نصوص

نساء العائلة… تاريخ خاص/ راتب شعبو

عندما يتدحرج قلبي على سفوح ذاكرتي، فإنه يستقرّ في محلين كانت فيهما نساء عائلتنا في موقع الضعف والقوّة، المصاب والرحمة، العبء الثقيل والكتف التي لا تتنحى عن الحمل، في الآن نفسه. كان لنساء عائلتنا تاريخهن الخاص، تاريخ ناصع ومؤلم معاً، ضمن تاريخ العائلة العام.

يبدأ التاريخ بالأم التي لم تخذل القدر حين اختارها كي تكون خيمة لعائلة، قبل أن تكمل عامها السابع عشر. واندفعت لهذا الدور دون أن تلتفت إلى الخلف، وبمسؤولية تتجاوز عمرها، وكأنها مندوبة للصبر والتحمّل والعمل. تعمل بأقصى ما تستطيع دون شكوى، وترضى بما هو متوفر دون تأفف، ولا تكلّ عن توسيع دائرة عيش عائلتها، بإرادة ثابتة مشفوعة بوجه بشوش وضحكة حاضرة وسخرية ذكية ورضا يريح النفس.

فرحت الأم الشابة بأن تكون ثمرة بطنها الأولى والثانية ذكرين، فالولد يسند الأهل ويملأ عين الناظرين إلى العائلة، ولكنها فرحت أيضاً حين أنجبت بعدهما أولى بناتها. البنت من روح الأم، وهي، بعد كل شيء، الوحيدة التي يمكن للأم أن ترمي عليها، دون حرج أو كثير حساب، أثقال روحها حين تتعب.

المرأة للمرأة، أكانت ابنة أو أخت أو صديقة أو جارة، مكان لا يملأه الرجل. ثم بعد ثلاثة ذكور آخرين، أنجبت أمي الابنة الثانية (التي ستكون غصّتها الأولى)، قبل أن تختم بي مشوار ولاداتها الطويل، كي أكون رفيقها حين بدأ الأخوة يبتعدون، وكي أكون شاهداً على ذاك الجمع النادر بين الرقة الخالصة والعزم الذي لا يلين.

بغدر من مرض لا يزال يجثم على صدور الناس كالكابوس، سقطت الابنة الثانية عن صهوة صحتها وعافيتها، فيما هي تدخل بستان شبابها الأول، وتحول عنفوان فتوتها إلى أنين واحتجاج عاجزين في فراش كئيب.

“ورم يوينغ”، لا أزال، وسأبقى، أحفظ ذلك الاسم الغريب الذي دمّر حياتنا، كما كتبه الأطباء على أوراق كان يأتي بها أبي من المخابر بعينين تمزجان النقمة والحزن. كان الأنين يدفع ذكور العائلة إلى النفور والابتعاد عن البيت، ولكنه كان يزيد اقتراب الأم من ابنتها، ويزيد من اتساع قلبها لكل صنوف شكوى الابنة المريضة، وكل صنوف اللوم والاحتجاج على القدر الذي لم تأخذه الشفقة بطفولة ضحيته، ولم يخجل من لهفة الأم وتكرّسها التام لابنتها، فأكمل مشواره الثقيل إلى أن قطف البرعم قبل أن تضحك الزهرة التي يكتنزها.

كانت الابنة الكبيرة قد تزوجت باكراً جرياً على عادة متبعة، هكذا غدت الأم مرة أخرى وحيدة في حمل ثقل عائلة من الذكور، الثقل الذي لم يجعلها تنسى خسارتها الأولى. من حين إلى حين، تخرج صرة ملابس فقيدتها من الخزانة وتفتحها بهدوء اليائسين، وتفرد قطع الملابس وتتأملها، وبطبقة صوت هادئة مبلولة بالحزن، لا أسمعها منها في حالة أخرى، كانت تزرع بين القطعة والأخرى عبارات الأسى، فتقول، وكأنها تخاطب أختي الفقيدة: “هل بقيت هذه الملابس على مقاسك؟ ألم تكبري؟ لقد باتت قريناتك صبايا!”. ثم تخاطب الكون بالصوت نفسه، بعتاب المستسلم: “ها أنا أبكي فقدان ابنتي التي كان ينبغي أن تبكي فقداني”.

كان أبي يضيق بهذا الطقس المتكرّر، فالذكور ينفرون من الذكريات الحزينة. ومن جهتي، لا أحب أن أرى أمي حزينة، وكان قلبي ينقبض حين تبدأ الإعداد لطقسها هذا، ولكنها كانت تكبر في قلبي أكثر. وبينما هي تنشغل تماماً في فتح نافذة التواصل تلك مع أختي، كنت أبقى قريباً منها، منشغلاً بمواضيع لا تعني الكبار بشيء. مثلاً كنت أبحث عن اسم لي حين أكبر ويصبح من الضروري أن استبدل اسمي الطفولي باسم غير طفولي. لقد صدف أن الأسماء لم تتكرر في عائلتنا الكبيرة، وهكذا كنت أعتقد أن الأسماء تتغيّر عند عمر معين، فكنت اجد أن اسمي وأسماء أقراني لا تليق أن تكون أسماء رجال بالغين، على خلاف أسماء الرجال في العائلة.

ولم أكن أفهم لماذا لا يتكلم الكبار عن هذا الأمر، ولماذا لا أحد يذكر ماذا كانت الأسماء الطفولية للرجال في العائلة الكبيرة. وغالباً ما كان ينتهي الأمر بأن أحار في اختيار الاسم، وأتعب، ثم أنظر إلى أمي التي يطول انشغالها، وينقبض قلبي من جديد، دون أن أقوم بما يفسد عليها خلوتها.

أما أمي، وكما لو أنها كانت تقرأ انقباضي، فقد كانت تتوجّه إلي بعد أن تنهي طقسها، وتعيد صرة الملابس إلى الخزانة، وتخاطبني كبالغ يفهم ويستوعب، وكم كان هذا يسعدني، فتقول لي إن هذا الشيء الذي تعمله يريحها، فهي لا تستطيع أن تنسى، وتضيف إن هذا ربما كان يريح أختي الفقيدة أيضاً. كانت تعيد قول ذلك في كل مرة تجدني بجوارها بعد ضبَّ صرة الملابس، في هدوء وطمأنينة مشابهة للسلام على الملائكة بعد انتهاء الصلاة.

طال عصف الزمن بأمي وأنهكتها جديتها في العمل وحمل الأعباء، فتعثرت، وتهالكت حين غاب صوت أبي الذي كان يهدر كرعد مخيف، ولكنه مع ذلك كان يغذي فيها إرادة الحياة. تكالبت عليها السنون وفشلت في أن تنال من عزيمتها، ولكنها نهشت عظامها، فانكسرت. وكان حضن ابنتها جاهزاً لها فلم تسقط. من طبيعة اليد الرحيمة لنساء العائلة أنها تمتد دون اكتراث بثقل العبء، وكأن العبء يخف على اليد الرحيمة.

كانت أمي حين ترانا متهيبين من ثقل عمل ما، تقول، وهي تعيد ربط الإشارب خلف رقبتها بشكل محكم، الحركة التي تشي بأنها سرعان ما ستنكبّ على العمل بكل جدية: “همّ ع الشغل بيخاف منك”، أو تقول، حين كان يقف أحدنا يتأمل ما ينتظره من عمل: “طلّع فيه بيطلع فيك”، أي إذا شعر العمل أنك تهابه فإنه سوف يزيد من وقاحته وثقله عليك. وقد اكتشفت لاحقاً أن هذه هي أيضاً حكمة اليد الرحيمة التي لا تتردد في المساندة وفي تولي المهمة الصعبة بدافع عميق لا يهاب، كان يتوفر دائماً في قلوب نساء العائلة.

بحجة مرض اسمه سرطان البنكرياس، أطفأت الأيام آخر شمعة في عمر أمي، وكان قبل ذلك قد بدأ مرض شبيه اسمه سرطان الثدي، في ابتكار ذريعة للموت كي يقضم عمر ابنتها الرحيمة، وكأن لهذا الحليف الآثم مع الموت، ثأراً مع نساء العائلة.

بكل ما أوتيت الأخت من ضحك ومن إحساس بالسخرية، قاومت مرضها. في أيامها الأخيرة لم تعد رئتاها تمنحانها ما يكفي من القوّة للكلام، تركت رئتيها الضعيفتين توفران ما يلزم من الحياة لجسمها المتعب، واكتفت بسماع الأغاني: “سهرة حب” هي تفضيلها الأول.

في آخر اتصال لي معها، قبل أن تدير ظهرها للحياة بيوم واحد، قالت ساخرة: “قربت توصل وردة”، في كناية عن الموت. وقبل أن تدير ظهرها للحياة، كانت قد أوصت أن تجرى طقوس التجهيز للدفن في المستشفى، فقط كيلا تثقل في موتها على أبنائها وأخوتها، في ظروف حياتهم السورية الخانقة.

كانت تلك هي لمستها الأخيرة، اللمسة التي تجمع السخرية والرحمة على قاعدة من قوة الروح. كانت تلك هي اللمسة الأخيرة لنساء العائلة على تاريخنا العائلي الذي بات يفتقر، بغيابهن، إلى الكثير من الرحمة.

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى