الناس

هي السعادة!/ هيفاء بيطار

أعيش في باريس منذ سنة وخمسة أشهر. في باريس، رغم سحرها وعراقتها، لم أشعر أنها تخصني، لم أنجح في خلق أي رابط عاطفي بيني وبينها، روحي طول الوقت هناك في اللاذقية، في أزقتها التي أعشقها رغم كل مظاهر البؤس فيها. أمشي في الشانزليزيه قرب قوس النصر، وروحي في حديقة الصليبة، حيث كنت أقضي أوقاتًا طويلة في تأمل مهرجان الفرح الفقير البسيط لأطفال وطني. أوهم نفسي أن عيني تدمعان بسبب البرد، وليس بسبب الحنين، أشتاق حتى لضجري في اللاذقية، أنا التي كنت أقول دومًا: حصلت على شهادة الدكتوراة في الضجر في اللاذقية، أشتاق حتى للبالوعة في زقاق أحبه، حيث كنت أجلس يوميًا في مقهى صغير جميل ثقافي يحتفي بالمبدعين ويقيم دومًا معرضًا للوحات الرسامين وحفلات توقيع كتب، هو مقهى “ناي” لصاحبه صديقي المبدع ملك التصوير الفوتوغرافي (أنس إسماعيل)، وهو فنان مسرحي موهوب ومبدع. أنا هناك في كل زقاق في اللاذقية، وأنا في باب توما ومصياف والسلمية وكسب وصلنفة. كل عمري عشته في اللاذقية، ألم الانسلاخ لا يُمكن وصفه، يفاجئني أن مجرد عصفور بالغ الضآلة يقف لبرهة على حافة نافذتي المفتوحة يفجر خزانًا من دموع الشوق لوطني، للبحر، للأزرق الواسع الذي كتبت معظم مقالاتي وقصصي القصيرة في مقاهيه البحرية البسيطة جدًا متجاهلة رائحة المجرور المنبعثة دومًا قرب المقاهي. أنا هناك في اللاذقية على تواصل يومي مع أحبة في الداخل (اللاذقية ومدن سورية أخرى). أقرأ ما يكتبه الأحبة في الداخل السوري عن الحياة في سورية، معظم اتصالاتي مع أحبة في اللاذقية، تسافر روحي إليهم وأعيش معهم تفاصيل التفاصيل ليومهم، الكهرباء التي تحتل الرقم القياسي في الشكوى، قطع كهرباء خمس ساعات متواصلة، ثم تأتي الكهرباء ساعة فقط!! ويحلو لمؤسسة الكهرباء أن تمزح مع الناس فتقطع الكهرباء عدة مرات أيضًا في الساعة اليتيمة التي تأتي فيها الكهرباء، البراد تحول إلى خزانة ثياب، إحدى الصديقات أرسلت لي صورة لبرادها وقد كدست فيه الثياب، البطاريات الكهربائية التي فاق سعرها المليون ليرة عُطبت لأنها لا تشحن كهرباء مقطوعة طوال الوقت، طبعًا لا يمكن للسوري أن يشاهد برامج التلفزيون، والأطفال يدرسون على ضوء الشموع، التي صار سعرها باهظ الثمن.

أما الغلاء الفاحش والعاهر (إن أمكن استعمال هذا التعبير) فيفوق التصور، سعر البيضة خمسمئة ليرة سورية، والبيضة البلدية 600 ليرة سورية. ومتوسط الراتب في الدولة السورية خمسون ألف ليرة (راتب الخبز)، أي راتب يكفي فقط لشراء خبز رديء مُعجن، أي غير مخبوز جيدًا بسبب شح المازوت في الأفران، ساعات الانتظار الطويلة للناس (أطفالًا، رجالًا، نساء ومجندين) شعب الطابور الذي يهدر وجوده في انتظار ربطة خبز، أو كيس سكر، أو زجاجة زيت نباتي، يتحمل مُجبرًا، والكل يقول لي حين أسألهم: كيف تتحملون كل ساعات الانتظار هذه؟ يكون جوابهم مُوحدًا: شو طالع بإيدنا. وكورونا تلف الجميع بفيروساتها الفتاكة التي تعشق التجمعات. منذ أيام فقد طفل بعمر 8 سنوات الوعي في المدرسة، اضطرت المديرة لأن تُرسل في طلب أهله، تبين بعد الفحص الطبي أن خضاب دمه (6)، والخضاب الطبيعي للدم (12 ـ 14). بالمناسبة أم الطفل موظفة، ووالده موظف، أي دخلهما مئة ألف شهريًا، ولديهما ثلاثة أطفال، غذاؤهم الأساسي خبز الدولة الرديء، مع الشاي، يتجرعونه مع كل لقمة خبز ليتمكنوا من بلع تلك العصيدة، أحيانًا بطاطا مسلوقة وعدة أقراص بندورة، أو طنجرة رز (أكياس الرز في مراكز التوزيع حباتها مُكسرة وينغل فيها السوس).

الطبيب قال للأهل: علاج ابنكم ذو الثماني سنوات تغذية جيدة ليرتفع خضاب دمه (في الطب كان يمكن لهذا الطفل أن يدخل في سُبات). الأم اشترت نصف كيلو لحم وعدة قطع خضار، وعدة قطع فاكهة، لتطبخ طعامًا صحيًا لابنها، كلفتها المشتريات إياها خمسون ألف ليرة (هي راتبها بالكامل). الطفل أكل بشهية مُستعيدًا طعم اللحم الذي نسيه وأخواه الآخران يتفرجان عليه يأكل، لكن يستحيل أن يتشاركا معه الأكل الصحي. ولا حاجة للتذكير بمعلومات يعرفها الجميع أن الطفل كي ينمو نموًا صحيًا جسديًا ونفسيًا يحتاج إلى البيض واللحم والسمك والخضار والفاكهة، أما حين تتحول حياة الأطفال، وتسعين في المئة من الشعب السوري، إلى: بالخبز وحده يحيا السوري، فهذه جريمة (بينت الإحصاءات تراجعًا في النمو البدني، وتراجعًا في مستوى الذكاء لدى أطفال سورية). أما كورونا فتحلق بمفعولها في قتل الناس خاصة أن مناعتهم في الحضيض، وزملائي الأطباء وصفوا لي أروقة المشافي المختنقة بمرضى كورونا، وكل منهم ينتظر معجزة أن يحصل على أسطوانة أكسجين سعرها (650 ألف ليرة سورية). محظوظ من يملك هذا المبلغ، وهم قلة طبعًا. التجمعات في المدارس البائسة مرعبة، كل ثلاثة تلاميذ في مقعد ضيق، ولا ماء في مراحيض المدارس المقرفة من القذارة، أما الخدمات الأخرى التي تؤمنها البطاقة مفرطة الذكاء فيفترض أن كل أسرة سورية تحصل على جرة غاز كل شهر، بإرسال رسالة على موبايل المواطن، الحال الآن أنه كل ثلاثة أشهر يمكن للمواطن أن يحصل على جرة غاز يكون نصفها فارغًا، وتنتعش السوق السوداء ليصبح ثمن جرة الغاز (130 ألف ليرة)، الكثير من الأسر صارت تطبخ بإشعال الحطب، أحد الأصدقاء قال لي: تصوري أردت أن أشتري مكعبات ثلج عندي ضيوف سأضيفهم شرابًا، سعر كمشة ثلج بسعة راحة اليد (1000 ليرة سورية). سعر كيلو البطاطا 1500 ليرة سورية. أما المواصلات فلا أحد يحلم بركوب تاكسي، إذ تتراوح الأسعار ضمن مدينة اللاذقية بين (2500 ليرة و7000 ليرة) بسبب ندرة وغلاء البنزين. وأؤكد أنني أحكي عن المدينة (أي أسعار التاكسي ضمن مدينة اللاذقية). إحدى الصديقات أرادت وشلة من صديقاتها السفر في رحلة إلى دمشق، فطلب السائق أجرة مليون ليرة ثمن البنزين من اللاذقية إلى دمشق. أعرف شابة لديها سرطان في الثدي، ومناعتها ضعيفة جدًا، تحتاج إلى جرعات أدوية كيميائية في مشفى تشرين في اللاذقية، وبعد جرعة الكيماوي تكون في حالة وهن وتعب شديد، لكنها تنتظر باص الدولة، وتحشر نفسها بين الحشود، لأنها لا تملك أجرة تاكسي. أما أسعار الأدوية، إن توفرت، فخيالية، ومُعظمها تُباع من دون علبة، أي يرمي له الصيدلي ظرف الدواء والمواطن لا يعرف تاريخ انتهاء صلاحية الدواء، ولا المواد الداخلة في تركيبه، لأن الورقة المهمة في داخل كل علبة دواء غير موجودة، أي كأنك تشتري ظرف علكة.

واليوم 8/ 11/ 2021 الشعب السوري مُبتهج لدرجة يُمكن يُغمى عليه من البهجة أنه يحق لكل أسرة ليتر زيت نباتي في الشهر، ثمة بهجة عارمة تعم كتابات السوريين احتفاء وسخرية أيضًا من ليتر الزيت النباتي!!!

المؤلم أكثر من كل ما ذكرت هو تعوّد الناس على الذل (العبارة الموحدة: شو قادرين نعمل، مش طالع بيدنا شيء)، كثيرون فرحوا وطاروا من البهجة حين صارت الكهرباء تأتي ساعة ونصف أو ساعتين مع قطع أربع ساعات، فرحوا بنصف ساعة كهرباء زيادة! لكن سرعان ما عادت الأمور إلى طبيعتها، خمس ساعات قطع كهرباء مع ساعة كهرباء يتخللها قطع. الاعتياد على الذل هو المشكلة الأساسية، هو أخطر من الظروف البائسة اللاإنسانية التي يعيشها الناس، التعود أن ترى أطفالك يحشون بطونهم بالخبز فقط، والأهل يقولون لهم اشربوا شاي، أو اشربوا ماء، لينتفخ الخبز في بطونهم وليشعروا بالشبع، أن تصير البيضة (500 ليرة) حلما لدرجة تشعر أنك مُضطر لأن تصير فيلسوفًا وتتساءل أيهما قبل الدجاجة أم البيضة. أما محرقة البصة للزبالة في اللاذقية التي تمنيت لو يناقشوها في مؤتمر غلاسكو للمناخ فهي سرطان مؤكد لكل سكان اللاذقية الذين يعانون من غيمة القمامة بسبب حرق النفايات في محرقة البصة، كل عصر تغمر سحابة محرقة البصة سماء اللاذقية ليتنفسها رغمًا عنهم أهل اللاذقية. التعود على الذل والتظاهر مُجبرين أن كل شيء على ما يُرام هو الكارثة.

أذكر، هنا، هذه الحادثة: حين كنت لا أزال في اللاذقية، ورغبت أن أشتري فروج بروستد من دكان مشهور، صاحبه خلوق جدًا، فهالني الازدحام في المحل (كان صاحب محل البروستد قد وضع طاولات صغيرة وكراسي داخل المحل) تبين لي أنني وحدي سأشتري فروج بروستد، وكان سعره (7000 ليرة)، وكل العائلات مع أطفالهم كانوا يأكلون سندويش البطاطا مع القليل من الثوم. هذه أفخم وجبة تتناولها الأسر السورية. اليوم سعر فروج البروستد بين (26 ألفًا و30 ألفًا).

وأخيرًا، هنالك مشروع إلغاء البطاقة الذكية للوزراء والأطباء والمهندسين والصيادلة، على أساس أن دخلهم مرتفع، وستسحب منهم البطاقة الذكية، وأنا أعرف كثيرًا من الأطباء والمهندسين فقراء.

تأملوا فرط السعادة يرعاكم الله، نصف ساعة كهرباء زيادة، وليتر زيت نباتي كل شهر، هو السعادة المبطنة بذل مُروع وخوف يُجمّد الدم في العروق.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى