نقد ومقالات

رحيل برنار نويل: شاعرٌ لمسَ الهواء

قبل خمسة أشهر، أصدر الشاعر الفرنسي برنار نويل، الذي رحل أمس الثلاثاء عن عالِمنا، كتابَه الأخير: “لمْسة هوائية”، الذي يواصل فيه حواراً مستمرّاً منذ نحو ستّين عاماً مع الفنّ والفنّانين. يضمّ العمل قصائد لنويل تُجاور لوحات أشجارٍ وضعها برنار مونينو، وكان يُرسلها إلى الشاعر بشكل يومي، طيلة أيام الحجْر الصحّي الذي عاشته فرنسا ربيع العام الماضي.

هكذا، أثمر العمل 57 قصيدةً ومثلها من اللوحات، في مُجاورةٍ لا تلعب القصيدة دور التعليق أو الشرح فيها، بل تمثّل امتداداً بالكلمات لما بدأته خطوط الرسّام. في إحدى قصائد الكتاب، يكتب نويل (1930 ــ 2021) مخاطباً واحدة من أشجار مونينو: “لا تَخْضَرِّين، بل تدفعين الأخضر إلى أغصانك؛ تتنفّسه نظرتي فيخضرُّ المكان. ذلك هو حوارُنا: تعلّمينني لمس الهواء”.

لم تكن سنوات الشاعر التسعين، والظروف الصحّيّة التي كانت (وما زالت) تعيشها فرنسا، وكذلك العالَم، عائقاً أمام استكماله مشاريعه الكتابية وحواراته مع فنانين وكتّاب، وهو الذي ظلّت القصيدة والكلمات تجري في عروقه حتى أيامه الأخيرة. بل إنّ شهوره الأخيرة شهدت إنتاجه أعمالاً أخرى، كمقدّماتٍ لكُتُب أو مراجعات لأُخرى.

لكنّ من أكثر إصداراته الأخيرة دلالةً، إذا ما نظرنا إليها في سياق تجربته الطويلة والغنية، إصدارُه، صيفَ 2020، قِسماً من مراسلاته مع الكاتب والمفكّر ميشيل سوريا، يتناولان فيه مسألة الثورات. وقد حمل الكتاب، الذي ضمّ رسائل تبادلاها بين عامي 1991 و2019، عنوانَ “عن قليلٍ من الثورة”.

يقول هذان الكِتابان، “لمسة هوائية” و”عن قليل من الثورة”، الصادران خلال مدّة من الزمن لم تتجاوز أربعة أشهر، الكثير عن تجربة نويل، هذا الشاعر الذي لم تكن القصيدة تعني، بالنسبة إليه، برزخاً يفصله عن الواقع ويحميهم من أسئلته السياسية والأخلاقية. منذ بداياته وخطّا الشعر والالتزام السياسي يمثّلان سكّةً واحدة تقود تجربته: سكّة لا يمكن فصْل الجمال والقول الشعريّ فيها عن موقف أخلاقي وسياسي ينقد الظلم ويطالب بالعدْل وبحقوق من تُهضَم حقوقهم.

وليس غريباً، والحال هذا، أن يكون برنار نويل من الأصوات التي لم تُخفِضْ يوماً نبرتها في الدفاع عن القضية الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني، وفي الانتصار لقضايا العالَم العربي العادلة، وهو الذي كان قِسمٌ كبير من صداقاته وسنوات عمره مرتبطاً بهذه المساحة من الكوكب، التي اكتشفها شابّاً خلال دفاعه عن حقوق الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي، ثم زادت معرفته بها في زياراته إلى بلدان أحبّها وصادق بعضاً من ناسها وشعرائها وفنّانيها، مثل المغرب وسورية.

في زيارة له إلى الدوحة، عام 2004، على هامش تصوير فيلمٍ كان مشاركاً في كتابة نصِّه، قال نويل لصحيفة “الدستور” الأردنية إنه يعتبر نفسه فلسطينياً، وإنه يقتسم مع أبناء وطنه الثاني هذا، فلسطين، أحاسيس الظلم والقهر والرغبة في الثورة. لم يكن هذا الكلام مجرّد حماسةٍ عابرة، بل تعبيراً عن موقفٍ إنساني وأخلاقي ظلّ الشاعر الراحل ملتزماً به طيلة تجربته. تجربة يمكن وصفها بالحِوارية، إذ لم يتوقّف الشاعر ليس عن الحوار مع فنّانين وكتّاب آخرين، بل أيضاً مع ثقافات وأسماء تنتمي لها، وهذه ما فعله في علاقته بالعالَم العربي، الذي كتبه عنه ومن أجله، وقدّم عدداً من كتّابه إلى القرّاء الفرنسيين، ودافع عن قضاياه.

في المقابل، حظي الشاعر الراحل بضيافةٍ مثيلة عربياً، حيث يُعَدّ واحداً من أكثر الشعراء الفرنسيين ترجمةً. ولا تضمّ المكتبة العربية ترجمات لعددٍ من مجموعاته وأعماله الشعرية فحسب، بل وكذلك نصوصاً فكرية، ومقالات سياسية ونقدية. ويعود فضل أساسي، في هذا، إلى الشاعر المغربي محمد بنيس، الذي ترجم له عناوين مثل “هسيس الهواء: أعمال شعرية” (1998)، و”كتاب النسيان” (2013)، و”طريق المداد” (2014)، و”الموجز في الإهانة” (2017). كما عُرِّبت لنويل أعمالٌ أخرى، مثل “لسان آنَّا”، بترجمة بشير السباعي، و”تناذر غرامشي” الذي ترجمته ميساء سيوفي، إضافة إلى كتاب عن الفنان البلجيكي رينيه ماغريت، ترجمه رفعت سلام.

برحيل برنار نويل، تفقد القصيدة الفرنسية المعاصرة واحداً من أبرز أصواتها، حيث كان صاحب “كتابة البحر” من الأسماء التي استطاعت بناء مساحة خاصّة بها على خريطة الشعر الفرنكفوني؛ مساحةٌ تتألّف من أكثر من خمسين عملاً بين شعر ومقالة ورواية وكتاب عن الفن.

ضفة ثالثة

————————————-

عباس بيضون في وداع برنار نويل

برنار نويل نعاه لنا فاروق مردم بيك. منذ سنين لا أعرف شيئاً عن برنار إلا أنه حي، فنحن لم نقرأ نعياً له والآن يصلنا خبر وفاته. برنار هو اليوم أكبر شاعر فرنسي، وانا أكاد أجزم أنه سيبقى دائماً من الكبار. كانت أول صلتي ببرنار دعوة من المركز الثقافي الفرنسي في دمشق لتقديمه. كان آنذاك في سوريا بدعوة من المركز. نزلت في الفندق ذاته الذي نزل فيه، وكانت هذه مناسبة للتعرف عليه، هو الشاعر الذي كنت تعرفت عليه وقرأت بإعجاب احدى اجمل مجموعاته، التي ترجمت اولى قصائدها الطويلة. لم أجد صعوبة في ذلك فقد كانت على نحو ما تصدر في العربية عن اللغة التي يصدر منها شعري، لذا ترجمت القصيدة وكإنني أعيد كتابتها أو أكتبها لنفسي.

أتيح لي أن أتعرّف على برنار الذي أحسست انني شريك في معركته في الشعر وفي الحياة.  اختارني بعدها لأكون مدعواً معه الى الدوحة التي  يزورها مع وفد لتحقيق فيلم كتب هو سيناريوه، وقبلت قطر، في شخص زوجة أميرها، أن تموّل إخراجه. لا أعرف ماذا حدث له اذ لم اسمع به بعدها. آخر لقاء لي ببرنار حين دعيت الى باريس لقراءة شعرية. أذكر أني حضرت، لكن تأخر الإلقاء، وفهمت متفاجئاً ان ذلك حدث في انتظر برنار الآتي من خارج باريس حيث يقيم، وقد حضر وكانت مفاجأتي الجميلة أنه حضر لتقديمي. برنار الشاعر الروائي المفكر، أنجز كثيراً وقد يكون مهماً أن نستمع إلى رأيه في الشعر، هو الذي كان شعره ونقده مع جمالية غير محلاة وغير جزلة او فصيحة، مادية وقاسية، متشظية وجسدية.

كان برنار للعجب محتفياً بثانوية الشعر وخفوته، إذ أن ذلك يخرجه من سوق الأدب ويعفيه من المباراة ومن الخضوع لشروط الرواج أو الربح. آراء برنار السياسية كانت أيضاً خاصة، فالرجل كان مع المهانين والخاسرين، وبالطبع كانت فلسطين والفلسطينيون في قلب هؤلاء. كان نعي فاروق لبرنار حقيقياً ومجروحاً. يستحق برنار أن يكون لغيابه كل هذا الصدى.

وداعاً برنار….

(*) مدونة نشرها الشاعر والروائي اللبناني عباس بيضون في صفحته الفايسبوكية.

—————————–

وداعًا برنار نويل: ذلك الجرحُ الغائر في أجسادنا/ أشرف الحساني

من منا لم تستبد به الدهشة ويصاب بنوعٍ من الجنون وتجتاحه رغبة الخوف في آنٍ واحد، للعزوف عن الكتابة، وهو يقرأ بنهمٍ ذلك العمق الخفيّ والآسر، الذي تنضح به في صمتٍ كتابات الشاعر الفرنسي برنار نويل (1930- 2021).

كلماتٌ صغيرة مرصّعة بعناية تستكنه سراديب الجسد وجرحه، إنّه يكتب كيْ لا يقول شيئًا، بياضاتٌ مُخيفة وفقرٌ مدقع، يجعل نصوصه الشعريّة تتنصّل من الأسلوب التقريري النثري، الذي بات يُهيمن على الشعر، بحيث أنّ القارئ لا يكاد يعثر على الشعر داخل بعض الأعمال، التي تصدر اليوم عربيًا وفرنسيًا على شكل مجلّدات. أما برنار نويل، فهو غير معني بسوق الأدب وبهذا الإطناب البلاغي والتدريب الإنشائي، الذي يجعل الشعر يتمنّع وينفلت لحظة الكتابة من صاحبه، خاصّة وأنّه لم تستهوه المركزيّة الشعريّة الفرنسيّة، وإنّما ظلّ يعيش في هامشها/ مركزها ببيته الريفي الذي فيه ترعرع مع جده وجدته، يأبى أنْ يُغادره، جاعلًا من “القصيدة” عزلته ومنفاه ومثواه الأخير.

ورغم المكانة الكبيرة، التي وصل إليها الشاعر برنار نويل، باعتباره من كبار الشعراء في النصف الثاني من القرن العشرين، ليس في فرنسا فقط، وإنّما في العالم ككلّ، فإن أهميّته بدت بارزة وكبيرة داخل الشعر الفرنسي منذ بداياته، بعد أنْ تخلّى عن دراسة الصحافة في الجامعات الباريسية وانكبّ على قراءة الأدب والكتابة فيه شعرًا ورواية ونقدًا وعيش حياة بدت مستحيلة إبان خمسينيات القرن الماضي، بحكم طبيعة الحياة التي اختار عيشها رفقة المُهمّشين والمنكوبين والكادحين والمُعطّلين، سيما وأنّه اختار باكرًا التحرّر من الميثولوجيات الرسمية للسلالات الشعريّة الأكاديميّة داخل المعاهد والجامعات الفرنسيّة. لكنّ المُثير أنّه استطاع وهو يافعٌ في الضفة الأولى من العمر، أنْ يُلفت إليه أكبر أقلام فرنسا داخل المؤسّسات والمهرجانات والصحافة والأدب، بحكم تلك الدراميّة الخفيّة المُشعّة، التي ظلّت تستوطن كيان قصيدته وتحفر مجراها عميقًا بين ضلوع الجسد وسراديبه، جعلته أكثر الشعراء فرنسا قراءة وأكثرهم حضورًا وتوهّجًا داخل مؤسّسات فنيّة ومهرجانات شعريّة، أمام غيابه التام عن الحياة الثقافية اليومية المركزية الفرنسيّة، بحكم تهمٍ التصقت به لحظة اصدار روايته “Le Château de Cène” عام 1969 على خلفية ما يطبعها من جنسٍ، والتي كان برنار نويل يدين فيها بحرقة تلك الفظاعة التي وجد فيها المجتمع الفرنسي نفسه فيها. ورغم أهميّة هذه الرواية على مستوى صناعتها الفنية وبلاغة أسلوبها الشعري، الذي كُتبت به، إلاّ أنّها بقيت أشبه بـ”الخطيئة” داخل المسار الأدبي لبرنار نويل، بعد إدانته من لدن القانون الفرنسي، قبل أن يحصل على عفوٍ من الحكومة نفسها.

“الصدمة الجماليّة، التي أحدثها برنار نويل في مسار الشعر الفرنسي المعاصر، أشبه بزلزالٍ صامتٍ يرج السلالات العريقة ويُحوّل ذائقتها الشعريّة من الاهتمام بالذات في أبعادها الرومانسية، صوب كتابةٍ تسبر أغوار هذه الذات”

غير أنّ هذا الغضب الذي أصاب كتابات نويل في أواخر الستينيات، سرعان ما تحوّل إلى حبّ وعشقٍ وغبطة لكتاباته الشعريّة، وهي تُكسّر التقاليد الشعريّة الفرنسية الموروثة عن المرحلة الرومانسية وتحتفي بنوعٍ من الكتابة الشعريّة، التي ظلّت خاضعة في أساسها إلى رومانسيات الذات كنوعٍ من التغنّي عن أفراحها مآزقها وأعطابها. لكن الصدمة الجماليّة، التي أحدثها برنار نويل في مسار الشعر الفرنسي المعاصر، أشبه بزلزالٍ صامتٍ يرج السلالات العريقة ويُحوّل مساراتها واشتغالاتها وذائقتها الشعريّة من الاهتمام بالذات في أبعادها الرومانسية، صوب كتابةٍ تسبر أغوار هذه الذات ولا تتغنّى بها، ما يُتيح للنصّ الشعري أنْ يخترق حجاب اللّغة ويستكنه المجهول في طبقات الشعر، عوض الاكتفاء بحدسٍ شعري أولي. ولأنّ الشعر الفرنسي منذ الخمسينيات كان ولا يزال، يقترب يومًا بعد يوم من المؤسّسة الثقافيّة الرسمية داخل فرنسا، فقد وقف برنار نويل ندًا لهذا التمثّل الأدبي الذي يرى في ضرورة أنْ يكون الشعر قريبًا من تقاليده الأكاديميّة. على هذا الأساس، صدرت لنويل عدّة دراسات نقدية في الشعر والثقافة والمثقّف والسياسة والثورة والفنّ، كمُحاولة منه للتعبير عن آرائه وتصوّرات لمفهوم الشعر كما يفهمه ويعيشه في حياته اليومية، فهو ليس بذخًا معرفيًا وجماليًا، وإنّما جرحٌ عسير على الهضم وقدرٌ محتومٌ على الشاعر العيش في آلامه ومآزقه، إنّه أشبه بحالة هذيانٍ يجد فيه المرء نفسه يعيش في المابين، الأوّل واقعي (رغم سورياليته) والثاني يطبعه التخيّل والحلم. لكنّ هذه المقالات التي صدرت على شكل دراسات ومقالات أدبيّة وفنيّة ومذكرات ورسائل، لم تُؤثّر على مشروع برنار نويل الشعري، بقدر ما بقيت تقف متجاوزة مع دواوينه الشعريّة، سيما وأنّ هذه الكتابات، جعلت صورة نويل منذ سبعينيات القرن الماضي يظهر بمظهر الشاعر المُفكّر وصاحب المواقف الحازمة تجاه الأنظمة الرأسمالية والداعم لقضايا التحرّر في عدد من البلدان العربيّة.

لقد استطاع برنار نويل داخل كتبه المتنوّعة، التي تجاوزت 50 مؤلّفًا، أنْ يُحوّل المركز إلى الهامش إلى جانب كل من هنري ميشونيك وإيف بونفوا وفيليب جاكوتيه وغيرهم. إلاّ أنّ براعة نويل بدت بارزة في مستوى أسلوبه ولغته وموضوعاته، التي لا تخرج عن مفهوم “الهامش” اللامُفكّر فيه شعريًا داخل فرنسا، إذْ أنّ القارئ لنصوصه الشعريّة يستكشف هذا البعد الفكري الماورائي الذي تختبر في جوفه القصيدة، وأنّ اللّغة البسيطة المُتبدّية على سطحها مجرّد فخاخٍ مجازية تُضمر عمقًا، لا يمكن اكتشافه إلاّ بنوعٍ من القراءة المائلة، التي لا يقف إدراكها وراء الكلمة أو حتى داخل سياقها اللّغوي، وإنّما انطلاقًا من حالة الشاعر ووجده الصوفي، أيّ أنّ النصّ الشعري لدى برنار نويل، يبدأ من جسد الهامش، لكن سرعان ما يعود إليه في حركة دائرية أبديّة.

“كتابات نويل جعلته منذ سبعينيات القرن الماضي يظهر بمظر الشاعر المُفكّر وصاحب المواقف الحازمة تجاه الأنظمة الرأسمالية والداعم لقضايا التحرّر في عدد من البلدان العربيّة”

وإذا كانت شعريّة المركز الفرنسي منذ ستينيات القرن المنصرم، قد أولت اهتمامًا مبالغًا فيه أحيانًا إلى تقاليد شعريّة غنائية، فإنّ شعريّة نويل بقيت ترتكز على مفهوم القراءة التي لا تتبع الإيقاع أو النغم، بل تأمّل النصّ انطلاقًا من ماهيته وانتمائه إلى نفسه أكثر من التقاليد الشعريّة الأخرى. وفي الوقت الذي ظلّت الكثير من الأسماء الشعريّة الفرنسيّة، التي جايلته، تعمل على نوعٍ من التوليف الجمالي، الذي يستند على عملية استلهام التراث الشعري وثقافته في مناطق أخرى من العالم، حرص برنار نويل على أن يستمع إلى ذاته ويجعل من قصيدته تخرج من سراديب جسده، حيث لا تغدو الكتابة الشعريّة بمثابة إطناب أو مختبر لصناعة شعريّة تستند على التاريخ أو الثقافة لبلورة نشيدها الأورفيوسي، وإنّما الكتابة لديه تدريبٌ على المشي عاريًا في أرض العدم، حيث تتخذ الكتابة بعدًا تأسيسيًا لا ترتكن إلى العوامل البرّانية من أجل إضاءة معالمها الداخلية، لكنّها تظلّ مع برنار نويل تولد من رحم المعاناة الوجودية وتتبرعم وتنمو داخل أحراش الجسد.

المنفى الاختياري

إنّ الهامش الذي عاش فيه برنار نويل، يُشكّل علامة بارزة في حياته، هو الذي عاش منعزلًا في بيته القروي، تاركًا ملذّات باريس وما تحبل به من أفراحٍ ومسرّاتٍ ترعاها المؤسّسة الثقافيّة الرسمية الفرنسيّة، لكنّه في منفاه الاختياري بقي حريصًا على الاستماع إلى ما يجول داخل الخطاب الثقافي الرسمي ونقده وتفكيك ميثولوجياته داخل حقول الثقافة والأدب والفنّ، انطلاقًا من الوسيط الإعلامي الفرنسي، الذي بات منذ نهاية الثمانينيات في نظر برنار نويل ينشر التفاهة والتسطيح والابتذال. من ثمّ، انكب في عدد من مقالاته على نقد هذا الإعلام والطريقة، التي بها أصبح يشتغل ويقف عند حدود البداهة الثقافيّة، عاملًا على تكسير صورة النمطيّة والتنميطيّة داخل وجدان الناس. ولأنّ الإعلام شكل من أشكال الاستعمار، كما يرى ماركس، فإنّ نويل لم يترك هذا الإعلام الرسمي يستخف بعقول الناس وقراءاتهم، بقدر ما ظلّ مُنتقدًا له في مناسباتٍ عدّة، خاصّة في كتابه “الموجز في الإهانة” الذي فكّك فيه عملية التصوّر داخل الإعلام الفرنسي في كون الثقافة مجرّد “سلعة” يتم تمريرها إلى شريحة جماهيرية أكبر، فهذا الـ”تسليع” في نظر نويل، لم يكُن يُضمر في طيّاته إلاّ إرهاصات أولى لعلامة البلاهة والبلادة والترفيه، التي باتت تطبع الساحة الثقافية الفرنسية في السنوات الأخرى، أمام تحولاتٍ وأعطاب ومآزق وتصدّعات. إنّها شكل من أشكال الانحطاط الحضاري، الذي تصبح فيه الثقافة سلعة أو بضاعة يتم بيعها كباقي المواد الإلكترونية أو الغذائية. على هذا الأساس، برز اسم برنار نويل كأحد أبرز الشعراء المعارضين في فرنسا لهذا التقنين الثقافي الهجين، الذي ينتجه الإعلام الفرنسي، الذي اعتبره الشاعر في كونه غدا يُكثر من الأخبار ويُسرف فيها لدرجة تجعل عقل المواطن الفرنسي، لا يكاد يستوعب شيئًا في حمأة هذه المعلومات، التي تنهال على رأسه بسرعة، ما يجعله غير قادرٍ على إدراك حقيقي لما يجول في واقعه.

فهذا الأمر، الذي يتعمّده الإعلام يوميًا داخل الجرائد والمنابر المرئية والقنوات التلفزيونية وإذاعات الراديو، ينتج عقلًا جامدًا يقف عند بديهيات الأشياء لا ماهيتها، ما يُنتج تفكيرًا يُفرط في استهلاك ما يُقدّم له، أكثر ممّا ينتقد ويُنتج. يقول نويل في هذا الصدد: “هذا الفنّ من الحرمان من المعنى عن طريق الإكثار من ترديد الأخبار كان يُؤذن بنظام وضعه في الوقت الحاضر مجتمع الاستهلاك، الذي يوهم بالاستجابة لكل رغباتنا، لا من أجل إشباعها بل دائمًا من أجل إثارتها أكثر فأكثر. هكذا فإنّ الاستهلاك لم يكن يقصد إشباع الرغبة، بل كان يهدف فقط إلى الإنتعاش الدائم للشهية”. لذلك حرص الشاعر في أغلب ندواته ومحاضراته في العالم على تأكيد خطورة هذا الإعلام، الذي يكتسح الحياة الثقافية في الهامش ويُحاول تسطيحها أمام إغراءات المال والمؤسّسة، بل إنّه يعمل ضمنيًا على تغريب الشعر من حياة فرنسا المعاصرة، على اعتبار أنّ الشعر بات مُهدّدًا بالانسحاب من حياة المواطن الفرنسي، بعد قرونٍ خلت تربع فيها هذا الجنس الأدبي على عرش الثقافة الفرنسية.

كتابة اللوحات شعريًّا

أغلب الدراسات النقدية في العالم، التي أنجزت حول برنار نويل، بقيت محصورة داخل كتاباته الشعريّة، ولم تستطع تفكيك كتاباته الفنيّة، التي أنجزها رفقة الكثير من الفنّانين وصدرت في طبعاتٍ فاخرة في مختلف دول العالم، مثل الكتاب المُشترك un toucher aérien (2020) مع الفنّان برنار مونينو، الذي صدر قبل أشهر قليلة، وهو عملٌ شعري- فني، حيث يعمل برنار نويل شعريًا على إعادة صياغة اللّوحات بطريقة ذكية تتجاوز في الأسلوب التقريري المُجرّد داخل الناقد الفني، صوب كتابةٍ شعريّة قادرة على التقاط عناصر بصريّة وتحويلها من كونها أعمالًا تشكيليّة إلى نصّ شعري. وتبدو هذه الطريق في اشتغال الشاعر مع الفنّان مغايرة كثيرًا بالنظر إلى الطريقة المعمول بها عربيًا، حيث يكون الشعر سابقًا في وجوده على اللّوحة، فيقوم التشكيليّ بإعادة قراءة العمل الشعري وتخييله بصريًّا. أما في حالة نويل، فقد ظلّ طيلة الحجر الصحّي، يتأمّل خصوصيات هذه اللّوحات من ثمّ يُعيد كتابتها شعرًا، ما يجعل العمل التشكيلي في هذه الحالة خاضعًا إلى شروطٍ ذاتية وليس خارجية يُمكن أنْ يتوسّل بها نويل لاستنطاق اللّوحة وما تحبل من عمقٍ فنيّ وتبدّلٍ جماليّ. خاصّة وأنّ تفاعل نويل جاء شعرًا وليس نقدًا أو قراءة، إذ الكتابة هنا تتخلى عن تقريريتها وإطنابها وزوغانها الفكري لتطرق باب الشعر وكثافته الوجدانية المُتحلّلة من كيمياء الروح.

“يعمل نويل شعريًا على إعادة صياغة اللّوحات صوب كتابةٍ شعريّة قادرة على التقاط عناصر بصريّة وتحويلها من كونها أعمالًا تشكيليّة إلى نصّ شعري. وتبدو هذه الطريقة مغايرة للطريقة المعمول بها عربيًا، حيث يكون الشعر سابقًا في وجوده على اللّوحة، فيقوم التشكيليّ بإعادة قراءة العمل الشعري وتخييله بصريًّا”

لكن نويل في كتابه هذا، لا يعمل على تقويل اللّوحة بما لم تقله، أو شرحها أو نقدها، بل فقط القبض في قولٍ شعري على ما تختزنه من أسرارٍ ومواجعٍ، يحفر السراديب ويُضيء عتمات الروح بنوعٍ من رعشةٍ تبحث عن طفولتها والأساس الماهوي الذي أفرز مُتخيّلها الفني. هذا السفر الاستثنائي في مُتخيّل اللّوحة الفنية شعرًا ميّز بقوّة تجربة برنار نويل مع عدد من الفنّانين بفرنسا، لحكم صداقته بهم إلى الحدّ الذي ظلّت فيه الصحافة الفرنسيّة تعتبر نويل أكبر الأقلام علمًا ومعرفة بالإبدالات المفاهيمية والجمالية، التي رافقت التشكيل الفرنسي المعاصر، بحكم هذه الصداقات المهنية/ الفنية القويّة، التي أثمرت الكثير من الكتب، والتي تتحلّق نحو هذا السكر الخلاّق بالعملية التشكيليّة وتفجير مكنوناتها البصريّة شعرًا. لكنّ المُثير للدهشة لدى نويل، هو أنّ هذه الكتابة الشعريّة التي تتجانس في ألقها الجمالي مع اللّوحة، تبدو أشبه بلوحات بصريّة أخرى تعمل بمنأى عن اللّوحة الأصل. إنّه يكتب ويُموضع كلماته داخل معمارٍ شعري أشبه بلوحةٍ فنيّة من حيث الإقامة والبُنيان، ما يجعلنا نتساءل، هل هذا تكريس لشكل كتابة جديدة داخل النقد الفني؟ أم هو مجرّد توسيع لأفق ومساحات الكتابة الشعريّة داخل قوالب فنيّة أخرى تتوسّل بها؟ ففي عمله الشعري “هسيس الهواء” (1998)، الذي نقله إلى العربيّة الشاعر المغربي محمد بنيس، نعثر على شيء مُضمرٍ أشبه بالجواب، فهذه القصائد المُتقشّفة لغة، تبدو وكأنّها مجازاتٌ بصريّة، لا ترهن نفسها بالجري وراء الكلمة ودلالاتها ورموزها، وإنّما تنضبط حصرًا إلى إيقاعٍ رمزي بصريّ، تصبح فيها الكلمة استعارة لصورة فنيّة، وهي تتشكّل خلسة في ذهن القارئ، إذْ لا تبني شعريتها انطلاقًا من عامل التفكير والتأمّل، ولكن من مفهوم الرؤية، وكيف تعمل بصريًّا على إعادة تدوير الذائقة الشعريّة.

نادى بضرورة تحرير الشعوب

من الاستعمار والكتابات الاستشراقية

لا شك في أن تجربة برنار نويل الأدبيّة أكبر من حصرها في مقالة واحدة، بحكم تشعّب الموضوعات والمجالات، التي كتب وخاض فيها نقاشاتٍ عديدة، وخصوصًا في أكثر من بلدٍ عربي، والتي تبرز بشكل جليّ داخل كتاباته النقدية، لا سيما التي تضمّنت آراءه في مختلف قضايا وإشكالات الاجتماع العربي، انطلاقًا من الجزائر وفلسطين وسورية. فهو يعرف على أساس أنّه من أكثر الشعراء في العالم، الذين نادوا بضرورة تحرير الشعوب وانعتاقها من الاستعمار ومن الكتابات الاستشراقية التنميطيّة، التي مارسها بعض الكُتّاب الأجانب منذ مطالع القرن العشرين، إذْ أنّ كتاباته في هذا الجانب لا يُمكن فصلها عن المشروع الشعري، وإنّما يسير كلاهما في خطٍ واحدٍ، لا يعترف بأي حدودٍ وسياجاتٍ يُقيمها الاستعمار وأشباهه ويتحايلان عليها داخل ثقافة الآخر، حتى تتصدّع ويستبدّ بها الشرخ والنّسيان، آنذاك سيسهل عليه الدخول إليها بمنطق الإصلاح والتحديث والحداثة، كما هو الشأن داخل البلاد العربيّة.

إنّ الشعر والالتزام السياسي والإيمان بحقوق الناس في استرجاع كرامتها صفاتٌ متلازمةٌ، لا يمكن فصلها عن حياة نويل المفتوحة دائمًا على القلق واليأس والتوجّس من اليقينيات والبديهيات السطحية، التي تُقيّد التفكير الإنساني وتجعله مشدوهًا أمام الآلة الإعلامية الغربية وجبروتها، غير أنّ القلق يتّخذ دومًا طاقة خلاّقة، منها تنبثق الأسئلة الحارقة وتولد من رحم المعاناة والألم ويتدّفق معهما شلال الحكي والنقد، تجاه كل أشكال السُلط المادية والرمزية، التي تعمل على قهر الإنسان وتحدّ من حريته في تقرير مصير جسده سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا.

ولأنّ نويل لم يتنازل يومًا عن مواقفه الصارمة تجاه بعض البلدان العربيّة، فإنّ ذلك جعله مقيمًا ضمن فرنسة تُشبه ذلك الطائر غير المُرحّب به داخل بلده، خاصّة داخل الأوساط الثقافيّة الرسمية، لأنّه مُتعوّد على توجيه نقدٍ لاذع لها ولسياساتها الاقتصادية في تسليع الثقافة ووقوفها جنبًا إلى جنب مع القوى الاستعمارية المُتغطرسة. من ثمّ، فقد شكلّت بدايات نضاله في الجزائر مرحلة مُهمّة على إقحام المجتمع العربي ووقوفه معه في كل أفراحه وأحزانه، لهذا يُطالعنا نويل من حين لآخر داخل منابر أجنبية وعربية وهو يعبّر عن دعمه الكامل لنضال الشعب الفلسطيني في تحقيق قضيته، وهذا الأمر يتشارك معه كل من الفرنسي جان جينيه والإسباني خوان غويتيسولو.

إنّ الكتابة لدى برنار نويل، فيما يتصّل منها بالجانب النثري/ النقدي، تعمل من الداخل على تهديم كل الحدود والمُسبّبات، التي تقف وراء ميلاد الفكر البديهي، بما يجعلها مقاومة حقيقية في سبيل تحقيق تفكير راقٍ من حيث شروطه المنهجية وقوالبه الفنية ومواضعاتها التاريخيّة والسوسيولوجية. وهذا بالضبط، هو ما جعل كتابة نويل تتميّز ببساطتها الأسلوبية، لكنّ قوّتها تكمن في عملية الهدم لكل أشكال الفكر المُتوارث، كما تبلورت معالم هذا التفكير داخل مراسلاته الصادرة حديثًا بعنوان “sur le peu de révolution” (2020)، بالاشتراك مع الكاتب ميشيل سوريا، المُتخصّص في أعمال جورج بتاي. ففي هذه المراسلات يعثر القارئ على الصورة الحقيقية للشاعر برنار نويل وهو يقف سامقًا في وجه العسكريتاريا الغربية وميثولوجياتها وعنفها داخل المنطقة العربيّة، ما يجعله قريبًا من مآسي المنطقة، كما ساهمت هذه العلاقات الكبيرة التي أقامها نويل مع العديد من الكُتّاب والشعراء العرب مثل عباس بيضون ومحمد بنيس وعبد الله زريقة وغيرهم في تأمّل الاختلاف الأنطولوجي بين الثقافة العربيّة والغربية وفهم تقاطعاتهما وتلاقيهما داخل حقول ومجالات التاريخ والثقافة والأدب والفنّ.

*ناقد مغربي.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى