الناس

دمشق : “التايتنك” تحت جسر الرئيس/ صهيب الأحمد

من يعرف هذه المنطقة لا يحتاج أن يسأل ما المشكلة، فهو أحد “النشالين” الذين يتصيدون في الزحام لسرقة أجهزة الخليوي من أصحابها، ولأننا تحت جسر الرئيس فهذه هي الطريقة المتبعة هنا لمحاسبة اللصوص على أفعالهم، فمتى يأتي يوم حساب اللصوص الحقيقيين؟

صباح جديد يملؤه التفاؤل بغد ليس أسوأ، أستيقظ متأخراً عن موعد خروجي إلى العمل، رسالة في جهاز الخليوي من أحد الأصدقاء “مبروك زيادة الراتب” وخلفها وجوه ضاحكة. أوضب أغراضي وأنطلق إلى معركة الوصول إلى دمشق بحافلة النقل الداخلي. الوجوه في الشارع ليست غير متفاعلة كما عهدتها، فالشارع يعج بالحواجب المقطبة وهمسات الشتائم المترافقة مع نظرات المراقبة. أصل إلى الموقف، عدد كبير من الناس ينتظرون “التايتنك”، وهي كناية عن حافلة النقل الداخلي التي يتراكم فيها الركاب ليصل عددهم إلى ما يكفي لحدوث كارثة في حال سار شيء على نحو سيئ على الطريق.

حركة غير اعتيادية بين المنتظرين، فهناك تواصل وكلام وأحاديث، “صباح الخير، فينا نحكي مكالمة من عندك؟ انسرق الخليوي”، يقول لي أحد الأشخاص، أعطيه جهازي الخليوي القديم المتهالك فيخرج جهازه لينسخ الرقم الذي سيتصل به. أرمقه بنظرة استغراب فيجيب “أول مرة بتشوف واحد مسروق موبايله وهو بإيده؟”، ابتسم ابتسامة الذي يتصنع أنه يفهم ما يقال له. الرجل يبدأ بشتائم متتابعة غير مكتملة مهموسة غزيرة ريثما تصل المكالمة للطرف الآخر، أتفحص الناس من حولي، أجد الجميع في المشهد ذاته، أحدهم اقترض خليوي الآخر الذي يقف بجانبه ليجري اتصالاً منه، “تفضل، شكراً الك، شكله الشخص اللي عم اتصل فيه كمان سارقينله موبايله”، ينتابني الفضول  “خير شو صاير؟”. يبدأ سيرة طويلة مفادها أن جميع أجهزة الخليوي غير المجمركة تتعرض اليوم للإيقاف من قبل شركات الاتصالات، وينهي الحديث “رايح بيعه، جمركته بتكلف 400 ألف ليرة سورية، ومهلة الدفع 5 أيام قبل الإلغاء النهائي…”، لا يكاد ينهي جملته حتى يبدأ بالركض مسرعاً، فالتايتنك تلمع بالأفق.

تدافع وشد ومهاترات لفظية. لا أعرف مكاني أو اتجاهي بين المزدحمين، لكن جهة التدافع تدل على أنني في الاتجاه الصحيح نحو باب الحافلة. أنجح بالصعود إلى الحافلة، “الروحة بـ100 الرجعة بـ300″، يقول سائق الحافلة الذي يبدو مرهقاً مع أنها الساعة العاشرة صباحاً. أجد جسدي محشوراً بين جسد رجل مسن ونافذة الحافلة المطلة على الوجوه البائسة التي لم تفلح في سباق “المدافشة” نحو الحافلة. تنطلق الرحلة على وقع الأحاديث بين الركاب والتي غالباً ما تتناول الحدث الأهم الذي وقع البارحة أو اليوم، محلياً إن وُجِد، أو عالمياً من “فايسبوك” إذا شح المحلي، والذي –أي الحدث- يفترض أن يكون زيادة الرواتب والسعادة المترددة تجاه هذه الخطوة، أصبت في الأولى جزئياً وأخطأت الثانية تماماً. فالخبر المتصدر في التايتنك هو قرار رفع سعر المازوت (الديزل) من 180 إلى 500 ليرة سورية لليتر الواحد، تليه قرارات رفع سعر ربطة الخبز من 100 إلى 200 ليرة سورية “معبأة بكيس نايلون”، والبيض إلى عشرة آلاف ليرة سورية والقرار الأقدم برفع أسعار السكر والأرز، وأخيراً قرار زيادة المعاشات الذي كان وقعه مثيراً للسخرية على كل من في الحافلة على الأقل: “الحكومة عنا بتعمل عمايلها السودا بنص الليل وبتحاول تغطي عليها وجه الصبح”، يقول أحد الركاب الجالسين أمامي، ذلك أن قرار رفع الأسعار صدر راهناً على أمل أن يخطف قرار رفع المعاشات في صباح اليوم التالي، الأضواء منه.

يعلم معظم الناس في سوريا أن ارتفاع سعر صرف الدولار سيؤثر في أسعار الأشياء من حولهم بطريقة ما، ولكنهم خبراء محنكون إذا ما تعلق الأمر بالمازوت، بلد بأكمله يسير على المازوت، آبار ري الأراضي، مولدات المنشآت الصناعية، سيارات نقل الخضار والبضائع (البيك آب)، الآليات الثقيلة لمشاريع البناء، وسائل النقل العام، مدافئ الشتاء، قطاعات الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات والنقل والعقارات، كلها ترتكز بشكل أساسي على هذا النوع من المحروقات. كنت ترى الناس سعداء على مضض عندما تُصرف منحة مالية لمرة واحدة فقط على المعاشات، استجابة لقفزة الدولار عالياً، ولكن لا وقع لقرار الزيادة الدائمة على المعاشات أمام قرار رفع المازوت إلا بالسخرية وانتظار وقوع الكارثة الأكبر، غلاء كل شي.

لارتفاع سعر المازوت وقع أقوى من صعود الدولار في سوريا، والمصيبة الأكبر أن هذا الرفع لن يكون الأخير، ففرق سعر الصرف والعقوبات الاقتصادية، وسياسات الدعم الحكومية المفصومة عن الواقع، ستزيد الأعباء المالية على خزينة الدولة، ولن تجد هذه الخزينة مهرباً سوى بزيادة الضرائب والاتاوات على القطاع الخاص، أو المزيد من التقشف داخل المؤسسات الحكومية، أو إصدار حفنة من قرارات رفع الأسعار وهو ما بات يتوقعه السوريون مع كل يوم جديد.

تصل “التايتنك” إلى موقفها الأخير تحت جسر الرئيس، جمهرة كبيرة من الناس في الشارع تقوم بضرب شخص مستلقٍ على الأرض، ومن يعرف هذه المنطقة لا يحتاج أن يسأل ما المشكلة، فهو أحد “النشالين” الذين يتصيدون في الزحام لسرقة أجهزة الخليوي من أصحابها، ولأننا تحت جسر الرئيس فهذه هي الطريقة المتبعة هنا لمحاسبة اللصوص على أفعالهم، فمتى يأتي يوم حساب اللصوص الحقيقيين؟

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى