سياسة

رسالة إلى صديق عراقي/ دلال البزري

وصلت إليّ رسالة من صديق عراقي، يتعاطى شأن الكتابة. قال لي، بعدما أبدى تعاطفه مع أهل لبنان، إنه حَيْران بشأن انهياره. كيف يحصل ذلك، ولبنان بلد يتمتّع “بكل هذه الديمقراطية”، يتوفّر فيه “هذا الكمّ من العقول الواعية والكبيرة”، وتحصل فيه “كل هذه الهبّات الجماهيرية”.

حقاً، كيف يحصل أن بلدا “ديمقراطيا”، سكانه متعلمون متمرّدون.. كيف يحصل أنه يدمّر وينهار أمام أعينهم من دون أن يتمكّنوا مثلاً من تبديل حكامهم بالانتخابات، بالديمقراطية، أو أن تتكوّن نخبهم على يد فلاسفة، أو أن يوصلوا بـ”هبّاتهم” الجماهيرية قادة هذه الهبّات أو مطالبها إلى حيث يجب أن تصل؟ طبعاً يمكن إضافة حصانات أخرى، يُفترض أن تحمي هذا الوطن الصغير من عواصف مدمّرة. مثل موارده، طاقاته المهنية الحيّة، قطاعه المصرفي، مطبخه، جماله السياحي، مياهه، ينابيعه، فنانيه، موسيقييه، مغْتربيه. ويمكن، أيضاً، أن أضيف لصديقي العراقي أن كل هذه الأرصدة منخورة بسوسة الطائفية، بأننا وطن “مصطَنع”، نشأ بقرار غربي، وبأن مشكلة الهوية عندنا عويصة، ضعيفة، مشتّتة، وقوانين مؤسساتنا معطّلة.. إلى ما هنالك مما نعلمه، ونفسّر ببعضه ما بلغنا اليوم من كارثة وطنية. كل هذه “الأسباب” يمكن أن تجدها في أي بلد “طبيعي”. من دون أن تصل مواصيلَه إلى حدّ قتل شعبه وسرقته على يد حكامه.

لذلك، فأن يتمتّع لبنان بما يشتهر به من صفات، أصبح من الكليشيهات. والذي بنى هذه الكليشيهات ليس فراغاً، إنما واقعي فعلي. عندما أُطلق على لبنان صفة “سويسرا الشرق” الشهيرة، كان فعلاً لبنان يهنأ بشيءٍ من هذه الصفات، لا تجدها عند جيرانه البِعاد والقِراب، حيث انقلابات وديكتاتوريات واقتصاد مفقِر. وكان اللبنانيون، على اختلاف نظرهم، يرون أن كل الفضل بهذا يعود الى فرنسا، والإرساليات والمطابع والروح الثورية التغييرية التي زرعتها في لبنان خلال ثلاثة قرون من تسلّلها إلى جبَله.

والحال أن الفرنسيين لم يكونوا وحدهم في هذا الميدان، ولا كانوا جدُداً على لبنان. قنصليتهم الأولى فيه منذ القرن السابع عشر. يتعاطون سياسة جبل لبنان وبعض أطرافه بما يوازي المنافسة الشديدة التي كانوا يلاقونها من نظرائها الغربيين، الطامحين هم أيضاً إلى بناء قواعد لهم فيه. فكان الإنكليز والإيطاليون والأميركيون، الروس أيضا. وعندما أنشأوا لبنان الكبير، كان بناء على اتفاق بينهم وبين الإنكليز على تقاسم المشرق العربي، وبموافقة بقية الأطراف الغربيين، الذين خرجوا منتصرين في الحرب العالمية الأولى.

هكذا تمتّع لبنان بعلاقةٍ مبكِّرةٍ مع الغرب، جعلت استقلاله منه أهون الاستقلالات وأقلها دموية. والأهم، أنه أنشأ دولة، احتج عليها المسلمون في البداية، صحيح.. ولكنهم لم يلبثوا أن اكتشفوا أنهم عائشون في سعادة، لا يعرفها لا أهل سورية ولا مصر، ولا بطبيعة الحال فلسطين. وبشعارات مطمئنة من نوع “لا شرقية ولا غربية”. بل في الواقع كانت غربية، بعراقتها، بأفكارها، بحيويتها بثقافتها باجتماعياتها.. إلخ.

في وسط هذين، النعيم والاستقرار، حصلت انتكاسة. مسلمو لبنان، أول رافضيه، رأوا أن ينضمّوا إلى اتفاقية الوحدة بين مصر وسورية، معتقدين أنهم في ذلك يرفعون الهيمنة السياسية للموارنة. حصل ذلك عام 1958، في حربٍ أهلية مصغرة، دامت أشهر. وقتها، كان جمال عبد الناصر يبرم اتفاقية وحدة مع سورية، فزحفت الجماهير اللبنانية العروبية إلى دمشق، لتستقبله هناك، وتصرُخ بمطالبها الوحدوية. وقد يكون عبد الناصر، على عروبيته، أول من فهم أن الضرَر سوف يلحق حتما بلبنان، إذا انضم الى المحور الوحدوي الجديد، فكان اقتراحه أن لا… يبقى لبنان على ما أُسِّس عليه، ويصعد فؤاد شهاب إلى الرئاسة، فيكون الرئيس الإصلاحي الأول والأخير في الجمهورية.

تلك هي المرحلة المسمّاة “الذهبية” للبنان، والتي ولّدت الكليشيهات السويسرية عنه. دامت من الاستقلال وحتى اندلاع الحرب الأهلية الطويلة. ثلاثة عقود من الفن والثقافة والصحافة والحياة الرغيدة، كانت ذروتها عشية هذه الحرب. وفي نهاية هذه الحرب، في آخر عام من الثمانينيات، كانت حربٌ أخرى تضع أوزارها. يلتقي الأميركي جورج بوش الأب مع السوفييتي ميخائيل غورباتشوف، ويعلنان انتهاء الحرب الباردة، فينسحب العملاقان من أوروبا، الشرقية والغربية. ويحتفل كاتبان أميركيان بنهاية هذه الحرب، أو يُحتفى بهما، لا فرق. صموئيل هنتغتون يعلِن عن حرب جديدة، “صدام الحضارات” بين الإسلام والمسيحية. وفرانسيس فوكوياما يهلّل لعصر انتهاء التاريخ، وبداية عصر الهيمنة الأميركية المطلقة. وبخلاف “صدام الحضارات” الذي شقّ طريقه نحو العلا، كانت نبوءة العصر الأميركي المطلق تضلّ طريقها. ليس الآن، مع انسحاب أميركا من أفغانستان. إنما من يومها، من بداية إطلاقها، مع نهاية الحرب الباردة. ولبنان بالذات، كان من أوائل مختبراتها. ففي نهاية الثمانينيات، انتهت الحرب الأهلية، ووافقت أميركا على تلزيم لبنان للوصاية السورية. كانت هذه أولى خطوات التراجع الغربي في لبنان.

الأوروبيون، الملتحقون بالأميركيين، لم يستطيعوا الكثير. حاولوا، وهم مكبّلون بالوجهة الانسحابية المستترة لرأس حربتهم، أميركا. ولم يكونوا يعون ربما أنهم يشهدون العناقيد الأولى للانسحابات الأميركية. حتى لو جاءت لاحقاً حربا العراق وأفغانستان، لتؤكّد نتائجها على نوعية تلك الانسحابات، فإذا كانت أميركا هي الأقوى في شن حرب، إلا أنها كانت الأضعف في تحقيق أهدافها، وهي الأفشل في إنهائها. وهذا هو المقصود بالانسحاب الذي سيكون له لاحقاً تجسيد أكثر حرْفية.

بعد ثلاثين سنة على ترويض لبنان على يد النظام السوري، جلّ ما تمكن الغرب من تحقيقه انسحاب القوات السورية من لبنان عام 2005. بعد تمكين حزب الله بما يلزمه من غنائم. وهذه تركة، من بين تركات سورية أخرى، أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم.

التوازن الدولي الذي سمح للبنان ببضع وثلاثين سنة من الحياة والازدهار بدأ يختلّ منذ بداية الحرب الأهلية بأعوامها الخمسة عشر. والاختلال شقّ طريقاً أخرى في عمق الكيان اللبناني على امتداد ثلاثين سنة أخرى من الوصاية السورية، تبعتها خمسة عشر سنة أخيرة من السَير في الوجهة ذاتها، بعقباتٍ قليلة، وإن كانت مضخّمة. وفي هذه الأثناء، تتراجع أميركا حثيثاً، ومعها الغرب. وتفشل محاولاتهما للحفاظ على الهيمنة الماضية، فيتراجع بذلك الوجه الغربي للبنان الذي صنع سويسريته. ونتّجه شرقاً، أكثر فأكثر. وكلما اتجهنا شرقاً، غابت مقومات الحياة.

“انتصرنا انتصرنا” يعلن مع ذلك حسن نصر الله، قائد الانقلاب.. وسط الانهيار الشامل. ويردّد كورسه إنها مرحلة “انتقالية” ستليها جنة الله على هذه الأرض، لا يجيدون وصفها. وليتحقّق هذا الوعد الغامض بالجنّة، عليكَ الصبر بالموت. وإذا بقي لديكَ حيلة، عليكَ متابعة شدّ الحبال الجاري في عُقر داركَ بين أميركا وإيران. واليوم رسالة أميركا “الإيجابية”، المشفّرة ربما، أن طهران يمكنها أن تمرّر ناقلات النفط الإيرانية الذاهبة نحو لبنان أو سورية.. إذا كان هذا يسهّل إعادة إحياء الاتفاق النووي. فلا محادثات بين أميركا وإيران حول أي شيءٍ آخر. لا فلسطين، ولا القدس.. والإيرانيون واثقون من جماعتهم، هم يبادلونهم الثقة. فيما الثقة بأميركا في الحضيض، حتى لو كانت ما زالت قادرة على فرض عقوبات. ولذلك، لن يعود لبنان كما كان، لا أيام ازدهاره، ولا أيام مناطحته السحاب. وهي أيامٌ نقف منها على بُعد سنوات ضوئية، بما وفّرته من الحد الأدنى للعيش الآدمي. أما الآن، فرصيد لبنان ابتلعه الحوت، واحتضارُه يطول. وسوف يصل صاغراً، مستسلماً للموت على يد طغاةٍ تمكّنوا من ضرب ميزان قواه القديم.

أملٌ وحيد يبقى: أن ينهار النظام الإيراني. وهذا احتمال قائم، فيتخلّص لبنان من ذبْذبات الإمبريالية الإيرانية، الإقليمية، المتوحشة، الفقيرة.. إلى أحضان إمبرياليات أوسع، أقلّ فقراً، وذات وحشية “نظامية”، حالفت إيران ونافستها، حتى جاء دورها كاملاً، فيكون ساعتها لبنان ساحة صراع آخر، بين إمبريالية أميركية بائدة وإمبريالية روسية مرمّمة، وإمبريالية امبراطورية صينية. وتسقط سويسرا نهائياً، ويحلّق الغربان فوق جثة لبنان.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى