أبحاث

“البعث” والثقافة.. فصل جديد من المأساة!/ نبيل سليمان

تدفعني الأصداء الواسعة لما نشرته في “ضفة ثالثة” يوم 15/2/2022 تحت عنوان “مثقفون سوريون مؤسسون لحزب البعث… مأساة البداية.. مأساة النهاية”؛ إلى أن أفتح فصلًا جديدًا من فصول هذه المأساة المقيمة في سورية منذ تسع وخمسين سنة، مثلما أقامت في العراق قرابة أربعين سنة.

بعد عشرة من المثقفين السوريين المؤسسين لحزب البعث (ميشيل عفلق – صلاح البيطار – سامي الدروبي – عبد الله عبد الدايم – شاكر الفحام – جمال الأتاسي – بديع الكسم – أنطون مقدسي – جورج صدّقني – مطاع صفدي) أتابع مع رهط آخر يتصدرهم هذا الذي جاء من القاع الدمشقي، واشتُهِر بأنه أديب المؤرخين ومؤرخ الأدباء: شاكر مصطفى (1921 – 1997) الذي تدرّج من مدرّس في درعا عام 1946 إلى مختلف المناصب الديبلوماسية، إلى وزير الإعلام، إلى الأكاديمي طوال ربع قرن في الكويت. ولعله ليس من المبالغة أن أضيف إلى ذينك اللقبين لقبًا آخر هو: فيلسوف المؤرخين. وثمة من تحدث يومًا عن (المؤرخ البعثي) شاكر مصطفى، بيد أنه ينبغي التوكيد على أن الرجل سرعان ما آثر العلم والأدب على الحزبية.

من أبرز مؤلفات شاكر مصطفى كتابه الرائد في النقد والتاريخ الأدبي (محاضرات في القصة السورية حتى الحرب العالمية الثانية – 1958)، وموسوعته (التاريخ العربي والمؤرخون)، وقد صدر الجزء الأول منها عام 1978. كما وضع مع فؤاد زكريا كتاب (الثقافة العربية والاعتماد على الذات – 1988). وفي السياسة لشاكر مصطفى كتابه (معنى السلام عند إسرائيل؛ ماذا تريد إسرائيل؟ – 1969). وله الكتاب الرائد أيضًا (الأدب في البرازيل – 1986). ومن مؤلفاته في الأدب والنقد (بين الأدب والتاريخ – 1996) و(بيني وبينك) و(في ركاب الشيطان)، والأخيران نشرهما عام 1955 في (دار الرواد) التي أسسها بنفسه.

وهذا حافظ الجمالي (1917 – 2003) الذي جاء من حمص، وحمل إجازة في الفلسفة والدكتوراه في التربية من فرنسا. وقد وضع بالاشتراك مع صابر فلحوط كتاب (البعث والمستقبل القومي). كما ترجم بالاشتراك مع أسعد صقر كتاب ألفين توفلر (تحول السلطة). ومن ترجماته الأخرى (تاريخ الأديان) لفيليسان شالي، و(الثورة الفرويدية) لبيير فوجيرولا، و(فلسفة الفيزياء) لماريو بونج، و(علم النفس الاجتماعي) لألوتو كلينبرغ، و(في تقسيم العمل الاجتماعي) لإميل دوركهايم. ومن مؤلفات حافظ الجمالي بالاشتراك مع سامي الدروبي (علم النفس ونتائجه التربوية – 1947)، وكان قد أصدر قبل ذلك كتاب (ما وراء الطبيعة – 1944). وله أيضًا (حول المستقبل العربي – 1976) و(بين التخلف والحضارة – 1978). وقد عمل في التدريس، وتولى مناصب دبلوماسية، ووزارة التربية، ورئاسة اتحاد الكتاب. ومن اللافت ما عرف من نقد حافظ الجمالي اللاذع للثقافة العربية، وكذلك ما قال بديع الكسم من أن الجمالي طالما أكد على أهمية الديمقراطية في حياة الشعوب وفي بناء المستقبل العربي.

مع سامي الجندي (1921 – 1996) نأتي إلى شخصية إشكالية. فهذا القادم من سلمية، وطبيب الأسنان الذي بكّر إلى البعث، سرعان ما غادره، ثم عاد إليه ثم غادره بعدما بلغ الوزارة – وجرى تكليفه رئيسًا للوزراء أيامًا معدودة – فانصرف إلى التأليف والترجمة، ومن ذلك كانت أهجيته الكبرى للبعث في (كتاب البعث 1969) ومحاولته الروائية (سلمان – 1992). وقد تميزت ترجماته الهامة: (مجنون إلسا) لأراغون و(مائة عام من العزلة) لماركيز، و(سقوط السنديان) لأندريه مالرو، و(بيت الأرواح) لإيزبيل الليندي.

من اسكندرون، ومثل زكي الأرسوزي وفايز إسماعيل، جاء وهيب الغانم (1919 – 2003) الذي كان من مؤسسي عصبة العمل القومي، كما سيكون من مؤسسي حزب البعث، حيث كان منزله في السبكي في دمشق أول مقرّ للحزب. كما كان عضو المكتب التنفيذي (القيادة) للحزب، وقد تولى وزارة الصحة عام 1955. وله ترجمة مخطوطة هي (خطب فيخته) إلى طلاب الجامعة في برلين. وله أيضًا كتاب (الجذور الفكرية لمبادئ حزب البعث العربي). وفي هذا السياق أذكر مسعود الغانم (1923 – 1981) شقيق وهيب، وهو أيضًا من المؤسسين، وقد نشر في الصحافة – مجلة “الجندي” مثلًا – مقالات ودراسات.

إلى بلدة قرنايل على طريق دمشق شتورا اللبنانية تنادى عام 1933 مجموعة من الشباب المثقفين من سورية ولبنان والعراق، وعقدوا المؤتمر الذي بحث في قضايا الوحدة العربية والاستقلال والقومية والمرأة.. وأعلن تشكيل عصبة العمل القومي. وقد كان فايز إسماعيل (1923 – 2016) من مؤسسي العصبة ثم من مؤسسي الشق العراقي من حزب البعث. لكنه غادر الحزب بعد انفصال سورية عن مصر وانهيار الجمهورية العربية المتحدة، وأسس حزب الوحدويين الاشتراكيين. ومن مؤلفاته (مع البعث: بدايات ومواقف) و(النظام العالمي الجديد) و(بين القوميين والإسلاميين) و(القومية العربية تحت المجهر – جزءان).

ومن مؤسسي عصبة العمل القومي وحزب البعث، جاء من دير الزور جلال السيد (1913 – 1992) الذي تولى الوزارة، وله كتاب عن العصبة، وكتاب (حزب البعث العربي) يؤرخ فيه للحزب حتى انقلاب 1966. وللسيد كتاب (حقيقة الأمة العربية وعوامل تجزئتها ووحدتها – 1973)، وقد غادر البعث عام 1955.

مع الياس فرح (1927 – 2013) نأتي إلى الدكتوراه في التربية وعلم النفس، مثل حافظ الجمالي، غير أن  الياس فرح درس في سويسرا مثل بديع الكسم، بينما درس أغلب الآخرين في فرنسا، وقلّة في مصر. وإذا كانت الماركسية والشيوعية والأيديولوجية مما شغل بعض المؤسسين (جورج صدقني – فايز إسماعيل – ياسين الحافظ..) فقد كانت الشاغل الأكبر لالياس فرح، كما في (تطور الفكر الماركسي) و(حول الفلسفة الماركسية) و(تطور الأيديولوجية العربية الثورية). وقد خصّ كتاب ميشيل عفلق بكتابه: (قراءة منهجية في كتاب في سبيل البعث). كما كانت له التفاتته الأيديولوجية إلى التراث، وذلك في كتابه (الصراع الفكري عند الجاحظ). والياس فرح القادم من جسر الشغور (محافظة إدلب) قضى ثلاثين سنة منفيًا في بغداد بعد انقلاب 1966 الذي قذف برعيل من المؤسسين إلى العراق في سياق الصراعات الدموية البعثية التي بدأت منذ هيمن الحزب على السلطة في سورية والعراق عام 1963.

ومن (الرفاق المؤسسين) من قضى في المنافي إعدامًا أو اغتيالًا أو في ميتة عادية، حيث تحار التراجيدية فيمن هو أولى بها منهم، مثل شبلي العيسمي الذي اختطف في لبنان عام 2011 عن ستة وثمانين عامًا، فتعلق تاريخ وفاته بتاريخ اختفائه. وكان قد تقلّد الوزارة مرارًا فيما بين انقلابي 1963 و1966، ثم تطوح من بغداد حيث قضى أكثر من ثلاثين سنة، إلى لبنان بعد الاحتلال الأميركي للعراق سنة 2003. وكانت الوحدة العربية في رأس ما شغل كتابات العيسمي، إذ ترك فيها عددًا من المؤلفات منها (حول الوحدة العربية) و(الوحدة العربية من خلال التجربة)، كما ترك في تاريخ حزبه كتابين: (حزب البعث العربي الاشتراكي – المرحلة التأسيسية) و(حزب البعث العربي الاشتراكي – مرحلة النمو والتوسع). ومن مؤلفاته أيضًا: (رسالة الأمة العربية) و(العلمانية والدولة الدينية).

كاد السجن أن يكون محطة تنتظر المؤسس البعثي أن ينزل فيها عابرًا أو مقيمًا لأمدٍ يقصر أو يطول حتى الموت. ففي أثناء الاستعمار الفرنسي لسورية سُجن جلال السيد، وجزاءً على مقاومة الجنرال الانقلابي الأول حسني الزعيم سُجن ميشيل عفلق الذي سرعان ما استغفر الجنرال وأعلن التوبة. على أن سجون الفرنسي أو العسكر الانقلابيين الأوائل كانت أرحم بما لا يقاس من سجون الرفاق بعد انقلاب 1963 أو ما اشتُهِر بثورة الثامن من آذار. وهكذا ارتسمت الطريق لكثيرين من الحزب/ الحلم إلى الوزارة أو الأستاذية إلى السجن. وكان النصيب الأكبر والأقسى من ذلك للذين فصلت سنوات معدودات بين انخراطهم في الحزب وبين الآباء المؤسسين. وثمة من لا يفصل – وأنا منهم – بين أولاء وأولاء، إذ يعدّ من حضروا المؤتمر التأسيسي عام 1947 ومن تحزبوا بعد سنتين أو خمس، آباء، ومنهم الشباب الذين انخرطوا في الجيش وأمسكوا برقاب السلطة منذ انقلاب 1963.

هو ذا أسعد صقر (اللاذقية) من ذلك الرعيل، درس الفلسفة ودرّسها وبلغ الوزارة، ثم عَبَر الممر شبه الإلزامي، وقضى خمس سنوات في السجن، ليخرج إلى فضاء الكتابة والترجمة، فأصدر (الحركة العمالية في فلسطين منذ عهد الانتداب حتى عام 1980) وترجم لألفين توفلر (خرائط المستقبل) و(تحول السلطة) بالاشتراك مع حافظ الجمالي، و(الشرق الأوسط الحديث: التحولات في المجتمع والاقتصاد) لألبرت حوراني وآخرين.

وهو ذا ياسين الحافظ (1930 – 1978) الذي قَدِم من دير الزور وبكّر إلى حزب البعث، وكان مع حمود الشوفي وجورج طرابيشي على رأس (يسار البعث) في المؤتمر القومي السادس (1963) الذي كتب له الحافظ بمعونة الآخرين ما اشتهِر بـ (بعض المنطلقات النظرية) الموسومة بالتمركس. وكان الحافظ قد نحا نحو الماركسية غير السوفياتية بتأثير من الياس مرقص (1927 – 1991) حين جمعتهما الخدمة الإلزامية في الجيش. وتحت تأثير هزيمة 1967 غادر ياسين الحافظ البعث، ليؤسس مع آخرين حزب العمال الثوري. أما السجن فقد استضافه سنة، وكانت زنزانته مجاورة لزنزانة جورج حبش. وبعد السجن يمّم ياسين الحافظ إلى بيروت حيث أسس مع الياس مرقص دار الحقيقة للنشر، وانصرف إلى الكتابة الفكرية، فنشر (اللاعقلانية في السياسة العربية) و(الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة)، و(التجربة التاريخية الفيتنامية) وسواها، كما ترجم (الإسلام في عظمته الأولى) لموريس لومبار، و(حول الدين) لماركس وإنجلز، وسواهما. وقد كان لمؤلفات وترجمة ياسين الحافظ – وكذلك الياس مرقص – أثرها العميق في تكويني الفكري والسياسي.

“كان ياسين الحافظ قد نحا نحو الماركسية غير السوفياتية بتأثير من الياس مرقص حين جمعتهما الخدمة الإلزامية في الجيش. وتحت تأثير هزيمة 1967 غادر الحافظ البعث، ليؤسس مع آخرين حزب العمال الثوري”

أخيرًا – وليس آخرًا – أذكر عبد الكريم زهور عدي (1917 – 1985) من حماة، والذي درس الفلسفة ودرّسها وبلغ الوزارة أيضًا بعد (الحركة التصحيحية – 1970)، وكان عضوًا في مجمع اللغة العربية. وكان مع جمال الأتاسي وسامي الدروبي قد شكلوا جناحًا في حزب البعث في أيلول/ سبتمبر 1961. وللرجل كتاب (في الفكر السياسي: مدخل إلى علم السياسة)، كما نشر دراسات عديدة تتعلق بالتصوّف وبسواه.

تلك كانت بانوراما خاطفة لاثنين وعشرين مثقفًا من المؤسسين السوريين لحزب البعث، الذي كتب عنه واحد منهم هو سامي الجندي: “كانت طليعته كتّابًا وأدباء حتى ليظن المراقب الدقيق أننا كنا ننظم شعرًا”.. فهل كان هذا الشعر إلا شعر المأساة؟

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى