سياسة

الحلف الأطلسي: في ذمّة التاريخ أم سلال مهملاته؟/ صبحي حديدي

تعددت وتشعبت الخلاصات الجيو – سياسة والعسكرية والأمنية التي أسفر عنها الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، ليس على صعيد الولايات المتحدة وحدها فقط، بل كذلك على أصعدة دولية وإقليمية؛ لعلّ الأبرز فيها، في المدى المنظور على الأقلّ، حاضر حلف شمال الأطلسي (الناتو) ومستقبله، من زوايا عديدة ليس أقلّها علّة وجود الحلف أوّلاً. ولم يكن ينقص ملفّ التجاهل الأمريكي لحلفاء كبار مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا في اتخاذ قرار الانسحاب وترتيباته، إلا حكاية الغواصات الفرنسية التي نقضت أستراليا عقد تصنيعها مع باريس، لصالح دولتَين/ شريكتَين في الحلف؛ فجاءت هذه لتحسم الكثير من الأسئلة الأطلسية، الآن إذْ تحلّ السنة الـ72 من عمر معاهدة واشنطن التي أطلقت الحلف.

ومن الولايات المتحدة، مهندسة فسخ عقد الغواصات، غضبت فرنسا؛ ومنها، قبلئذ، غضبت ألمانيا لأن البيت الأبيض، ومن موقع ضغط أطلسي أيضاً، سعت إلى إفساد مشروع أنابيب الغاز العملاق «نورد ستريم»، المارّة عبر البلطيق من روسيا إلى ألمانيا؛ ومنها أيضاً غضبت معظم الدول الأعضاء في الحلف بسبب مواقف الإهانة والاستهانة والتهديد والوعيد التي صدرت عن رئيسها السابق دونالد ترامب، خلال قمة بروكسيل سنة 2018، خاصة تلك التغريدة الفريدة: «إنهم يدفعون قسطاً ضئيلاً من نفقتهم. الولايات المتحدة تدفع عشرات المليارات من الدولارات أكثر مما يتوجب لإعانة أوروبا، وتخسر كثيراً في التجارة». ولأنّ في رأس فضائل شخصية ترامب، وهي قليلة ضئيلة، أنه أحياناً صريح إلى درجة الهبل، فقد باغت شركاءه الأطلسيين بالقول إنّ لقاءه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان الأيسر ضمن لقاءاته مع زعماء أوروبا.

هل يختلف الرئيس الحالي جو بايدن عن سلفه، في النظرة إلى الحلف والشركاء الأطلسيين؟ كلا، أو ليس إلى درجة ملموسة تنقض رأي وزير الخارجية الفرنسي جان – إيف لودريان، الذي رأى أنّ بايدن هو نسخة ثانية من ترامب ناقصة الهوس بالتغريد على تويتر! طبعاً لم ينبثق تشخيص لودريان من امتعاض فرنسي إزاء فوضى الانسحاب من أفغانستان، أو نتائج جولة بايدن الأوروبية التي لم تُصلح كثيراً من سوءات سلفه، بل على وجه التحديد لأنّ رأسمالية الدولة الفرنسية خسرت للتوّ عشرات المليارات جراء فسخ عقد الغواصات. الألمان من جانبهم مضوا في مشروع «نورد ستريم» حتى النهاية، ولعلّ تراث أنغيلا ميركل في ميادين العلاقات الألمانية – الأمريكية (أو الأحرى القول: العلاقات الألمانية – الروسية!) لن يتبدل في العمق على يد مستشار ألمانيا المقبل.

ليست مبالغة، والحال هذه، أن يستخلص المرء وصول الحلف الأطلسي إلى حافة زلقة غير مسبوقة، قد تنطوي بادئ ذي بدء على تعطّل الوظائف «الدفاعية» الشهيرة (التي كانت ذريعة إطلاق الحلف أصلاً)؛ وقد تنتهي عند تفككه من حيث البنية، أو الإبقاء على شكلانية العضوية مقابل هيمنة أمريكية عليا، وأخرى تالية بريطانية/ ألمانية/ فرنسية، وثالثة تضمّ الأعضاء الأقرب إلى شهود الإثبات. وهذا، في المقابل، مآل لا يطمس كثيراً من توصيف جوهري لهوية الحلف، أطلقه الرئيس التشيكي الراحل فاتسلاف هافيل سنة 2002 على هامش احتضان براغ قمّة الأطلسي التي استضافتها براغ: «على الحلف ألا يتوسّع خارج مضمار محدّد للغاية من الحضارات التي عُرفت عموماً باسم الحضارات الأورو ـ أطلسية أو الأورو ـ أمريكية، أو الغرب ببساطة».

وكان الاجتماع قد وُصف بـ»قمّة التحوّل»، لأنه ضمّ سبع دول جديدة هي إستونيا وبلغاريا وسلوفينيا وسلوفاكيا ورومانيا ولاتفيا وليتوانيا؛ وبالتالي فإنّ هافيل، في التحذير من ضمّ أعضاء جدد لا ينتمون إلى المضمار الحضاري الأورو ـ أطلسي، لم يكن يقصد تركيا، العضو في الحلف منذ سنة 1952 قبل زمن طويل من انضمام تشيكيا، بل لعله كان يلمّح إلى دول تعيش فيها جاليات مسلمة بأعداد غفيرة. وليس جديداً التذكير بأنّ الناتو ليس الحلف العسكري الوحيد في عالمنا المعاصر، فحسب؛ وليس التذكرة الوحيدة، تقريباً، بأنّ البشرية عاشت الحرب الباردة طيلة حقبة كاملة متكاملة، فحسب أيضاً؛ بل هو، أساساً ربما، حلف جغرافي/ حضاري/ ثقافي، وهذا ما حقّ للإنسانية أن تفهمه من توصيف هافيل، وهذا ما اتضح مراراً وتكراراً وفي المناسبات القليلة التي شهدت تكشير الحلف عن أسنانه العسكرية: كوسوفو وأفغانستان وليبيا.

ويجادل كثيرون بأنّ جلّ الأسئلة المقترنة بحاضر الحلف، أو حتى سائر ماضيه على امتداد سبعة عقود ونيف، تظلّ نافلة إزاء المعطى الأهمّ الذي يشير إلى أنّ الولايات المتحدة هي الدولة الأولى الضامنة لبقائه على قيد الحياة، والكفيلة بتعزيز شوكته العسكرية – التكنولوجية. وعلى سبيل الدليل القاطع الأوضح، متى تسوّلت أمريكا من الحليفات الأطلسيات قرار شنّ الحرب هنا وهناك، ناهيك عن طلب المساعدة العسكرية؟ ألا يعرف جميع الحلفاء، مدنيين وعسكريين على حدّ سواء، أنّ هزّة 11/9 منحت أمريكا أكثر من ترخيص عسكري واحد، وجنّبت واشنطن حرج التشاور مع الشركاء كلما رنّ ناقوس في كنيسة؟ وإذا كانت قمّة براغ قد استحقت بالفعل تسمية «التحوّل»، فليس ذلك لأسباب عسكرية، وإنما بسبب تمكّن الحلف من اختراق جميع مواقع حلف وارسو السابقة، وبلوغه ظهر روسيا وبطنها وخاصرتها، شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً!

الإنسانية على مبعدة 3 سنوات فقط من وثيقة الحلف التي حملت اسم «إعلان بروكسيل حول الأمن والتضامن في المحيط الاطلسي»، والتي استغرقت 23 صفحة وقرابة 12 ألف كلمة و79 بنداً؛ الأمر الذي لا يمنع الافتراض بأنّ وقائع مثل مستوى اكتراث الولايات المتحدة بالشركاء الأطلسيين في الانسحاب من أفغانستان، أو إفساد عقد الغواصات الفرنسية مع أستراليا، تحيل ذلك الإعلان إلى ما يشبه الحبر على ورق، إذا لم تكن قد حوّلت الحلف كلّه إلى ذمّة التاريخ، أو ألقت به للتوّ في سلال مهملات التاريخ. ليس عصياً على الأذهان، ولا على الأبصار والأسماع، غياب سياسة أطلسية موحدة تجاه ملفات سياسية وأمنية وعسكرية بالغة التفجر في العراق وسوريا واليمن، ثمّ في أفغانستان ما بعد خروج أمريكا والأطلسي، إذا وضع المرء جانباً الملفات الأشدّ صخباً والأكثر خواء حول «الحملة على الإرهاب». وأمّا البند الذي يتحدث عن الحلف بوصفه دائم التطوير والتحديث والتأقلم مع التحديات والتهديدات، بما في ذلك تجديد هيكلية القيادة على نحو يستجيب لمقتضيات الحاضر والمستقبل، فإنّ تكذيبه ليس حقيقة يومية ساطعة، بل تحصيل حاصل بات متكرراً مملاً أيضاً.

المفارقات متواصلة مع ذلك، ما دام الحلف مؤسسة أوروبية/ أمريكية لا تقلّ، من حيث الانتماء العضوي إلى النظام العالمي الراهن، عن نظيراتها في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي؛ وهي ليست مرشحة للتوقف، استطراداً، ولا لإدخال تنويع هنا أو هناك، مدهش طارئ من جانب أو مستعاد قديم من جانب آخر. وذات يوم غير بعيد كانت الجمعية الوطنية الفرنسية، البرلمان، قد شهدت وقوف اليسار في صفّ الدفاع عن الرئيس الفرنسي الأسبق شارل دوغول؛ ضدّ الأغلبية اليمينية الحاكمة التي تزعم الانتماء إلى إرثه السياسي، ولكنها تصوّت لإبطال واحد من أهمّ قراراته التاريخية: الانسحاب، في آذار (مارس) 1966، من القيادة المركزية للحلف الأطلسي تفادياً لزجّ فرنسا في قطبية الحرب الباردة.

صناعة المفارقات هذه هي، بدورها، عادة درج عليها التاريخ بصدد ما يُطوى في ذمته أو في سلاله!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى