تحقيقات

محاولة لفك “شيفرة” الاتفاق النفطي بين الإدارة الذاتية وشركة “دلتا” الأمريكية في شمال شرق سوريا

محاولة لفك “شيفرة” الاتفاق النفطي بين الإدارة الذاتية وشركة “دلتا” الأمريكية (جزء 1) في شمال شرق سوريا

زنوبية الإدرديسي (اسم مستعار)

الجزء الأول

مرّ عام كامل على الإعلان عن اتفاقٍ نفطي بين شركة أمريكية والإدارة الذاتية (الكردية) في شمال شرق سوريا، ذهبت خلاله إدارة ترامب الراعية للاتفاق وجاءت إدارة جديدة أبطلته مؤخراً. لكن الغموض مازال يحيط ببنود الاتفاق حتى هذه اللحظة، كما أنّ هناك أسئلة كثيرة تدور حول هوية الأطراف المنخرطة فيه.

كلّ ما تسرّب إلى الإعلام منذ مطلع آب (أغسطس) 2020 إلى اليوم كان تصريحاً لوزير الخارجية في عهد ترامب، مايك بومبيو، عن وجود “صفقة” بين شركة نفطية أمريكية (لم يسمّها) والإدارة الذاتية المدعومة من واشنطن منذ عام 2014، والتي تسيطر على نحو ثلث مساحة سوريا، قال بومبيو فيه: “لقد استغرقت الصفقة وقتًا أطول بقليل مما كنّا نأمل، ونحن الآن في مرحلة التنفيذ”.

بقيت أطراف الصفقة مجهولة في تصريحات بومبيو، إلى أن كشف موقع “المونيتور” الأمريكي أنّ اسم الشركة النفطية دلتا كريسنت إنرجي، وهي مرخصة في ولاية ديلاوير الأميركية.

منذ ذلك الحين، يطرح مراقبون للقطاع النفطي السوري أسئلة من نوع: من هي شركة دلتا هذه ومن هم مالكوها؟ كيف حصلت شركة ناشئة لا تمتلك سجلاً ونشاطات سابقة في مجال النفط، على استثناء من العقوبات المفروضة على سائر الشركات العاملة في سوريا؟ ومن هي الأطراف الموقّعة على الاتفاق والأطراف المستفيدة منه؟ وهل للاتفاق تداعيات سياسية أم أنه اقتصادي بالدرجة الأولى؟

تصريحات “كردية” متضاربة

التصريحات الإعلامية لمسؤولي الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا جاءت متضاربة، ولا تساعد في إجلاء الحقائق أو الإجابة على هذه الأسئلة، فتارةً تقلّل الأطراف الكردية من أهمية الاتفاق وكأنه لا يعني شيئاً، وتارة ينفي مسؤولون وجود هكذا صفقة نفطية من الأساس.

القيادي في الإدارة الذاتية، رياض درار مثلاً، وفي تصريحات له تعود إلى تشرين أول (أكتوبر) من العام الماضي (2020)، أنكر وجود اتفاقية مكتوبة، وقال إن “المشاورات داخل أقسام الإدارة الذاتية ما زالت جارية بخصوص العقد النفطي”. ويشغل درار منصب الرئيس المشترك لمجلس سوريا الديمقراطية “مسد” وهو الجناح السياسي لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”.

على عكس تصريحات درار، فإن المسؤول الكردي البارز الوحيد الذي علّق على الاتفاق بصراحة، هو القائد العسكري لقوات سورية الديمقراطية، مظلوم عبدي، الملقّب بـ “مظلوم كوباني”، والذي يُعتبر صانع الاتفاق النفطي حسب بعض التحليلات.

“كوباني” قال في مقابلة صحفية في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الماضي إن “النفط مسالة اقتصادية وليست سياسية” ثم ذكر اسم الشركة الأمريكية “دلتا”، وأضاف أن المباحثات بين الطرفين الكردي العراقي والأمريكي حول شروط الاتفاق “الخاص بتسويق النفط” في تقدّم مستمر، وأنه يعتقد أنها في طريقها للإتمام.

وتتألف قوات “قسد” التابعة للإدارة الذاتية من مجموعة من الفصائل المسلحة تشكل “وحدات حماية الشعب” و”وحدات حماية المرأة” العمود الفقري لها، وهي قوى مسلحة تابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي PYD. ويشمل نطاق سيطرتها مناطق واسعة من محافظة الحسكة وأجزاء من محافظات الرقة ودير الزور وحلب.

وتتخذ تركيا موقفاً حازماً من تجربة الإدارة الذاتية وتعتبر “وحدات حماية الشعب” امتداداً لتنظيم “حزب العمال الكردستاني” الذي تصفه بـ “الإرهابي”، في حين يصف النظام السوري الإدارة الذاتية  بـ “الانفصالية” وبأنها “تنهب ثروات البلاد”، علما أنه سبق وفتح قنوات تواصل معها، لكنها متوقفة حاليا.

“نفعل ما نشاء”

يتذكر سوريون كثر تصريح ترامب الشهير نهاية العام 2019 عقب طرد قوات “داعش” من سوريا، والذي قال فيه إن “النفط السوري في أيدينا ويمكننا أن نفعل به ما نشاء”. منذ ذلك الوقت طرحت العديد من الأسئلة حول كيفية “حفاظ” الإدارة الأمريكية على حقول النفط المتركزة شمال شرقي سوريا في ظل العقوبات التي فرضتها هذه الإدارة نفسها على الشركات العاملة هناك.

يقول رامي (اسم مستعار) وهو مطّلع على المحادثات التي جرت في العام 2019 بين شركة “دلتا كريسنت إنرجي” النفطية الأمريكية وبين الإدارة الذاتية (الكردية) شمال شرق سوريا لحكاية ما انحكت وشبكة نيريج إن “لا أحد (من الشركات الكبرى) يهتم بالاستثمار في سوريا الآن” وأن العقوبات منعت الشركات الكبرى ذات الخبرة من التقدّم بعروضها لاستثمار أو تطوير الحقول.

يضيف مصدرنا الذي رفض الإشارة إلى اسمه أو موقعه الوظيفي، أن الإمكانية الوحيدة للاستفادة من النفط في مناطق حكم الإدارة الذاتية في ظل قانون العقوبات الأمريكي على سوريا، هي الحصول على رخصة يصدرها مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) التابع للخزانة الأمريكية، وهي رخصة تُعفي شركات محدّدة من العقوبات وتعدّ بمثابة استثناء يمنحها حق العمل.

يشرح المصدر أنّ الخيارات وقعت على مجموعة من الشركات من بينها “دلتا”، وجميعها لا يمتلك الخبرة الكافية، “لكن الغياب المطلق للخبرة للشركات الأخرى المرشحة”، وفي ظلّ حصول “دلتا” على “دعم سياسي” من إدارة ترامب، مكّن الأخيرة من الحصول على رخصة OFAC وأعطاها حق العمل في حقول النفط السورية، بحسب المصدر.

ولا يمكن فهم دخول “دلتا” السوق النفطية السورية من دون الاطلاع على دور القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي “كوباني” من أجل إبقاء القوات الأمريكية في سوريا، وذلك من خلال صفقة تجارية تتطابق مع أهداف إدارة ترامب المعلنة آنذاك، أي الحفاظ على النفط السوري في أيدي أمريكية.

لكن وفي الوقت نفسه، ومن الناحية الرسمية، فإن شركة “دلتا” لا تمثل طرفاً أمريكياً حكومياً. وبحسب رخصة OFAC “لا تعمل (الشركة) نيابة عن الحكومة الأمريكية عند قيامها بالنشاطات المرخص لها”، وبالتالي، فإن هكذا اتفاقية من الناحية السياسية لا تشكل التزاماً على الطرف الأمريكي إزاء حكومة الإدارة الذاتية.

ومع عدم وجود معلومات رسمية، تُطرح تساؤلات بشأن طبيعة العقد مع “دلتا”، فهل هو عقد استثمار لتلك الحقول أم أنه عقد حماية للآبار وصيانة للمعدات النفطية؟ وما هي المناطق التي يشملها العقد بالتحديد؟ هل هي المناطق ذات الأغلبية السكانية الكردية أم أنه يشمل أيضاً المناطق “العربية” الخاضعة لقوات سوريا الديمقراطية؟ وهذا ما سوف يعالجه ويغوص به هذا التحقيق أيضا.

ماذا نعرف عن “دلتا”؟

توصف شركة “دلتا” في أكثر من تقرير صحفي بالشركة  “الغامضة” لقلّة المعلومات المتوّفرة عنها وسرية قوانين ولاية ديلاوير التي ترخصت فيها.

وكشف موقع “Iraqi Oil Report” في الصيف الماضي هوية شركاء “دلتا”، وهم السفير الأمريكي السابق لدى الدانمارك جيمس ب. كاين (عهد جورج بوش الابن) وجيمس ريس، وهو ضابط متقاعد من قوة “دلتا” التابعة للوحدات الخاصة في الجيش الأمريكي، وجون ب. دورير جونيور وهو مدير سابق لشركة “غلف ساندز” البريطانية التي لا تزال تملك حقوق في استكشاف وتطوير وإنتاج النفط في شمال شرق سوريا وفق اتفاقيات كانت أبرمتها مع الحكومة السورية قبل عام 2011.

ليس “دورير” الوحيد الذي يتميز بعلاقات سابقة بسوريا والمنطقة، خاصة أن لدى “جيمس ريس” تجربة في عمليات نزع الألغام في محيط الرقة لصالح الإدارة الذاتية عقب المعارك ضد تنظيم الدولة الإسلامية. وشغل هذا الرجل منصب نائب رئيس شركة “بلاكووتر” الأمنية الأمريكية التي ارتكبت مجزرة ساحة النسور في بغداد عام 2007 قبل أن يعفو الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عن المدانين ويطلق سراحهم أواخر 2020،  وترك ريس “بلاكووتر” فيما بعد، وأسس شركته الأمنية “تيغرسوان”.

يلمّح الصحفي الأمريكي “زاك كوبلين” إلى احتمال وجود شركاء مجهولين آخرين بناء على صياغة الرخصة الخاصة بشركة “دلتا”، رغم أنّ غالبية المعلومات الحسّاسة محجوبة في نسخة الرخصة المنشورة.

معدّ التحقيق وحكاية ما انحكت قدّموا أيضاً عدداً من الطلبات لدى الجهات الحكومية الأميركية المعنية بالاتفاق لكشف تفاصيل الرخصة والشركات المتعاقدة لتوفير خدمات لصالح “دلتا”، ولكننا تلقينا نفس النسخة المعدلة من الرخصة،  فيما لم يتم إلى الآن تلّقي بقية الوثائق المتعلّقة بالرخصة وتفاصيل الاتفاق.

علاقة “دلتا” بإدارة ترامب

ينسب محللون حصول “دلتا” على رخصة الخزانة الأمريكية إلى الدعم السياسي الذي تلقّته من إدارة ترامب وليس إلى قدراتها المهنية.

إذ كشف موقع “iraqi oil report” عن فشل “دورير” في الحصول على حقوق الاستثمار في إنتاج الغاز المرافق في العراق عام 2007 عندما كان يقود شركة “غلف ساندز” البريطانية بسبب خبرتها المهنية المحدودة، كما سلّط الموقع الضوء على عدم وجود سجل سابق لنشاطات “دلتا” في مجال الاستثمارات النفطية.

وبالفعل اعترف نائب المندوب الخاص لسوريا، جويل رايبورن، في جلسة أمام الكونغرس الأميركي عُقدت في كانون الأول (ديسمبر) 2020، أنه التقى مع مسؤولي شركة “دلتا” ومسؤولي الإدارة الذاتية ومع نيجيرفان بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، وهو المسؤول الأول عن ملف نفط الاقليم واتفاقات الإنتاج والتصدير إلى تركيا، ويلعب دوراً في ملف المصالحة الكردية- الكردية في سوريا. وأكد رايبورن أنّ الخزانة الأمريكية أصدرت الرخصة لصالح “دلتا” بعد التشاور مع وزارة الخارجية الأمريكية.

وحسب وثائق رسمية حصل عليها الصحفي الأمريكي، ماتيو بيتي، فإن اثنين من مالكي شركة “دلتا”، “كاين” و”دورير”، كانا قد ساهما في تمويل حملات انتخابية لمرشحين جمهوريين بما فيهم السيناتور ليندسي غراهام، وهو من الأصوات الأبرز التي أكدت إبرام الصفقة، ويُعتبر من حلفاء ترامب الذين أقنعوه  بالإبقاء على قوات من الجيش الأمريكي في سوريا بعد الإعلان عن انسحابه منها أواخر عام 2019.

حاول معد التحقيق والمشاركين به وحكاية ما انحكت التواصل مع شركة “دلتا” وشركائها للتعليق على هذا الأمر لكننا لم نتلق أي جواب من مكتبها الإعلامي إلى اليوم.

الخارجية الأمريكية تتوسّط لـ “دلتا”

أكد رامي، وهو مصدرنا المطلع على المحادثات بين الإدارة الذاتية و”دلتا” في مقابلة أجريناها معه في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، أن إلهام أحمد، الرئيسة المشتركة للمجلس السوري الديمقراطي (“مسد”)، التقت مع مسؤولي شركة “دلتا” في واشنطن في اجتماع “بالغ الأهمية وغير مخطّط له” في تشرين الأول (أكتوبر) 2019. وتشير تقارير إلى لقاءات أخرى جرت بين الإدارة الذاتية والشركة سبقت هذا اللقاء مطلع العام 2019، وهذا قد يعني أنّ الصفقة كان يعدّ لها قبل انتهاء ولاية ترامب بنحو عامين، وربما قبل القضاء على تنظيم “داعش” في سوريا.

يؤكد رامي أن جميع مؤسسي الشركة المعروفين (جيمس ريس وجون ب. دورير جونيور وجيمس كاين) كانوا متواجدين مع إلهام أحمد في الاجتماع.

وفي رسالة وجهها معد التحقيق في شباط (فبراير) الماضي إلى إلهام أحمد عبر تطبيق “واتساب” أكدت لنا حضورها أيضا.  كانت أحمد في العاصمة الأمريكية آنذاك في وقتٍ تزامن مع انطلاق العملية العسكرية التركية الأخيرة ضد “قسد”.

يضيف رامي إن ممثلي “دلتا” سألوا أحمد عن مباحثاتها الأخيرة مع الإدارة الأمريكية بخصوص الإجراءات اللازمة للحصول على رخصة يصدرها مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) التابع للخزانة الأمريكية، للسماح لـ “دلتا” بالعمل رغم العقوبات الأمريكية. وكان قد سبق هذا اللقاء تقدّم الشركة بطلب رسمي إلى الخزانة الأمريكية للحصول على الرخصة.

يتابع رامي أن ممثلي “دلتا” حثّوا أحمد على الوساطة مع المسؤولين عن الملف السوري لدى الخارجية الأمريكية، أي جيمس جيفري وجويل رايبورن. وأشار مصدرنا (رامي) إلى أنّ الأخير لعب دوراً بارزاً في التواصل مع مؤسسي الشركة بعد لقائهم أحمد في واشنطن، ثم لعب دوراً رئيساً في بناء علاقاتهم مع إقليم كردستان ومع تركيا الرافضة للاتفاق، وفي حصولهم على رخصة OFAC في نيسان (أبريل) 2020.

سحب الرخصة وعودة الشركات المنافسة؟

توضّح رخصة الإعفاء من العقوبات الأمريكية OFAC في نصها (صفحة 4 بند 3) أنّ الرخصة نفسها “قد تُسحب أو تعدل في أي وقت”. وهذا ما جرى بالفعل في 28 أيار (مايو ٢٠٢١) عند انتهاء صلاحية الرخصة، حيث لم تجدّد إدارة جو بايدن الديموقراطية، رخصة شركة “دلتا”، نظراً لارتباط مؤسسي الشركة بالحزب الجمهوري في الولايات المتحدة.

وأكد البنتاجون في بداية شباط (فبراير) 2021 عقب تنصيب جو بايدن رئيساً للبلاد، أن الجيش الأمريكي في سورية “ليس مخولاً بتقديم مساعدة لأي شركة تسعى لتطوير موارد نفطية في سورية، بما فيها موظفوها أو وكلاؤها”.

وبعد أن تسرّب إلى الإعلام أن الرخصة لن تُجدّد، أشارت تقارير إلى الكواليس المحتملة للقرار الأمريكي، أبرزها تفادي استخدام الروس للفيتو في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والسماح بدخول المساعدات الإنسانية عبر معابر حدودية (باب الهوى واليعربية) لا يسيطر عليها الجيش السوري، مقابل سحب الرخصة من شركة دلتا وتوسع النفوذ الروسي في الحقول النفطية في شمال شرق سوريا. وهذا ما نفاه مسؤول أمريكي في تصريحاته لموقع “المونيتور” الأمريكي.

لكن، هذا المناخ السياسي الجديد في الولايات المتحدة، قد يشكّل فرصة لدخول لاعبين جدد، أو لعودة “اللاعبين القدامى” إلى السباق النفطي الكردي السوري، خاصة تلك الشركات التي فشلت سابقاً في الحصول على رخصة الخزانة في عهد دونالد ترامب.

فقد نقلت غالبية التقارير الإعلامية معلومات عن أربع طلبات لرخصة OFAC كانت قد قدمتها شركات منافسة في السنوات الأخيرة بما فيها طلب “دلتا” الناجح. ولا يزال معدّ التحقيق بانتظار إجابة من مكتب الخزانة الامريكية OFAC لنشر تفاصيل الطلبات الأخرى التي تلقتها الخزانة من هذه الشركات.

أحد مقدّمي الطلبات هو رجل الأعمال الأمريكي (يحمل أيضا الجنسية الإسرائيلية) مؤتي كهانا، الذي أثار ضجة إعلامية نتيجة علاقته بتل أبيب، وهناك وثيقة مسربة عن صفقة مزعومة بينه وبين الإدارة الذاتية، نُشرت على صفحات صحيفة “الأخبار” اللبنانية المؤيدة لحزب الله في عام 2019 تحت عنوان “نفط الشرق السوري بيد إسرائيل!”.

كهانا صاحب الخبرة في مجالات متعدّدة بما فيها تجارة السيارات والسياحة، زوّد معد التحقيق بالطلب الذي وجهه إلى مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع للخزانة الأمريكية OFAC في شباط (فبراير) 2019 من أجل حصول شركته “جي  دي سي” على رخصة تسمح له بالعمل في سوريا، وسجّل ملف طلبه تحت رقم SY-2019-359047-1، كما شارك معد التحقيق بالردود التي يُفترض أنّه تلقاها حول الموضوع.

يقترح كهانا في طلبه أن تقوم الشركة بتصدير النفط السوري عبر إقليم أراضي كردستان العراق باتجاه مرفأ مرسين التركي ومن هناك إلى مصافي إسرائيلية كي يتم بيعه بعد تكريره بأسعار رخيصة في محطات الوقود في الضفة الغربية وغزة.

كما زوّد كهانا معدّ التحقيق بوثيقة ثانية متعلّقة بطلبه تختلف عن الأولى جزئياً بما يخص أحد أهداف الخطة، وهو استثمار نسبة (تبلغ ٢٥ بالمئة ) من عوائد بيع النفط في إسرائيل من أجل شراء أجهزة للري وتكنولوجيا تعتمد على الطاقة الشمسية وتزويد الإدارة الذاتية بها ، في محاولة لتقديم طلبه ضمن إطار حماية البيئة.

كما قال لمعد التحقيق في تشرين الأول (أكتوبر) إن هدف خطته كان المساهمة في “إحلال السلام” بين تركيا وحزب العمال الكردستاني “البي كي كي” من خلال بناء أنبوب نفطي وتصدير نفط الحقول السورية الموجودة في مناطق سيطرة قوات “قسد” إلى تركيا، من أجل تحقيق منافع مالية متبادلة لجميع الأطراف.

وتقع غالبية حقول النفط السورية في محافظتي الحسكة ودير الزور في شمال شرق البلاد ويخضع معظمها لسيطرة “قسد”. وورد في طلب كهانا المقدم للخزانة الأمريكية ذكر لحقول دير الزور، لكنه أكد لمعد التحقيق أنّ مشروعه يتضمن جميع الحقول تحت سيطرة “قسد” فقط.

فشلت خطة كهانا في الحصول على رخصة OFAC على ما يبدو لأن محادثاته مع الإدارة الذاتية تسرّبت إلى الإعلام قبل تحوّلها إلى اتفاق حقيقي، وهذا الأمر، بحسب تقارير، أزعج القيادة في الإدارة الذاتية نفسها.

كما فشل مشروعه لأسباب أخرى بحسب مصادرنا، قد تتعلّق بقلة خبرته في المجال النفطي وانعدام العلاقات السياسية الضرورية للحصول على الموافقة في عهد دونالد ترامب.

رجل الأعمال الأمريكي (والذي يملك جنسية إسرائيلية أيضا) عزا رفض طلبه سابقاً إلى انتمائه للحزب الديموقراطي، وقال في مقابلة مع معدّ التحقيق عبر تطبيق سيغنال في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي إنّ إدارة ترامب “كانت تعرف أني أموّل الحزب الديمقراطي، ولذلك فإن لندسي غراهام (السيناتور والحليف لدونالد ترامب) وجيمس جيفري (المندوب الخاص السابق لسوريا) لم يجيبا على إيميلاتي (المرتبطة بمقترحه حول النفط السوري)”.

لكن كهانا المؤيد للحزب الديمقراطي لم يفقد الأمل في الحصول على الرخصة في عهد جو بايدن. وبصدد ذلك أكد لمعد التحقيق في نيسان (إبريل ٢٠٢١) أنه يعمل حالياً على إجراء “تحديث رئيسي” على طلب رخصة OFAC وأنه “على وشك الحصول عليها”.

فضلا عن شركة “دلتا” وشركة “جي دي سي” المملوكة من قبل كهانا، من المرجّح أن يكون صاحب الطلب الثالث هو شركة “مشرق اناليتيكس أند كونسلتينغ” وهي شركة استشارية أمريكية تأسست في 13 كانون الأول (ديسمبر) 2018.

أصحاب هذه الشركة هما “ليوك كالهون”، مقدّم متقاعد من المخابرات العسكرية الأمريكية لديه خبرة أكثر من 24 سنة في سورية والعراق، وساشا غوش سيمينوف وهو يعمل ايضاً في المجال الإنساني والتنموي في سوريا.

حصل معد التحقيق على نسخة من “اتفاق خدمات استشارية” مسرّب بين شركة “مشرق” (بتوقيع ليوك كالهون) وشركة استشارية أخرى لا يمكن الكشف عن هويتها لأسباب أمنية. وتم توقيع الاتفاق في 7 كانون الثاني (يناير) 2019 أي بعد 25 يوم من تأسيس شركة “مشرق”.

وقد ورد في البند الثاني من نص الاتفاق العبارة التالية: “نظراً للطبيعة الفريدة لعلاقتها مع مجلس سوريا الديمقراطية “مسد”، فإن (الشركة الاستشارية) قادرة على تسهيل وتمكين بعض المفاوضات وعقود العمل (…) التي تنطوي على الوساطة في بيع السلع والخدمات في سورية لصالح شركة “مشرق” وشريكها “سيغما ايكسبورت ل.ل.س”. وتشمل هذه المفاوضات المذكورة في الوثيقة، على سبيل المثال لا الحصر، الوساطة في بيع النفط من قبل مجلس سوريا الديمقراطي “مسد” [الجناح السياسي لقوات سوريا الديمقراطية المعروفة بـ “قسد”].

يذكر أن شركة “سيغما ايكسبورت” المذكورة في هذه الوثيقة، هي إحدى الشركات التابعة لـ هوجر دزيي، وهو رجل أعمال كردي عراقي- أمريكي وقريب لـ سفين دزيي،  الذي يشغل منصب مسؤول العلاقات الخارجية في حكومة إقليم كردستان العراق، علماً أن هوجر ديزي مستثمر أيضاً، وله نشاطات في عدة مجالات منها البناء.

وبحسب المعلومات، كان رجل الأعمال الأمريكي “موتي كهانا” شريكاً أيضاً في هذا الاتفاق، وكانت مهمته على حد قوله، “التشبيك بينهما، [أي بين شركتي “مشرق” و”سيغما” والشركة الاستشارية الأخرى وقوات سورية ديموقراطية]، والاستثمار معهما في حالة حصولهما على رخصة OFAC”.

“غايات إنسانية”

لم تتحقق الخطة المذكورة في الاتفاق بين “مشرق” والشركة الاستشارية الأخرى لأسباب متعدّدة، وقدمت “مشرق” طلب لرخصة OFAC  بشكل منفصل في ربيع 2019 ولم تنجح وفقاً لما أكده لنا ليوك كالهون في مقابلة أجريناها معه في 11 نيسان (إبريل) الماضي.

يقول سيمينوف، أحد من صاحبي شركة “مشرق”، في مقابلة مع معد التحقيق في 11 نيسان (إبريل): “لقد فهمت آنذاك التفاصيل التقريبية عما أراد (شريكي) ليوك كالهون القيام به، وقلت له (…) إذا كان هناك شيء يمكنّنا من مساعدة الناس على الأرض (في سوريا) فإذن أكيد.. ليس هناك مشكلة”.

يشرح كالهون دوافعه للتقديم على رخصة OFAC قائلاً، إن قلقه كان  يتمثل في “أن ينسحب الجيش (الأمريكي) (من سوريا، بعد إعلان ترامب عن ذلك في أواخر 2019)، وبالتالي، فإن الكثير من أموال إعادة الإعمار سيتم سحبها.. فكرت أن هذا (بيع النفط السوري) سيكون خطة احتياطية (…)”.

فضلا عن هذه الشركات، هناك شركة أمريكية رابعة اسمها “سيغما 3” ترتبط أسماء كل من ليوك كالهون وهوجر دزيي وعهد الهندي كمؤسسين لها. والأخير، عهد الهندي، ناشط سوري أمريكي مؤيد للإدارة الذاتية ومعتقل سياسي سابق في سجون  بشار الأسد. أما “سيغما 3″، فهي شركة حديثة التأسيس، تعرّف نفسها بأنها تقدّم خدمات أمنية ولوجستية في الشرق الاوسط.

ويعتقد رجل الأعمال “كهانا” أنّ عهد الهندي لعب دوراً حتى في صفقة “دلتا” بفضل علاقاته بالإدارة الذاتية. لكن الهندي نفى في مقابلة أجريناها معه في تشرين الثاني (نوفمبر) 2020 أن يكون له أي ارتباط بشركة “دلتا”.

وتشير بعض المصادر أيضاً إلى تقديم هوجر دزيي على رخصة OFAC ولكن قد يكون طلبه مرتبطاً بطلب شركة “مشرق” نفسه، كون اسم شركته مذكور في الاتفاق الذي سبق تقديم “مشرق” على الرخصة بعدّة أشهر.

لا أحد من الأسماء المذكورة أعلاه يمتلك أي خبرة في مجال الاستثمار النفطي، لكنهم وفق ما ذكروا في المقابلات معهم دفعتهم غايات “إنسانية”. وحتى شركة “دلتا”، الوحيدة التي تضم  شخصيات لها خبرات “نفطية” محدودة، عبّرت عن طريق ممثليها عن نيتها “مساعدة أهالي المنطقة”.

الواضح والمخفي في مضمون الاتفاق 

تتضارب المعلومات حول مضمون اتفاق “دلتا” مع الإدارة الذاتية. إذ صرّح رياض درار في مقابلة أجراها معه معد التحقيق في تشرين الأول (أكتوبر) 2020 أن الاتفاقية تقتصر على “صيانة بعض الآبار” من أجل إمكانية الاستثمار فيما بعد، رغم أن درار سبق وأن صرّح للإعلام أنه ليس هناك اتفاقية مكتوبة!

في كانون الثاني (يناير) الماضي، قمنا بمقابلة عبر تطبيق واتساب مع المهندس حسين قاسم، وهو خبير فنّي مقيم حالياً في هولندا، وكان مسؤولا عن القياسات النفطية في حقول دير الزور والشدادي وغيرها بين عامي 2008 و2011، ومسؤولا في شعبة البرمجة في شركة نفط الرميلان بين عامي 2013 و2017.

كان حسين قد شكّك في أحد مقالاته المنشورة على موقع محلّي بمصداقية “بعض التقارير عن التنقيب والاستكشاف في منطقة باتت حقول الاستثمار ونفوذية الطبقات ومساميتها ومخزونها معروفة للجميع ولا تحتاج إلى استكشاف”. وشكّك أيضاً بتقارير تحدّثت عن حفر آبار في بقعة جغرافية صغيرة يتجاوز عدد الآبار فيها أصلاً 1600 بئر نفطي وغازي.

وبالتالي، وفي مقابلتنا معه، يعتقد قاسم أنّ مهمة “دلتا” على الأرجح “ستكون تسلّم المصافي وتسويق النفط وتزويد الحقول بالمستلزمات المطلوبة (الصيانة)، خاصة أن دمشق لا تزال تقدّم بعض المعدّات لحقول مديرية الحسكة والأمريكيون يريدون قطع هذه العلاقة”.

ويشرح المهندس قاسم واقع الإنتاج الحالي للنفط، ويقول إنه يُفترض أن يكفي لتلبية حاجات المنطقة وتغذية استهلاك ثمانية ملايين نسمة، أيّ سكان الشمال السوري المنقسم بين الإدارة الذاتية وقوات المعارضة المدعومة من تركيا. “نحن نتكلم عن 90 ألف برميل نفط يومياً (يتم إنتاجه كحد وسطي) في حقول رميلان فقط (شرق مدينة القامشلي)”.

لكن في الوقت نفسه، يعاني سكان شمال شرق سورية حالياً من أزمة محروقات، وتشير بعض المصادر المطلعة إلى أن هذه الأزمة ناتجة عن بيع الكميات الأكبر من النفط في السوق السوداء، لمناطق الحكومة والمعارضة السورية وأيضا إقليم كردستان العراق، وذلك من خلال تجار مرتبطين بالإدارة الذاتية.

ولا تنشر السلطات في مناطق الإدارة الذاتية إحصائيات دقيقة حول الإنتاج. فقد صرّح رئيس هيئة الطاقة لدى الإدارة، سليمان خلف، أنّ إنتاج مديرية حقول الحسكة انخفض من 165 ألف برميل في 2011 إلى 15 ألف برميل يومياً في عام 2016، بينما يقدّر معظم المحللين إنتاج الحقول النفطية التابعة لـ”قسد” (بما فيها حقول دير الزور والرقة والشدادي) بما يتراوح بين 50 ألف و 70 ألف برميل يومياً، وهو أقل من تقدير المهندس قاسم، علماً أنّ تفاوت الأرقام واختلافها يعود إلى عدم القدرة على تحديد ما يباع منه في السوق السوداء.

أما القدرة الإنتاجية لمديرية حقول الجبسة في مدينة الشدادي في ريف الحسكة الجنوبي وحقول دير الزور التابعة لـ”قسد” (ودير الزور معروفة بإنتاج النوعية الأخفّ والأفضل من النفط) فيقدرها قاسم بحوالي 200 ألف برميل يومياً.

على الصعيد الوطني، ورغم عدم توّفر أرقام دقيقة نتيجة عدم شفافية القطاع النفطي السوري، فإن المصادر تشير إلى أنّ إنتاج الحقول النفطية انخفض منذ اندلاع الانتفاضة السورية في عام 2011 من أكثر من 380 ألف برميل يوميا في عام 2010 إلى حوالي 35 ألف برميل يومياً في عام 2020 نتيجة أضرار الحرب المادية، لذلك لا بد لأي اتفاقية نفطية أن تتضمن صيانة المعدات، وبالأخص آبار دير الزور التي تأثرت بالمعارك ضد تنظيم الدولة الإسلامية.

ومن ناحية الصيانة، يشير خبراء إلى أنّ حقول دير الزور وجنوبي الحسكة تعرّضت لضربات جوية أميركية خلال المعارك ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وبالتالي تحتاج هذه الحقول إلى الصيانة أكثر من حقول شمال الحسكة.

أما من ناحية الاستثمار وبيع النفط، يرى المهندس قاسم أنّ إمكانية الاستثمار في المناطق “ذات الغالبية السكانية الكردية” محدودة جداً، لأن الحقول مستغلة بشكل كلي، وبالتالي لا بد للاتفاقية مع شركة “دلتا” في هذه الحالة أن تتضمن المناطق “العربية”، أي حقول الجبسة ودير الزور.

ماذا عن المناطق “العربية”؟

لا معلومات أكيدة إلى اليوم بشأن شمول المناطق ذات الغالبية السكانية العربية في الاتفاقية النفطية، لكن “رامي” يتفق مع ما جاء في موقع “المونيتور” الأميركي على استثناء محافظة دير الزور (العربية) من الصفقة.

وكان تقرير “المونيتور” قد ذكر أنّ المساحة التي تشملها الاتفاقية لا تتجاوز مدينة الهول جنوبي الحسكة تجنباً “لنزاعات محتملة مع العشائر المحلية”.

ويستبعد مصدر عسكري أمريكي له نشاطات في سورية في مقابلة أجراها معه معد التحقيق في آذار (مارس) الماضي أن تتضمن الصفقة حقول دير الزور، قائلاً: “يمكن لي أن أؤكد لك تقريباً أنهم (“دلتا”) يعملون في حقل الرميلان فقط لأن هذا أرخص لهم وأكثر أمناً (من العمل في ريف دير الزور الشرقي نظراً لنشاطات تنظيم الدولة الاسلامية وتواجد شبكات إجرامية أخرى فيه) والبنية التحتية أفضل والمنطقة أقرب إلى الحدود (مع إقليم كردستان)”.

لكن جيمس كاين من شركة “دلتا”، قال لصحيفة “فاينانشيال تايمز” الأمريكية في مقال نُشر مطلع العام الجاري أنّ الاتفاقية “تغطي مساحة أكبر من تلك التي كانت تديرها شركة “غلف ساندز” البريطانية (المتعاقدة مع الحكومة السورية قبل 2011)”.

وإذا افترضنا أنّ المساحة الممنوحة لشركة “دلتا” تستثني حقول الجبسة جنوب مدينة الهول وحقول دير الزور، فلن تختلف المساحة كثيراً إذن عن مساحة “غلف ساندز”، وبالتالي قد يكون المقصود بكلام كاين شمول حقول الجبسة أو حتى ريف دير الزور في الصفقة.

وتبقى صورة نشاطات “دلتا” ضبابية في شمال شرق سوريا مما لا يوّضح مساحة مشاريعها.

وعلى الرغم مما صرّحه مؤخراً، جون دورير جونيور، عن أن عقود “دلتا” تقدّر بـ2 بليون دولار لتسويق النفط السوري دولياً، فإن الشركة لم تتقدم بخطوات جدية وملحوظة في عملها حتى قبل أن تسحب الرخصة منها، وذلك وفقاً لشهادات متقاطعة استطاع معد التحقيق جمعها من مصادر عديدة في كل من الولايات المتحدة وسوريا. ومن المرّجح أنّ وباء كورونا وتداعياته ساهم في تأخير البدء بالعمل في المنطقة.

وبطبيعة الحال، لا يفترض أن تتلقى الحكومة السورية أيّ مردود مالي من إنتاج الآبار ولا أن تلعب أيّ دور رسمي في هذا الإنتاج وفقاً لرخصة OFAC التي حصلت “دلتا” عليها.

وفي هذا السياق، اعترضت شركة “غلف ساندز” البريطانية على الصفقة وأصرت على حقوقها في الحقول النفطية المعنية بالاتفاق الأخير بناءً على عقودها السابقة التي وقعتها مع دمشق، مع العلم أنه لا يمكن للشركة المذكورة أن تخالف العقوبات الأمريكية. ولكن في آذار (مارس) الماضي اشترت شركة “واترفورد فاينانس أند إنفستمينت” الروسية حصة مسيطرة في “غلف سانذر” وهذا قد يعطي الشركة المزيد من “المرونة” في التعامل مع العقوبات الأمريكية.

وطرح معدّ التحقيق عدداً من الأسئلة على “غلف ساندز” حول موقفها من صفقة “دلتا”، ولكن لم تستجب الشركة حتى الآن لطلباتنا المتكررة.

تكرير النفط.. هدية من واشنطن؟

تعتمد منطقة الجزيرة السورية (شمال شرق) تاريخياً على مصفاتين للنفط تقعان في غربي البلاد (مصفاة حمص ومصفاة بانياس) حيث لا توجد مصفاة سورية في الجزيرة رغم أنها تضم أبرز حقول النفط، وهو ما يرجعه محللون إلى سياسات التهميش الاقتصادي والسياسي التي كان حزب البعث الحاكم ينتهجها في المنطقة الشرقية الشمالية ذات الغالبية الكردية.

ومنذ الإعلان عن الاتفاق، شاعت أنباء أنه يشمل تقديم الولايات المتحدة مصفاتي نفط لحكومة الإدارة الذاتية عن طريق شركة “دلتا”. لكن في حديثه مع معد التحقيق، قال رياض درار بأنه “لا توجد إجابة واضحة حول هذا الأمر وما زال في إطار المناقشات”.

بينما أكد “رامي” المطلّع على المحادثات بين الإدارة الذاتية و”دلتا”، أن واشنطن سوف تتبرع بمصفاتين من الحجم المتوسط كي توّزع الإدارة المشتقات النفطية على أبناء المنطقة بأسعار منخفضة. ومن شأن هذه الخطوة أن تعالج مشكلة التكرير البدائي في تلك المناطق عن طريق “الحراقات” وما تتسبّب به من أضرار بيئية واقتصادية.

وبحسب المصدر المطلع، ليس من الواضح حتى اللحظة إن كانت الحكومة (أيام ترامب) هي التي وعدت بتقديم المصفاتين أم أنها شركة “دلتا”، مع العلم أنه قد لا يكون لـ “دلتا” مصلحة بحصول الإدارة على المصافي، لأن الأرباح من تصدير النفط الخام أكبر بكثير من أرباح بيعه مكرّراً.

ويرجّح مهندس النفط والخبير الفنّي، حسين قاسم، أنّ المصافي لن تكرّر أكثر من حوالي 30 ألف برميل باليوم لسد احتياجات المنطقة “الكردية” في شمال الحسكة، كما اتفق مع رامي حول الغرض الفعلي الذي تسعى “دلتا” إلى تحقيقه، والذي يتمثل بتصدير النفط الخام إلى تركيا عبر إقليم كردستان العراق.

عالج الجزء الأول من هذا التحقيق الأبعاد الفنية والتقنية للاتفاق النفطي، بالإضافة إلى كيفية حصول شركة “دلتا” على رخصة OFAC والطلبات الأخرى التي فشلت في الحصول عليها. ولكن لا يزال  يسود الغموض على بعض الجوانب من هذا الاتفاق نتيجة غياب الشفافية لدى السلطات الحاكمة في الإدارة الذاتية وضبابية تصريحات ممثلي الشركة ومسؤولي الإدارتين الأمريكتين.

(ساهم بهزاد حاج حمو في المراحل الأولى من هذا التحقيق)

—————————————

محاولة لفك “شيفرة” الاتفاق النفطي بين الإدارة الذاتية وشركة “دلتا” الأمريكية (جزء 2)

الجزء الثاني

بعد أن استعرضنا في الجزء الأول، السياق الذي حصلت فيه شركة دلتا على رخصة OFAC للعمل في شمال شرق سورية، يتناول الجزء الثاني من التحقيق الأبعاد السياسية والاقتصادية للصفقة ليس فقط في الداخل السوري  فحسب، بل أيضا على الصعيد الإقليمي،  وبالأخص فيما يتعلق بالدور العراقي والكردي العراقي والتركي.

صمت في بغداد

في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الماضي صرح قائد قوات “قسد” مظلوم عبدي في مقابلته مع موقع “المونيتور” أن “شركة “دلتا” تبذل الجهود من أجل تسويق النفط عبر كردستان العراق.

قال لنا “رامي” في هذا السياق، أنّ الشركة لم توّضح كيف ستفك عقدة تصدير الخام إلى تركيا عبر كردستان-العراق بطريقة قانونية ومتجانسة مع قواعد رخص الخزانة الأمريكية.

وأثار تحقيق نُشر على موقع “ذي نيو ريبوبلك” الأمريكي قبل حوالي سنة جدلاً، إذ ذكر نقلاً عن مصادر، أنّ الخطة الأولية لشركة “دلتا” كانت خلط النفط الخام السوري بالعراقي في الأنبوب الذي يربط كركوك ومرفأ جيهان التركي، بغرض حجب مصدر إنتاجه.

وبالأساس، يشكل أنبوب كركوك-جيهان قضية شائكة في العلاقات بين بغداد وأربيل بسبب ملكيته العراقية -التركية، وكانت بغداد قد اعترضت قانونياً أكثر من مرة على استعمال الأنبوب من قبل إقليم كردستان لضخ النفط نحو تركيا.

ويرى “رامي” أن بغداد لن تسمح بتصدير النفط السوري إلى تركيا عبر كردستان العراق.

يقول أستاذ الاقتصاد في جامعة البصرة العراقية، عدنان الجوراني، في رسالة موجهة إلى معد التحقيق عبر تطبيق واتساب: “يجب أن تكون الحكومة العراقية على اطلاع (على أيّ خطة لتصدير النفط عبر كردستان العراق)”. ويعتقد أنه “كان عليها إصدار بيان” بصدد اتفاقية “دلتا”.

ولكن، وفي موقف يمكن أن يحتمل أكثر من تفسير، لم تعلّق الحكومة الاتحادية العراقية على الصفقة حتى اليوم، على عكس دمشق التي اعتبرتها على الفور “سرقة واعتداء” و”نهب” للنفط السوري، وأنقرة أيضاً نددت بالاتفاق ووصفته بـ “غير المقبول” واعتبرته “دليل واضح على الأجندة الانفصالية” لـ “قسد”.

ووصف كريستان (اسم مستعار لمقاول يعمل أحياناً بعقود مع الحكومة الأمريكية في سوريا) في مقابلة أجراها معه معد التحقيق في أذار (مارس) 2021، صمت بغداد عن خطة “دلتا” للتصدير بـ “سياسة الأمر الواقع” نظراً لعجز الحكومة العراقية عن القيام بأيّ رد فعل في الوقت الحالي.

وقال لحكاية ما انحكت : “ليس لديهم (في بغداد) غطاءً سياسياً كي يسيطروا على معبر فيشخابور (معبر سمالكا الحدودي الذي يربط مناطق الإدارة الذاتية بإقليم كردستان العراق ويُعتبر الشريان التجاري بين الطرفين) (…). ولن يقدموا على ذلك، لأن هذا سوف يفسد الخطة الأمريكية لحماية شمال شرق سورية و(يقطع) خط الإمدادات الإنساني تجاه شمال شرق سورية. (…)”.

ويمتلك إقليم كردستان العراق استقلالية كبيرة في القرار عن حكومة بغداد، ولا توجد في مناطقه قوات أمنية اتحادية عراقية، إنما تخضع المنطقة من الناحية العسكرية لسيطرة قوات البيشمركة.

يضيف كريستان: “دعونا نتذكر أنه عندما كان الحشد (الشعبي العراقي، المدعوم إيرانياً) يهاجم مناطق تسيطر عليها قوات البشمركة في شمال العراق (…)، كان الأمريكيون واضحين جداً بأن (معبر) فيشخابور منطقة محظور الاقتراب منها.. وبغداد لم تتجاوز هذا الخط الأحمر”.

على كل حال، ليس موقف بغداد هو العقبة القانونية الوحيدة التي قد تواجهها “دلتا”، إنما يعتقد خبراء في القانون الدولي أنّ “نهب” النفط السوري يمكن أن يشكل “جريمة حرب”، مع أنّ تطبيق “مبدأ ملكية الشعب” (وليس الحكومة السورية) على النفط قد يعطي شرعية ما للاتفاقية، لبيع الذهب الأسود من أجل دعم طموحات الفصائل الكردية في استقلال إداري واقتصادي أكبر، لكنها على حد رأي محللين “شرعية مشكوك بها”.

دور أربيل

تتراوح التقديرات حول حجم تهريب النفط من سوريا إلى إقليم كردستان عبر عدّة قرى حدودية، بين 6 آلاف برميل يومياً في 2019 )حسب محلل نفطي مقيم في العراق) و30 ألف برميل يومياً في 2020، حسب ما قاله لنا صحفي متخصّص مقيم في أربيل، مع العلم أنّ تجارة السوق السوداء يصعب تحديد حجمها في جميع الحالات.

وتستفيد الأطراف الكردية العراقية من  شراء النفط السوري الخام بأسعار رخيصة من دون اللجوء إلى وساطة “دلتا”، وبالتالي تتوقف التعاملات التجارية بين هذه الأطراف والشركة الأمريكية على الحوافز المتاحة للإقليم، وخصوصاً على وجود رخصة OFAC. فهذه الرخصة قد تشكل دافعاً لأربيل لدعم الاتفاق، لأنها تسمح لها بالوصول إلى الأسواق الدولية لبيع النفط السوري بطريقة شرعية.

ليست “دلتا” الشركة الوحيدة التي تصوّرت دوراً لمسؤولي الإقليم في تصدير النفط السوري. فعلى سبيل المثال أشار “موتي كهانا” لمعدّ التحقيق أنه وخلال تراسله مع الخزانة الأمريكية للحصول على رخصة OFAC، ذكر في الطلب أنه سوف يبيع النفط السوري لمصفاة “لناز” المتواجدة في محافظة أربيل، وهي جزء من مجموعة rainfloods” المملوكة من قبل منصور بارزاني، وهو قائد مجموعات من القوات الخاصة في البشمركة الكردية وشقيق رئيس وزراء الإقليم مسرور بارزاني.

ويدلّ ذكر مجموعة “rainfloods” على أهمية دور القادة الحزبيين والأمنيين في الإقليم في أي مشروع يتعلّق بنقل النفط السوري عبر أراضي كردستان العراق.

أما فيما يخص “دلتا” فحسب الصور التي نشرها “جيمس ريس” من شركة “دلتا” على عدد من حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، فقد التقى مؤسسو الشركة، ريس وكاين ودورير، مع مسؤولي إقليم كردستان العراق، ويبدو أنّ هذه اللقاءات تعود إلى فترة ما بين حزيران (يونيو) 2018 ومايو (أيار) 2019 حسب تواريخ نشر الصور.

وظهر في الصور كل من رئيس الإقليم نجيرفان برزاني والمحافظ السابق لدهوك فرهاد اتروشي ومسؤولي شركة “powergate” للبناء ومقرها في دهوك وهي تضم أقارب اتروشي.

فرهاد اتروشي مقرّب من نيجيرفان، وتم إبعاده في العام الماضي عن موقعه في إطار صراع الأجنحة بين مسرور ونيجيرفان وكلّف محله “علي تتر”  وهو مقرّب من مسرور وجاء من السلك الأمني،  مع العلم أن المصالح الاقتصادية تتداخل أحيانا  بين الجناحين.  وفي كانون الثاني/ يناير 2021 تم تعيين كمال أتروشي، أحد أقارب فرهاد، على رأس وزارة الثروات الطبيعية في الإقليم. كمال قريب من مسرور، وجاء به لإنهاء أو تقليل دور اشتي هورامي، الوزير السابق الماسك الأوحد بملف النفط وفق رغبة نيجيرفان. لكن يبدو وبحسب بعض المصادر أن المفاتيح ماتزال جلها ب جناح نيجيرفان حتى بعد تعيين كمال.

هذه اللقاءات قد تشير أنّ شركة “دلتا” انحاز لجناح نيجيرفان لحزب “البارتي”  في المباحثات النفطية.

كما ظهر أيضاً في اللقاءات المصوّرة، فوزي حريري رئيس ديوان رئاسة الإقليم، وهو بمرافقة شركاء “دلتا” في مكان يوجد فيه العلم السعودي.

وبعد التدقيق في الصور المنشورة على عدد من وسائل التواصل الاجتماعي تبيّن لمعد التحقيق أن اللقاء جرى في مطعم “مطعم “سيسونس” لفندق ديفان في أربيل الذي يستضيف القنصلية السعودية، ما قد يحمل إشارة لم يتم التحقّق منها إلى دور سعودي في المناقشات بين “دلتا”ومسؤولي الإقليم.

تلك الإشارة يمكن ربطها مع قيام الرياض بإرسال مندوبيها إلى شمال شرق سوريا في الماضي لمناقشة خطط إعادة الإعمار والدور المحتمل السعودي فيها، كما طوّرت الرياض علاقتها بإقليم كردستان العراق خلال السنوات الأخيرة.

لكن مسؤول منشق عن الحكومة السورية استبعد أيّ دور للرياض في الاتفاقية النفطية، وقال في رسالة موجهة إلى معد التحقيق عبر واتساب في كانون الأول (ديسمبر) 2020 إن السعودية “انسحبت” من ملف شمال شرق سوريا في أواخر 2019.

وأضاف أن “السعودية فكّرت لفترة أن التعاون مع الولايات المتحدة في شمال شرق سورية قد يحسّن العلاقات بينهما. السعوديون لديهم 150 مليون دولار لمشاريع “الاستقرار” وحاولوا العمل مع العشائر العربية ولكنهم اكتشفوا أن البيت الأبيض (في عهد دونالد ترامب) ليس مهتماً في الشأن السوري بتاتاً و(لذلك) انسحبوا من ملف شمال شرق سورية منذ حوالي السنة”.

وتبدو العلاقات بين الإدارة الجديدة الأمريكية والرياض في الوقت الحالي متوترة للغاية مما لا يوفر أيّ أرضية لدور سعودي في ملف شمال شرق سورية.

الأبعاد السياسية للصفقة

لا يمكن فهم المحادثات بين “دلتا” ومسؤولي إقليم كردستان من دون ربطها بالمفاوضات الكردية – الكردية التي تتحرك ببطء حالياً في شمال شرق سوريا وعلاقة المجلس الوطني الكردي في سوريا (وهو الطرف الأضعف في المفاوضات الكردية في سوريا) بحزب “البارتي” الكردستاني العراقي الذي يقوده آل بارزاني منذ عقود.

وتهدف جهود الوساطة التي يقودها نيجيرفان بارزاني إلى إشراك “المجلس الوطني الكردي” في الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا، إلى جانب “حزب الاتحاد الديمقراطي” الذي يقود الإدارة حالياً.

ويتمتع نيجيرفان بارزاني بعلاقة جيدة بمظلوم “كوباني” حسب مصادر متقاطعة، وبالتالي أي نوع من الشراكة السياسية لصالح المجلس الوطني الكردي في مؤسسات الإدارة الذاتية قد تحرز تقدماً في المحادثات النفطية بين “دلتا” وحزب “البارتي”.

وكتب بسام برابندي، وهو دبلوماسي سوري سابق مقيم في واشنطن، في رسالة موجهة إلى معدّ التحقيق عبر تطبيق واتساب في كانون الثاني (يناير) 2021 أن “هذه الصفقة سياسية مئة بالمئة، وهي تخدم تركيا والكرد وتُبعد الكرد عن (بشار) الأسد وروسيا. لكن إذا لم تتحرك العملية السياسية بين الكرد فإن هذا المشروع لن ينجح”.

وأضاف بربندي أن الاتفاق الكردي- الكردي قد يجلب تركيا إلى الطاولة (نظراً لعلاقاتها الجيدة بـ”البارتي” الكردستاني العراقي)، مما يجعل الصفقة النفطية حافزاً للكرد”.

لكن التصعيد العسكري الأخير بين حزب “البارتي” العراقي و”البي كي كي” في كردستان العراق قد يؤثر سلباً على المفاوضات بين الأطراف الكردية السورية، كما أكد مظلوم “كوباني” في مقابلته مع “المونيتور” في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي.

وربما هناك مؤشرات بأن قيادة “البي كي كي” في جبال قنديل في كردستان العراق ليست راضية عن الاتفاقية النفطية بين “دلتا” والإدارة الذاتية، كما تبيّن في مقابلة أجرتها قناة “ستيرك” الكردية مع القيادي جميل بايق في آب (أغسطس)2020 .

وردّد بايق في هذا اللقاء موقف دمشق السيادي المندّد بالاتفاقية وانتقد من يريد الاستفادة من النفط السوري على حساب الشعب، في إشارة ضمنية إلى الإدارة الذاتية والشركة الأميركية.

وأتت مقابلة جميل بايق عقب تقارير عن طرد مسؤولين كبار من “البي كي كي” من شمال شرق سوريا تلبيةً لضغوطات أميركية لفصل الإدارة الذاتية عن تأثير “حزب العمال الكردستاني”.

ولكن رحلت إدارة ترامب ومعها، على ما يبدو، اتفاق دلتا ودوره المحتمل في مصالحة بين تركيا والإدارة الذاتية، تزامناً مع المصالحة الكردية – الكردية في سورية ومحاولات لفصل العلاقة بين الإدارة الذاتية و”البي كي كي” (مع العلم أن أنقرة تستطيع استيراد النفط السوري من كردستان العراق من دون توسّط الشركات الأجنبية). ومن الواضح أن العلاقة بين تركيا وواشنطن أصبحت أكثر توترا مما كانت في عهد دونالد ترامب.

وأبعاد اقتصادية..

أما بالنسبة لأبعاد الصفقة الاقتصادية وتقاسم العائدات النفطية، فقال رياض درار، الرئيس المشترك لمجلس سوريا الديموقراطي، أن “قسم خاص في الإدارة يدير مستخرجات النفط والاتفاقيات تكون عن طريق هذا القسم” وتوزيع العائدات يتم عن طريق المجالس المحلية فيما بعد.

لكن معد التحقيق والمشاركين به تواصلوا مع هيئة الطاقة وهيئة الاقتصاد لدى الإدارة الذاتية ولم يدلوا بأيّة معلومة حول الاتفاق وكيفية توزيع العائدات، مما يُعتبر مؤشرا على عدم وجود خطة فعلية وغياب التنسيق أو انعدام الشفافية لدى مؤسسات الإدارة الذاتية.

وأكد مصدر داخل هيئة الاقتصاد أن هذه الاتفاقيات تجري في العادة “وراء الكواليس” في إشارة ضمنية الى ما يصفه البعض بـ”إدارة الظل”.

خيارات محدودة أمام الإدارة الذاتية

لم يتوفر لدى السلطات “الكردية” خلال الحرب مع “داعش” وجولات المعارك المتقطعة مع تركيا الكثير من الفرص لتسويق النفط في ظل الحصار الاقتصادي والعسكري التركي، هذا باستثناء البيع عبر وسطاء إلى مناطق الحكومة السورية والمعارضة وإقليم كردستان العراق وصولاً إلى تركيا عن طريق أربيل. ومع ذلك، ظلّت علاقات الإدارة الذاتية مع جميع الأطراف تتراوح بين التوتر والعدائية.

دفعة العقوبات الأمريكية الأخيرة على دمشق، أو ما يسمى بقانون “قيصر” الذي تم إصداره في كانون الأول (ديسمبر) 2019 وبدأ تنفيذه في حزيران (يونيو) 2020، قلّص نطاق التبادل بين دمشق والإدارة الذاتية وأجبر الأخيرة على التركيز على خط التصدير عبر إقليم كردستان العراق، وهذا ما أكده أيضاً لنا المهندس قاسم الذي يقدّر بأنّ الصادرات باتجاه أربيل تجاوزت الكميات المُباعة لدمشق في الفترة الأخيرة.

لكن موقع “عنب بلدي” السوري نقل في أحد تقاريره أنّ الادارة الذاتية، أعادت توريد النفط إلى مناطق الحكومة السورية في يوم 7 آذار (مارس ٢٠٢١) بعد انقطاع دام 37 يوماً. وفي 21 آذار (مارس) 2021 أكد لنا مسؤول من مديرية حقول الحسكة في رسالة موجهة عبر تطبيق واتساب أنه “بالنسبة للشحن باتجاه مناطق النظام.. اليوم كان يوجد قافلة من الصهاريج”. وعلى ما يبدو تبقى مسألة بيع النفط لدمشق مرهونة بمعاناة الإدارة الذاتية الاقتصادية.

أما بما يخص توريد النفط إلى مناطق المعارضة، ففي الأشهر الأخيرة استُهدفت تكراراً “الحراقات” البدائية التي يتم تكرير النفط “الكردي” فيها في ريف حلب الشمالي. وتتجه أصابع الاتهام الى دمشق أو موسكو، رغم أن تلك الاستهدافات قد تخدم تركيا بالدرجة الأولى.

وتواصل معد التحقيق في 20 آذار (مارس ٢٠٢١) الماضي مع مصدرين عسكرين من “الجيش الوطني السوري” المدعوم من أنقرة، وهما متواجدان في المنطقة التي شهدت الضربات. وأشار المصدران في رسائل صوتية عبر تطبيق واتساب إلى وجود اتفاق ضمني تركي-روسي على “محاصرة الأكراد اقتصادياً”.

ورأى المصدر الأول أن “المستفيد الأول (من عمليات الاستهداف تلك) هو الأتراك (…) لأن البديل سوف يأتي من تركيا، المازوت والبنزين والغاز”.

وأضاف المصدر الثاني أن المشتقات المكرّرة من النفط الوارد من مناطق “قسد” تُباع في مناطق “الجيش الوطني” بأسعار أرخص بحوالي 25 – 30 دولار للبرميل مقارنةً مع المشتقات الأوروبية الواردة من تركيا.

وتستفيد دمشق من هذه الهجمات على “الحراقات” كورقة ضغط على الإدارة الذاتية حتى تحصر صادراتها بالحكومة السورية. ولذلك تبقى استدامة الإدارة الذاتية الاقتصادية مرتبطة بمناورات سياسية متعدّدة الأطراف.

أخيرا، تبدو هذه الاتفاقية النفطية بين “دلتا” والإدارة الذاتية سياسيةً أكثر مما هي اقتصادية أو قادرة على تحقيق أرباح مضمونة نظراً للعقبات التي تواجهها أي شركة أجنبية تريد أن تستثمر في المنطقة نتيجة العقوبات الغربية واستمرار الصراع السوري، وفي ظل عدم وضوح مستقبل المنطقة والإدارة “الكردية”، بالإضافة إلى عدم استقرار المشهد السياسي الأمريكي عند حصول الشركة على الرخصة – أي في سنة الانتخابات الرئاسية الأمريكية.

العديد من المصادر التي تواصلنا معها في هذا التحقيق، ترى أن مستقبل شركة “دلتا” في سوريا غير مضمون سياسياً في ظل إدارة “بايدن” وهذا ما أكده مؤخراً عدم تجديد رخصة OFAC.

ويشير خبراء إلى حاجة الادارة الذاتية “الكردية” إلى شريك تجاري دولي لتضمن مستقبل اقتصادها ولتلبية احتياجات أهالي المنطقة ولكسب المزيد من الشرعية على الصعيد السياسي الدولي. وليس من السهل أن ترضي شركة غير مجرّبة مثل “دلتا” جميع الأطراف المستفيدة من التجارة النفطية السورية، سواء كانت دولا أو شبكات التهريب أو مجموعات تتقاطع بينهما.

وتبقى دمشق معارضة لاتفاقية “دلتا”، وبغداد ساكتة مع علامات استفهام كثيرة حول موقفها الصامت، ويمكن لأنقرة أن تكون موافقة ضمنياً على الاتفاقية ومعارضة علناً لها، لكنها في نفس الوقت تهدّد عسكرياً بشكل يومي مستقبل الإدارة الذاتية.

والأهم من ذلك أنّ الأوضاع المعيشية في شمال شرق سورية، بعد عقد من الحرب وسنوات من الحرمان نتيجة العقوبات، تبقى سيئة ومرهونة بتفاهمات دولية من دون أيّة شفافية من قبل السلطات الحاكمة والشركات المتعاقدة معها بصدد صفقات تخص المصلحة العامة.

صحفي مستقل

(ينشر هذا التحقيق بالتعاون والشراكة مع شبكة نيريج)

حكاية ما انحكت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى