سياسة

ثلاث أصوليات يبايعها اليساري الممانع/ دلال البزري

أفلح يساريو الممانعة أخيرا في تسويق طموحات الرئيس الروسي بوتين الإمبراطورية. بوستات، مقالات قصيرة، تحليلات “جيوستراتيجية”، دعوات إلى الانضمام إلى مجموعات “تحبّ بوتين”. وقد دخلتُ إلى واحدةٍ منها، حيث يحتل فيها بوتين موقع النجم بمختلف وقفاته وهندامه، عضلاته، رياضيته، النجوم والنياشين على صدره .. إلخ. وكلها تعبيراتٌ عن الإعجاب، والانبهار، والتأييد منقطع النظير لـ”العملية المحدودة”، النبيلة، الجبارة، “التي قام بها بوتين دفاعا عن روسيا ضد هجمات (الناتو)، ضد الإمبريالية الأميركية”.. ويَعْنون، بهذه الكلمات، الغزو العسكري لأوكرانيا أخيرا. وهم بذلك يكونون قد بايعوا أصوليتَين: قبل ذلك، الأصولية الإسلامية الشيعية المتمثلة في حزب الله وأقرانه، والتي تقاتل بإمرة الولي الفقيه و”الحرس الثوري”، تحت راية إقليمية عريضة تقودها إيران، دفاعاً عن تمدّدها العربي في سورية واليمن والعراق. ثم الأصولية البوتينية، التوسّعية أيضاً، الجامعة بين الكنيسة الأرثوذكسية الرسمية، والمجد القيصري الغابر، والحب المطلق لكل مظاهر الاستبداد السياسي، بل التفوّق على غيرها من الاستبداديات: أصولية محظوظة بإرثها السوفييتي، وقد عُرّفت بفضله “صديقة الشعوب، اشتراكية، محبّة للسلام ..” إلخ. مثل حظ الأصولية الشيعية بإرثها الخاص من استضعاف وتهميش ونصرة المهزومين في موقعة كربلاء.

يعاهد اليساري الممانع، العلماني، التقدّمي، هاتين الأصوليتين بدافع جوهري مُعلَن قوامه: العداء لأميركا، “الأنتي أميركية”، كأيقونة تفكير، كعصبية جامدة كالصخر، كمحور رصد وتفكير وتحليل. إنها عصبية تجمع بين المتناقضات: بين الصفة التقدّمية (والسلمية والعلمانية) والولاء الواعي لحزب أصولي إسلامي رجعي، ظلامي ومعاد للحداثة وللحرية. وفوقه الولاء، الذي لا يقلّ وعياً، لدولة توسّعية، عدوانية، لا تتوقف الآن عن وضع طموحاتها الإمبريالية على محكّ التطبيق. ولاءان غير مستَتِرَين، يسبحان على سجيّتهما في الفضاء التواصلي على أنغام الاجتياح الروسي لأوكرانيا.

أما الأصولية الثالثة، فلا انضمام علنيا إلى محورها، ولا تسويق. ربما لأنها “غربية”، ربما لأنها مُخْجلة، ولكنها، في النهاية، منسجمة مع الخط الممانع. وقد برزت، أخيرا، عشية الاجتياح الروسي لأوكرانيا: إنها أحزاب اليمين الأوروبي المتطرّف. والمُخْجل في الموضوع أن هذه الأحزاب عنصرية وكارهة لكل ألوان الشرق. وهذا منصوصٌ عليه في مواثيقها. فلا يمكن أن تلتقي مع مواثيق اليسار الممانع، رافع شعارات ضد “الرجل الأبيض”. بعد هذا: التقاء اليمين المتطرّف مع يسار ما، حول مسائل بهذه المصيرية، يلغي تسمية “يسار” من أصله، إذ لم ينوجد اليسار إلا بوجه اليمين.

هنا عيّنة من هذا اليمين: أولهم رئيس جمهورية هنغاريا فيكتور أوربان، زعيم حزب “فيدس” المتطرّف، المعادي للمهاجرين، العنصري، صديق بوتين، وداعمه من دون تلويْنات، والخارج عن الإجماع الأوروبي الرسمي. يليه الإيطالي ماتيو سافيني، كثير الثرثرة عن علاقته ببوتين، وزير الداخلية، ونائب رئيس مجلس الوزراء، ورئيس حزب “عصبة الشمال”، اليميني، العنصري، المتطرّف. تعبيرات الصداقة الحميمة بينه وبين بوتين لا تنْضب. يستقبله خارج الالتزامات البروتوكولية، يتبادل معه المصالح، ينشط مندوبو حزبه أكثر من غيرهم في المؤتمرات الروسية.

مع زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية مارين لوبان العلاقة توازيها دعماً. في الانتخابات الرئاسية الماضية، أرسل إليها المال، اجتمعت به، وقال لها جملة تستحق الذكر: “أعلم أنكم تمثلون شبحاً سياسياً في أوروبا ينمو بسرعة”.. ناسخاً بذلك الجملة الأولى التي كتبها ماركس وإنجلز في بيانهما الشيوعي: “شبحٌ يخيّم على أوروبا: إنه شبح الشيوعية”. ولكنه بدل “الشيوعية” التي أخافت أوروبا منذ أكثر من قرن ونصف القرن من قوة الشيوعية الصاعدة، صار اليمين باسم وريثها، بوتين، هو المطلوب منه الانتصار. بالموازاة، كان الجيش الروسي يطلق وسْما على مواقعه: # أصوِّت لمارين لوبان، في تلك الانتخابات الرئاسية الفرنسية الماضية.

هذا ناهيك عن “صداقات” بوتين مع أحزاب أخرى من اليمين الأوروبي المتطرّف. مثل علاقته بكارين كنيسل، إحدى قيادات حزب حرية النمسا، اليميني، المعروف بحملاته ضد اللاجئين والغرباء. إذ يشاركها بوتين الرقص في حفل زواجها، و”كأنه جزء من العائلة”.. بابتساماتٍ وسعادة لا يألفها وجهه عادة. أو رئيسة حزب “البديل من أجل ألمانيا” فروك بيتري، التي، بعد الدخول الأول لحزبها إلى البرلمان الألماني، طارت إلى موسكو، لتلتقي بمسؤولي الكرملين ورجالاته. وغيرها وغيرها من الأحزاب الأوروبية اليمينية، النازية، العنصرية، اللاسامية، الكارهة “الأجانب”، البازغة الآن، من أحزاب أوروبية شمالية أو أخرى سلافية..

وينسج بوتين علاقاته بهذه الأحزاب بخيوطٍ إضافية، مفيدة: إنها مدعومة مالياً، بمبالغ قليلاً ما يُفصح عنها. ولكن يمكنكَ أن تفهم أن المدعو كوستانتين مالوفيف، الأوليغاركي الروسي الأكثر من “برجوازي”، سارق مليارات الموارد الروسية، مسخرها في خدمة بوتين .. هذا الأوليغاركي، هو الوسيط بين بوتين ومختلف هذه التشكيلات والشخصيات اليمينية المتطرّفة في أوروبا، وهو منظّم “المؤتمرات” والندوات التي تجمعها في قلب الدوما وممولها. وأشهر هذه المؤتمرات “المؤتمر العالمي لأحزاب السلام”. وهو الاسم نفسه الذي أُعطي لمؤتمر الأحزاب الشيوعية عام 1973. وكأنك أمام نوع من “الكومنترن”، ولكن بالمقلوب. “الكومنترن” القديم كان يضم الأحزاب الشيوعية، التقدّمية، العالمثالثية، المحبّة للسلام. أما “الكومنترن” الجديد، فكما نرى، يضم نقيض هذه الأحزاب على كل المستويات.

أيضا، ما يضفي المرارة على الأيام “الخوالي”: في الساحة الحمراء الجديدة، والاحتفالات بمرور سبعين عاماً على نهاية الحرب العالمية الثانية، أي بعد عام على الاجتياح الروسي لحوض الدونباس الأوكراني، بفضل مليشياته، كان يقف على منصّة الساحة الحمراء ممثلون لأحزاب اليمين الأوروبي المتطرّف، فيما غاب عنها كل قادة الدول الأوروبية. من بقوا على قيد الحياة، في وسعهم تذكّر الأسماء التي وقفت على هذه المنصّة الحمراء أيام السوفييت الأصدقاء..

هذا كله حصل بعدما هنْدس بوتين مجزرة غروزني (الشيشان)، وتوسّع في جورجيا، وأنشأ فيها “محافظتين” تابعتين له، وأجهض ثورة الميدان الأوكرانية، واحتلّ حوض الدونباس الأوكراني. هذا من دون حساب مشاركته بشار الأسد في احتلال سورية وقتل شعبها. أي أن “التقارب” البوتيني اليميني قد جرى بعدما كشّر الثاني عن شيءٍ من أنيابه، وأشهرَ نزعته التوسعية الإمبراطورية. وكان تعليق ماتيو سالفيني، الإيطالي، وقتها: “علاقتنا مع روسيا اقتصادية، ولكنها أيضا مرتبطة بالثقافة.. بوتين أعلن أن نيته هي حماية الهويات الوطنية، ونحن متفقون معه”.

أما الآن، بعد الاجتياح الروسي لأوكرانيا، فإن اليمين المتطرّف يراجع حساباته، ومعظمها انتخابي، يخفّض صوته الروسي.. حتى تمرّ العاصفة. ولكن ما الذي يجمع بين بوتين وهذه الأحزاب؟ بين السطح والعمق: خطابه القومي المتشدّد، دفاعه عن “القيم المسيحية”، حملاته الإعلامية المتواصلة ضد وصول المهاجرين من الشرق الأوسط وأفريقيا، احتقاره المؤسسات الديمقراطية، وكراهيته المثليين. فيما القاعدة الثابتة، العابرة كل شيء، قوامها: العداء المطلق لأميركا، الأنتي أميركية على أشكالها وتحوّلاتها وتموّجاتها .. أميركا بصفتها الإمبريالية الأبدية.

ما هي الإمبريالية؟ هي استراتيجية وعقيدة قائمة على الفتح والغزو، وترمي إلى تشكيل إمبراطورية، أو هيمنة على الشعوب أو الدول غير القادرة على حماية نفسها، وتُرفَق عادة بادّعاء مهمة حضارية وقيم ونماذج. وبهذا التعريف، لا تقتصر الإمبريالية على الأميركيين، تاريخياً. فقد سبقها الفرنسيون والإنكليز، الرومان والفرس والعرب. وكان “أعظم” الإمبرياليين إسكندر المقدوني، صاحب الرسالة الحضارية الهيلينية (اليونانية القديمة). والذي غزا وقتلَ ونهبَ وأحرقَ على مساحات امتدّت من اليونان إلى الهند. أو نابليون، أو المغول .. إلخ.

لا تقتصر الإمبريالية على الأميركيين، لا تاريخياً، ولا جغرافياً. فالتنافس الآن قائم بينها وبين الإمبريالية الروسية المتورِّطة، والإمبريالية الصينية التي تبني غزواتها طوبةً فوق طوبة، بمهارة النمور البرّية ورشاقتها، فيما الإمبريالية الروسية، مثل الدبّ: شرسة ومستعجلة. والاثنتان إمبريالياتان. الأولى بالتخطيط الحثيث والثانية بالمغامرات العسكرية، فنعيش ضمن ديناميكية ثلاث إمبرياليات .. لا واحدة بعينها. وكل واحدة منها تقدّم للبشرية شراً من شرور إمبرياليتها..

تغيّر وجه العالم. للأسف أو لحسن الحظ؟ من يعلم؟ ومن أوجه هذا التغيّر أن مفردة “يساري” مهدّدة بفقدان معناها. ثلاث ولاءات لأطرافٍ هي بالتعريف على نقيض الفكرة اليسارية الأولى، التائقة إلى العدالة والحرية والتقدّم. فإما أن يراجع هذا اليساري معناه، إذا أحبّ أن يبقى “يسارياً”، أو أن يُصاب هذا المعنى بالفراغ الذي لا تحبّه الطبيعة، فيحتله العنف والعنصرية والظلم، والظلاميتان الدينية والزمنية.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى