سياسة

لبننة سوريا كحل وسط بين إيران واسرائيل/ العقيد عبد الجبار العكيدي

في بلورة واضحة للموقف الإسرائيلي من الصراع في سوريا، قال معلق صحيفة “يديعوت احرونوت” الإسرائيلية رون بن يشاي إن “هناك جناحاً لا بأس به في هيئة الأركان الإسرائيلية يدعو إلى دعم نظام بشار الأسد لبسط سيطرته على كامل سوريا، بهدف التخلص من الإيرانيين وتقليص نفوذهم على حدود إسرائيل الشمالية”.

وأضاف الخبير بالشؤون الأمنية والعسكرية أن “هذا الجناح يرى أنه يجب اتخاذ إجراءات غير مباشرة لمساعدة الأسد على بسط حكمه على كامل سوريا”.

هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها الكشف إسرائيلياً عن إنقاذ تل أبيب لنظام الأسد، إذ سبق وان ذكرت نفس الصحيفة في اذار /مارس الماضي أنه و”منذ بدء الاضطرابات في سوريا كان هناك جدل في هيئة الأركان الإسرائيلية بين جناحين، الأول يدعو للتدخل في سوريا واستغلال الاحداث للإطاحة بالأسد واستبداله بنظام جديد موالٍ للغرب، وجناح آخر يعارض هذا التوجه، ولكن الجدل حسم لصالح الجناح المعارض لفكرة إسقاط الأسد”.

إسرائيل التي اخذت ظاهرياً دور المحايد، وقررت مبكراً عدم التدخل في الملف السوري مفضلة بقاء نظام الأسد المعروف لها والمنضبط، على أخر مجهول وغير مضمون، كانت مواقفها العملية تترجم على الأرض من خلال اليات التعاطي مع الحالة السورية، وتأثيرها على مواقف بعض الدول التي تراعي مصالح إسرائيل، وتدعم فصائل الجيش الحر، بعدم تسليح المعارضة بما يكفي لتمكينها من السيطرة على دمشق.

الصراع القائم في سوريا تحت عنوان تقليص النفوذ الإيراني وإبعاد الميليشيات التابعة لإيران وحزب الله عن الحدود الشمالية لإسرائيل، لا يعدو كونه بروباغندا إعلامية، وحرب صوتية أطلقها آية الله الخميني منذ وصوله للسلطة عام 1979. ورغم ضجيج الضربات المستمرة التي يتلقاها الإيرانيون في سوريا من قبل إسرائيل، الا أننا لم نشهد أي رد إيراني عسكري على القوات الإسرائيلية أو المستعمرات التي تقع ضمن المدى المجدي لمدفعيتهم وصواريهم المتواجدة في درعا والقنيطرة وبالقرب من الجولان المحتل، ولم يظهر خلال اثنين واربعين عاماً من حكم الملالي أي سلوك ايراني يشكل خطراً استراتيجياً على إسرائيل، ولا أي تهديد لمصالحها في الخارج.

هذه المعادلة التي أتقنها حافظ الأسد من قبل وكان جزءاً منها، درّسها للوريث القاصر، الذي يكرر اليوم وصفة أبيه باللعب على التناقضات واحتياج الدول لدوره الوظيفي، وتقديمه الخدمات المسبقة الدفع، فاستثمر كل الفرص من اجل البقاء من خلال:

أولاً، التحالف الاستراتيجي البنيوي والعضوي مع إيران، وإتاحة الفرصة لأن يكون لها تواجد على حدود إسرائيل، وتسهيل طريق بري يربط طهران بدمشق بالضاحية الجنوبية لبيروت وصولا إلى شواطئ المتوسط، وجعلها تمتلك ورقة ضغط لا يستهان بها في مفاوضات ملفها النووي والباليستي مع الولايات المتحدة والغرب، ما جعلها تعتبر الحرب في سوريا إلى جانب قوات الأسد، جزءاً من الدفاع عن أمنها القومي، وجبهة متقدمة للدفاع عن طهران وقم، كما صرح بعض مسؤوليها.

ثانياً، بما يخص إسرائيل، ورغم مرور أكثر من عشر سنوات على حرب أتت على الأخضر واليابس في سوريا، الا أن النظام، وكما هو الحال منذ أكثر من خمسة عقود، حافظ على حدودها الشمالية باردة وآمنة، وعلى الرغم من التواجد الإيراني بالقرب من حدودها في العقد الأخير، الا أن التقرير السنوي للجيش الإسرائيلي حول “تقييم الوضع” للعام 2022، أشار إلى أن تحديات الأمن القومي الإسرائيلي في الجبهة الشمالية شهدت تحسناً بشكل معتدل وانخفاضاً طفيفاً في العام 2021، بعد سنوات من التوتر، مع توقعات باستمرار الهدوء خلال العام المقبل، ما يعني قيام نظام الأسد بمهمته بحماية حدود إسرائيل على أكمل وجه، وحصوله على كامل الرضى الإسرائيلي.

شهدت الفترة الماضية حراكاً دبلوماسياً لبعض الدول العربية المطبعة مع إسرائيل (الامارات العربية المتحدة، البحرين، الأردن، مصر)، باتجاه دمشق، بهدف معلن هو إبعاد نظام الأسد عن إيران وعودته الى الحظيرة العربية وجامعتها، ليتضح أن هذا الهدف المعلن ليس الا تفصيل ضمن مخطط لإعادته إلى المنظومة الإقليمية والدولية برعاية إسرائيلية، ودفع نظام الأسد لنقل التطبيع السري الذي يعود إلى ما قبل عام 1967، إلى العلن، وتهيئة المناخ الداخلي بقبول هذا التطبيع، وعدم رفضه.

على ما يبدو أن نظام الأسد أصبح جاهزاً لهذه الخطوة، وقد صورت له تلك الوفود أن التطبيع العلني مع إسرائيل سيكون ورقة العبور إلى محطة إعادة تأهيله، من خلال فك عزلته وعودته إلى المنظومة العربية والإقليمية، مع وساطة إسرائيلية لدى الولايات المتحدة لتخفيف العقوبات الاقتصادية تدريجياً إلى حين إلغائها، وما الاستدارة الحادة في موقف الجزائر، التي كانت أكثر المتحمسين والداعين لعودة نظام الأسد للجامعة العربية، وإعلان وزير خارجيتها مؤخراً “أن الظروف غير ملائمة بعد لعودة النظام الى الجامعة العربية وحضوره القمة العربية القادمة التي ستعقد في الجزائر”، إلا دليل على أنها لمست تنازلات من نظام الأسد، باتجاه مسايرة التطبيع والمطبعين العرب، وأن زيارات بعض العرب لدمشق لم تكن الا من أجل مناقشة موضوع نقل التنسيق والتعاون بين النظام وإسرائيل من السر إلى العلن، وهذا ما ترفضه الجزائر التي لديها موقف حاسم رافض للتطبيع مع إسرائيل لاعتبارات معروفة.

إسرائيل ليست ضد الوجود الإيراني وإنما تدفع باتجاه قوننة هذا النفوذ وأن يبقى دائما تحت السيطرة والاحتواء. وليس مطلوباً من الأسد تجريف إيران من سوريا نهائياً لأنها تشكل عامل استنزاف للأمن القومي العربي، بل تستثمر بهذا الوجود لجهة هرولة بعض الدول العربية للتطبيع معها، وكل ما تريده إسرائيل هو إبعاد إيران عن حدودها الشمالية، في حالة إعلامية أمام شعبها الذي لطالما خوّفته من “البعبع الإيراني”.

وبالتأكيد ليس من صالح إسرائيل أن تكون سوريا دولة ديمقراطية مستقرة تملك جيشاً وطنياً قوياً غير طائفي، وإنما تريد أن يبقى نظام الأسد، وأن تحافظ عليه حارساً للدمار.. دمار الدولة والمجتمع، ولكنها لم تعد تقبل بالتطبيع السري الذي بدأ مع حافظ الأسد من قبل عام 1967، وتريد نقله إلى التطبيع العلني والتحاق النظام بركب الدول العربية التي طبعت مع إسرائيل، ما يعني تفكيك ما يسمى حلف المقاومة والممانعة، ودق إسفين بين نظام الأسد وإيران وحزب الله، اللذين سيقعان في الحرج أمام جمهورهم المقتنع بهذه الشعارات.

بالإضافة الى ما ذكر من أسباب الحراك العربي باتجاه دمشق، أصبح من المؤكد أن هذا الحراك ليس المقصود به نظام الأسد المتهالك فقط، الذي لم يعد يجسد أي ثقل في سياسة المنطقة، والذي سقط حقوقياً وأخلاقياً جراء الجرائم التي ارتكبها بحق شعبه، ولكنه أيضاً نقطة عبور لخطب ود إيران وحيازة رضاها، واكتفاء شرها، فكما أن إسرائيل هي بيت الرضى بالنسبة لأميركا في الشرق الاوسط، فان (سوريا الأسد)، هي بيت الرضى بالنسبة لملالي طهران في المنطقة.

الإمارات العربية المتحدة التي طبعت مع إسرائيل تسعى عبر الأسد لتحقيق نوع من  التوازن من خلال مدّ خطوة باتجاه ايران، فيما الأردن الذي لديه “فوبيا” من المد الإيراني الشيعي وتوجس من تواجد الميليشيات على حدوده، يعتقد أنه من خلال تطبيعه مع الأسد، يستطيع  تجنب شر هذا المد.

روسيا المرتاحة لكل ذلك والمستفيدة من كل ذلك بالطبع، تسعى لأن يتحقق هذا التطبيع العلني، سواء بين النظام وإسرائيل أو بين العرب وبين إيران، فإن لم يكن تطبيعاً كاملاً وناجزاً لضرورة إعلامية، فعلى الأقل تطبيعاً عملياً يعزز من فرصه تحول سوريا إلى لبنان آخر.

فالدولة الجارة لسوريا لا تريد وغير قادرة وليس مطروحاً لديها محاربة اسرائيل، وهذا جيد من حيث المبدأ لتل أبيب. بالمقابل في لبنان ميليشيا هي حزب الله، تردد باستمرار شعارات المقاومة، وهذا جيد بالنسبة لإيران.

وصفة قد لا يكون هناك أفضل منها بالنسبة لمختلف الأطراف التي يبدو أنه سيعجبها من الآن فصاعداً هذا الحل الوسط الذي يقوم على وجود دولة في سوريا تطبّع مع اسرائيل، لكنها تتقاسم الحكم مع ميليشيات إيرانية تهتف بالموت لاسرائيل.. مجرد هتاف، يبقي شعارات المقاومة حية لكنها فارغة.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى