شهادات

دمشق – سبت الدم، لوحة تؤرخ للمنظمة الشيوعيّة العربيّة

في سنة 1975، حكم نظام الحكم في سوريا على خمسة يساريين من مؤسسي المنظمة الشيوعيّة العربيّة بالإعدام، ما أحدث صدمة كبيرة في أوساط اليسار السوري وحرّض الفنان يوسف عبدلكي إلى امتشاق ريشته لرسم لوحة “دمشق- سبت الدم” التي نروي حكايتها هنا، إلى جانب حكاية المنظمة التي طالها الكثير من التحريف والنسيان.

كتب وائل السواح في نهاية مقال له: “لا يذكر معظم السوريين اليوم مناضلي المنظّمة الشيوعية العربية، ولكنهم يعرفون اللوحة الفاتنة التي رسمها يوسف عَبَدلكي بعنوان “دمشق، سبت الدم”، التي تؤرخ لليوم الذي أُعدم فيه الأعضاء الخمسة، كما يذكرون على الأرجح القصيدة الفاتنة لنزيه أبو عفش عن شهداء المنظمة، بعنوان “الله قريب من قلبي: اليأس قريب من قلبي/ ورفاقي يتدلّون عراة كحبال القنّب/ خمس نوافذ أُغلقت الآن/ فنامي أيتها الوردة/ خمس شواهد تنتصب الآن على نحو دموي/ خمس زنابق تهوي في الليل ولا تصل الأرض/ فسلامًا أيّتها الوردة/ خمسة أوتاد تتلكّأ في منتصف القلب/ سلامًا لي/ وسلامًا لبلادي/ وسلامًا/ لملايين الأعشاش المهجورة في منتصف القلب.. سلامًا للوردة”.

هذه الكلمات كانت حافزنا للبحث عن خفايا الحكاية، بعد أن تركت بذور أسئلتها فينا، فما هي هذه اللوحة حقًا؟  ما هي المنظمة الشيوعيّة العربيّة التي شكّلت في زمن مضى أيقونة لليسار السوري؟ من هم أعضاؤها؟ بماذا فكروا وبمن آمنوا؟ وما مصيرهم اليوم؟

دمشق – سبت الدم

في لوحة “دمشق- سبت الدم” ليوسف عبدلكي، نشاهد بوضوح الزنابق الخمس التي تحدث عنها أبو عفش في قصيدته، معلّقة في فضاء اللوحة كـ”خمسة أوتاد” يتدلى منها خمس رفاق “عراة كحبال القنّب”، وجوههم نحو الأعلى في كبرياء عنيد، معلّقين بين السماء والأرض، وفي الأسفل بشر غاضبون يرمقون ظلامًا داكنًا حادًا وهم يتطلعون نحو مستقبل يبدو لهم بعيدًا وقاتمًا.

في ليلة السبت، الثاني من شهر آب سنة 1975، تم الإعلان عن إعدام خمسة قادة يساريين ينتمون للمنظمة الشيوعيّة العربيّة. أعدم الرجال الخمسة إيذانًا ببدء زمن القمع الطويل والمديد والذي يعرفه السوريون اليوم باسم زمن “مملكة الصمت” التي رسم حدودها الدكتاتور الأب بالدم والرصاص.





أولئك الخمسة هم: الفلسطينيون علي الغضبان، ومحمد خير نايف، وعلي الحوراني، ومحمد وليد عدوان، والسوري محمد غياث الدين ماجد شيحة الذي كتب عنه صديقه الفنان منير الشعراني قبل سنوات على صفحته الشخصيّة على موقع فيسبوك، في ذكرى هذه الإعدامات، “كان شابًا جميل المحيّا بسامًا وضّاحًا تمًّا، منتصب القامة عفيًا، متّزن الخطو خفيف الحركة رشيقًا، كان فتى نجيبًا لمّاحًا مبدعًا، موهوبًا يكتب الشعر لفتاة كان يهواها، ويرسم أحلامه بعين ثاقبة صادقة ويدٍ بارعة، هكذا عرفته في مركز أدهم اسماعيل وكنّا ما نزال فتيين وامتدت صداقتنا في ثانويّة جودة الهاشمي، نشارك في أنشطتها الفنية معًا، كنا غالبًا نتمشى من المركز أو المدرسة أو إليهما نتكلم في كلّ شيء، في العام و الخاص، في المسموح والممنوع، نختلف ونتفق بقلب مفتوح وعقل واع وطويّة نقية، لاتداهن ولا تعاند…”

عن هذه الذكرى، ذكرى الإعدامات، كتب وائل السواح: “في فجر يوم السبت 2 آب 1975، نُصبت في قلب دمشق خمس مشانق، ولكن الشهداء لم يصلوا أبدًا إلى مكان تنفيذ الحكم، ففي آخر لحظة، قرر النظام الذي خشي من عاقبة الإعدام العلني، تنفيذ الجريمة في مكان ما تحت الأرض، ورفض أن يسلّم الجثامين لذويهم، وما زالت هذه الأجساد الخمسة مطمورة في مكان ما لا يعرفه أحد”.

إعدام الخمسة كان بمثابة الزلزال لليسار السوري، زلزال دفع أبو عفش لكتابة قصيدته وعبدلكي لرسم لوحته. يقول يوسف عبدلكي لحكاية ما انحكت عن ذلك الزلزال: “ما حدث ترك هزّة في أواسط اليساريين في سوريا، ومن ضمنهم أنا، القادم من عائلة سياسيّة يساريّة. أُصبتُ بالصدمة، فقمت برسم  وحفر عدد من اللوحات، منها لوحة «دمشق – سبت الدم»، ولوحة «خمسة ذهبوا ونحن باقون»”.

أواخر السبعينات أقدم عبدلكي على عرض لوحتيه في صالة الشعب في دمشق. “طوال المعرض، كان والد أحد الشهداء (محمد غياث الدين ماجد شيحة) يحضر يوميًا، لا يُكلّم أحدًا، ولا يختلط بأحد حتى تغلق الصالة أبوابها مساءً “كأن هذا المجيء المتواصل، يؤكد للأب أنّ هناك من لم ينسَ ابنه”.

لكن مع إعدام قادة المنظمة آنذاك لم تنتهي حكاية المنظمة التي تحوّل أعضاؤها المعتقلون ومن نجا منهم من سيف الإعدامات، إلى أيقونات لليسار السوري. في مقالته المذكورة سابقًا كتب وائل السواح، وهو من جاورهم في المعتقل: “في سجن تدمر، كنّا نلمحهم من بعيد. لم يكن مسموحًا لنا أبدًا الاقتراب منهم أو الحديث معهم أو التلويح والابتسام لهم. أمضوا ثلاثين سنة تقريبًا ينتقلون من سجن إلى آخر، في عزلة عن كلّ آدمي، حتى نُقلوا أخيرًا إلى سجن صيدنايا قبل الإفراج عنهم. في النصف الثاني من سبعينات القرن النائم، كان رموز المنظمّة الشيوعيّة العربيّة يشعلون خيال وضمير اليسار السوري الجديد. لم تخلِّف المنظّمة إرثًا نظريًا ولم تعش طويلًا لتخلِّف إرثًا نضاليًا، ولكن مناضلي المنظّمة كانوا أيقونات عاشت في قلبنا طويلًا”.

المنظمة الشيوعيّة العربيّة

يشرح الفنان يوسف عبدلكي لحكاية ما انحكت المناخ الذي كان سائدًا في سوريا والعالم العربي إبان ولادة المنظمة الشيوعية العربية، إذ يقول إنّه و”منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي انتشر مناخ ماركسي يساري جديد، خارج المدرسة السوفيتيّة الستالينيّة، كحركات الطلاب في أوروبا، ونشوء أحزاب يساريّة جديدة، كمنظمة العمل الشيوعي في لبنان، وغيرها من الأحزاب الشيوعيّة العربيّة التي تأسست في ذلك الوقت. أحزاب لم تدخل في مساومات مع الدول، وكان الهم اليساري والنضال من أجل الشعوب هو ما يعنيها”.

ضمن هذا السياق ولدت المنظمة على يد شباب فلسطينيين وسوريين مؤمنين بقضية اليسار، هم علي الغضبان (فلسطيني)، محمد غياث الدين ماجد شيحة (سوري، جامعة دمشق)، محمد وليد عدوان (فلسطيني، كلية العلوم- ر.ف.ك جامعة دمشق)، محمد خير نايف (فلسطيني، كلية الهندسة، جامعة دمشق)، علي الحوراني (فلسطيني، كلية الهندسة، جامعة دمشق)، هشام البريدي (سوري، كلية ر..ف..ك، جامعة دمشق)، محمد عماد الدين ماجد شيحة (سوري)، محمد فارس مراد (فلسطيني)، هيثم النعال (سوري)، سلطي نوارة (فلسطيني)، بيهث كنيفاتي (سوري)، نبيل كنيفاتي (سوري)، محمود الأبطح (فلسطيني)، جميله البطش (فلسطينيّة).

كتب وائل السواح عن ولادة المنظمة: “ثلّة من الشباب، سوريين وفلسطينيين، في العشرينات من عمرهم، تزعّمهم شاب فلسطيني نقي السريرة، يشتعل حماسة وغضبًا وقهرًا، ويملك كاريزما عالية وقدرة على التنظيم والإقناع– علي الغضبان (المعلومات التي وصلت إليها حكاية ما انحكت، تقول إنّ المنظمة لم يكن لها قائد، وإنّما كانت القيادة جماعيّة). وبينهم أيضًا الأَخَوَان غياث وعماد شيحة والفارس النبيل محمد فارس مراد. افترق شباب المنظمّة عن شباب الحلقات في فورتهم العاطفيّة ونقمتهم، واقتنعوا بأنّ التغيير لا يمكن أن يأتي إلّا بالعنف الثوري. وكان هدفهم ضرب المصالح الأميركيّة في المنطقة، وفي خلدهم كان يدور نصر قريب وثورة وشيكة. قاموا بوضع متفجرة في جناح الولايات المتحدة في معرض دمشق الدولي، ثم كرّروا الأمر نفسه في شركة NCR الأميركيّة في قلب دمشق، على بعد مئات الأمتار من محافظة دمشق والبرلمان وقيادة الأركان”.

العمل المسلح

على خلاف ما هو شائع لم تعلن المنظمة الكفاح المسلح كغاية واستراتيجيّة لها بقدر ما كان الأمر تكتيكًا ومحاولة لجذب الانتباه ولفت الأنظار، فيقول عماد شيحة، أحد أعضاء المنظمة، بعد أن قضى ثلاثين عامًا في المعتقلات، في مقابلة أجرتها معه، رزان زيتونة: “لم نصل في المنظمة إلى مرحلة نعلن فيها الكفاح المسلح. كان نشاطنا سياسيًا في الدرجة الأولى، والعمليات التي قمنا بها ضدّ المصالح الأميركيّة أخذت سمة العمل الدعائي، بمعنى أنه أُريد لها أن تكون صدى لنشاط سياسي فقط”.

كما نقل وائل السواح عن فارس مراد قوله: “وحين التقيت فارس مراد، بعد سبعة وعشرين صيفًا أمضاها في سجون النظام، بدا لي شبه آدمي، بظهر منحن حتى تكاد قامته تنتصف، ولكن بتماسك نفسي وسياسي وأخلاقي عنيد. قال لي، وكنّا في بيته قرب الفحّامة بدمشق: «لم يكن العمل المسلّح هدفًا بذاته. كان وسيلة لكي نُسمع صوتنا، لأنّنا لم نكن نملك إمكانات أخرى لذلك. وكان الأساس في عملنا العسكري أن يكون مجرد رافعة إعلاميّة لا يستهدف بشرًا على الإطلاق»”.

مقتل حارس وشعور دائم بالذنب

ولكن، أثناء أحد العمليات التي قامت بها المنظمة قُتل أحد الحراس، حسب قول عماد شيحة في حواره مع زران: “كما قلت، العمليات التي قمنا بها كانت ذات طابع دعائي. كنّا حريصين كل الحرص على أن لا تؤدي إلى إيذاء أيّ إنسان، ومع ذلك فقد استشهد مواطن واحد، حارس بناء، نتيجة إحدى العمليات، رغم اتخاذنا أقصى الاحتياطات لتجنب مثل هذه النتيجة”، مؤكدًا بذات الوقت أنّ “الظرف الحالي للعالم لا يسمح باستخدام الكفاح المسلح كأداة من أدوات النضال لتحقيق هدف سام. الآن هناك وسائل أخرى للكفاح من أجل العدالة والحريّة”.

يكتب وائل: “ولذلك، كان على فارس وعماد وكل الآخرين أن يعيشوا مع مقتل ذلك الحارس الليلي البائس مدة ثلاثين عامًا… كان من الواضح جدًا أنّ هذا الحارس يُقلق روح من بقي من أعضاء المنظمة على قيد الحياة، وإنّ هذا لم يكن هدف أعضاء المنظمة… ستظل صورة هذا الرجل وأسرته تُثْقِل على قلب من لم يُعدَم من أعضاء المنظمة” الموزعين اليوم في أماكن شتى من العالم”.

تفكيك المنظمة

هذه العمليات التي قام بها التنظيم وتهديد المصالح الأميركية والغربية في الشرق الأوسط دفع “أنظمة المخابرات في شرق المتوسط للقضاء على أفراد التنظيم بشراسة منقطعة النظير”، وهكذا تمّ القبض على قسم من المجموعة في لبنان، بمساعدة أحد الفصائل الفلسطينيّة المواليّة للنظام السوري، حيث يقول وائل “وقبِض على عدد منهم في لبنان، بينهم علي الغضبان، الذي اختطف بمساعدة فصيل فلسطيني موال للنظام السوري. وتمّت مداهمة مسكن محمد شقير، الذي عُذِّب حتى الموت، فاعترف قبل أن يلفظ نفسه الأخير على رفاقه في المجموعة، واعتقل الجميع خلال ساعات، وصدرت أحكام سريعة قاسية بعد محاكمة كاريكاتوريّة في محكمة أمن الدولة”.

لكن معلومات وصلت إليها حكاية ما انحكت، عن طريق أقرباء أحد أعضاء المنظمة تقول إنّ جميع أعضاء المنظمة الذين تمّ القبض عليهم، اعتقلوا في دمشق، وقد جاء أحكامهم كالآتي: إعدام علي الغضبان شنقًا، إعدام محمد غياث الدين ماجد شيحة شنقًا، إعدام محمد وليد عدوان شنقًا، إعدام محمد خير نايف شنقًا، إعدام علي الحوراني شنقًا، سجن كلّ من هشام البريدي، محمد عماد الدين ماجد شيحة، محمد فارس مراد، هيثم النعال سجنًا مؤبدًا، وسجن كلّ من سلطي نوارة، بيهث كنيفاتي، نبيل كنيفاتي، محمود الأبطح، جميله البطش، لمدّة خمسة عشر عامًا.

لكن قصة المنظمة لم تنتهي بإعدام وسجن هؤلاء، بل تحوّل المعتقلون منهم إلى أيقونة لليسار السوري والعربي، خاصة مع قضاء بعضهم حوالي ثلاثين عامًا في المعتقل. المعتقلون الذين حُكموا بالسجن بمدة خمسة عشر عامًا، قضوا سنواتهم وخرجوا، في حين تأخر خروج الآخرين حوالي ثلاثين عامًا، فأُفرج عن هيثم نعال في التاسع من شهر آب سنة 2002، بعد 27 عامًا على اعتقاله، وهو واحد من آخر ثلاثة معتقلين للمنظمة حينها، منهم فارس مراد الذي خرج في شهر شباط من العام 2004، وعماد شيحة، آخر معتقل للمنظمة، والذي اعتُقل في 21 حزيران 1974 وأُفرج عنه في الثالث من آب سنة 2004، بعد ثلاثين عامًا من الاعتقال.

حكاية ما انحكت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى