تقنية

منبوذون رقمياً: كفاح السوريين للاتصال بالإنترنت/ سينابس

إن استخدام الإنترنت يعني للسورين أكثر بكثيرٍ من مجرد التصفح، إذ يجب عليهم شقُّ طريقهم عبر شبكةٍ من المشكلات العويصة والحلول الجزئية، الأمرُ الذي غالباً ما يتطلب بعض التنازلات. وفي كل خطوةٍ في هذه الرحلة الرقمية، يجب عليك المجازفة وارتجال الحلول. قد تدّخر المال شهوراً عدةً ابتغاءَ شراء جهازٍ مستعملٍ رخيص تحتاجه بشدة، غير أنه يتعطّل في غضون أسابيع، وبالنظر إلى حظر تنزيل البرامج الضرورية لعملك بسبب العقوبات الاقتصادية، فقد تشتري إصداراً غير قانونيٍّ من سوق البرامج المقرصنة المزدهر في سوريا، وبذا تخاطر بتثبيت برامج تجسسٍ تراقب كلّ حركةٍ من تحركاتك. النتيجة النهائية أشبه ما تكون بلعبة فيديو، حيث يؤدي الفوز في مستوىً ما إلى الانتقال إلى مستوىً أكثر صعوبة.

لتتصل أولاً

إن أُولى العقباتِ أمام الاتصال بالإنترنت هي التكلفةُ الباهظةُ لشراء جهازٍ من السوق المحلية المتعبة في سوريا؛ ففي دمشق، يتراوح سعر أرخص الكمبيوترات المحمولة الجديدة بين 200 و500 دولار أمريكي، أي ما يفوق مليون ليرة سورية، بينما يبلغ الأجر الشهري للموظف العادي نحو 75 ألف ليرةٍ سوريةٍ. من الناحية النظرية، سيتعيّنُ على الموظف الحكومي الادخار لسنواتٍ لمجرد شراء جهاز كمبيوتر.

ولذا ينتهي الأمر بكثيرٍ من السوريين إلى الاعتماد على الهواتف الذكية دون غيرها، حتى عندما تعتمد حياتهم المهنية على أجهزةٍ أفضل، وهو ما عبّرت عنه مصحّحٌة لغويٌّة محترفٌة في دمشق بقولها: “أستخدم هاتفي المحمولَ لتحرير المستندات. الأمر أصعب بكثير هكذا، خاصة باللغة العربية، لكن لا قِبَل لي بشراء جهاز كمبيوترٍ.” وحتى الأجهزة المحمولة المتواضعة تكلّف عدة مئاتٍ من آلاف الليرات السورية، أي ما يقرب من مئة دولارٍ أو يزيد، إذ يُباع أحدث جهاز آيفون مقابل ما يقرب من 10 ملايين ليرةٍ، وهو مبلغٌ خياليٌّ تقريباً بالمعايير السورية، ويعادل تقريباً ما قيمته عشر سنواتٍ من أجور القطاع العام.

تعكسُ هذه الأسعارُ المجنونةُ الانخفاضَ الكبيرَ في قيمة العملة السورية في السنوات الأخيرة، مما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع الأجنبية. كما تخلق العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حواجزَ إضافيةً أمام استيراد الأجهزة، لا سيما العلامات التجارية الغربية عالية الجودة؛ ولذا كثيراً ما يلجأ المستوردون السوريون إلى التهريب، ويحمّلون المستهلكين المصاريفَ الإضافية. والأسوأ من ذلك أن سوق الاستيراد يخضع في معظمه لسيطرة التجار المرتبطين بالنظام ممن يتلاعبون بالأسعار كيفما يشاؤون. وأخيراً، تزيد السلطات السورية من ارتفاع الأسعار بفرضها رسوماً باهظةً على الأجهزة الإلكترونية المستوردة، فقد يترتّبُ على هاتفٍ ذكيٍّ ثمنه 350 ألف ليرةٍ ضريبةٌ قدرُها 70 ألف ليرةٍ، وهو ما يعادل راتب شهرٍ آخر لموظفٍ مدنيٍّ.

إن شراء الجهاز ما هو إلا المرحلة الأولى في سلسلة التحديات هذه؛ وأما العقبة التالية فهي الحصول على اتصالٍ فعّالٍ بالإنترنت، إذ عادةً ما يحصل السوريون المحظوظون على ثلاث ساعاتٍ من الكهرباء مقابل ثلاث ساعات انقطاع. يواجه الكثيرون ظروفاً أسوأ بكثيرٍ، إذ يحصلون على الكهرباء لبضع ساعاتٍ في اليوم فحسب، مما يتركهم تحت ضغطٍ شديدٍ لشحن الأجهزة أو تشغيل أجهزة بث الإنترنت (الراوتر). ردّدَت صانعة أفلامٍ في دمشق شكوىً شائعةً بقولها: “أشعر وكأن كلّ ما أفعله هو الانتظار أثناء الانقطاعات، إذ لا يمكنني إنجاز عملي إلا عندما تعود الكهرباء.” وللتغلب على هذا الانقطاع، يحوّل بعضُ السوريين بطارياتِ السيارات إلى مدّخِراتِ طاقةٍ مؤقتةٍ، وهي حيلةٌ محدودةُ النفع، إذ قد تنتهي بإتلاف أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية بشكلٍ يتعذّر إصلاحه.

وحتى عندما يكون التيار الكهربائي متاحاً، تعيقُ البنية التحتية الضعيفة للاتصالات السلكية واللاسلكية في سوريا الوصولَ إلى الإنترنت. تعتمدُ اتصالات الواي- فاي عموماً على الخطوط الأرضية الصالحة، والتي تفتقدها مساحاتٍ شاسعةٍ من البلاد التي دمرتها الحرب. أوضح سائقٌ دمشقيٌّ نزح من ضاحية عين ترما تردّده في العودة إليها لأن نظام الاتصالات فيها لم يُصلح بعد: “سيكون من الصعب للغاية العودةُ إلى المنزل قبل إعادة توصيل الخطوط الأرضية. لا يمكننا العيش بدون الإنترنت بعد الآن، فقد غدا حاجةً أساسيةً”.

وأما الخطوط الأرضية التي لا تزال تعمل، فهي تُستخدم بإفراطٍ ولا تجري صيانتها جيداً، مما يؤدي إلى بطءٍ في الاتصال بالإنترنت. تفاقمُ وزارة الاتصالات والتكنولوجيا السورية المشكلةَ من خلال ربطها سوريا بشبكة الويب العالمية بأدنى الأسعار، وفي ذلك تقول خبيرةٌ في البنية التحتية للاتصالات: “إننا نشتري اتصالاتٍ رخيصةً من مزودي الإنترنت في تركيا وقبرص، غيرَ مكترثين بجودة الخدمة، فالناس يدفعون المال على أية حالٍ؛ وما من خيارات أخرى أمامهم”. ووفقاً لمهندسين محليين، فإن سرعة إرسال المعلومات أبطأ كثيراً من نظيراتها في البلدان المجاورة، ويعزون هذا التباين إلى قرارٍ اتخذته السلطات عام 2011 بعرقلة النشاط المطلبي المحلي على الإنترنت من خلال خنق البيانات الصادرة من سوريا.

كما لا يُعدّ الاشتراك في شبكة الجيل الثالث اللاسلكية بديلاً عن الخطوط الأرضية نظراً لتكاليفها الباهظة وتغطيتها المتقطعة “لا تصل إشارة شبكة الجيل الثالث إلى شقتي، ولذا يجب عليّ أن أجلس على الدرج لأتصل بإخوتي في الخارج عبر واتس أب” تقول امرأةٌ في الحسينية، إحدى ضواحي دمشق الجنوبية، وتضيف: “أبحث لأولادي عن ألعاب ودوراتٍ في اللغة الإنجليزية لمساعدتهم في الدراسة، لكن باقة بياناتي لا تكفي لتنزيلها”. وبالمثل، أعربتِ امرأةٌ أخرى في ضواحي دمشق عن استيائها لأنها لا تستطيع تحمّل تكاليف حضور التدريبات الافتراضية التي تقدمها المنظمات غير الحكومية: “إن متابعة اتصال مرئي عبر شبكة الجيل الثالث مكلفٌ للغاية”.

وفي مواجهة عقباتٍ لا تُعدّ ولا تُحصى، طوّر السوريون عدداً كبيراً من الحلول البديلة. تصبو استراتيجياتهم الأبسط لخفض التكاليف، فتراهم يقننون استهلاك البيانات والكهرباء، ويبتاعون من الأجهزة الرخيصَ أو المستعملَ، ويذهبون إلى أبعد مدى في سبيل إطالة عمرها، في نزعة تغذي سوقاً متناميةً لإصلاح الأجهزة الإلكترونية. قال صاحب محلٍّ لبيع الهواتف المحمولة في دمشق: “يستمر الناس باستخدام هواتفهم المحمولة حتى تهلك بأيديهم”. هنالك تكتيكٌ آخرُ يتمثل في تقاسم عدّة أُسرٍ تكاليفَ اشتراك الإنترنت، “طلب مني جميع جيراني تقريباً مشاركة كلمة مرور شبكتي لقاءَ تقاسم الفاتورة” تقول صحفيٌّة تعيش في ضاحية جرمانا بدمشق: “ليس لي أن أشارك الجميع فيها لأن ذلك سيؤدي إلى إبطاء الاتصال، لكني سمحت لجارتين يحتاج أطفالهما الإنترنت من أجل المدرسة باستخدامها”.

إن ضروب تضامن كهذه توجد جنباً إلى جنب مع تعاملات أنانية تجعلها دون فائدة، وتكشف كيف أدى التدهور الاقتصادي إلى تمزيق النسيج الاجتماعي في سوريا. يسرق الناس اتصال الواي – فاي من بعضهم باستمرار “أواظب على تغيير كلمة المرور الخاصة بي لأن هنالك أشخاصاً يحاولون اختراقها دائماً” تضيف الصحفية نفسها: “يبدو هذا منطقياً تماماً، فحتى أنا حاولتُ اختراق شبكة الإنترنت لدى جيراني عندما انتقلت إلى هنا”. تبدو سلوكيات أخرى أكثر تطرفاً ويأساً، وهو ما أوضحه تاجرٌ في دمشق بقوله إن بعض السوريين يعزفون عن شراء حاجات ضرورية – مثل البقالة والملابس – من أجل توفير ما يكفي لشراء جهاز، وقال إن البعض يذهب إلى أبعد من ذلك: “لي صديقٌ يدير متجراً للهواتف المحمولة، تعرِضُ عليه النساء النوم معه مقابل الحصول على خصومات”.

لتحظى بحياة

يوضّحُ هذا التصميم على الاتصال بالإنترنت مقدارَ استثمار السوريين في المجال الرقمي، فقد أصبحوا يعتمدون عليه كل الاعتماد لتلبية الحاجة الإنسانية الأساسية للتواصل مع الآخرين. ففي مجتمع مجزأ يعاني من الاغتراب والعزلة، يقدم المجال الرقمي فرصةً نادرةً وثمينةً للحفاظ على الروابط القائمة وتشكيل روابطَ جديدةٍ.

بادئ ذي بدءٍ، غالباً ما يحتاج السوريون لتجاوز الانفصال المادي عن أحبائهم، فقد فرّ الملايين إلى الخارج، ولا يزال ملايين آخرون مهجرين داخلياً؛ كما انقسم البلد نفسه إلى مناطق قد يكون التنقل بينها مكلفاً وخطيراً، وبذا أصبحت العائلات والأصدقاء معزولين عن بعضهم بعضاً. وبالإضافة إلى كثرة نقاط التفتيش والميليشيات التي تجول البلاد، يجبر النقصُ المستفحل في الوقود السوريين على التقليل من تنقلاتهم، إذ لا يستطيع كثيرٌ منهم زيارةَ مسقط رأسه حتى في مواسم الأعياد، إذ يؤدي ازدياد الطلب فيها إلى زيادة الأسعار. قد لا يستطيع بعضهم مغادرة عتبة باب منزله، فالرجال المطلوبون للخدمة العسكرية والعاجزون عن الفرار من البلاد قد يعتزلون في بيوتهم لتجنب التجنيد الإلزامي، لسنواتٍ أحياناً.

تمثّلُ الأدوات الرقمية شريان حياةٍ لأولئك المحاصرين بمستويات الفصل هذه، فقد أصبحت مكالمات واتس أب – سواء الصوتية أو الفيديو، إذا سمح الاتصال – جزءاً لا يتجزأ من ثقافة الأسرة السورية، فهي تسدُّ جزءاً من الفراغ الذي خلّفته الزيارات العادية. “لكل منا موعد محدد لإجراء مكالمات فيديو يومياً” قالت امرأةٌ مهجرةٌ من مدينة حمص وتعيش الآن في دمشق: “تتحدث أمي مع إخواني في أوروبا، ثم تتحدث حماتي مع ابنتها في تركيا، وأنا الأخرى أتحدث مع ابنتي في لبنان”.

إن الأدوات الرقمية ضروريةٌ للحفاظ على الروابط القديمة وإنشاء روابطَ جديدةٍ على حدٍ سواء. يلجأ الشباب السوريين إلى التعارف عبر فيسبوك، بل والتودد إلى شركاء محتملين في الخارج؛ كما تزداد شبكات التضامن قوة على وسائل التواصل الاجتماعي، وتتراوح هذه من صفحات فيسبوك يساعد السوريون فيها بعضهم بعضاً في العثور على الاحتياجات غير المتوفرة، إلى مجموعات تيليغرام المنقذة للحياة؛ والتي من خلالها ينظم المتطوعون توزيع أسطوانات الأكسجين على مرضى كوفيد. وبالمثل، في بيئةٍ إعلاميةٍ تخضع لرقابةٍ مشددةٍ وملوثةٍ بالمعلومات المضللة، تتيح المنصاتُ الرقميةُ للسوريين العثورَ على معلوماتٍ دقيقةٍ من مصادرَ موثوقةٍ: فلدى البلدات والقرى الصغيرة صفحات فيسبوك تواكب الأخبار المحلية، في حين يعتمد سائقو سيارات الأجرة على مجموعات واتس أب للحصول على تحديثاتٍ تتعلق بحواجز الطرق أو أعمال العنف التي قد تعيق تحركاتهم.

تتسم أشكال أخرى للتضامن الرقمي بأنها سياسيةٌ بشكلٍ أكثر مباشرة. لقد أسكتت أعمالُ النظام الانتقاميةُ جلَّ المعارضة العلنية داخل سوريا، غير أن النشاط المطلبي الرقمي ما زال مستمراً بأشكالٍ شتّى. على سبيل المثال، تتمتعُ الحركة النسوية في سوريا بحضورٍ رقميٍّ قويٍّ، إذ تتواصل الناشطات مع بعضهن بعضاً، ومع النسويات خارج سوريا، لصقل أفكارهن وتبادل المعلومات والمشاركة في جهود المناصرة والمبادرات المدنية. في أحد الأمثلة المشجعة، تقدّم مجموعةٌ نسويةٌ تعتمد بشكلٍ أساسيٍّ على فيسبوك الدعمَ القانوني والنفسي للنساء اللائي عانين من العنف القائم على النوع الاجتماعي والوصمة الملازمة له. بطرق كهذه، تعزز الفضاءاتُ الرقميةُ التواصلَ، وتحدُّ من الشعور بالوحدة، ليس فقط بين النشطاء المتشابهين في التفكير، بل بين أكثر الفئات ضعفاً وتهميشاً كذلك.

بالرغم من ذلك، يمكن للأدوات الرقمية مفاقمةُ الشروخ الاجتماعية، فكما هو الحال في أي مكانٍ آخر، تزخر وسائل التواصل الاجتماعي في سوريا بالترويج للذات، وبث الكراهية، وغرف الصدى المتنافسة التي يتلقف فيها السوريون الرواياتِ التي تروق لهم وتشيطن سواهم. لكن سوريا تختص بانتشارٍ واسعٍ وراسخٍ للصور المروِّعة والصادمة؛ فعلى مدار سنواتٍ، غصّت مجموعات فيسبوك بالصور ومقاطع الفيديو للمباني المهدمة جرّاء القصف، والجثث المضرجة بالدماء، والأطفال القتلى، وقد راح كثيرٌ من السوريين يتلقّفون ويشاركون هذا المحتوى بشكلٍ محمومٍ، مما ساهم في تسميم المساحة المتاحة على الإنترنت. وعلى الرغم من ركود الصراع العسكري اليوم، يلجأ الموالون والمعارضون على حد سواء، ودونما هوادةٍ، إلى العالم الرقمي للتنفيس عن مظالمهم والتعبير عن معتقداتهم الراسخة.

ولا غرابة أن ينزويَ آخرون إلى العالم الرقمي متملصين من هذا المحتوى المسموم، فقد أصبحت ألعاب الكمبيوتر هوايةً رائجةً، يستيقظ من أجلها شباب سوريين في ساعات الصباح الأولى، عندما يخفُّ الضغط على الاتصال بالإنترنت، للعب ألعاب عقيدة القاتل Assassin’s Creed أو دوتا  2أو ببجي. يقضي الآخرون الساعاتِ الطوالَ، وينفقون المال الكثير على مشاهدة المسلسلات على الإنترنت بالرغم من عدم إمكانية الوصول إلى المنصات الرئيسة مثل نتفليكس. قالت امرأة يافعة في ريف دمشق: “أحلم بأن أصبح معجبة اعتيادية لمسلسلاتٍ من قبيل صراع العروش أو الانحراف Breaking Bad أو ريك ومورتي. أريد أن أشعر بأنني إنسانةٌ طبيعيةٌ فحسب، مثل الناس في أي مكان آخر في هذا العالم.”

لتكسب عيشاً

كما توفر الأدوات الرقمية مورداً لا غنى عنه، وإن كان شاقاً، للسوريين الذين يسعون إلى قدْرٍ من الاستقرار الاقتصادي. لا تقدّم سوريا حالياً سوى القليل من الآفاق للحصول على تعليمِ لائقٍ أو تأسيس حياةٍ مهنيةٍ مجزية؛ فنظام المدارس والجامعات الحكومية الذي كان قوياً في يومٍ من الأيام غدا اليوم في حالةٍ من الفوضى، حيث تعاني الفصول الدراسية من الاكتظاظ واستنزاف الأدمغة بين المعلمين. كثيراً ما يسأل الشباب أنفسهم عن جدوى تكليف أنفسهم عناءَ السعي لنيل شهادةٍ جامعيةٍ، فالوظائف الحكومية التي كانت فيما مضى تضمنُ راتباً مدى الحياة لم تعد تغطي الحدَّ الأدنى من الاحتياجات، كما أن وظائف القطاع الخاص المجزية نادرةٌ.

في هذه البيئة الخانقة، يُترك لك أمرُ استكشاف المسارات الرقمية لتأمين مستقبلٍ يحمل وعوداً أكبر. يلجأ الطلاب إلى منصات التعلم الإلكتروني مثل كورسيرا و دوولينجو لرفد التعليم الضعيف وتطوير المهارات – لا سيما المتعلقة منها باللغات الأجنبية – التي تجعلهم مرشحين أوفرَ حظاً لنيل فرص عملٍ في الخارج، بينما ينشئ البعض مجموعاتٍ على تطبيق تيليغرام لتبادل الملاحظات ومشاركة المواد التعليمية المقرصنة. يمتد هذا الاعتماد على التعليم الرقمي إلى ما هو أبعد من الطلاب، إذ كثيراً ما يبحث المحترفون عن التدريب الفني في الإنترنت. قال سائق سيارة أجرةٍ: “ظل الميكانيكيون يخبرونني أن سيارتي غيرُ قابلةٍ للإصلاح لأنها تحتاج إلى قطعةٍ لا يمكن شراؤها في سوريا. فبحثت في الإنترنت، وتمكنت بمساعدة ابني من صنع هذه القطعة بنفسي”.

كما يجرب بعض أصحاب الأعمال السوريون نقل عملهم إلى الانترنت للالتفاف على التكاليف الباهظة لاستئجار متجرٍ أو مكتبٍ، التي لن يكون فيها كثيرٌ من المنطق بالنظر إلى ضعف القوة الشرائية لدى غالبية السوريين. تفتخر إحدى مديري الأعمال عبر الإنترنت، والتي تصنع الملابس باستخدام أساليب وأقمشة تقليدية؛ بنجاحها في التحول إلى المجال الرقمي:

لقد افتتحنا متجراً، لكننا سرعان ما اضطررنا إلى إغلاقه. إن السبيل الوحيد للنجاح هنا هو بافتتاح متجرٍ في أحد الأسواق التي تتوسط دمشق، غير أننا نفتقد المال لاستئجار أحدها. على أية حالٍ، تحظى منتجاتنا بسوقٍ أكبر في الإنترنت، لا سيما بين السوريين في الخارج ممن يشعرون بالحنين إلى الوطن ويريدون شراء المصنوعات التقليدية.

وبالمثل، يستفيد الباحثون عن عملٍ في سوريا من الأدوات الرقمية لكسب لقمة العيش، لا سيما بالعمل عن بعدٍ لدى الشركات الأجنبية التي تدفع بالعملة الصعبة؛ وبذا يستثمر السوريون، على سبيل المثال، سمعة بلادهم المرموقة في مجال تعليم اللغة العربية للعثور على عملٍ عن بُعدٍ في مضامير التعليم والترجمة والتحرير وكتابة النصوص، وهو ما أوضحته كاتبةٌ شابةٌ طموحٌةٌ بقولها: “أعمل لدى موقعٍ أجنبيٍّ متخصصٍ في التجارة والصناعة، فأُرسل لهم يومياً مقالتين على أقل تقديرٍ، وأحصل على خمس دولارات لكل مقالة”.

بيْد أن لهذا النموذج سلبياتٌ كثيرةٌ، إذ يلجأ أربابُ الأعمالِ الأجانبُ عديمو الضمير إلى العمال السوريين على وجه التحديد لأنهم يقبلون أجوراً أدنى بكثيرٍ من أجورهم الفعلية في السوق. “نظراً لعدم تمكنهم من العثور على أي عملٍ آخر، يتولّى بعضُ مهندسي الكمبيوتر تنفيذَ مشاريع كبيرةً مقابل بضع مئاتٍ من الدولارات فحسب” يعرب مبرمجٌ يعمل عن بعد عن أسفه: ” هم يعرفون أن الوسيط في دول الخليج يأخذ ضعف ما يكسبونه، لكنهم مجبرون على قبول ذلك”.

لكن مشاكلُ الاتصال تعيق هذا الشكل من العملَ عن بعدٍ، وتسبب إزعاجاً مستمراً لكلٍّ من العمال السوريين وأرباب الأعمال في الخارج. لخّص مطورٌ سعوديٌ تجربته في التعاقد مع مبرمجين من داخل سوريا: “كانت جودة العمل ممتازةً، لكننا واجهنا معوقاتٍ مستمرةً بسبب الكهرباء والإنترنت”. قد تؤدي هذه المعوقات إلى تقويض الثقة، حيث يَفترض أربابُ العمل أن التذرع بضعف الاتصال قد يخفي ضعفَ الأداء ليس إلا. قالت ربّةُ عملٍ في لبنان: ” أحياناً، يستغرق المستشار الذي أعمل معه داخل سوريا أكثر من يومٍ للرد على رسائلي، ويقول إن السببَ في تأخره هو انقطاعُ الخدمة، ولكني متأكدةٌ أن الاتصال بالإنترنت متاح لمرةٍ واحدةٍ في اليوم على الأقل، حتى في سوريا”.

ومن أكثر المشاكل الشائكة هو ما تؤدي إليه العقوباتُ الغربيةُ من عزل لسوريا عن جزءٍ كبيرٍ من البنية التحتية العالمية، فخوفاً من كسر بعض القوانين سيئة التوضيح، يتحاشى كثيرٌ من مزودي الخدمات التكنولوجية السوقَ السوريةَ الصغيرةَ وعاليةَ المخاطر، فالخدمات والمواقع من قبيل باي بال وأدوبي وسلاك وتيك توك محظورةٌ على المستخدمين داخل البلاد. وحتى التطبيقات التي لا تزال تعمل – لا سيما بريد جيميل – قد تمنعك فجأةً من الدخول إليها لاشتباهها بأنك فعلت أمراً “مريباً” عند تسجيلك الدخول باستخدام شبكة خاصة افتراضية VPN تخفي من خلالها عنوان بروتوكول الإنترنت IP الخاص بجهازك.

قد يغير مضمار الحواجز هذا حياةَ المرء، وذلك أنه يغلق الأبواب ذاتها التي تعِدُ التكنولوجيا بفتحها. خَبِر مهندسُ كمبيوترٍ شابٌّ هذه الآثار بشكلٍ مباشرٍ، وفي ذلك يقول: “لقد نلت منحةً للالتحاق بإحدى الجامعات الإنجليزية ونيل درجة الماجستير عبر الإنترنت، لكني لم أتمكن من النفاذ إلى مكتبة الجامعة من داخل سوريا، مما سَلَبَ المنحةَ قيمتها، واضطرني إلى صرف النظر عنها”.

كما أن اقصاء سوريا من الأسواق المالية العالمية يؤثر بشدةٍ على عموم السوريين. قد تكون بعضُ التداعيات بسيطةً ويمكن استدراكها، كأن تفشل في تحديث نظام التشغيل في هاتفك لافتقادك طريقةَ دفعٍ مقبولةً، بيد أن بعضها الآخرَ قد يهدد سبل معاشك أيضاً؛ فبسبب عدم تمكن العمال وأرباب الأعمال عن بُعدٍ من تلقي وإرسال التحويلات النقدية الدولية، فإنهم يلجؤون إلى إجراءاتٍ مكلفةٍ وخطيرةٍ، ابتداءً بحمل النقود عبر الحدود، إلى نقلها عبر وكلاء مريبين في السوق المالية السوداء. بعض السوريين يفقدون كل إمكانية للوصول إلى أموالهم في الخارج، وهو ما أوضحته مضيفة طيرانٍ في دمشق بقولها: “لقد وضعتُ كل مدخراتي في حسابٍ مصرفيٍّ أستراليٍّ، لكني حُظِرت من الوصول إلى حسابي بعد محاولة إجراءَ تحويل من سوريا؛ سألتُ محامين عما بوسعي فعله، فقالوا إنني لا أستطيع فعل أيّ شيء”.

تعني هذه العوائق الكثيرة أن مستخدمي الإنترنت في سوريا يواظبون على استنباط حلولٍ شتى مرنةٍ مرونةَ العقبات التي يواجهونها. قد تكون أكثرُ الحيل شيوعاً هي استخدام الشبكات الخاصة الافتراضية VPN للوصول إلى المنصات المحجوبة، وقد كانت هذه الشبكات ذات يومٍ من اختصاص الخبراء والناشطين، بيد أنها انتشرت مؤخراً بين مستخدمي التقنيات الأبسط. يشارك قراصنةٌ سوريون دروساً على وسائل التواصل الاجتماعي تشرح كيفية كسر حظر المواقع والخدمات، ولطالما انتشرت البرامج المقرصنة على نطاقٍ واسعٍ بحيث تُباع في المتاجر أو يثبّتها البائعون على أجهزة زبائنهم؛ كما أن المستخدمين العاجزين عن الوصول إلى بطاقات الائتمان يطلبون من الأصدقاء أو الزملاء في الخارج مساعدتهم بالاشتراك في الخدمات الرقمية نيابةً عنهم، يزداد الطلب على تلك الخدمات لدرجة أن بعض المغتربين السوريين حوّلوا ذلك إلى تجارةٍ، وراحوا يفرضون أجوراً باهظةً على تسجيل العملاء للحصول على خدماتٍ مدفوعةٍ عبر الإنترنت.

لقد غدت هذه الحلول من صلب ثقافة السوريين الرقمية سريعةِ التطور، وأحد أسس آفاقهم الاقتصادية على نطاقٍ أوسع، وهو ما أوضحه مهندسٌ سوريٌّ يقيم الآن في ألمانيا بقوله:

إن المكان الوحيد الذي أحنّ إليه في سوريا هو سوق البحصة الإلكتروني (السوق التكنولوجي في دمشق)، ففيه يمكنك دفع نصف دولارٍ لشراء قرصٍ مضغوطٍ فيه برامجُ تبلغ قيمتها 2000 دولارٍ. لقد سمح ذلك للمبرمجين السوريين بالوصول إلى جميع أنواع البرامج، وبالتالي اكتساب الخبرة وصقل مهاراتهم؛ عندما نأتي إلى أوروبا، غالباً ما نجد أننا ملمّون ببرامجَ أكثر عدداً مما يُلمُّ به الأوروبيون.

وإلى جانب الحلول المرتجلة، شهدت سوريا لحظاتٍ نادرةً ولكن مفعمة بأمل الإنصاف الجماعي، حين ضغطت مجموعات الناشطين على شركات التكنولوجيا لاستعادة الوصول إلى المنصات التعليمية الرائجة على الإنترنت، وبعد أن ناشدت عريضةٌ جرت مشاركتها على نطاقٍ واسعٍ منصةَ دوولينجو لإتاحة امتحان إجادة اللغة الإنجليزية في سوريا، حصل التطبيق في كانون الأول / ديسمبر 2020 على استثناء من وزارة الخزانة الأمريكية للقيامَ بذلك. للأسف، غالباً ما يحجب أهمية مثل هذه الانتصاراتِ الصغيرة، سعيٌ مستمر لاستباق التحديات الوشيكة الأخرى.

سباق تسلّح رقمي

إذا كانت الإجراءات البيروقراطية الدولية تهدّدُ سبلَ عيشِ السوريين، فإن رقابة الدولة السورية تعرّض حياتهم للخطر. لعقودٍ من الزمان، كان لدمشقَ موقفٌ متناقضٌ حيالَ التقدم الرقمي، فمن ناحيةٍ، سعى النظام البعثي في ​​سوريا منذ نشأته إلى الظهور بوجهٍ عصريٍّ. ومن الجدير بالذكر أن أوّل منصبٍ تولاه بشار الأسد علنياً كان رئاسةَ الجمعية السورية للمعلوماتية، وقد ساعده هذا المنصب في تلميع صورته كإصلاحيٍ تكنوقراطيٍ يكاد يكون مولعاً بالتكنولوجيا. وعند توليه الرئاسة في عام 2000، تضمنت حملة بشار للتحديث الاقتصادي إدخالَ أجهزة الكمبيوتر إلى المدارس ومنحِ التراخيص لمقاهي الإنترنت، وخفضِ تكلفة اتصالات الإنترنت.

غير أن هذا الدافع لربط السوريين بالإنترنت اصطدم بضرورةٍ أكثر حتمية، ألا وهي مراقبة ورصد المجال العام في البلاد. وهكذا واجه الانفتاحُ الرقمي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مقاومةً من الأجهزة الأمنية، فظل انتشار الإنترنت في سورية أقل مما هو عليه في الدول الاستبدادية الأخرى في المنطقة، وحُظرت مواقعُ ويب شهيرةٌ مثل فيسبوك وهوتميل. ولما كانت السلطات تتعقّبُ النشطاء وتضايقهم، وفي بعض الأحيان تسجنهم، أَدرجت منظماتٌ، كمنظمة مراسلون بلا حدود ولجنة حماية الصحفيين، سوريا على قوائم أسوأ البلدان لناحية حريات الإنترنت.

غير أن المراقبة والقمع في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين لا يُقارنان بما حدث في أعقاب انتفاضة 2011، فحين هبّ السوريون إلى فيسبوك ويوتيوب وواتس أب لنشر أخبار وصور الاحتجاجات، استخدم النظامُ أدواته نفسها للتعرف على المعارضين واعتقالهم، وعرّض كثيرين للتعذيب لإجبارهم على الكشف عن كلمات مرور حساباتهمُ. لم تكن رسائل البريد الإلكتروني وأخبار وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات المراسلة بمثابة دليلٍ على نشاط أحدهم التحريضي فحسب، بل بمثابة طريقة لاصطياد رفاقه المعارضين كذلك.

في غضون ذلك، شرع الجيش السوري الإلكتروني – وهو جماعةٌ مواليةٌ من الناشطين القراصنة – في تشويه مواقع وسائل الإعلام الغربية بالدعاية المغرضة. في أحد الأمثلة البارزة، استَبدلت الجماعة الصفحةَ الرئيسة لصحيفة واشنطن بوست بسلسلةٍ رسائل من قبيل “الحكومة الأمريكية تدرب الإرهابيين لقتل المزيد من السوريين” و “الإعلام يكذب دائماً”. الآن، وبعد أن خبت جذوة الصراع وتجذّر التدهور الاقتصادي أكثر فأكثر، بات النظام يعتقل حتى الصحفيين الموالين له لمجرد نشرهم أخباراً عن انهيار الخدمات العامة.

وإلى جانب المراقبة، استثمرت السلطات في رقمنة العمليات البيروقراطية المبتذلة، من توزيع السلع المدعومة، إلى تسجيل المعاملات العقارية. ومن الأمثلة البارزة اعتماد ما يسمى بالبطاقة الذكية التي يمكن للسوريين من خلالها الحصولُ على مخصصاتهم من الوقود والخبز والسكر. تُصور السلطاتُ مبادراتِ “الحوكمة الإلكترونية” هذه على أنها سبيلٌ لترشيد مخصصات الموارد الآخذة بالتضاؤل، غير أن كثيراً من السوريين يرون أن السلطات تجمع معلوماتٍ عن المواطنين من أجل تحصيل الضرائب منهم بفعاليةٍ أكبر. لخّصَ محامٍ وناشطٌ وجهة النظر الشائعة هذه بقوله: “لا تُرقمنُ الدولة سوى الخدمات التي تساعدها على تقفّي أماكن عيش الناس وتحديد مقدار ما يجنونه من مالٍ. بيت القصيد هو أن تأخذ الدولةُ من الناس أكبر قدرٍ ممكنٍ مقابل إعطائهم القليل”.

في مواجهة هذا التغول، لا يخفى على السوريون أن الأدواتِ الرقميةَ سلاحٌ ذو حدين، فإمكاناتها التحررية تطرح أيضاً مخاطرَ يجب إدارتها بعناية. ولذا انتشرت بعض مبادئ الأمن السيبراني على نطاق واسع حتى بين أقل المستخدمين درايةً، يروّجها نشطاءُ ومنظماتٌ غير حكوميةٍ ممّن يستثمرون في زيادة الوعي الرقمي. لدى بعض عامة الناس حسابٌ إضافي سريٌّ على فيسبوك للتفاعل بحرية مع الحفاظ على سريّة هويتهم. كما يتبادل السوريون أفضل الممارسات حول كيفية حماية أنفسهم من تطفّل السلطات، وهو ما أوضحه ناشطٌ شابٌّ في دمشق بقوله: “لقد تعلمتُ مبكراً كيفية اختيار كلماتِ مرورٍ قويةٍ واستعمال الشبكة الخاصة الافتراضية VPN، أواظبُ وأصدقائي على تبادل النصائح في هذا المجال”.

إن النشطاء السياسيين هم الأكثر حرصاً على تحصين أنظمتهم، ويتّبعون في ذلك أساليبَ يعتمد بعضها على كفاءة بعض التقنيات، كاستخدام البرنامج الأنسب لإزالة أي أثرٍ للملفات المحذوفة على الأجهزة، وبعضها الآخر ذو تقنيةٍ أدنى، ولكنه أكثر أهميةً، فمن الممارسات الشائعة بين النشطاء أن يعهدوا بأكثر كلمات المرور حساسيةً إلى الأصدقاء المقربين أو العائلة، ليقوموا بتنظيف أو إغلاق حساباتهم في حال اعتُقلوا، وحتى أن البعض أنشأ علاقاتٍ مع موظفين في شركات التكنولوجيا الغربية مثل غوغل أو فيسبوك لضمان الإغلاق المستعجل لحساب الشخص المعتقل.

بيد أن هذا التطور مرتجلٌ ومؤقَّتٌ، فبينما يستخدم كثيرٌ من السوريين الشبكاتِ الخاصة الافتراضية، قلةٌ منهم على درايةٍ بالفروق الدقيقة في استخدامها: ما الذي تحميك منه شبكة ما بالضبط، وكيف تتركك مكشوفاً؟ أي الشبكات أكثر أماناً، وما مخاطر استخدام المجانية منها؟ يقول المهتمون بالأمن السيبراني أن روسيا أو النظام السوري يوزعون شبكاتٍ خاصةً افتراضيةً بالمجان للتجسس على الناس، بيد أن المستخدمين النهائيين يفتقرون إلى وسائل تؤكد هذه المخاوف أو تنفيها، وتتكرر المشكلة نفسها مع البرامج المقرصَنة التي يعتمد عليها الجميع تقريباً. وَصَفَت مهندسة اتصالاتٍ في دمشق حالةَ الارتباك والقلق التي تستمر حتى مع بذل كل الجهد للبقاء في أمان:

لا أثق في أي تطبيقٍ أقتنيه من داخل سوريا لأنه قد يحتوي على برامج تجسس. على سبيل المثال، يمكنني تنزيل برنامج مكافحة الفيروسات كاسبر سكي قانونيا هناً، لكن هذا التنزيل سيمرُّ عبر الخوادم السورية، وأخشى أن يتمكن النظام من زرع شيءٍ ما داخله. هذا مجرد تخمين، لكني لن أفعل أي شيءٍ قد يفتح باباً خلفياً في حياتي الرقمية.

وكثيراً ما يختلفُ الخبراءُ الرقميون السوريون حول أفضل التكتيكات، أو حتى بشأن السلوكيات التي يرون فيها الخطر الأكبر، بل أن بعضهم يضع كامل ثقته في منصات تواصل معينة -لا سيما واتس أب- يعتبرها آخرون مخترقة كلياً. يميل الشباب السوريون الخبيرون بالتكنولوجيا للاستقرار إلى شعورٍ زائفٍ بالأمان، مرتاحين إلى حقيقة أن أنظمتهم قد أبعدتهم عن المشاكل… حتى الآن على الأقل. غير أن النظام الحاكم سيستمر في الاستثمار في قدرته على المراقبة، مما يجبر السوريين على الاستمرار في التكيّف بدورهم، وبذا يضع هذا الصراع غيرُ المتكافئ والغامضُ النظامَ والمجتمعَ في دوامةٍ لا تنتهي من التجسس والمراوغة.

 # # #

إن أكبر ظلمٍ في هذا الكفاح من أجل الوصول الرقمي هو أن النصر لن يكون حليف السوريين، فمهما سعوا وابتكروا وتغلبوا على العقبات التي تواجههم، فإن مصيرهم يعتمد على عواملَ خارجةٍ عن سيطرتهم، من قبيل التقنيات المستوردة، والخدمات الرقمية عن بُعد، والقرارات الغريبة حول من يمكنه فعل ماذا على شبكة الإنترنت في نهاية المطاف. وبعبارةٍ أخرى، لا شك أن الإنترنت يربط السوريين بالعالم الخارجي، لا لشيءٍ سوى لتأكيد عزلتهم الشديدة وتبعيتهم ضمنه.

في هذا الصدد، تمثّلُ حكاية سوريا حكايةَ الإنترنت حول العالم أيضاً. فعلى الرغم من عظمة إمكانات شبكة الإنترنت في تعزيز الديمقراطية والحريات، فإنها تظل مشوبةً بالسياسات النخبوية والإقصائية التي كانت دائماً جزءاً من طبيعتها. إن الحياة الرقمية لعموم السوريين محاصرةٌ من قبل نظامٍ محاصَرٍ بدوره من قبل قوىً أكبر منه. وبذا يخدم الإنترنت بعضَ المستخدمين أكثر من غيرهم، في “فصل رقمي” تختلف معالمه من سياقٍ إلى آخر. بيد أن الدافع للانضمام إلى العالم الافتراضي هو دافعٌ عالميٌ: فاليوم تحدد سهولة الوصولُ إلى الإنترنت مستقبلَ الطفل في المجتمع، سواءً كان ذلك في دمشق أو دلهي أو ديترويت.

واليوم نرى كيف باتت المجتمعات في جميع أنحاء العالم تعاني الأمرين في التصدي للجانب المظلم من الإنترنت والقادر على إحداث تحولات في المجتمع: ففي حين يؤدي تفشي المعلوماتُ المضللةُ إلى تآكل نسيج الديمقراطيات الليبرالية، تدأب الصينُ على ابتكار نماذجَ ديستوبية لمراقبة المجتمع وإبقائه تحت السيطرة. ونظراً لأننا جميعاً نستخدم الإنترنت، فلدينا الكثير لنتعلمه من بعضنا بعضاً، وقليلةٌ هي الأماكن التي تفوق سوريا ثراءً بالدروس، هذا البلدُ الذي يمثّل، رغم كل ما فيه من متاعب، مختبراً محموماً وملهِماً لإحداث التغيير. لكي نتبيّن مستقبلَ الإنترنت، قد يكون أفضل سبيلٍ إلى ذلك هو النظرُ لا من مركز الشبكة، بل من أطرافها حيث يوجد المنبوذون رقمياً.

13 كانون الأول/ ديسمبر 2021

كتَبَ هذا المقال باحثٌ سوريٌّ في سينابس.

الشكر والامتنان: صورة الغلاف هل صورة التقطها فلادو بانوفيتش ونشرت في شركة Unplash. الخط المستخدم في العنوان هو Azonix من إنشاء mixofxf mixofx. بقية الرسوم التوضيحية من سينابس.

كُتب هذا المنشور بدعمٍ من مؤسسة Konrad-Adenauer-Stiftung، ولا يعكس محتواه بالضرورة الرأيَ الرسميَّ لمؤسسة Konrad-Adenauer-Stiftung. تقع مسؤولية المعلومات والآراء الواردة في هذا المنشور بالكامل على عاتق المؤلفين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى