعوداً بالتغيير، والإصلاح الجذري في بنية النظام الاقتصادي والاجتماعي. حيث حُددت الملكيات العامة، وجرى تعيين طرق حيازة الملكية الخاصة(م21). وكما نص الدستور على أن العمل هو أساس للحياة الاجتماعية، وهو حق للجميع (م26). والدولة تكفل توفيره لهم (م26)، وتقوم بحمايته من خلال تحديد عدد الساعات، وتحسين الظروف الاقتصادية والصحية للعاملين، وتأليف النقابات ضمن القانون (م29). ونص الدستور على إعطاء أولوية للتعليم، فهو حق لكل مواطن سوري، ومن الضروري توسيعه في المناطق الريفية (م28)[11]. ولكن السؤال هنا: ما القيم الثقافية والاجتماعية التي حملتها صيغة الدستور الجديد لعام 1950؟
في قراءة تحليلية للدستور، يبدو لنا الفرق بينه وبين دستور سوريا الذي عدله الفرنسيون في عام 1930، ولا سيما فيما يتعلق باهتمام الدستور الجديد بالحقوق المواطنية والحريات العامة، والإلحاح على قضايا الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي، والتأكيد على البعد الهوياتي القومي الاشتراكي في سوريا.
فقد عكست ديباجة الدستور التأثيرات الليبرالية التحررية السياسية والاجتماعية والاقتصادية الغربية. وفي الوقت ذاته، فقد كشفت مواده عن نفوذٍ كبير للنخبة الراديكالية اليسارية ذات التوجهات الاشتراكية. فألحت تلك القوى على تغير النظام الاجتماعي والاقتصادي، والذي أُهمل طويلاً، نتيجة انشغال السوريين بأزماتهم بعد الاستقلال. واعتبر حومد بأن ذلك الدستور أكد على القيمة الأخلاقية والروحية للحياة الدستورية الجديدة[12]، فأعطى المرأة المتعلمة حق الانتخاب، ومهد لها حق الترشح، بإعلان أديب الشيشكلي ذلك في دستوره عام 1953.
وقد أشاد مصطفى السباعي (رئيس الجبهة الاسلامية الاشتراكية) بدستور 1950، وعدَّه “أول دستورٍ تُصدره هيئة منتخبة من قبل الأمة “و”لا علاقة له بسلطةٍ أجنبيةٍ أو استبدادية”. ورآه يكتسي “ثوباً إسلامياً واشتراكياً معتدلاً”، ويمثل “صورةً صادقةً لرغبات الشعب”[13]، وهو ما يكشف مستوى التطور السياسي والثقافي في سوريا خلال المرحلة بين عامي 1920 و1950.
ومع ذلك، فإن دستور الجمعية احتوى على بعض الثغرات القانونية في صياغته، ولا سيما أنه تضمن مواد لا تقبل التعديل بسهولة، وسبب ذلك هو مخاوف النخبة الدستورية التي وضعته، من أن يَستغل السياسيون والعسكريون السلطةَ لصالحهم بعد انقلابين متتابعين. وكذلك تزايد حدة الاستقطاب العنيفة بين القوى الحزبية المتصارعة، فكان لا بد من وجود مواد دائمة تُسرع عمله وتكون خاتمة للتعديلات المستمرة[14]. وقد كشف عيوب الدستور توري الذي رأى بأن “دستور 1950 احتوى على أكثر من مئة وستين مادةً جامدة”. مما أفسح المجال لكثرة التأويلات بشأنه، بسبب تركيزه على البنود الجزئية أكثر من المبادئ الأساسية الضرورية[15].
لعل أول ثغرة قانونية احتواها الدستور الجديد، هو إضافة المادة (165) في آخره، والتي نصت على تحويل الجمعية التأسيسية إلى مجلسٍ نيابي. وكان من المنتظر أن يَحل الرئيس هاشم الأتاسي الجمعية، وتبدأ انتخابات نيابية جديدة. ولكن التوتر السياسي، ومخاوف حزب الشعب (ذي الأغلبية داخل الجمعية) من عودة الحزب الوطني للسلطة، أو وصول قوى يسارية منافسة له في حال أجريت انتخابات جديدة. وذلك دفعه لإقناع الأعضاء المستقلون في الجمعية، بأهمية تحويل الجمعية إلى برلمان للحيلولة دون عودة الفوضى إلى سوريا[16].
فكانت تلك القضية آخر النقاشات الحادة التي جرت في جلسات الجمعية، حيث طرح الأعضاء عدة أسئلة للنقاش، ومنها:
1ــ هل ستنقلب الجمعية إلى مجلس نيابي؟
2 ــ إذا تم تحويل الجمعية إلى برلمان هل المجلس قادر على تحمل مسؤولياته الداخلية والخارجية بناء على الدستور الجديد؟
وفي نهاية النقاشات، تم الاتفاق بين الأكثرية في الجمعية على تحويلها إلى مجلس نيابي، وتسلم صلاحيات النيابة المنصوص عليها في الدستور الجديد. ومن ثم أعلن الدستور السوري بعد يوم واحد في 5 من أيلول/ سبتمبر 1950. وانتَخب النواب هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية، فأدى اليمين الدستورية رئيساً أمام البرلمان الجديد[17].
وبذلك مثَّل دستور 1950 حصيلةً دستورية لتجارب المراحل السياسية التي عاشتها سوريا بين أعوام 1908 و1950م. وقد عكس مناخاً من الحرية السياسية والاجتماعية في سوريا، وشكل وثيقة أولية كشفت طبيعة قضايا الخلاف الاستقطاب السياسي التي عاشتها سوريا فيما بعد، ولا سيما ما تعلق بقضايا مصيرية، كالأقليات داخل الدولة، وشكل الهوية السورية، والحريات السياسية، والإصلاح الاقتصادي والعدالة الاجتماعية والحقوق المدنية الفردية وغيرها.
في الواقع، رغم أن دستور الجمعية عام 1950، شكل انتعاشه نوعية للحياة المدنية، وللحريات السياسية التي أثبتتها النقاشات الشعبية والحزبية في تلك الفترة، إلا أنه كشف مطامح النخب الحزبية التي كانت تستولي على سلطة القرار، كحزب الشعب واليساريين الاشتراكيين، وأظهر اختلاف وجهات نظر قادة المجلس العسكري للجيش السوري. وبالتالي، فإنه بالرغم من الأهمية الليبرالية لتلك المرحلة، إلا أن تسلط النخب وسيطرتهم على القرار بالتحالف مع الجيش أثّر على الحياة الدستورية إلى درجةٍ كبيرة. ولهذا لم يَستمر العمل بالدستور طويلاً، وتعرض للإلغاء عدة مرات، وكان آخرها في شهر آذار/مارس 1963.
المراجع:
Torrey op. cit, 151. [1]
وشارك في انتخابات الجمعية التأسيسية من المواطنين، نحو مليون ناخب سوري، مؤهلين للتصويت، وبينهم 8964 امرأة مصوتة.
[2]نتائج انتخابات الجمعية، محاضر الجمعية التأسيسية، الجلسة الثانية والستون، 15 من أيلول/سبتمبر 1950، 1169.
[3] الكيالي، المرجع السابق، 356.
[4]تألفت اللجنة الدستورية في سنة 1950 من ناظم القدسي رئيساً، وعبد الوهاب حومد مُقرراً، وزكي الخطيب نائب الرئيس. والأعضاء هم: إسبر اليازجي، وأنور إبراهيم باشا، وجميل العبد الله، وجلال السيد، وحسين الشوفي، وحامد منصور، وحكمت الحراكي، ودهام الهادي، وراتب الحسامي، ورئيف الملقي، ورزق الله الأنطاكي، وزكي الخطيب، وسعيد حيدر، وشاكر العاص، وعارف الطرقجي، وعبد اللطيف المقداد، وعبد اللطيف يونس، وعبد الله تامر، وعبد الحميد الدويدري، وعبد الوهاب حومد، وعبد الوهاب سكر، وعصمت شاهين، وعلي بوظو، وقاسم الهنيدي، وقدري المفتي، ولطيف غنيمة، ومحمد …. خير الحريري، ومحمد الشواف، ومصطفى السباعي، ومنير العجلاني، وهايل السرور وغيرهم، انظر: تقرير رئيس الجمعية رشدي الكيخيا، محاضر الجمعية التأسيسية، مُلحق الجلسة الحادية والعشرين، 15 من نيسان/أبريل 1950، 4 ــ 5
[5]محاضر الجمعية التأسيسية، المرجع نفسه، 4 ــ 5.
[6]يوسف إيبيش ويوسف خوري، المرجع السابق، 746.
[7] Torrey, op. cit, 170.
[8] عبد الوهاب حومد، تقرير لجنة الدستور، محاضر الجمعية، الجلسة التاسعة والثلاثون، 25 من تموز/يوليو 1950، 659. وفي: محاضر الجمعية، الجلسة الحادية والأربعين، 29 من تموز/يوليو 1950، 660 ــ 665. للاطلاع على نموذج من صيغة الدستور النهائية، انظر: الملحق 2.
[9] محاضر الجمعية التأسيسية، المرجع السابق، 668.
[10]يوسف ايبش ويوسف خوري، المرجع السابق، 743.
Majid, op.cit, 157. [11]
[12] عبد الوهاب حومد، الجريدة الرسمية للجمهورية السورية، الجلسة الرابعة والأربعون في 1 من آب/أغسطس 1950، العدد 9، بتاريخ 1 من مارس 1951، 730.
[13] مصطفى السباعي، محاضر الجمعية التأسيسية، الجلسة الثامنة والثلاثون، 24 من يوليو 1950، 637 ـــ 638.
Majid, op. cit, 158 -159. [14]
Torrey, op. cit, 175. [15]
وكما أشار إلى عيوب دستور 1950 النائب المستقل عبد السلام حيدر. فهو عده دستوراً قليل المرونة، وكما تظهر مواده وكأنه وضع كقانونٍ مؤقتٍ، وليس دستوراً ثابتاً. وكما أنه احتوى مواد تفصيليةً كثيرة تتعلق بالتعليم، والوظائف العامة، والمعاهدات الدولية في المواد (25و36و60)، انظر: عبد السلام حيدر، محاضر الجمعية التأسيسية، الجلسة الثامنة والثلاثون، 24 من تموز/يوليو 1950، 638 ـــ 640.
[16]محاضر المجلس النيابي، الجلسة الأخيرة للجمعية التأسيسية، 9 من أيلول/سبتمبر 1950، 10.
[17]الحوراني، المرجع السابق، ج2، 1240 ــ 1241.
تلفزيون سوريا