نصوص

تحية للضعف الذي يصنعنا/ راتب شعبو

يفسد للودّ قضية

“ألا تتحكم نفس بنفس”، ذاك كان دعاء أمي الثابت الذي طالما كررتْه، في أوقات الفرج كما في أوقات الضيق، كأنها كانت تربط في وعيها، أو إحساسها، الكثير من الشقاء على هذه الأرض، بتحكّم النفوس بالنفوس، فتذهب في دعائها إلى الأصل.

هذا الدعاء غير شائع، والحقيقة أنني لم أسمعه من غيرها، هي التي كانت بثبات عزيمتها، تستنطق الأرض الشحيحة ما يكفي من القمح والخير لإبقاء عائلة من ثمانية أطفال على قيد الحياة، وتعرف لذلك قيمة احترام النفس.

غالباً ما يكون الدعاء شخصياً أو خاصاً، يستجلب الخير لفرد أو مجموعة محددة. غالباً ما يكون في الدعاء أنانية ما. حتى حين تقول الأم: “الله يحمي كل أولاد العالم”، فإن قولها هذا يكون مقدمة لتقول: “كي يحمي أولادي”. أما “أن لا تتحكم نفس بنفس”، فهو دعاء عام يتسع للجميع، وهو، فوق هذا، لا يطلب الخير هكذا بصورة مغفلة وبلا ملامح، بل يحدد السبيل إلى الخير، بألا تتحكم نفس بنفس.

السجن، المكان الأكثر فجاجة

ليس فقط في السجن، المكان الأكثر فجاجة لتحكم نفس بنفس، يُسترجع هذا القول، بل في كل مناحي الحياة، من التقاليد إلى العمل إلى العلاقات العائلية والحزبية والدينية… الخ. من أين يأتي التحكم بالنفوس؟ إنه ينبع من فارق القوة. من الطبيعي أن يكره الضعيف حكم القوة، ولكنه إذا ما حاز على القوة الكافية يوماً فإنه سوف يميل إلى التحكم بمن هم أضعف منه. “ما كرهتم الفتونة إلا لأنها كانت عليكم، وما أن يأنس أحدكم في نفسه قوة حتى يبادر إلى الظلم والعدوان”، يقول نجيب محفوظ. ما يمنع الإنسان من الظلم والعدوان هو الضعف، ليس بمعناه الضيق، بل بمعنى عدم القدرة على إخضاع الآخرين، لأنهم ليسوا أقل قوة.

الرجل الذي يجد نفسه أعزلاً تحت رحمة ميليشيات عدوانية، ذات خلفيات قومية أو دينية مغايرة لقومه أو لدينه، لن يجد حائطاً يستند إليه سوى القيم الإنسانية الجامعة، يحاول بها أن يحمي نفسه من قوة عارية تهدر كرامته ودمه، يمثلها هؤلاء المسلحون الذين كلما زادت قوتهم، كلما ابتعدوا عن تلك القيم. أي مقاتل في هذه الميليشيات، لو كان في موقع ضعف، لن يجد ما يستند إليه أيضاً سوى القيم الإنسانية نفسها التي تدفعه القوة الآن إلى أن يدوسها بقدمه ويخزقها بحربة بارودته.

القيم الإنسانية هي حليفة الضعيف، وإن تكن حليفة ضعيفة هي الأخرى، فرصيدها لا يعدو وجود “عميل” لها داخل كل نفس، اسمه الضمير. ولكن تحت ضغط الفارق في القوة، تتنكر النفوس لهذا اللب الإنساني الذي نادراً ما يُسمع له صوت مؤثر. لا يكون الإنسان حليفاً مخلصاً للقيم الإنسانية إلا في حالة الضعف.

فقط حين يكون الانسان ضعيفاً، يتذكر أن الانسان أخو الانسان. وأن للحقوق حرمتها، وللأعراض حرمتها، وأن الأديان كلها صالحة، فلا ينبغي أن تفرض فرضاً، ولا ينبغي تمييز أحد سلباً أو إيجاباً، بحسب الدين الذي ورثه عن أهله أو بحسب ما يحمل في رأسه من تصورات دينية أو لا دينية أو غير دينية.

فقط حين يكون الإنسان ضعيفاً، تسقط من ذهنه غطرسة الانتماءات الحقيقية أو الموهومة، ويسعى جاداً وبإخلاص إلى الاستواء على أرض واحدة مع غيره، دون نزعة للتحكم والسيطرة.

فقط في حالة الضعف يقدّر الإنسان فعلاً معنى المساواة والحرية والحق. أما حين يحوز على القوة، فإنه سيجد هذه القيم قيوداً ينبغي كسرها. وسيجد المبررات الكافية لإخضاع الناس، وقد يبدو في عيون ذاته رسولاً للخير. إذا أنس الفرد من نفسه قوة فإنه سوف يميل إلى التحكم بالغير وسلبهم حريتهم. هذا طبع أو قانون ثابت يكمن في أساس الاستعباد والاستبداد والسيطرة، على مستوى الأفراد والجماعات والأمم.

مراوغة الطغيان

المراوغة ومحاولات التملص والصراخ والكتابة الاحتجاجية على الحيطان والسخرية والاخلاق والقوانين والأديان، وسائل يائسة لمواجهة القوة في سعيها الدائم إلى السيطرة والقسر والإخضاع واستباحة الآخرين. المحصلة الدائمة هي الخسارة، سواء في إنسانية النفس المسيطرة، أو في إنسانية النفس الخاضعة. هذه خسارة تدفعها البشرية من أمانها وسعادتها. النتيجة أن النفس المسيطرة سوف تنكر المساواة على طول الخط، وأن النفس المقهورة سوف يدفعها قهرها إلى أن تحلم ليس بالمساواة بل بالسيطرة. حين يشتعل حلمُ العبد، فإنه لا يتجاوز الحرية في حلمه، إنه يحلم في أن يصبح سيداً على عبيد آخرين، لأنه، في بؤسه، لا يحلم بالمساواة، بل يذهب به خياله المقهور إلى الحلم بالسيطرة، أو تبدو له السيطرة هي الشكل الوحيد للحرية.

الضحية النهائية للتحكم بالنفوس وإخضاعها وقهرها، هي قيمة المساواة والحرية، هي الرغبة الفعلية بعلاقات متكافئة، واستقرار النفس على الاحترام الفعلي لحقوق الآخرين. والنتيجة النهائية هي امتلاء النفوس برغبة التحكم والطموح الدائم إلى التغلب والسيادة.

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى