مقالات سينمائية

«كل شيء عن أمي»… تأسيسٌ لحضور الأم في أفلام ألمودوڤار/ سليم البيك

يصعب، في الحديث عن المخرج الإسباني بيدرو ألمودوڤار، تحديد فيلم دون غيره للقول إن فيه انتقالة نوعية في مسيرته الفيلمية، فلألمودوڤار أسلوبه ذاته، الشكل عنده تطور في إطاره، ولم يتغير. موضوعاته متفاوتة، إنما بخفة، كأنه يحكي فيها عن شخصيات يمكن في عوالم ما خلف الأفلام أن تلتقي في ما بينها، صدفةً، لتَشاركها الكثير من يومياتها واهتماماتها.

لكن، إن كان لا بد من التحديد، ففيلم واحد له نزل عام 1999، يمكن أن يكون تلك العتبة التي أحدثت الفرق الواضح بين ما قبله وما بعده، والذي – وهذا الأهم – منح ألمودوڤار ذلك المدى الشاسع ليسرح في أفلامه التالية، «ڤولڤير» و»خولييتا» و»ألم ومجد» بشكل أساسي، في موضوع الأمومة، وفي كل حالاتها.

تتخلل مواضيع فرعية لألمودوڤار، موضوعَه الرئيسي (وتتناوب هذه وتلك في أفلام أخرى) وهو حكاية امرأة تكون غالباً أماً، وتكون الحكاية متعلقة بأمومتها. مواضيعه الفرعية تكون في الجنسانية والجندرية، الحريات والحب، ودائماً هموم نسائه المتقاسمات بطولات أفلامه.

مناسبة هذه الإحالة إلى عموم أفلام ألمودوڤار، هو فيلمه الجديد «أمهات متوازيات» (Parallel Mothers) الذي يحكي عن امرأتين تلتقيان في مستشفى للولادة، إحداهما فتاة تريد الإجهاض والأخرى امرأة تكبرها سناً، وتريد الاحتفاظ بالجنين. في فيلمه هذا لا يبتعد ألمودوڤار عن أسلوبه وقصصه، وحتى عن ممثليه المفضلين (بينلوبي كروز، دائماً). وهو امتداد موضوعاتي لفيلم هذه الأسطر، الذي سبق جديدَ ألمودوڤار بما يزيد عن عشرين عاماً، هو «كل شيء عن أمي». الفيلم بمثابة العتبة النوعية في مسيرة ألمودوڤار الفيلمية، وهو الفيلم المؤسس لحالات الأمومة، بشكلها الواعي والمعمق، في عموم أفلامه.

بعد 20 عاماً من إنجازه أول أفلامه، وبعد 12 فيلماً، بلغ المخرج الإسباني بيدرو ألمودوڤار قدرةً على التكثيف في تصوير الحب، يمكن توصيفها بالاستثنائية، مختصِراً قدر الإمكان من اللغو في النص والمَشاهد، والحديث هنا عن حبه للنساء، المحاط بهن دائماً في أفلامه، بحالاتهن المختلفة، لكن تحديداً، وفي هذا الفيلم، حبه للأمهات حيث يبلغ الحب، حبهن لأبنائهن، تجلياته القصوى.

تتغير حياة مانويلا (سيسيليا روث) في اليوم الذي يموت فيه ابنها دهساً بسيارة، وهو لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، لكن حياتها تعود وتلتئم بعلاقاتها مع ممثلة مسرحية كانت سبباً، دون أن تعلم، في موت الولد، ومع فتاة متدينة وحامل دون زواج (بينيلوبي كروز) ومع امرأة كانت سائق شاحنة قبل أن تختار أن تتحول إلى امرأة و»تبيع الهوى».

وكما في معظم أفلام ألمودوڤار، تنشأ علاقات وتتآلف أُسر بخلاف المألوف اجتماعياً، في إسبانيا ما بعد الديكتاتور فرانكو، وتحديداً ضمن المجتمعات والطبقات الوسطى التي تنتمي إليها الشخصيات في أفلامه، وعلاقاتها مع طبقات دنيا. في الفيلم نشاهد قدرة المرأة على العطاء بأشكال عدة، من وهبِ الأعضاء في المستشفيات، إلى طاقات «الوهب» الاستثنائية دائماً، لدى الأم، وهو موضوع الفيلم الأساسي. وألمودوڤار يحتفي هنا بهذه العطاءات على طول الفيلم ممررها لمُشاهده من خلال تضاربات في المشاعر المرافقة للموت والولادة، كاستمرارية للحياة بدأ بها الفيلم وانتهى إليها.

وكما في باقي أفلامه، يحتفي ألمودوڤار هنا بالألوان كما يحتفي بالنساء، بالأحمر والأصفر والأزرق وغيرها، المتوزعة في إطاراتها، وكذلك بالجميلات، وهذه وتلك من سمات الأسلوب البصري الألمودوڤاري في السينما. هو الأشد حساسية في إظهار النساء في أجمل صورهن، شكلاً ومضموناً.

تعيش مانويلا مع ابنها الوحيد المحب للأدب والحالم بأن يصير كاتباً، تعمل كمنسقة في قسم زراعة الأعضاء في مستشفى في مدريد. حكت لابنها مرة أثناء خروجهما من عرضٍ مسرحي، بأنها مثلت يوماً ضمن مجموعة هواة، وأنها كانت المناسَبة التي التقت فيها بوالده، فقرر الابن، وقد تأثر بذلك، أن يبحث ويتعرف على والده، الذي حرصت أمه على أن تُبقي هويته مجهولة. بعد ذلك بقليل، وفي بدايات الفيلم، تدهسه سيارة ويموت، وتبدأ أمه حياتها الجديدة المليئة بالوحدة والألم. فيلمنا هذا يصور تلك الحياة.

نال الفيلم (All About My Mother) جوائز من بينها أفضل إخراج في مهرجان كان السينمائي، وأوسكار أفضل فيلم أجنبي.

كاتب فلسطيني سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى