أبحاث

عشائر الجزيرة والفرات في سورية: التحالفات الهشّة من البعث إلى الثورة

يغلب على منطقة الجزيرة والفرات السورية الطابع العشائري، حيث تضم عشائر عربية مختلفة، مثل العكيدات والبكارة والجبور وطي وشمر والبوخابور والدليم وغيرها. لكن هذه السمة تخفّ تدريجيًا مع الاقتراب من مراكز المدن. ومع أن عمليات التنمية والتحديث أضعفت كثيرًا الطابع العشائري للمنطقة منذ استقلال سورية عن الاحتلال الفرنسي، مرورًا بفترة حكم البعث، وصولًا إلى المرحلة الراهنة، فإن المكون العشائري بقي حاملًا اجتماعيًا مهمًا، تنظر إليه جميع السلطات والقوى التي تعاقبت على المنطقة باعتباره مكونًا رئيسًا لا بد من التعامل معه.

تبحث هذه الورقة في دور أبرز العشائر العربية في منطقة الجزيرة والفرات السورية، فتتناول علاقتها بالنظام السوري قبل اندلاع الثورة، وترصد التحولات التي طرأت على دورها خلال سنوات الثورة، وخاصة علاقتها بفصائل المعارضة والتنظيمات الإسلامية المتشددة، والجهود التي تبذلها أطراف مختلفة لاستمالتها إلى جانبها، ودورها المستقبلي المتوقّع.

أولًا: عشائر الجزيرة والفرات

تقع منطقة الجزيرة والفرات، أو “الجزيرة الفراتية”، في شمال شرق سورية بين نهري دجلة والفرات، وتشكّل العشائر العربية المكون الرئيس فيها. وتُعرّف العشيرة بأنها “جماعة تربط أعضاءها صلات الدم والقرابة ونمط الإنتاج والتوزيع والاستهلاك الجماعي، وأسلوب المعيشة، والقيم”. بدأت العشائر في الاستقرار على ضفتي نهر الفرات خلال فترة التنظيمات العثمانية الثانية في المدة 1839-1876، ومن حينها بدأ تحوّل العشائر إلى مجموعات أخذت طابع الاستقرار ضمن مجتمعات زراعية على ضفتي نهر الفرات، إلا أن المنطقة شهدت جملة من المتغيرات السياسية والعسكرية والاقتصادية، أثّرت سلبيًا وإيجابيًا في العشيرة الواحدة، ثم في علاقاتها بغيرها من العشائر، وبالقوى السياسية والعسكرية التي تعاقبت على المنطقة.

وعلى الرغم من محاولات السلطات التي تعاقبت على سورية استمالة العشائر في منطقة الجزيرة والفرات منذ فترة الانتداب الفرنسي في مقابل بعض الميزات، على غرار منح مقاعد في البرلمان لشيوخها، فإن العلاقة بين الطرفين كانت تأخذ طابعًا ندِّيًا في بعض الأحيان.

ترافق استقلال سورية عن فرنسا مع تنامي أهمية الثروات الزراعية والطبيعية في منطقة الجزيرة والفرات، ثم مع اكتشاف الثروات الباطنية كالنفط والغاز، وهو ما جعل المنطقة محل اهتمام كبير، إضافة إلى موقعها الجغرافي المهم بحدودها مع العراق شرقًا وتركيا شمالًا. لكن السلطات السورية التي جاءت بعد الاستقلال ضيّقت بعض الشيء على المكون العشائري؛ ففي عام 1953 ألغى البرلمان قانون العشائر الذي جرى إقراره إبان الاحتلال الفرنسي لسورية، ثم جاء زمن الوحدة وما شهده من قوانين أثّرت تأثيرًا مباشرًا في ملكية شيوخ العشائر، منها قانون الإصلاح الزراعي الذي أدى إلى تراجع سلطة شيوخ العشيرة على نحو واضح. إضافة إلى ذلك، شهدت فترة الانقلابات تضييقًا واضحًا على شيوخ العشائر، بل إن بعضهم تعرّض للاعتقال والتعذيب بسبب مواقفه السياسية.

ثانيًا: العشائر والبعث

أنشأ حزب البعث، عند وصوله إلى السلطة، تحالفًا مع شيوخ العشائر مكّنه من الحصول على دعمهم، إلا أن العلاقة ما لبثت أن توترت بسبب تطبيق قانون الإصلاح الزراعي الذي كانت نتيجته تجريد شيوخ العشائر من ممتلكاتهم وأراضيهم. وعلى الأثر، بدأت المنطقة تشهد هجرة أبناء العشائر إلى المدن الأمر الذي أدى إلى اهتزاز العلاقة بين حزب البعث وشيوخ العشائر الذين فقدوا بعضًا من نفوذهم الاقتصادي ما أثّر في مكانتهم الاجتماعية والسياسية.

لقد تبنّى البعث سياسة تهدف إلى ضبط المكون العشائري وتهميش قياداته التي حاولت الحفاظ على هامش من الاستقلالية، مستخدمًا كل الوسائل المتاحة بما فيها بناء التحالفات وشراء الولاءات، والتضييق والترهيب. وقد تكرّست هذه السياسة مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة، بمحاولته استمالة بعض شيوخ العشائر والتحالف مع بعضهم ضد آخرين، فجرى تخصيص مقاعد لشيوخ العشائر ووجهائها في مجلس الشعب، حافظ بعضهم عليها عقودًا من الزمن، مثل ما حصل مع شيخ عشيرة العكيدات عبود جدعان الهفل الذي حافظ على مقعده في مجلس الشعب حتى وفاته، ثم تقلّد المشيخة بعد ذلك ابنه خليل عبود الهفل الذي بقي محافظًا على مقعد العشيرة في مجلس الشعب طوال ستّ دورات متتالية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى شيخ عشيرة البوحسن فيصل النجرس الذي كان عضوًا في مجلس الشعب، ومن ثم بعد وفاته حاز المقعد ابنه صفوك النجرس، وكذلك المقعد المخصص لعشيرة الحسون بزعامة شيخ العشيرة دحام الدندل، وتقلّد المشيخة بعد ذلك ولده أيمن.

كان بعض هذه التحالفات يتغير كلما تغيرت الأوضاع، على غرار حالة راغب البشير شيخ عشيرة البكارة الذي كان متحالفًا مع القيادي البارز في حزب البعث جلال السيد، ثم ورث نواف البشير المشيخة عن أبيه راغب بعد وفاته، ليستمر نواف في التحالف مع البعث، وقد أصبح عضوًا في مجلس الشعب خلال المدة 1990-1994، قبل أن ينتقل إلى المعارضة بعد خروجه من المجلس ويصبح من أبرز الشخصيات الموقّعة على إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي عام 2005، وعضو اللجنة التحضيرية لمؤتمر الإنقاذ الوطني عام 2011. وحينما انطلقت الثورة السورية شارك في المظاهرات فاعتقله النظام، ثم عاد إلى مصالحته في عام 2017، وشكّل ميليشيا الباقر بالتنسيق مع القوات الإيرانية الموجودة في المنطقة.

أولى النظام السوري تحالفاته العشائرية في منطقة الجزيرة اهتمامًا كبيرًا، خاصة منها عشيرة العكيدات التي تتألف من تحالف عشائري كبير يضم عشائر البوخابور والبوسرايا والبورحمة والبوحسن والقرعان والجراح والدميم والمراشدة والدليج والشويط والشعيطات والبكير، وهم يتوزعون على مناطق مختلفة من المنطقة الشرقية، خاصة محافظة دير الزور. ونظرًا إلى الوزن العشائري لهذه العشيرة، فقد كان لها ممثلون دائمون في مجلس الشعب السوري، إضافة إلى عشائر أخرى كبيرة تنتشر في منطقة الجزيرة والفرات كالبوشعبان والعفادلة والجيس والبوعساف وزبيد والبوليل والكلعيين والمعامرة والخرشان والبوشلهوم والراويين والدليم، والعديد من العشائر الأخرى. وفي العادة، تبقى المشيخة ضمن الأسرة ذاتها، كما في حالة عشيرة العكيدات التي بقيت فيها المشيخة تاريخيًا ضمن بيت الهفل، إلا في حالات نادرة تنتقل إلى شخص آخر، غالبًا، بتشجيع من السلطة السياسية.

وغذى النظام السوري الانقسامات داخل “بيوت المشيخة” في أغلب عشائر المنطقة الشرقية، فغالبًا ما نجد تنافسًا بين شخصيتين من العشيرة نفسها على الزعامة والمشيخة، وربما في أحيان كثيرة يحدث هذا التنافس ضمن حلقة أضيق قليلًا، كالتنافس ضمن “الفخذ الواحدة”، خاصة عند كل دورة انتخابية لمجلس الشعب، وهو ما كان سببًا أساسيًا لوجود توجهات مختلفة لدى وجهاء العشائر حين اندلعت الثورة السورية.

ومع وصول بشار الأسد إلى السلطة عام 2000، استمر التحالف قائمًا بين النظام السوري وشيوخ العشائر، إلا أن السياسات الاقتصادية التي انتهجها، وموجة الجفاف التي ضربت سورية في المدة 2005-2010 والتي كانت فيها المنطقة الشمالية الشرقية الأشد تضررًا وأدت إلى نزوح ما لا يقل عن 200 ألف مواطن من أبناء المحافظات الشرقية، وسوء إدارة الحكومة السورية للموارد المائية الذي أدى إلى إلحاق أضرار بالغة بتلك المناطق التي يعتمد أهلها على الزراعة أساسًا، وما تخلله من رفع الدعم عن المازوت في عام 2008، أدى كل ذلك إلى ارتفاع معدلات الفقر في المحافظات الشرقية وهجرة عدد كبير من أبنائها إلى أطراف المدن الكبرى، حيث الخدمات ضعيفة والظروف المعيشية صعبة، وقد انضم هؤلاء إلى الثورة السورية حين اندلاعها في عام 2011.

حاول النظام منذ اندلاع الثورة استمالة شيوخ العشائر ووجهائها، حيث اجتمع بهم بشار الأسد في بدايات الثورة وطلب دعمهم لاحتوائها، مثل اجتماعه بشيوخ عشائر دير الزور في أيار/ مايو 2011، ولكن هذه المحاولات فشلت في السيطرة على الشباب المندفع، خاصة أولئك الذين ترعرعوا خارج البنى التقليدية العشائرية. ومع ارتفاع وتيرة العنف الذي استخدمه النظام، بدأ حتى بعض شيوخ العشائر في الانقلاب عليه.

تحولت رابطة الدم وعادات المكون العشائري وتقاليده، كالنخوة والثأر والحميّة، من عامل مثبّط للاحتجاجات إلى محفز لها، لترتفع أعداد المتظاهرين ارتفاعًا كبيرًا. وقد أطلق القائمون على صفحة الثورة السورية على فيسبوك اسم “جمعة العشائر” على المظاهرات المقرر خروجها في 10 حزيران/ يونيو 2011، لتحفيز عشائر المنطقة الشرقية، وبالفعل كانت استجابتها قوية. وقد شارك الشيخ ارهيمان كوان الجبارة، شيخ عشيرة البورحمة من قبيلة العكيدات، في الحراك الثوري منذ بدايته، وآوى بعض المنشقين عن النظام السوري، ثم اضطر إلى اللجوء إلى تركيا وتوفي فيها في عام 2021. وفي تموز/ يوليو 2012، انشق نواف الفارس، سفير سورية في العراق، وهو من وجهاء عشيرة الجراح الدميم من قبيلة العكيدات، وتدرّج في مناصب قيادية عديدة في النظام السوري.

وكما في محافظة دير الزور، سعى النظام إلى استمالة شيوخ العشائر في محافظة الرقة من خلال منحهم بعض الامتيازات، مثل عضوية مجلس الشعب أو مجلس المحافظة، مع بعض الصلاحيات الوجاهية، وينطبق الأمر نفسه على شيوخ العشائر في محافظة الحسكة، مع فارق وجود مكون كردي كبير في الأخيرة. وقد تفنّن النظام في استخدام العرب والأكراد ضد بعضهم كما حدث خلال “الانتفاضة الكردية” عام 2004، حيث استخدم العشائر ضد الأكراد، ثم استخدم الأكراد ضد العشائر بعد الثورة.

ثالثًا: علاقة العشائر بفصائل المعارضة المسلحة ثم بالنصرة و”داعش”

لم يبرز العامل العشائري بوضوح خلال تشكّل فصائل المعارضة المسلحة، على الرغم من أهميته، ولأسباب كثيرة أبرزها سيطرة الخطاب الثوري الجامع في ذلك الوقت. ومع طول فترة الحرب بدأت الفصائل العسكرية تأخذ طابعًا عشائريًا أكثر وضوحًا كما حصل في تشكيل لواء القادسية والأحواز من عشيرة البكير، وكتيبة شهداء بدر وأحرار البكارة من عشيرة البكار، ولواء ابن القيم وجيش الأمة من عشيرة الشعيطات، إضافة إلى العديد من الفصائل الأخرى. وقد برز العامل العشائري بوضوح أكبر بعد أن فقد النظام السوري السيطرة على حقول النفط، لا سيما في محافظة دير الزور، حيث أصبح لكل مكون عشائري تقريبًا فصيل مسلّح تابع له، يشرف على آبار النفط المنتشرة في المحافظة ويديرها، فتوافَرَ عائدٌ مادي يشرف عليه الفصيل يذهب إلى أبناء العشيرة، وفق آلية معينة لتوزيعه. وفضلًا عن ذلك، برز العامل العشائري على نحو أكبر في الفترة التي تلت ظهور المجموعات الإسلامية، لا سيما جبهة النصرة، خصوصًا في ريف محافظة دير الزور الذي خرج أغلبه عن سيطرة النظام السوري في أواخر عام 2012، إضافة إلى تأثير التيار الجهادي القديم الذي تشكّل في المنطقة بعد غزو العراق وتدفق المقاتلين إليه بتسهيل من النظام السوري. وقد كانت دير الزور تمثل في تلك الفترة ممرًا للجهاديين الراغبين في الذهاب إلى القتال في العراق، وكانت بعض القرى تقيم مضافات للأمراء القادمين من العراق، نتيجةً للتداخل العشائري الكبير بين المناطق الغربية من العراق والشرقية من سورية، وكان لهذا الأمر أهميته لاحقًا عند ظهور جبهة النصرة في سورية.

أدت التحالفات والسياسات التي اتبعتها جبهة النصرة إلى بروز خصوم لها من مكونات عشائرية أخرى، وهو الأمر الذي استغله تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” في كسب بعض الموالين له من بين أبناء العشائر الذين قاتلتهم جبهة النصرة، ومن الأمثلة على ذلك عامر الرفدان من أبناء عشيرة البكير، الذي كان مبايعًا لجبهة النصرة قبل أن ينشق عنها ويعلن مبايعته لتنظيم داعش لاحقًا.

وقد اتبعت جبهة النصرة سياسات خاصة بها في نسج العلاقات مع المجتمع العشائري المحلي، باعتمادها في بعض الأحيان على عشائر مغمورة سمحت لها بالبروز في مقابل الحصول على بيعات تستفيد منها جبهة النصرة لتتوسع أكثر في المنطقة. وقد دفعت سياسات النصرة هذه إلى أن يبايع بعض القوى والفصائل تنظيم داعش، وكان أساس بعض هذه المبايعات وجود جذور لحساسيات عشائرية بين حلفاء للنصرة وخصومها.

وفي محافظة الحسكة، شكّلت مجموعة من عشيرة شمر مقرّبة من شيخ العشيرة حميدي الدهام الجربا، في أواخر عام 2013، فصيلًا عسكريًا سمّوه “جيش الكرامة”، اقتصرت مهمته أول الأمر على حماية قصر الجربا في قرية تل علو في ريف محافظة الحسكة، ثم تغير اسمه إلى “قوات الصناديد” يقوده ابنَا الشيخ الجربا، بندر والياور. وقد التزم الجربا الحياد في الصراع الدائر بين القوى المختلفة في منطقته، حيث إنه بقي محافظًا على علاقاته القوية بالنظام السوري وبالإيرانيين والروس، فزار دمشق وقاعدة حميميم في عام 2019، وفي الوقت نفسه حافظ على علاقة وثيقة بالقوات الكردية في محافظة الحسكة، حيث جرى تعيينه في منصب فخري أطلق عليه “الحاكم المشترك لمقاطعة الجزيرة”، ولكن “قوات الصناديد” قاتلت في مناطق مختلفة لدحر تنظيم داعش عن محافظة الحسكة. وشكّل السيد أحمد الجربا، أحد وجهاء عشيرة شمر، في عام 2016، جسمًا عسكريًا أطلق عليه “قوات النخبة”، إلا أنها بقيت محدودة التأثير، حيث حافظت على وجود شكلي في قرية تل مدفع جنوب الحسكة قبل أن تحدث فيها انشقاقات مختلفة.

بعد أن سيطر تنظيم داعش على المنطقة الشرقية، تعامل مع وجهاء العشائر بطريقة مرنة نوعًا ما، لا سيما في محافظتَي الرقة ودير الزور، وحاول تلبية بعض مطالبهم وأسّس ديوانًا لهم سماه “ديوان العشائر”، متجنبًا في ذلك مواجهة العشائر على نحو مباشر. ولعل تجربته في العراق كانت دائمًا ماثلة في ذهن قياداته، خصوصًا العراقيين منهم، بعد تشكيل “الصحوات” لمقاتلة التنظيم بدعم أميركي بين عامي 2006 و2008، ولكن التنظيم كان يستخدم في الوقت نفسه أقصى درجات العنف لقمع التمرد أو العصيان، ومثال ذلك المجزرة التي ارتكبها في حق أبناء عشيرة الشعيطات، إذ حاصر القرى التي تسكنها العشيرة (أبو حمام، وغرانيج، والكشكية) من جميع الجهات، بعد أن انتفضت ضده وقتلت بعض أمرائه وطردت آخرين، وأصدر التنظيم فتوى بقتل كل من “أنبت” من أهالي القرى واستباحة ممتلكاتهم، ما أدى إلى تهجيرهم فترة طويلة من الزمن.

ومع أن المكون العشائري بقي حاملًا اجتماعيًا مهمًا خلال أحداث الثورة السورية، فإنّ حالة التشظي المجتمعي التي أصابت المجتمع السوري تسري عليه أيضًا؛ فقد أدت الحرب وتبدّل مناطق السيطرة إلى تهجير أعداد كبيرة من أبناء العشائر، فأصبحت العشيرة الواحدة تتوزع على مناطق سيطرة مختلفة، ما سمح ببروز عدة وجهاء لها في مناطق مختلفة داخل سورية وخارجها، من قبيل أن نجد شيخًا لعشيرة ما في مناطق سيطرة النظام، وشيخًا لها في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، وآخر في تركيا، وغيره في دول الخليج، وناطقًا لها في دول المهجر، وهكذا، وربما يقتضي الوجود في مناطق مختلفة أن تكون لهم آراء وتوجهات سياسية مختلفة.

رابعًا: العشائر وقوات سوريا الديمقراطية: إمساك العصا من الوسط

ظهرت قوات سوريا الديمقراطية “قسد” – وهي تحالف ميليشيات كردية وعربية وسريانية وأرمنية وتركمانية أعلن عن تأسيسه في 10 تشرين الأول/ أكتوبر 2015 – في مدينة المالكية التابعة لمحافظة الحسكة بهدف طرد تنظيم داعش من محافظة الرقة ومن مناطق أخرى في شمال سورية وشرقها، بدعم أميركي.

وبعد دحر تنظيم داعش عام 2017، والقضاء على آخر معاقله في بلدة الباغوز عام 2019، سيطرت قسد على أغلب مناطق شرق الفرات، وكونها منطقة عشائرية بحتة، فقد حاولت قسد إقامة علاقات طيبة مع وجهاء العشائر. وحاول التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية الحفاظ على علاقات متينة أيضًا مع العشائر وإزالة أي توتر بينها وبين قسد، وتجلّى ذلك بوضوح بعد حادثة مقتل أحد أبرز شيوخ العكيدات، مطشر الهفل، في مناطق سيطرة قسد، لذلك عملت الولايات المتحدة على احتواء الموقف فاجتمعت مع بعض الوجهاء من عشائر المنطقة مباشرةً ووعدتهم بتحصيل حقوقهم وتنفيذ مطالبهم والاتفاق على عقد لقاءات دورية معهم. بناء عليه، تسعى الولايات المتحدة وقسد عبر تعاملها مع شيوخ العشائر، في منطقة شرق الفرات عامة وفي دير الزور خاصة، إلى الحفاظ على الاستقرار في المنطقة من خلال استمالة العشائر والتقرب منهم، حيث يلتقي مظلوم عبدي، قائد قوات قسد، مع شيوخ العشائر ووجهاء المنطقة من حين إلى آخر ليتشاور معهم حول قضايا مناطقهم. أضف إلى ذلك أن شيوخ العشائر مُنحوا هامشًا للتحرك ودعم وساطاتهم في مبادرات مختلفة، من ذلك إطلاق سراح الأسرى من مخيم الهول، والتوسط لدى قسد والتحالف في إطلاق سراح المعتقلين. وقد امتنعت قسد عن القيام بعمليات انتقامية، كما فعل النظام السوري والميليشيات الإيرانية؛ لذلك نجد أن مناطق سيطرة قسد مأهولة بالسكان أكثر من مناطق سيطرة النظام والميليشيات الإيرانية في المنطقة الشرقية من البلاد، علمًا أن الفساد مستشرٍ تمامًا في المؤسسات التي تشرف عليها قسد، ويحتجّ أهالي محافظة دير الزور، دائمًا، على حالتَي الفساد والأدلجة في التعليم.

وفي محافظة الرقة، تحاول قسد أن تحتوي المكون العشائري وتوحي بأنها مندمجة في المجتمع العشائري، لكنها تسعى في المقابل إلى منع ظهور أيّ مشروع عربي فاعل في المنطقة، من خلال تصدير بعض وجهاء العشائر الذين يعتمدون على دعمها من أجل سهولة فرض خطاب يناسب توجهاتها.

لكن، يشوب العلاقة بين قسد والمكون العشائري بعض التوتر من حين إلى آخر، كما حدث بعد حادثة اغتيال الشيخ بشير فيصل الهويدي، شيخ عشيرة العفادلة أكبر عشائر الرقة، حيث توجهت أصابع الاتهام في ذلك الوقت إلى قوات قسد التي تسيطر على المنطقة، ثم تبعتها حادثة اغتيال الشيخ عبيد خلف الحسان، شيخ عشيرة البوعساف الغربية إحدى أكبر عشائر ريف الرقة الشمالي، الذي كان له دور بارز في الثورة السورية من خلال تأسيس “جيش العشائر” الذي سعى لمحاربة تنظيم داعش، ويعتقد أهالي المنطقة أن قسد تقف وراء عملية الاغتيال.

خامسًا: العلاقة بالنظام السوري بعد سقوط داعش

حاول النظام السوري وحلفاؤه، بعد استعادة السيطرة على المناطق التي كان يسيطر عليها تنظيم داعش، الاعتماد على بعض وجهاء العشائر في حثّ أبناء مناطقهم على الانتساب إلى الميليشيات التابعة له، كالدفاع الوطني وغيرها. لكن دور العشائر ضعيف جدًا في المنطقة التي يسيطر عليها النظام السوري وحلفاؤه، والعلاقة قائمة على التبعية للنظام وموالاته لمصالح وامتيازات شخصية.

بدأ دور الميليشيات الإيرانية يظهر في دير الزور بوضوح، خاصة في مدينتي البوكمال والميادين، والتي تقع على الطريق البري بين العراق وسورية؛ لذلك حاولت إيران أن تستميل بعض وجهاء العشائر من خلال بثّ سردية مفادها أن أصل بعض العشائر يعود إلى آل البيت، كما هو الحال مع قبيلة المشاهدة في مدينة الميادين، حيث يؤدي حكمت المصطفى، وهو من أبناء هذه العشيرة، دورًا بارزًا في ذلك، وعبر إنشاء ميليشيا الباقر التي تنشط في الريف الغربي لمحافظة دير الزور في قرى الطابية وخشام ومراط وحطلة والحسينية، بإشراف نواف البشير الذي صالَح النظام بعد أن كان في صفوف المعارضة.

وقد عُقد مؤتمر للعشائر برعاية النظام في أواخر عام 2020، التقى خلاله ضباط في الحرس الثوري الإيراني بوجهاء من عشائر مختلفة من محافظة دير الزور، بهدف التحشيد العسكري وتشكيل قوات مسلحة من أبناء العشائر، على أن يقدّم الحرس الثوري الدعم العسكري والمادي.

وبذلت روسيا أيضًا مساعيَ حثيثة للتواصل مع وجهاء العشائر في المنطقة، حيث زار الشيخ حميدي الدهام الجربا قاعدة حميميم في عام 2019، في حين التقى ضباط روس بشيوخ عشائر بعد مؤتمر العشائر، وقالوا إنّ هدفهم هو “ضبط الأوضاع وإنهاء حالة الفوضى التي تعيشها المنطقة”. ويعتقد الروس أن مهادنة العشائر واستمالتها تجعلانهم بمنأى عن أي خطر قد يعترضهم خلال مرور أرتالهم العسكرية، لذلك كان هناك تواصل مع أحمد الجربا، رئيس “جبهة السلام والحرية”، بهدف مناقشة التحديات التي تواجه الروس في تلك المنطقة بناء على علاقاته الوثيقة بوجهاء العشائر في ريف دير الزور الشرقي والغربي، والهدف هو طمأنة أبناء العشائر هناك والحصول على بعض الضمانات بعدم مهاجمة المصالح الروسية. وقد التقى أحمد الجربا، في عام 2021 بوجهاء العشائر في دير الزور، لا سيما عشيرتَي العكيدات والبكارة، وذلك بعد زيارته موسكو في العام نفسه، وطَمْأنهم على أنّ هدف الروس استراتيجي ودوافعهم ليست انتقامية من أبناء المنطقة. ويعتقد بعضهم أن للروس القدرة على توفير الهامش لشيوخ العشائر، لتثبيت نفوذهم في تلك المنطقة، ولاعتقادهم أن أهالي المنطقة متخوّفون من الوجود الإيراني هناك ومن محاولات طهران العبث بالمجتمع المحلي، وهو ما دفع الروس إلى إرسال ضابط روسي رفيع المستوى للقاء شيوخ العشائر في ريف دير الزور الشرقي، في قرى حطلة ومراط ومظلوم والحسينية وخشام والطابية، في عام 2022.

سادسًا: الدور المستقبلي للعشائر

تعرّض المكون العشائري خلال سنوات الحرب لهزاتٍ عنيفة، أفقدته جزءًا أساسيًا من مصادر قوته يتمثّل في العنصر البشري، حيث خسرت المنطقة عددًا كبيرًا من أبنائها نتيجة القتل أو الاعتقال أو التهجير أو الاختفاء القسري، ما أدى إلى تفتت المكون العشائري وتشظّيه؛ وانقسمت بيوت المشيخة أقسامًا مختلفة تبعًا للتوجه السياسي الذي فرضته ظروف الحرب. ومع ذلك، بقي للمكون العشائري ثقله ووزنه الذي يمتاز به تاريخيًا، وهو ما يفسر رغبة أطراف كثيرة، محلية ودولية في استمالته؛ نظرًا إلى السلطة التي ما زال يتمتع بها شيوخ العشائر وقدرتهم على التأثير في مجتمعاتهم المحلية. لكن، تفتقد هذه المكونات العشائرية رؤية سياسية جامعة.

أما عن علاقة العشيرة بأطراف النزاع المختلفة في سورية فلا يزال الاهتمام بهذا المكون حاضرًا، وربما يحاول بعضهم التعويل عليه مستقبلًا؛ ففي مؤسسات المعارضة السياسية، على سبيل المثال، مرّ على رئاسة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية شخصيتان بارزتان عشائريًا، هما الشيخ سالم المسلط، الرئيس الحالي للائتلاف، والشيخ أحمد الجربا رئيس “جبهة السلام والحرية”، حيث يعتبر الأول أحد شيوخ عشيرة الجبور من محافظة الحسكة، والثاني من رموز عشيرة شمر من المحافظة نفسها، ما سمح لهما بمدّ علاقات قوية مع دول الخليج العربية نتيجة تقارب البيئة الاجتماعية والثقافية، فضلًا عن وجود جذور قبلية للعشيرتين فيها، إضافة إلى أن علاقاتهما قوية تاريخيًا بعائلة البرزاني شمال العراق بسبب العامل الجغرافي.

ويوجد تمثيل لمجلس العشائر والقبائل في الائتلاف، ومن هنا نجد اهتمام بعض الدول الإقليمية، لا سيما الفاعلة في الملف السوري، بالمكون العشائري للتعويل عليه مستقبلًا في أي استحقاقات سياسية قد تفرضها تطورات الصراع الدائر في سورية. كما عقد مجلس العشائر والقبائل عدة مؤتمرات في الشمال السوري في مناطق سيطرة المعارضة المسلحة المدعومة من تركيا، وأرسل رسائل سياسية مختلفة في مناسبات عديدة.

أخيرًا، تؤكد أدبيات النزاع أنّ الحروب الأهلية والصراعات المسلحة تعزز الهويات الفرعية بسبب غياب الدولة الوطنية الجامعة، لذا يمكن القول إن ما يجب العمل عليه مستقبلًا هو ضرورة وجود عقد اجتماعي متماسك يؤسس لهوية وطنية جامعة تستوعب الهويات الفرعية وتتفاعل معها بغرض تهذيبها. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى