منوعات

مذ أتيت إلى ألمانيا العلاقات كلها غريبة الأطوار… أريد صديقاً/ تغريد دوّاس

قبل سنوات، تشاركت مع صديقتي في دمشق غرفة نزوح ومربع تهوية على الحائط. كان دمعها ينزل من عيني، وكانت ضحكتي ترقص على وجهها. خزانة واحدة، وسيجارة واحدة، وفرشتان.

شربنا قهوةً عن سنين، وقرأنا فناجين كثر، وفجأةً صرنا حقيبتين ورقمين ورمزي شبكة اتصال. فجأةً صرنا خريطتين، فصرت في ألمانيا وصارت في بيروت، وكلّما مرّ يوم، كانت فجوة لئيمة تنفتح بيننا، ومن تسقط منا فيها لا يمكن أن تعود لتمسك قلب الأخرى بيدها. في البداية كانت بيننا مكالمة أسبوعية، ثم كل أسبوعين، ثم كل أشهر، حتى بدأ التواصل بيننا ينقطع عاماً كاملاً، لكن الذكريات تُربت على قلبي، فتتسلق الأغاني ذاكرتي وتعود بي إلى الروائح الأولى حيث كانت “هنودة” ترش عطرها على الباب، فأصرخ في وجهها: ستصيبني الحساسية!

تعصف بي الذكريات وحيدةً على الأريكة، أملك صوراً مبعثرةً وأحلم بلحظة اللقاء.

عرفتُ من منشور على فيسبوك، أنها حصلت على فيزا، وانتقلت إلى مدينة أوروبية. بكيت حينها. خبرٌ كهذا أعرفه من منشور، يا إلهي!

في يوم روتيني عادي اتصَلت بي صديقتي لِتخبرني بأنها تحتاج ساعةً من الوقت، وتكون على بابي. قفز قلبي فجأةً، وقمت لأرتّب منزلي وأسرّح شعري وأعطّر بناتي لكنني خِفت. فجأةً تملّكني شعورٌ بأنني لن أعرف كيف أبكي حينما أراها، ولن تُسعفني دموعي. برودةٌ تسلقت رأسي، وبالفِعل عندما حضرت عانَقتُها كأنني أعانق غريباً، أو جاراً.

كنتُ مُتوترةً وكانت كذلك. كأنه اليوم الأول الذي نتعارف فيه. كُنا نحكي على أمل أن نصل إلى طرف الخيط، الخيط الذي سيجمعنا مجدداً، فكل ما تذكرتُهُ نَسيِته هي، وكل ما تَذَكرتْه هي نَسيتُه أنا، وعندما حملت حقيبتها لتعود من حيثُ أتَت، تدفق قلبانا في الحقيبة أمام الباب، فبكينا وابتسمنا في آنٍ واحد.

هطلَت من السماء ذاكرة مُشبعةٌ بِالحنين، وانفتَح مربع التهوية الذي كان يهرب منه دخاننا في ممر المنزل. عاد عطرها جلياً واضحاً كأنه لم يتغير.

لم يُسعفنا الوقت لنحكي كل شيء، لكننا ضحكنا. ضحكنا بصوت عالٍ.

وبكينا بخرس.

ماذا لو كانت الصداقة وليس الزواج هي محور الحياة؟

كيف هربنا إلى الصداقات لنحمي أنفسنا من كوارث بلادنا؟

صديقتي تغار من الأوروبيات… وأنا أختبئ تحت الملاءات

رحلت هنودة مجدداً، وأصبحت أمستردام القريبة، بعيدةً جداً، أبعد من دمشق عن ألمانيا، وعدتُ أبحث عن كتف صديق في هذه البلاد الواسعة، صديق واحد فقط. محتاجة إلى أن أمارس سخف الهمس بالقرب من آذان الأصدقاء، وإلى أن أجرّب الإفشاء مجدداً… إفشاء كل الأشياء المهمة والسخيفة دفعةً واحدةً، من دون التفكير في ترتيب ما يقال وما لا يقال. أريد أن أشعر بالدفء فحسب. الدفء الذي يسبح حولنا كلما اقتربنا من صديق.

يا إلهي كيف رحل كل الذين قالوا سنبقى؟

كيف رحلنا هكذا فجأةً جميعاً؟ كلنا أصبح وحيداً، كيف سرقتنا الدنيا ممن تقاسمنا معهم الدم والملح والفراش؟

نُكابر كل يوم، ونكذّب مشاعرنا كلها، ونقاوم ولا نعرف لماذا.

لماذا لا يمكننا أن نقولها بكل بساطة وسلاسة وحب؟

أنا مشتاق/ مشتاقة إليك.

أنا أحتاجكِ/ أحتاجكَ.

كيف يتحول أحد شاركني فرحي وانكساراتي وطوابيري وجنوني إلى اسم يطرحه فيسبوك لي كل يوم، تحت قائمة “أصدقاء يمكن أن تعرفهم”.

يا الله كم أعرفهم حقاً!

كيف يمكن للإنسان أن يُكمل حياته وهو وحيد إلى هذه الدرجة، الدرجة التي تجعله لا يملك رقم شخص واحد فقط، يمكن الاتصال به بعد منتصف ليلة باردة، لأنه يريد أن يبكي فحسب؟

لا يملك صديقاً يظهر أمامه بشعره المنكوش. ويستقبله والبيت يغرق بالفوضى وينامان معاً من دون مواعيد محددة.

تركنا الأصدقاء خلفنا أو ربما تركونا، لكن هذا غير مهم، المهم أننا جميعاً متروكون كأي ذكرى منسية في الجوارير، متروكة بعناية على رف الخزانة، لا تُرمى ولكن لا يعود إليها أحد، نخبّئها فحسب، ونحنّ إليها أحياناً.

هل يمكن أن نصنع أصدقاء جدداً؟ هل سيكون هذا سهلاً علينا؟

أقصى أمنياتي الآن، أن أحصل على صديق، فمنذ أتيت إلى ألمانيا العلاقات كلها غريبة الأطوار، البعض تعرفه بحكم الزمالة وتخاف من أن تثرثر أمامه فيحفر لك حفرةً لا تخرج منها، والبعض بسبب المصلحة، وآخرون بسبب القلة.

غريبةً بدت العلاقات هنا، وباردةً ومؤذيةً أحياناً. تفتح قلبك لصديق ثم تتفاجأ بقدرة البشر على التحول، وتصفعك الأنانية أو النميمة.

“عزا! لم نكن أصدقاء ولا مرّة، كيف هُيئَ إليّ ذلك؟”.

ربما يعود الأمر إلى أننا نبحث دائماً عن نسخ تشبهنا، وهذا ما يُعدّ شبه مستحيل في مساحة هذه البلاد. نحن نريد صديقاً من بيئتنا ذاتها يحمل المعتقدات ذاتها والعقد ذاتها والذاكرة ذاتها والهوية البصرية والمكانية ذاتها، لذلك نجد أنفسنا مُعلقين بأصدقاء الماضي، الذين شاركونا مقاعد المدرسة والجامعة. ربما يعود الأمر إلى رفض الاختلافات الدينية والعرقية واختلاف المبادئ والعادات حتى، فالأمر متروك للصدفة، الصدفة التي تجمعك بشبيهك.

ولكن لا يخلو الأمر من مقرّبين صنعتهم المواقف هنا. أشخاص قاسمونا أحلاماً جديدةً وقوارب مطاطيةً وحقائب ظهر. أشخاص جلسوا بجانبنا نتابع شام الأصيل لنصنع طبقاً يشبه رائحة أمهاتنا، لكنهم جميعاً يغيبون فجأةً. نمط الحياة هنا يجبرك على أسلوب غريب في التعامل مع الآخرين. أوقات وقوائم ومواعيد، والأهم أن الأناس جميعاً يهربون من الكآبة، فقد تجد في حفلة عيد ميلادك مئة حبيب، ولا تجد في موجة اكتئابك أو مرضك رسالةً واحدةً!

هذا ما حصل مع صديق، على سرير المشفى. وحيداً إلا من بعض الأصدقاء الذين ربما نستطيع عدّهم على كف اليد الواحدة، يحارب أقذر الأمراض. أفترض أنه اشتاق إلى بعضهم، وربما كان في أمسّ الحاجة إلى شعور الجَمعة، ولكن، بعد أن توفي هبّوا جماعةً، بعضهم نعوه بالشعر والأغاني، وبعضهم نشروا رابط تبرع لجنازته وأطفاله، وبعضهم بكوا، وبعضهم شاركوا صوره وضحكاته ومقاطع الفيديو السعيدة له.

لربما هنا تحتاج إلى أن تموت لكي تشعر بلهفة الآخرين وحبهم. لا يكفيك أن تصل إلى الموت. عليك أن تموت فعلاً لتصفعهم الفاجعة فيقتربوا منك بالدمع والورود.

نحن معتادون أن نربط وجودنا بالمجموعات والعائلات الكبيرة، وفرحنا وترحنا بعدد الأشخاص من حولنا، ونؤمن تماماً بأن البركة تحل إن كثر العدد وأن بيت الضيق يتسع لألف صديق، بينما الأوروبيون يتعاملون مع أنفسهم كأفراد، أفراد والوحدة هي الحالة السائدة والطبيعية، وما يسعى إليه الفرد فور بلوغه سن الرشد.

خاتمة…

بين شعورنا بالحاجة إلى الأصدقاء، وبين نمط حياتنا في هذه البلاد، نسعى إلى أن نستقيم بين كفتَين.

أن نجد صديقاً أو يجِدنا.

وأن نقهقه مرّةً بصدق، من دون أن نخاف من وحدتنا.

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى