منوعات

عن عمارة زها حديد.. انعتاقٌ انسيابيٌّ عابرٌ للحضارات/ محمد جميل خضر

لا يحتاج منجز المعمارية العراقية/ البريطانية زها حديد (1950 ـ 2016) لمناسبةٍ بعينها كي يجري تسليط الضوء عليه، وإعادة تأمّله من زوايا جديدة، رغم ما ناله منجزها اللافت من اهتمام ومتابعة، وما انتزعه من احترامٍ عالميٍّ صاخب.

خَدْشُ السديم بأثرٍ لا يموت، كان هاجس الموصليّة البغداديّة التي طوّعت الحديد، لتصبح اسمًا على مسمّى، ولتجعله عنوانها في زهاء 1000 تصميمٍ معماريٍّ كادت أن توقّع عليها قبل أن يداهمها الرحيل وهي في ميعان العطاء، فإذا بعدّاد ما أنجزته يتوقّف عند الرقم (950) في 44 دولة حول العالم.

تطويعُ الكتلةِ الصلبة. تغييرُ وظيفةِ الفضاء. تكسيرُ الحجوم. تحريرُ العمارةِ من الجندريةِ السّادرة. الإحساسُ الوجدانيُّ بالمساحة. البحثُ عن الانسيابيةِ في الشكلِ والمحتوى. الانعتاقُ الفذُّ من الجاذبية. إعادةُ تعريفِ ما بعد الحداثة. مغازلةُ التفكيكيةِ من زوايا مدهشة. صُنْعُ المفاجآتِ غيرِ المتوقّعة. إعادةُ تعريفِ علاقةِ المعماريِّ بِمحيطه. تحويلُ الأثرِ إلى بصمة دامغة. بعثُ طمأنينةٍ بصريةٍ مُشعّة. جميعُها، وغيرُها، بعضُ سِماتِ عِمارةِ زَها حديد.

السومريّة

السومريّة في مسيرةِ زَها حديد تجلّت ليست بوصفها تاريخًا مدرسيًّا جامدَ الحروف، بل بوصفها شامةً طالعةً من جيناتِ أبناءِ ما بيْن النهريْن.

وبالتالي تصبح السومريّةُ شلالًا من الشواهد الذي تدفق، وهي ما تزال طفلة تجري في مساحات العراق، داخل أوردة زها.

تقول زَها في لقاء أجرته معها ذات مرّة صحيفة “الغارديان”: “اصطحبنا أبي لزيارة المدن السومرية، وقد ذهبنا بالقارب، وبعدها استكملنا بقارب أصغر مصنوع من حُزَم القصب. ظل جَمال المناظر الطبيعية هناك، من رمال، وماء، وطيور، ومبان وأناس، عالقًا في ذاكرتي منذ تلك اللحظة. أنا أحاول اكتشاف، أو اختراع، طراز معماريٍّ وأشكال من التخطيط العمرانيِّ يكون لها التأثير نفسه، ولكن بصورةٍ أكثر عصرية”.

دفقٌ من الأصالةِ المعاصِرة، إن جاز هذا التوصيف لِما ظلّ يجري في أوردتها وشرايينها تلاحقه ويلاحقها من منجزٍ إلى آخر. وأمّا الجريان فليس حدثًا من دون معنى عند من اخترعوا الدولاب. وأمّا الدّفق فهو ما يفعله الحرّاثون حين ينكبّون على أرض وجودهم ينبتون الزرع ويشيعون الخضرة، ويقنّون لِماء بلادهم القنوات، ويصنعون في “أوروك”، و”إريدو”، وبعدهما في مدنِ “أور”، و”لارسا”، و”إيسِن”، و”أداب”، و”لكش”، و”نيبور”، و”كيش”، و”كولا” (أو كُلاب)، الأثر الذي لا يموت، وهو تمامًا ما بات يشغل الحفيدة حتى ترجّلها من دون أن تترجّل آثارها هاتفةً: “تلك آثارنا تدلّ علينا”.

تصاهر الحديد وانصهاره

لم تكتفِ الحفيدةُ السومريّة بما علِقَ في ذاكرتها من رمالٍ وماءٍ وطيورٍ ومبانٍ وناس، فهذه وصور غيرها مثل الصور المتدفقة من مدرسة الراهبات، حيث تلقّت علومها الأولى، ودرسها الأول حول مفهوم الوطن الفاتح ذراعيه لأبنائه جميعهم على اختلاف دياناتهم ومعتقداتهم وطوائفهم وإثنياتهم، وجدت لها مكانها ومكامنها داخل غرف خيالها الذي تحوّل لاحقًا إلى تصاميم معمارية غير مسبوقة، بإقرار معظم مجايليها من المعماريين في شتى بقاع المعمورة.

وتمامًا، مثلما انشغل “عصر النهضة السومريّ” (2112 ـ 2004 ق.م)، الذي عُرف، إلى ذلك، باسم “حقبة أور الثالثة”، نسبةً إلى سلالة مدينة أور الثالثة، بالريادة وقصة أن يكون الأول في كل شيء: أول مدرسة، أول أمثال ضُربت وأقوال قيلت، أول مسيح، أول نوح وقصة طوفان، أول أغنية حب، أول حوض سمك، أول سابقة قانونية في قضايا المحاكم، أول قصة موت إلهٍ وبعثه، أول قصائد جنائزية، أول متوازيات توراتية، وأول أفكار أخلاقية، كما يورد الباحث صامويل كريمر في كتابه “التاريخ يبدأ من سومر” معدّدًا 39 ريادة و(لقب أولٍ) في فترة زهو الحضارة السومرية، انشغلت زها بالريادة على طريقتها.

بأسُ الحديدِ ومنافعُه

لم يتجرّأ، لعلّه، واحد من بني البشر على الحديد، كما فعلت زَها حديد، كما لو أنها شرعت في تطويعه ومعه الخرسانة بنوعيْها العادية والمسلّحة، وهي مسكونة بالآية العاشرة من سورة “سبأ”: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ}.

وبحسب تفسير الطبري، فإن معنى “ألنّا له الحديد”، أي أن الحديد كان في يده كالطين المبلول يصرفه في يده كيف يشاء بغير إدخال نار ولا ضرب بحديد. وهو ما قال به بشر الذي ثنا على قول يزيد عن سعيد عن قتادة، رائين جميعهم أن: “ألنّا له الحديد” أي سخّر الله له الحديد بغير نار، يسوّيها بيده، ولا يدخلها نارًا، ولا يضربها بحديدة. يبدو أن ما منحه الرب لداوود من نِعم، انتقل بفعل الأثر الذي أسلفنا حوله سابقًا، فإذا به يسكن وجدان زها، ويشغل العبقر المعماريّ الذي كانت تمتح منه، فإذا بها تروّض الحديد، وتليّن صلابته من دون أن تمحوها تمامًا، منجزة مشاريع معمارية كبرى تبدو للعيان ناعمة، ولكنها، في الوقت نفسه، متينة لا يختلف اثنان حول رسوخ تموْضعها في حالةِ وصولِ القوى المؤثرة عليها إلى صفرِ سكونِ غلبةِ أحدها على الآخر، محوّلة “علم الأجسام الساكنة”، أو “علم السكون”، أو “السكونيات” Statics، إلى فرجةٍ مبهرةٍ تكاد تقترب من سراب الرؤية المحلّقة في مباهج الرؤيا.

آية أخرى يبدو أنها كانت تشغل بال زها، إنها الآية 25 من سورة “الحديد”: “لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ”، فبين بأس الحديد ومنافعه، صاغت الحاصلة على عشرات الجوائز خلال مسيرة حافلة بدأتها في بغداد وصولًا إلى بيروت، ثم لندن، ثم روتردام الهولندية، نحو، بعد ذلك، جهات العالم الأربع، عمارتها، ناقلة تصاميمها من مرحلة الخيال على الورق، إلى حقائق نابضة بفتنةٍ لا تشبه غيرها. إنها المسافة المبتكرة التي تسنّى للحفيدة السومرية وهي تبحر في مركبٍ صنعه أجدادها رواد الملاحة، أن تحدث فيها فارقًا صار يحمل اسمها “التصميم الحديدي” Hadidian. فمن أي صخور سومرية صعبة المراس طلعت زها، حاملة كل هذا العِناد والإصرار والتحدي، وبأيِّ حساباتٍ مقدّسةٍ جعلت المربعَ الذهبيَّ أضحوكة أمام شموخ مبانٍ رسمت حدودًا جديدة لِعلاقة الكتلة بالفراغ.

نِسَبٌ مُسْتشرفة

على هامش افتتاح معرض سيربنتين ساكلر/ serpentine sackler، الذي أقيم نهاية عام 2016 (عام رحيلها) في لندن متضمّنًا لوحاتٍ لأعمال زها حديد، وكُتُبَ الرسم الخاصة بها بخط يدها، قال مدير المعرض، هانز أوليرش أوبريست، الذي عمل مع حديد لأكثر من 20 عامًا، إن كثيرًا من أعمال زها حديد “تعكس توقّعاتها حول العصر الرقميّ التي تبنّتها قبل الحاسوب بزمنٍ طويل”، ووصف صندوق ملاحظاتها أنه “بطارية هائلة الطاقة، وهو بمثابة اكتشاف لا يصدّق”. أما الفنان والمعماريّ الهولنديّ، ريم كولهاس (1944) أحد معلميها الأوائل، فقد قال في حفل تأبينها في كاتدرائية سانت بول اللندنية “إن زها نجحت، بكيميائها الخاص، من تحويل مواد بنائية تعود لخمسين عامًا ماضية، إلى لغةٍ معماريةٍ خاصةٍ بالقرن الواحد والعشرين”.

إنها، على ما يبدو، النِّسَبُ الطالعةُ من روحٍ متوقّدة الاستشراف، متطلّعةً بشغفٍ نحْو ما هو خلف أكمة الزمن المتعيّن في الحاضر، نحو حدائق المستقبل، وما يَعِدُ به غدًا من جديدٍ وغريبٍ ومخضّبٍ بِحبال النُّور.

بالهالةِ الأسطوريةِ المشعّةِ حولها، كما ترى الفنانة والمعمارية الهولندية، ماديلون فريسندروب، قرأت زها طالع فنون العمارة، وقادت التصاميم منذ بداية توهجها مطالع تسعينيات القرن الماضي، رغمًا عنها، وعن حديدها وتمنّعها، نحو آفاق البعيد الذي لم يبلغه العالم بعد. إنها نِسَبُ الاستشراف وهي تتفوّق على النسبة الذهبية المقدّسة Golden Ratio (1.61803398875)، وتتحرّر من حدودها وقيودها، نحو آفاق أرحب، ولكنها أعمق، مقترحة، على ما يبدو، حوارًا جديدًا بين العمارة وباقي تجليات الفنون، ليس بدءًا بتصميم الأزياء وجماليات الموضة، ولا انتهاء بفنون تصميم الأثاث والحفر فوق الخشب.

فإذا كانت النسبة الذهبية تريد أن تصل بنا إلى فكرة مفادها أن “التناسب هو أكبر أسرار الجَمال”، فإن نسب زها حديد وتناسباتها وتناغماتها شكّلت هداياها المعمارية الموسمية المتلاحقة لتحقيق مقولة إن الريادية الابتكارية هي أجرأ مقاييس الجَمال.

فإذا كانت النسبة الذهبية قد لمعت في معظم حقول الفن، ووجدت لها مكانًا داخل لوحة دافنشي الخالدة “العشاء الأخير”، فإن معادلات زها حديد طالعة من لحظة زواجٍ مقدّس بين عناوين ثلاثة: القلب والعقل والوجدان.

خصائص وآفاق

في مقاله المعنوَن “زها حديد.. منعطف حاد في تاريخ العمارة المعاصرة”، والمنشور بتاريخ التاسع من يونيو/ حزيران 2017، في موقع “آرت بريس”، يورد الناقد التشكيليّ المغربي المراكشيّ، محمد خصيب، ما يراه أهم خصائص عمارة زها الحديد:

ـ الخروج عن المألوف بالتحرّر من جميع القيود التي أصبحت تعد أكاديمية، واقتراح حلول معمارية تتسم بالطلاقة الإبداعية.

ـ البعد عن التخطيطات الأفقية والرأسـية والزوايا المتعارف عليها في التصميم.

ـ تفكيك أجزاء المنشأ وإعطاؤه صورة ديناميكية تتحدى الجاذبية الأرضية.

ـ وضع الكتل في البعد الثالث بزوايا وميول غير مستقرة تعطى المبنى إحساسًا دائمًا بالحركة والديناميكية.

ـ خلق حيزات منتظمـةٍ وظيفيًا رغم عدم استقرار التشكيل الديناميكي الداخلي لكتلة المبنى.

ـ البعد عن التماثل والاتساق.

ـ استخدام أحدث خامات مواد البناء.

ـ إخفاء العناصر الإنشائية للمبنى، فيظهر من الخارج بصورة تشكيلية قوية تثير الحيرة في نفس المشاهد حول كيفية استقراره.

ـ الاستخدام الأمثل للحاسوب كوسيلة تصميم وليس للرسم فقط.

ـ استغلال التكنولوجيات الحديثة في حساب الأحمال الإنشائية الواقعة على المبنى وكيفية وضْعِ حلولٍ مبتكرةٍ لها.

بِسمات عمارتها التي لا تشبه سواها (من دون إنكار تأثرها بالشكلانيين الروس، وإعجابها بعمارة البرازيلي أوسكار نيميير/ Oscar Niemeyer (1907 ـ 2012))، وبجيناتها جليّةِ الملامح السومرية، وبتنسّكها خدمةً لفنّها (زها لم تتزوّج)، وبخيالها الخصب الولود، أنجزت زها حديد بصرامةٍ آسرةِ اللّين أعمالًا معمارية خالدة، يكفي أن نذكر منها: محطة قطار ستراسبورج في ألمانيا (1998 ـ 2001)، قاعة العقل بقبة الألفية في لندن (2000)، دار أوبرا غوانزو في الصين (2003 ـ 2010)، مركز الألعاب المائية في لندن (2011)، استاد الوكرة “اللؤلؤة” في قطر (2019) ومئات غيرها، وفتحت في عالم العمارة أفقًا يصعب أن يغلقه أحد بعدها حول ضرورة الريادة، وأسبقية الفرادة، محلّقة، حتى بعد رحيلها، في فضاءات معراج انعتاقها الخاص، بانسيابيةٍ عابرةٍ لِلحضارات والقارات.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى