شعر

مختارات شعرية لبسام حجار

نهارات

-1-

لفرطِ ما أحذفُ النهاراتِ لم يبقَ مني إلا كائنُ الأرق، شبيهي، الذي يحسبُ أنَّ الوقت يمضي إذا مَشيتُهُ مراراً من البابِ إلى النافذة، من النافذة إلى النافذة، ولا أُدركُ جَدواه. لفرطِ ما أحاولُ نسيان الوقتِ أقعُ في خطأ الانتظار، وأعلمُ أنَّ من هو مثلي لا ينتظرُ شيئاً ولا يرغبُ في شيء، لأنَّ الأشياء قاطبةً تُقيمُ في نهارات أحذِفُها لكَي لا يبقى مني إلا رميمُ الأرقِ، شبيهي، الذي ما عرفتُ سواه.

هذا نهارٌ.

وتلكَ مشاغلهُ.

أدَعهُ لابنتي لكي تفرحَ به. لجاري الذي يُشغلهُ بضحكتهِ الصباحية وبمئة وعشرين كيلوغراماً من الرضا والعافية والسعادة الغامرة، وبمئةٍ وتسعين سنتيمتراً من التفاؤل والإدراك والتعقّل.

هذا نهارٌ

قال اللهُ.

وبَعد؟

-2-

مُياومونَ

يحتشدونَ تحت شمسهِ الواضحة.

عُمَّالُ مرافئ وأُجرَاءُ

عاشِقونَ وقُساة وتُعساء.

عجائز وفتيان. أحياءٌ وأحياء. وأحياء.

كُثرٌ وصاخبون.

هذا نهارٌ آخرٌ

قال الله.

وبَعدُ؟

-3-

قلتُ لابنتي: لا تَرفعي السِّتار.

لا تفتحي الباب.

لا تُعلِّقي هذه الشمس الغبيَّة على باب غرفتكِ، فالشمس

التي تُعلِّقينها

على الباب أو عند زاوية المكتبة

أرَقُّ من تلكَ التي ستُضيءُ

نَهاري، نهارَكِ،

نهارَ الباعةِ والموظَّفين،

نهارَ العَرَقِ والروائح والاختناقِ

والسَّعي والصُّداع والمُحادثة.

قلتُ لابنتي: لا تَرفعي السِّتار.

لقد متُّ في ساعاتِ اللَّيلِ

الأخيرة،

ولن أستفيق

متُّ ضَجراً

ومتُّ حزناً

ومتُّ سَهواً

ومتُّ موتاً

لا تَرفعي السِّتار أو تفتحي الباب

أو تُعلِّقي ما يُشبِهُ الضَّوءَ في أرجاء الغابة.

فهذا نهارٌ آخرُ،

أعلَمُ،

وآخرُ أيضاً،

أعلَمُ،

وماذا بَعدُ؟

—————————–

حينَ تكونُ السماءُ ليلاً.. حينَ يكونُ الليلُ سماء

خُذني الآن

إذا كُنتَ لا تَأنفُ الرُّكامَ

ولا تُمهلني عَاماً آخر.

ها أنَذَا

حُفْنَةٌ رَمادٍ باردٍ

نَثرَةُ ضَوء

عَلِقَتْ في شِقِّ الجِدارِ

وجَمَدَت هُناكَ

كالكسورِ المُبعثَرةِ لزُجاجٍ مُحَطَّم.

بَلی.

خُذني الآنَ

فما يُجديني عامٌ آخر

أو ثَلاثة

لم يَبقَ شيءٌ

إلا وهبتُ رُفاته

لِظلِّ سَروَةٍ

لظِلِّ جِدارٍ

أو ضَريح.

ها أنَذَا

حُفنَةٌ من التَّعَب والهُزال

قَصَبَةٌ یَبِسَتْ بقُربِ جَدْوَلٍ

ناضبِ

ودُخانٌ

وسَرابٌ

تُبدِّدُه النَّجَواتُ إلى

استراحاتٍ بعيدة.

يَدي تلكَ

مَلمَسُ الرُّخامِ الذي هو البياضُ

الميتُ

أو

صَفْوَةُ السَّواد إذا

أعْتَمَت العيونُ

ونَوَّرت الغِربانُ

صباحاتِ هذا العَياء.

وَرَأسي،

وَعَينايَ،

وفَمي

وقلبي ذاكَ

إلى أين أفضى

عُلبة في

جَوف عُلبة

في جَوفِ

عُلبَة…

بَلی

خُذني الآنَ

وإلّا أفسَدَ هَواءُ الصَّفصافِ

رُوحي

والأسقاطُ جَميعُها كَمِثلِ

رُوحي

عَتَّقَها الغُبارُ وصَمتُ الغُبارِ

في أَقْبية

هذه المَشَقّات.

ولا تُمهلني عاماً آخرَ

ضَجِرَتْ مِنّي الكَراسي والأوراقُ

والنَّوافذُ،

ضجِرَتْ منِّي الأَفكار التي أَخَافَتْني

وضَجِرَ منّي خَوْفي،

وأَسلَمتني الدُّروبُ إلى الدُّروبِ

وأسلمتني الأبوابُ إلى الأبوابِ

وما ظلَّلتني البيوتُ

وما آوتني الظّلال

وكُلُّ مَائدةٍ بلا ملْحٍ

كانَت.

ولي في الأرجَاءِ خُطواتٌ

ضالّةٌ

يَجمَعُها الصّدى في المكانِ

البَعيد

ولي أصداءٌ أَعَارَتْني خُفَّيها

وسرتُ بها

وما أيقَظتُ السِّرَّ

في قَلب السَّماء الَّتي هي اللَّيلُ

وفي قَلبِ اللَّيلِ الَّذي هو

السَّماء.

خُذني الآنَ

لَم يَبقَ شيءٌ

أصَابِعي تِلكَ،

لمَسَاتٌ مُسنّاتٌ،

أيبَستِ الشَّفَةَ المُبلَّلة بِقُبلةٍ

نَاصعَةِ،

بضحكة نَاصعة

وبَوحٍ أعمقَ من أسرارِ

روحي.

وعينايَ،

محاجرُ لزُجاجٍ مُطفأ

كالنَّوافذ في أسوار الحصونِ،

وعينايَ

عمياوان لا تُبصِرانِ

وإنْ أبصرتَا

صارَ النَّبات مِلْحاً

أو صارَ كُلَّ رَقرَاقِ

جَماداً

ولا تُمهِلُني عَاماً آخرَ

أفنَيتُه في الانتظارِ

قَبلَ أنْ يَأتي

وصَارَ مَاضيَّ

كاليومِ الشَّاغر الَّذي

يَدفَعُ اليَومَ الشّاغرَ إلى

عتبةٍ

أجهل ما الذي يقيم وراءها

بَلى.

أحبَّني المَلاكُ وأَحبَبتُه

وكُلَّما أحبَبتُه

لم أعثٌر في حُطامي على اليَدّ

التي كانت تَدُلُّ،

على الأنفاسِ الَّتي كانت

تُحيي فما الذي يُحيي الحُطَّام؟

وأحببتُ الوردةَ ولشدَّةِ

ما أحببتُ

جفَّت البتلاتُ

وما عَلِمتُ قَبل الآن أنَّ

يَدي البلا مَلمَسٍ

هي يَدُ الميّت الذي كنتُهُ

وقلبي قِربةٌ من البَّكاء،

وجسمي فزَّاعةُ طَيرٍ

نُصبَتْ في بَريَّةٍ مُوحِشةٍ

حَيثُ لا تَنضَجُ ثمار.

خُذني الآن،

إذا كُنتَ لا تَأنَفُ الحُطَّام

اجمَع ما استطعتَ مِنهُ

ما عادَ يُجديني،

اجمَعْ ما تَبقى:

صورةٌ لي مُمَزَّقَةٌ بَين أرضِيَّة

البَلاط

وسَلَة المُهمَلاتِ،

حٌفنة تَعَب وهُزال

ورَعَشةٌ في اليَدَيْن،

ضَجَرٌ واشتهاءٌ عَاجزٌ

وقَسَوة أنْ أريدَ ما أُحبُّ

وأن أفقد ما أحبُّ

وأن أجعلَ البَقاء

تمارينَ عادَةٍ

كالعيشِ

أو التَّدخين

وأودُّ الشِّفاء مِنها

ولا شِفاء.

خُذني الآن،

بلا ألمٍ

بلا حَيْرَة

أغلَقتُ المَناوِرَ والكُوى

وأشعَلتُ نَاراً

في حَطَبِ الانتظار،

فليس مُحزِناً

أو كئيباً

أو مؤلماً

أن تقطعَ الأرومَةَ المُهمَلَةَ

في وَعْرٍ مُهمَلٍ

وأن تُطفئَ

الهَواءَ

والفراشَةَ

وشَبَحَ الضَّوءِ

والنّافذةَ

والبصرَ

والشَّمَّ

واللَّمْسَ

والإصْغاء.

اجمَعْ ما استَطَعْتَ منِّي،

ما تَبَقَّى:

العينُ التي تُبصر،

اليَدُ التي أَيْبَسَتِ الوَردَةَ ويَبِسَتْ

حُزناً عَليها،

والفَمُ الذي مَا أَعَانَه النُّطْقُ

يوماً

وما أعانَه الصَّمت.

بلی.

هي البئر العميقة

وأحببتُ أن أسقُطَ فيها،

وهي السَّماء حين تكونُ ليلاً

وهي الَّليلُ حين يَكونُ سماءً

ولا أدري،

بين العَتمتَيْن كيف أقمتُ

أربعينَ عاماً

وما انتبهتُ

وما أيقَظني أحَدٌ

إلا المَلاك.

خُذني الآن،

فمَا يُجديني عامٌ آخر

أو عامان

أو ثلاثة.

لم يَبقَ شيءٌ

إلا وَهَبْتُ رُفاته

لظلِّ سَروَةٍ

لفَيءٍ

جدارٍ

أو ضريح.

ألهوَ الضَّريح حقاً أم إنَّ

ذاكَ طيفيَ الحَجَرِي.

وما كُنتُ أراه

وما كُنتُ أَعلَم.

*نص: بسام حجار

*من ديوان: بضعة أشياء

——————————-

فقط لو يدكِ

يجعلني مطمئنًا، ما يُبعد عني اللآنَ خوف الليلِ ورعشةَ كائناتهِ الغريبة، أنني حين أنام أعلم أنني أذهب إلى يديكِ. لم أعد أَضِلُّ الطريق إليهما.

الرحلة طويلة وشاقة في المسافة بين النافذة والسرير؛ كنتُ أخافُ لأنني لم أكن أعلم إلى أين يفضي بي النوم كلّ ليلةٍ. كنتُ أعلمُ أنه ليس موتاً، ليس يقظةً، بل يقظة الموتِ في خرافاته الملوّنة.

إلى أين يذهبُ جسمي في النوم. إلى أين تذهب عيناي. لكنني الآن حين أصل إليه أعلمُ أنني أجدُ وسادةً لرأسيَ المتعب، لجسمي الضئيل.

صغيرتان يداكِ، لكنهما تتسعانِ لجسمي لشدّة ما صار قليلاً، لشدّة حضوركِ في غيابي. لا أخاف الآن أن يأخذني حلمٌ رمادي إلى هاويةٍ لا قاع لها، أعلم أن راحةَ يدكِ اليمنى تفتح لي بابًا إلى ضوءٍ قرين، وأن وجهي يحفظُ، كحريقٍ، ملمس راحةِ يديكِ اليسرى. هل كنتُ غائبًا إلى هذا الحد، أعني لا أجد من يدلّني إلى نومي. من يمسكُ بيدي، ويدلّني بين صحاري الأرق الطويل. الآن أعلمُ أنني أغفو حين يخطر لي أنّ يداً، لكِ، تلوّح لي بصباح آخر. فأنهض بإشراقتها، حين تفتح لي النافذةَ وتمسح النومَ عن عينيَّ فأعلمُ أنني، أخيراً، أحيا، لأنها توقظني كلّ صباحٍ. ليستْ يَدكِ. مروحةُ الأصابع الناعمة، لمسةٌ خفيفةٌ كالسماء، من التجاعيد التي في جبيني، إلى الورم الداكن تحت عينيّ. ثُمَّ دائرة الفم التي ترسمينها لابتسامة ما، ثم خطَ العنق حتى أعلى الصدر. أعلم الآن أن وجهي لا يضيع بين الوجوه، أنني، كلما أعود أستردّ قسماته كأن أصابعك إذ تتلمس الملامَح تصنعها وجهاً أعرفه، وجهاً اعتدت عليه بعد أن أخذته المرآة في الصباحات السابقة، بعد أن ألغاهُ التعب.

يجعلني مطمئنًا أن يديكِ تقتربان. وأن لمستهما تستيقظ الآن في جسمي الذي كنت أحسب أنه مَيت. أو أنه استلقى لشهور في نومٍ مجرّد. يمرُّ به كل شيء دون أن يغادرَ حيادَه. جسم أصم. جسم أبكم. ثم أتت يداكِ. رسمت شكلاً من طينة الضجر وكنتِ بعضاً من رقتها. من الحنان الذي يصنعنا ويجعلنا قابلين لأن ننكسر إذ نفتقده. إذ نحيا في غيبته الطويلة. الآن أعرف إلى أين أذهب، حين تضعني الحافلة على رصيف الازدحام، أو حين تأخذني الغرفة إلى الأفكار السوداء. أعرفُ ما الذي أفعلهُ حين أحسبُ أنّ الوقتَ لا ينقضي، أنام وتأتي يداكِ في الحلم، أو يأتي الحلم في يديكِ. لأنني أحسب في نومي أنَّ يديكِ تحلمان بارتباكِ مَن يجعل الطمأنينة لمساً، من يجعل اللمسَ يقظة الغياب.

هلّا وضعتِ يدكِ الصغيرةَ على قلبي لكي تزولَ عنه الصحراء. لكي تهربَ الذئابُ منه وصدى قِفارها. لكي يرحلَ العنكبوتُ الذي يتنفّسُ في رئتي، لكي يغادرني الخدرُ الذي ينتابُ أشياء الرفوفِ والأدراجِ فأحسبُ أنني منها، لا يخلّصني من الغبار إلا صباحُ الخادمةِ بأرياشها الاصطناعيةِ ورقعتها البليلة الساحرة. هلّا لمستِ بإصبعكِ صمتَ الغرفة، التي تغرقني بهوائها الفاسدِ وأشباحِها التي تتدلى من السقف والجدران. أعرفُ الآن أنكِ إِذ تلمسين صخرة صدري يستيقظُ نبضٌ فأخرجُ من وقتيَ الحجريّ إلى وقتكِ الرطب. وأعلمُ أن يدكِ هي الخرافةُ التي انتظرتها وصدّقتُها ولشدّة ما صدّقتُها أصبحت تأتي إلى نومي وتسهر عليه. لذلك لم تعدْ تأخذني حفرةُ النوم. لم تعد تأكلني ذئابُ النومِ، حين أسيرُ متعباً إلى سريري وأهَبه جسمي، حين أستسلمُ إلى مجهولِه.

لم أعد أبكي حين أراقبُ المطرَ يهطل في ليل العالم الذي يتّسع وراءَ النافذة. لم أعدْ أرتجف خوفاً حين أستيقظ في الليل. وأرى أنني وحدي. بِتُّ أرى الليل ظلاً ليديكِ، يغمرني ولا أضلُّ فيه والمصابيح ذكرى من لمستِهما الخفيفة. كأنّ ضوءاً يتبعُ إيماءةَ اليدِ التي تمسحُ نومي بماء الدعةِ. وأعلمُ أنني بتُّ أبتسم كلما صادفتُ الوحشَ الذي كان يفترسُ في الحديقة حلمي الوحيد. الآن بتُّ أرى أن أفلاكاً تتقاطعُ في الخطوط التي تتلاقى في راحتكِ الزهرية. كأن السماء يرسمها خطّان في راحتكِ، سماء قليلة لكنها تكفي لكي لا يموت العالم من الوحشة، لكي لا تلسعه الأفعى. فقط لو يدكِ كانت هناك.

الآن أعرف لماذا كنتُ أبكي ولماذا كانت الهاويةُ التي أسقطُ فيها تشبه صفحةً بيضاءَ وخطّان في أسفلها ونجمة بالحبر الصيني، ومع ذلك تلمعُ. ولمعانُها كان يعذبني. كان يكفي أن ترفعي، بلمسةٍ رخامَ النوم الثقيل. وأن تأخذني يداكِ، قليلاً بمقدار ما أحيا. كان يكفي أن تمسحي شفتيَّ بطرف سبابتكِ لكي لا يعذّبني النُّطق.

*نص: بسام حجار

*من ديوان: فقط لو يدكِ

———————–

أقلُّ من قطرةٍ

هَل يكفي الهواءُ

لِكَي نقتسمَ قُبلةً باردة

الظَّلامُ يُفسدُ الرَّغبةَ

والعيشُ أقلُّ من قطرةٍ

فلا تَهدري جِسمَكِ كلَّه

الآن

الرَّصاصُ يُخطئ الرَّأسَ

الذي يَنامُ على صَدركِ

الرَّصاصُ يُخطئ الفَمَ والحَلَمة

الأيدي تَرَى

إذن نتلامسُ لكي لا نَضيع

هَذا فَمُكِ

سُمْنَةُ الإبطينِ

استدارةُ الوِرك

وهذا خَوفي

لِمَاذا يَدُكِ تَقرأُ الأفكار؟

*نص: بسام حجار

*من ديوان: فقط لو يدك

———————————

حكاية الرجل الذي صار ظلَّاً

ما كنتُ منذ البداية هكذا. أقصد لم يخلقني الله هكذا، وحيداً ومتروكاً للحيرةِ، إذ لا أجد من يَصحبَني وأكون ظلّهُ. ولكن ليتني أذكُر بالدقَّة التي تَتَوخُون كيف جَرَى لي ذلك فأصبَحتُ ما أنا عليه الآن، أو منذ بعض الوقت.

أَجدُني لا أَقوَى على الحَرَكةِ، مُقيماً سوية البَلاط لا أبرح. وما يدور عليَّ من مواقيت يبدِّل من أحوالي وهَيئتي، فلي مع تبدلات الإضاءة بين مواقيت النَّهار والليل قصص أعجب من أن تُروى هنا، ولا يَتسع لها مصنف كامل من ترهات بورخيس. فالصباح يَجعلُني منبسطاً على سويَّة الأرضية المُلمَّعة، والظهيرة تُلصقني بالأشياء العمودية الواقفة ولا تتعب، ثم تتدرج بي الحال إلى استطالة تشوُّه قواميّ الطيفيّ حتّى يَكسرني الغُروب بانعكاسهِ الشَّفقي إلى نِصفين. نصف من أسفلِ الرَّكبةِ إلى القَدمين، والنصف الآخر من أسفل الرُّكبةِ أيضاً إلى هَامتي، فأقف بانحرافٍ ظاهرٍ على جدار ولا شيء يَسندني، إلى أن يحلّ الظَّلام فيذيبني في كنفهِ كأنَّنَي قطرات حبرٍ أو ماءٍ ملوَّن تمتصُّهُ ممحاة غريبة لا قوام لها.

بلى، ما أخطأتُم الحسبان، فما أتحدثُ إليكم عنه هو الظلُّ الذي صرتُه منذ بعض الوقت، لذلك يَصعبُ أن يَبصرني أحدُكم في الليلِ أو في عَتمة المَكان. كأنَّني أنتمي إليه أو أصبحتُ مِلكاً لهُ مذ غَادرني صاحبي وانتظرتُه طويلاً هنا ولم يعد. فقط بوسع واحدكمٍ أن يَراني في الضوء. في ضوءٍ فاضحٍ لا أَرى منهُ شيئاً. وطبعاً لن أشرَحَ لكم هُنا ما تَعرفونه جيداً بأنَّ الظلّ لا يَراكم حين ترونه جيداً لكنَّه يُلازم حركاتكم وسكناتكم ولا يغادركم إلا حين تلوذون بأسرّتكم الدافئة وتحلمون.

 ألمعيٌّ هناك يقول: وماذا عن السير في الظلمة حيث لا ظلّ يَتبعُنا؟ فأقول من فم الظِّلال إياها إذا جاز لي أن أقول: يكون من هو مِثلي فدية نجاتكم من العبور إلى الجهة الأخرى. ليتخيل أحدكم الظَّلام مرآة، ولو معتمة، يسير بمحاذاتها على وجه الدِّقة، ويَصحبه الظل، في الجهة الأخرى من المرأة حيث يسود الظلام، ولن يخطر ببال أحدكم الأهوال التي يصادفها من هو مثلي هناك. ولكن لندع هذا الأمر جانباً، فليس في نيتي أن أشكو أو أن أجعل من ذاتي المعدومة رمزاً لبطولة الخوض في عالم الظُّلمات وإلا لأدركني المساء قبل أن أروي على مسامعكم ما صرتُ إليه منذ بعض الوقت.

ذات يوم ألفيتُني وحيداً. كان الوقتُ مساءً والظُّلمة حَالكة فلا يَبصر صاحبي إصبعه حتّى لو ألصَقَها بعينه الحَاذِقة. كان مُستلقياً على الكَنَبَةِ في ثيابهِ المُعتَادة وكان يَجهشُ في البُّكاء. يَشرب كأساً تلو الأخرى، ويشعل سيكارة تلو الأخرى، ويجهش في البُّكاء. وكانت الظلمة قد أذابتني في كنفها وامتصَّتني لكنَّني، في هيئتي السائلة، كنتُ أقعي عند قدميه لا أُغادر. أشبهُ صَاحبي في كلِّ شيء، أَقصد في ما عدا التشوُّه الذي يُسببه لي تبدَّل الضُّوء فيقرُّ منّي أو يمطني لكي أبدو دميماً، أُشبه صَاحبي إذًا في كلِّ شيء ولكنَّني ما سَلكتُ نعمة البكاءِ أو عَرفتها من قبل. وعلى الرغم من وَفائي لصَاحبي ما تمكنتُ يوماً من مُجارَاته أو إبداء التَّعاطف بدمعةٍ أذرفها حتى ظننتُ يوماً أنني من الغلظة والفظاظة ما يفوق الوصف. كان صاحبي يجهش في البكاء. ثم غادرني. سمعت دوياً أو ربما جلبة ارتطام هائلة، لست أدري. وفي اليوم التالي وجدتني هنا وحدي. وفي اليوم الثالث أيضاً. وفي الأيام التي أعقَبت ذلك إلى اليوم، بتُّ وحيداً لا قُدرة لي على الحِراك من مكاني. زوجة صاحبي وابنته لا تُعيران انتباهاً إلى الثَّكنة الطفيفة التي تبقع البلاط وموضعاً واطئاً من الجدار. وذات يوم، جاءت الزوجة بالممسحة وعدة التنظيف وحاولتْ أن تَمسَحني بكلِّ ما أوتيت من قوَّة وعَصَبية ولم يمح من هيئتي شيء. فحسبت أنَّني مُجرَّد بقعة من الرطوبة تسرَّبت من أسفل الحائط إلى البَلاط. وكفَّت عن المحاولة. وأصبحت تُحاذر إذا مرَّت بقربي أن يداني ظلّها ظلّي خَوفاً من بلل الرطوبة وشؤمها وكم وددتُ أن يألفني ظلّها فأصبح ظلًا له عَلَّني أجد من أتبعه في روحاتِهِ وغدواتِهِ. حتّى الابنة لم تَتَعرف إليّ وكنتُ دائماً في صُحبة ظلّها حين يرافقها صاحبي في نُزهة قصيرة في الجوار. ليس بِوسعي أن أكون شبيهاً به لأنَّ لا مظهر ولا هيئة له. كان وسيماً، مُستقيم القامة إلى نحول، عصبيّ المَزاج والحركة. وكنتُ أُحاكي حركاته وسكناته ثم غادرني ولا أعلم إذا كان يصحبه ظلٌ آخر هناك.

وأصبحتُ هُنا بلا نفعٍ أو قيمة حتّى وددتُ لو تمرّ بي سُلحفاةٌ فأكون ظلّها، لو يمر بي كلبٌ فأكون ظله، أو حصاة فأكون ظلّها. ذلك أني بتُّ أخاف أن تَمتصّني الظُّلمة مرة واحدة وإلى الأبد. ماذا أفعل بالضوءِ الذي يطلع كلَّ صباحٍ إن لم ينهض صاحبي من نومه، بجسمه كاملاً. الرأسُ والذراعانُ والجذعُ والساقان، لكي أتبعه فتدوسني أقدام السَّابِلة ولا ينال مني ألم، بل أواصل زَحفي الخفيف بين الحصى والنَّقح والعَجلات والنفايات، لا تعيقني أو تلوِّثني، خفيفاً وقانعاً لا أعرف لسعادة الصُّحبة مثيلاً.

ماذا أفعلُ الآن إذ غَادَرني وانتظرتُ طويلاً وما عاد بعد؟ كيف أقضي مَلاوة الدَّهر، فلا عُمر لي، في الركن وحيداً؟ ما الذي يُبقيني على قيد الحياة؟ آسف، لا بد أنكم أدركتم خطأ العبارة. أقصد ما الذي يبقيني، على أن تكون الحياة لكم ولسواكم ولمن يرغب أيضاً. لا تزيلني أحماض ولا يُحطّمني ثقل ولا يَطمرني تراب. رحماك أيُّها الضَّجر!

—————————–

تنهضُ من نومٍ عائم

نهضُ من نومٍ عائم

كأنَّ شيئاً من نهار البارحة

تريَّث على ثيابكَ

وفي عينيكَ المُغمَضتيْن

لم يمزجْكَ السرير بدَعةِ

 أنفاسها والرائحةِ الرقيقةِ

 لجسمها النائم

كنتَ تحلم وتتحدَّث

تحلمُ وتفكِّر

تحلمُ وتضحك

وتواصلُ شيئاً ما

فيتلاشى

لكي تجدَه في الصباح

متروكاً على الطاولة.

تنهضُ من نومٍ عائم

كأنَّ قفراً بكاملهِ في جوفكَ

والمياه التي كنتَ تَراها،

رائقةً وكثيرة،

كانت عطشاً

لم تأخذكَ يدٌ إلى أبعد

من النَّافذة

وكنتَ ترى الأصقاعَ والسُّهوب

مأهولةً بالمنازلِ والأراجيح والوجوه

وكنتَ تحسب

أنَّ أطلس النّوم يأخذكَ معه

إلى بلدٍ تعرفه

فبدَّلته الخرافاتُ

وكنتَ تخاف إذ تُصدِّق الخرافاتِ

وكنتَ تمدُّ يداً وحيدةً

لكي تأخذك يدُها الرقيقة

إلى النوم العميق

فتحلم أنَّك أحببَت امرأةً من أجل

يديها الرقيقتين

تنهضُ من نومٍ كالغلالات

شفيفٍ

لا يحجب العتمة الواطئةَ

كنتَ تحلمُ وتتحدَّث

تحلمُ وتفكر

تحلمُ وتبكي،

وتواصلُ شيئاً ما

فيتلاشی

لكي تجده في الصباح

مُهملاً على الطاولة.

*نص: بسام حجار

*من ديوان: مِهَن القسوة

——————————–

مزارٌ بجنب الطريق

إنّي لا شيء

وحديثي عابرٌ،

مِثْلي،

بين عابرينَ،

لذلكَ

أتحدّثُ عنكَ

إنّي أتحدّث عنكَ

لا عن ظلّكَ الجالسِ –

وحيداً –

تحت سكون الشجرةِ

عند المفترَق

حيث أعمدة تلغراف قديمة منزوعة الأسلاك،

وعابرون يمرّونَ بِسَهْوِكَ

ولا يلتفتون

إنّي أتحدّث عنكَ

لا عن خيالك الماثل أمام عينيّ أو منامي

أتحدّث عنكَ

لا عن المصباح الذي يرفع الظلَّ إلى مصافِ الساحرات

اللواتي كُنّ

ظلالاً ماكرة

ولا عن الأعراقِ التي استخرجتها الأيدي الحاذقةُ

من جوفِ الأرض،

ولا عن المناجم التي كانت تُسمّى،

في حياةٍ أخرى،

مملكةُ الكدّ وأهراء الشقاء

لم يبق أحدٌ

لا أحد هنا سوى أنتَ

ملاذ الهَاجرين بيوتهم إلى الأبد،

لا أحد هنا،

وملاذُكَ أنتَ مثل هذا الأرق الطويلْ

لا أحد هنا يحبّ الحجَرَ

أو يأنَس إلى برودتِه

وصمتِه

حتّى المناماتِ المُرعِبَةِ لم تُبقِ للحجَرِ معنىً

حتّى الشجرة العاقر

لم تثمر يوماً حصاة

إنّي أتحدّث عنكَ،

بفصاحةِ التوهّمِ،

أنتَ

وحدك الحقيقي،

صامتٌ وباردٌ ومزهوّ بصمتِكَ وبَرْدِكَ،

أنتَ

وحدك الحقيقيّ

وإذا أعيتنا الحيلةُ في أمرِ موتانا

جئنا بتقوانا إليكَ

ورِعينَ، مُطرقينَ،

مضمومي الأيدي،

متوسّلينَ

أن تكون ملاذاً لذكرياتنا

وحسراتنا

وخشيتنا من كونكَ الملاذ الأخير

إنّي أتحدّث عنكَ

– كما يتحدّث أحياءٌ عن أحياءٍ مثلهم –

وأتحدّث عن جوفِكَ

الذي هو نارٌ خامدة،

نارٌ باردة،

عن ملمَسِكَ الخشِن الذي يشبه الضغائن الدفينة،

ملمَسِكَ المخادِع

الذي يسري خدراً في الجسم

إنّي أتحدّث عنكَ

أنتَ الحقيقي

عن كتابك الغامض كالمتاهِ

إنّي أتحدّث عنكَ،

لا عن الشواهد والجدران والبيوت والمزارات والصروح

عن الحكمة الموروثة عن سلالتكَ الحجريّة

أتحدّث عنكَ

عن المأثور على قوسِ بابِك:

هنا

جانبُ الظلِّ رَحْبٌ وأبوابُه واسعةٌ والقاصدون كُثُرٌ

وما من طريقٍ إليه

كمنزلٍ ريفيّ وسطَ المروج

لا درب يهتدي إلى بابهِ الضيّق

المتوحّدِ فوق العتبة

لا أنا ولا أنتَ ولا المُبصِرُ في منامِه

ندري ما الخيالات المترائيّة عند مفترَقٍ قريبٍ

بعيدٍ

عائمٍ على صفحةِ السرابِ الذي ترفَعُه العيونُ المترقّبة

المتعبة

المتوهّمة:

شخوصٌ نابتةٌ في الوعرِ كمخلوقاتِ التوهّم،

– ليست من الأنس وليست من الجنّ –

كأشجار سروٍ مُستنفَدٌ هواؤها

كأعمدة تِلِغراف صامتة،

كأناسٍ ليسوا مثلنا،

نحن أرواح البيوت المطمئنّة،

كأناسٍ

ليسوا مثلكم، أنتم

روّاد السُبُل الزائلة،

بل كمِثْلِ المقيمين عند المفترق،

جنبَ الطريق،

أهل المزارات التي لا يأتيها إلاّ غرباءُ

حاملين باقاتٍ وزاداً،

وشموعاً توقَدُ مرّةً وحيدة لكي تأخذ الريحُ،

إذا هبّت ريحٌ،

شعلتَها،

وتبقى، هناك، شموعاً كأعواد البلّور

المطفأة

سكينةٌ مُطبقةٌ يرجّها زعيق السيّارات المسرعة إلى حطامها

إله ساذَجٌ

إلهٌ ساذَجٌ وفتيٌّ وميت

إله ساَذَجٌ – وفتيٌّ

لأنّه ميت –

جَعَلتْ له الأيدي الغريبةُ مزاراً عند المفترق،

كومة أحجار رُفِعَت، مُرتَجَلةً،

بجانبِ الطريقِ،

مطوّقة بباقات وعباراتٍ خُطّت على لوحٍ مُرتَجل،

وصورة –

ما كانَ لبعض الوقت صورة –

في إطارٍ مُرتَجَل

لا أحد هنا،

وهنا

لا تُسمّى القبور –

ولو مأهولةً بالموتى –

تلك التي يخلّفها المسافرون –

قبوراً

بل علامات

لمسافرين سوف يمرّون بها

من بعدهم

ويتركون بجوارها قِربَةَ ماء وأطعمةً وأغطيةً وآثار أقدام،

هنا

لا تُسمّى المواكبُ إليها جنازاتٍ بل

أسفار،

لا تُسمّى القبور إلى جانبِ الطريق

– ولو غير آهلةٍ –

قبوراً

بل مزارات

بيوتٌ مُرتَجلةٌ في العراء

لم تكتمل بعدُ

ولم يقطنها بعدُ

أحدْ

لكنّها، منذ البَدءِ، مأهولة بشخصِ الذكريات

ولا تُسمّى أضرحةً فلا مَن يرقد فيها

مجرّد علاماتٍ يلتفت إليها العابر بسيّارته مُسرِعاً

أو المارّ بها سائراً على القدمين،

ساهياً،

لا أشجار باسقة شاكيةً تحيط بها أو تظلّلها،

لا شواهدَ

لا أسماء

لا أسوار

لا شارات

لا دروبَ

أنصابُ عبورٍ خاطف

إذ تمرّ بها مبتعداً

تتضاءلُ رويداً قبل أن يحجبها المفترق عن عينيك

قبل أن يحجبكَ عنها،

المفترق

أنتَ لا شيءَ

وحديثُكَ عابرٌ، مثلك،

بين عابرين

لذلك

أتحدّث عنّي،

أنا،

العابرُ قليلاً

في ظنِّك

بسام حجار

( أيار 2005 )

——————————-

اتبَعْني قالَ المَلاك

قال الملاكُ اتبعني

وكنتُ أخافُ

الموحشَ

والبرّيَّ

أخافُ الطريقَ

زاهدةً بين الحَصَى

والرَّمل والأشواك

قالَ اتبعني

وما أحببتُ شيئاً

إلاّ أماتَني

وأحياني كطيفٍ

ثُمَّ

صارَ غَريبي.

وَضعتُ صُوراً

في الحقيبةِ

وبنفسجَاتٍ وماء

وتبعتُ الطيف إلى

سَرَاب البُيوت

هُناك

أَرهقَني الأزرقُ البعيدُ

والأفق المنهوكُ

بالصَّدى

والأجنحة المُثقلة بأملاحِ

الرَّفيف.

كان المرُّ شرابَ

الشَّجرِ اليابس

والأرومات المُستوحِدَة

كأنَّها الظِّلال

جَمُدَتْ

واستَبدَلتْ رَقراقَها خَشَباً

ورَمَاداً.

قال اتْبَعني

والمَلاكُ غَريبي

وكنتُ غَريبَهُ الذي يَتبَعُ

رفَّةَ الجَناح

وحفيفَ الغُلالةَ التي نُسِجَتْ

من أمْصالِ الضَّوْء

والسُّعال الخَافِت

والنَّزيف

في أروقة الذين يرحلون

تِباعاً.

ورأيتُ البُستانيَّ الذي

أنبَتَ

أربعين عاماً من خوفي

وصيَّرها حطباً،

ورأيتُ البستانيَّ في حُلمي

ورأيتُ قبر أبي قصيّاً في

حُلم البستانيّ،

ورأيتني في حلم أبي

صبيَّاً بعد

ما أماتني الموت

لكنه

أحياني طيفاً

وأحياني ظلاً

يَصحَبُه الملاكُ بعضَ

الطَّريق،

وكنتُ أخاف العَراء

يستنبت أفياءَهُ

شوكاً

وتنهَمِر أصداؤه حصًى

لا يُعَدُّ،

ويُفارِقني الظِّلُّ الذي

نادى عليَّ

وأقامني جسماً من الرَّقراق

الدَّاكن.

فقال الملاكُ اتبعني

وكنتُ أخاف الظَّلام

وكنتُ أخاف السَّماء

شاغرةً

بَعيدةً

والبيوتَ إذ تُعتِمُ نَوافِذُها

أخافُ نَومَ الَّذين أحببتُهم

حين قال الملاكُ

النوم نسيان أعمق

من الموت

والموتُ نسيَان.

وتبعتُ الملحَ الذي نثرتْهُ

يَدَاه.

ودلَّني الملحُ

فرأيتُ ظمأ الينابيع والآبار،

ودلَّني الظمأ

فرأيتُ السراب

وما بدَّدته

وأنفقتُ عاماً تلوَ عام

إذ تَراءى الماءُ مُبطئاً

مُتلعثماً

يَقتفي أثرَ اليَباس

فيبذُلُه اليَباسُ لقَسوة

الشَّوكِ والحجَر.

قال الملاكُ اتبَعني

وتبعتُه

وما دلّني الملاكُ

وما عرفتُ الطريق

بل عرفتُ البعد

لا ينتهي

وتبعتُه

وما وجدتني

إلا غائباً في نومهم

مقيماً في رجائهم

وأماتني الرجاء

وأحياني

وتبعتُه كالطيف

وما دلّني الملاكُ

وما اهتديتُ

كان نومُها صاخباً بالضَّحك

والمسرَّات

كان نوميَ أبيض كالغُلالةِ

وشفّافاً كالمصْلِ

وبارداً كجبينِ المَوتى

قال الملاكُ اتبَعني

ودلَّني

كان السكونُ شَمعياً باهراً

والاضواءُ ملسَاء رَتيبة

كالرُّخام.

أطيافٌ ساكنةٌ عند فُتحة

النَّفق الطَّويل.

وعرفتُني

كنتُ هناك لم أزل

في نوم المَوتى

وما كان المَلاك.

من ديوان: بضعة أشياء (1997).

———————————-

حين يتكلّمان

حين يتكلّمان

لا ينظر واحدهما إلى وجهِ الآخر.

هي تجمعُ طرف القماشِ بين ركبتيها

وهو يواصل الحديث كمن يتذكّر

شيئًا بصعوبة.

كان البيتُ نظيفًا

والثياب مرتبةً

وكان الزائرون يلاحظون هذه السعادة

ويذهبونْ..

كانت الأمورُ تحدثُ عاديةً في الخارج

كان الباعة يمرونَ

والإبنة نائمة

كانت الأبوابُ موصدةٌ

والساعةُ تدقْ

وحين يتكلّمان

لا ينظر واحدهما إلى وجهِ الآخر.

هي تجمع طرف القماش بين ركبيتها

وهو يواصل الحديث كمن يتذكّر

شيئًا بصعوبة.

————————

قرب البعاد

أغيبُ، فيُفني الشّوق نفسي، فألتقي،

فلا أشتفي، فالشوق غيبً ومحضرا

(ابن عربي، “ترجمان الأشواق”)

أشتاقُ من أحبّ وأشتاقُ إليه. وما تبرأ حالي من تلفٍ وافتقاد. فالشوق أمارة الحبِّ في الغيبة والحضور لأنّه حال الرّغبة واسمها الآخر.

يبْرَحُ من أحبّ جواري، أيّ يصيرُ منّي في البراحِ، في المتّسع من الأرض والخلاء، أو أخاله كذلك إذ يرحلُ، فيشوقني وألتهف، كمثل النّار إذ التهبتْ، تستبدّ بي التباريح. تباريح الشّوق. ومن معنى الشّوق الافتقاد. أو نزاع النّفس إلى مفتَقَد. أمّا الافتقاد له من الرّغبة. إذا كانت الرّغبة بالحد الأغسطيني، «اشتهاء ما هو غائب»، فإن افتقادي الشّيء، لغةً، هو طلبي إياه عند الغيبة، عند غيبته. ويزداد تطلّبي إيّاه إلحاحًا كلّما نأت به الغيبة عني.

أشتاق من أحبّ، تشوقًا واشتياقًا وتلهّفًا وافتقادًا، ويقيني أن لقاءَه لن يرضيَ فيَّ إلا الشّوق مستبدًّا بی نزاعًا إلى لُقياه. أمّا اشتياقي إليه فلا يستكين باللقاء، بل يزيد التهاف القلب، أي تحرّقه. إذ يغيب من أحبّ يُبَرّحني الشّوق إليه وينالني منه التبريح والسّقام المتوّلد عن “إدمان الفكره” (ابن حزم). وهو إذ لا يحضر لا يحضر على تمام تطلّبي إيّاه ورغبتي فيه، لأنّ في تمامهما زولًا لما يتقوّم بِهِ الطّلب والرّغبة. أي زوال شروط المحبّة وعلاماتها. لذلك يشوقني على الدّوام، وقبيل التلاقي، ولا يستكين اشتياقي أوان اللقاء ولو كان اللقاء وصلًا ومداخلة.

ألقاه ملهوفًا (حزينًا) لاهف القلب (محترقه)، أسيان غير صابر ومظلومًا، ويلقاني على صورة حاله. فمن الشهوة (وهي حركة النفس طلبًا للمُلائم) معنى المشاهاة، أي المشابهة، وما يسري في رغبات المحبين ويعتمل أشبه بالتقاء الشبيهين اللذين لا يكتمل نقصان حالهما إلا تدريجًا عبر إضافة النّقصان إلى النّقصان.

في لقائي من أحبّ أوّل ما يبدر مني تبديد الغيبة بأن أشتمل على حضوره كاملًا بالنّظر. وبالإفصاح عَن مقدارِ شوقي. ثمّ المخاطبَةِ التي تهمس في العناق المتعجّل. وكأنّ العناق استدراك غيبة المحبوب في كلّ سعي قد يستردّه إلى حالة الغياب. وتصبح المسافة ماثلة ولو كانت “قاب قوسين أو أدنی…” (على قولة المتصوّفة). ذلك أن الفترة (ومعناها الحرفيّ: من الغيبة، المؤقّت) التي تسبق اللقاء، تدرج الزّمن، مهما كان بطيء التّصرّم، في حساب الانقضاء الذي يقرّب نوال الوصل، أما اللقاء فيدرج زمن الوصل، الذي يريده العاشق دوامًا، في حساب الحيّز والمكان.

فالمسافة مهما قَصُرت بين المحبّين هي اتساع وبراحٌ. والقربُ ليس القرب المُرتجی بل حسرة لأن في حال القرب ثمّة ما هو أقرب. واللمسة الأعمق، إذ توقظ الرغبة إنّما توقظُ اشتهاء الغائبِ وتشيع الإحساس بالنّقصان. والعناق لا يكفي لأنّه احتضان لا مداخلة، واللثمة والتّطاعم والاحتضان، وكلّها كنايات لامتزاج ذاتين في جسدين. فلا يزول من يحب، لأنّ العاشقين اثنان لا واحد. لأنّ المحبّ ليس المحبوب، ولأنّ المحبوب ليس المحبّوب لا فَناء يمزج الجسدين على تمام ما تصبو إليه رغبتهما. فيرقى الاشتياق في وصل اللقاء حدًّا لا تصحّ معه إلا الغيْبة. غيّبة المحبّ عن ذاته إصغاءً لذات المحبوب ولو بالوهم والتمنّي: لو أكون جسد من أحب! فأجاور رغبته، ويجاور رغبتي. وأحمل ذاته في كَنَفي.

من أحكام اللغة قَوْلنا: شاقَني الشّيء، يشوقني، فهو شائقٌ وأنا مشوق. فالعاشق كائن من الأشواق لا تعثر، الدهر، على ترجمانها. وليس غريبًا أن يكون الشّوَّقُ في لسان العرب، هم العشاق.

*من ديوان: معجم الأشواق

“بسام حجار: الأعمال الشعرية الكاملة – دار الرافدين ومنشورات تكوين”

——————————-

لا تذهبي إلى الجوار المخيف

(لذكرى دلال، أختي)

تضجرين كثيراً هناك

أعرف،

ربّما تشعرين الآن بالقيظ،

وغداً بالبرد

وثقلِ الأبوابِ الضيّقة.

هل نسيتِ سترةَ الصوف

وفرشاة الأسنان

موعد نوم الأولاد

دفاتر التلاميذ

والضحك الكثيرَ في الأمسيات

التي ترتجلها

ابتسامتك الغامضة؟

نادي عليّ لكي أفتحَ الباب

أم إنّكِ الآن بعيدة؟

أوصيك ألا تذهبي إلى الجوار

الذّي أخافُه

كم أغضبُ منكِ لأنّك فعلت

قولي إنّك أسأتِ استخدامَ الوقت

ما بعدَ الظهيرةِ

وإنّك ذهبتِ

أبعدَ ممّا أظنُّ

أبعدَ ممّا أعرف.

ولكن قولي هل بيتُك الآن أرحبُ؟

هل ثوبُكِ يرضيك؟

هل اشتريت الكعك المثلّجَ والشموع

وزينةَ الميلاد المبكرِ هذا العام؟

أم إنَّك وحيدة؟

هل يأتي من يفتحُ النوافذَ في الصباح

وينفضُ غبارَ الأواني والستائر

ويقول: صباح الخير؟

أم إنّك تنتظرين بصمت؟

هل أغمضت عيناً بالرّقةِ التّي تُؤنسُ

الأمسيةَ

أم إنّك الآن ساهمة؟

نادي عليَّ لكي أستيقظ

أو أسمع صوتاً

قولي كيف الصباحاتُ هناك،

أودّ أن أذهبَ

لكنْ لا أعرفُ من يأخذني

ـ هل تأخذني يا سيّد؟

وحين تعتادين العتم أخبريني

إذا سيّاراتُ الأجرةِ تمرُّ بجوارِ

نومِك،

أو إذا كان الطريقُ سهلاً

لكي لا أضيع.

صباح الخير.

أين أنتِ؟

هل نهضت من الزنبق الذابل عليك،

هل كان نومك هادئاً؟

أعرف أنّك ما زلت نائمة

وأنّك الآن تحلمين بالأولاد

والأمسياتِ

والأثوابِ الزاهيةِ،

أغمضي عينيك واستريحي

غداً سيأتي صباحُ الخير،

هل تكونين هنا؟

أنتظرك،

في البيتِ، على الناصيةِ، أمامَ البيت

فقط اقرعي البابَ

أو نادي عليَّ

نأخذُ كأساً واحدةً ونغيب

فقط اقرعي البابَ

لكي تخبريني ماذا حدثَ في غيابِك

لكي أخبرَك ماذا حدث في غيابي

لكي أراك قبل أن تذهبي

على عَجَلٍ كأنّ عمرَك هُنيهة.

اسمعي،

كوني للحظةِ في مكانِ واحدِ،

توقّفي مرّة عن الضحك،

لا تحبّيني إذا أردت

لكن اسمعي

هل أحضر لك سترة الصوفِ من الخزانةِ

أو ربّما كوبَ ماءِ

سيكارة؟ أعرف «فايسروي لايت» أو

ربّما زجاجة كونياك في عيدِ زواجِك.

لا تقولي كلاماً سأندمُ عليه

لم يعدْ لديك وقتٌ

دعيني أراك:

جميلةً، لكنّك لستِ هنا

رقيقةً، لكنّك لستِ هنا

أين أنتِ؟

قولي لكي أرسلَ لك ورداً

في الصباحِ وفي السماء،

لأن السير يتعبُني.

أنتِ وحيدةٌ الآن؟

لا تغضبي منّي،

لم أحسبْ أنّ الهواءَ قليلٌ هناك،

وأنّ نومَك يستغرقُ كلّ هذا الوقت،

لن أطرقَ البابَ طويلاً

سأعود في وقتٍ آخَر

في يوم آخر

علّني أجدُك

لكن نامي الآن

نامي الآن

لكي لا أجدُك متعبةً في الصباح

صباحُ الخير.

حقاًّ؟

أعدُك أن أنسى،

عديني أنّك، في الحجرةِ الضيقةِ

وحدَك،

لن تخافي.

(۲۹/۹/۱۹۸۸)

*من ديوان: مهن القسوة

“بسام حجار: الأعمال الشعرية الكاملة – دار الرافدين ومنشورات تكوين”

—————————-

ضعي زرافةً في إناء، سمكةً في حديقة

هل نُقيمُ في السّحابة الزّرقاء

التي تَرسُمـُها مروی قُرب اسمي

حينَ يَقتَرِبُ الدَّويّ من النّافِذَة

وَحينَ يَقْعي الأثاثُ في الزّوايا

أو تَخافُ الستائر

لا السّحابة تُمطرُ

ولا اسمي يجعلُ العالمَ جميلًا

لذلك نامي يا ابنتي، أنت

وحين أغفو قليلًا

أَعدكِ أنْ أحلُمَ بكِ

أَن أُفرغَ رَأسي من خردَتِهِ الثَّقيلةِ

وأفكِّر في السّحابة الزّرْقاء

في البيت

في العتبة

في الثّمار التي تُشبه الفراشات

والفراشات التي تشبه الثّمار

فقط

حين ترسمينها.

أسألكِ إذن

لماذا لا ترسمين العالم كلّه

لكي يُتاح لهُ أن يشبهَ شيئًا

ضَعي زرافةً في إناء

سمكةً في حديقة

ضعي عصفورًا ووحيد قرن

في قفصٍ واحدٍ

وصدّقي

أنّهما سيتحابّان

لأنّك تريدين ذلك

بالعنادِ الذي يجعلُكِ تحسبينَ النّومَ

عطلةً زائفة

ضَعي، حينَ ترسمينَ وَجْهي،

قَليلاً من التَّعبِ في مَلامِحي

خَطًّا واحداً على جَبيني

لِكَي أَحسِبَ أَنّني في مُنْتَصَفِ العُمْرِ

ولَيسَ في آخرهِ

ضَعي بريقًا باللّونِ الذي تَخْتارين

لِكَيْ لا يظلّ الجَفافُ في عَيْنَيّ

وضَعي كثيرًا من الماءِ

لِكَيْ تبقى لي يَدانِ قويّتان

وشاربان

وقلبٌ صغيرٌ لشدّة ما يَصفُر صَدْري

مِنَ الخواء

لا تَنسي الأسرَّة لكي نَنام

والأفواه لكي نَبْتَسِم

وقليلًا من الدُّموع

فقَط

لِكَي نَتَذكّر بين حينٍ وآخر

-قَبْلَ أنْ نَنْسى-

كيفَ يَبْكي رجلٌ كامرَأةٍ

كيفَ تَبْكي امرأةٌ كامرأةٍ

كيفَ يبكيانِ لشدّة ما يَجمعُ البكاءُ بَيْنَهُما

هل نُقيمُ بالعُلبةِ الصَّغيرَةِ

التي تؤثِّثينها بالورقِ المَقْصوصِ

وعيدانِ الثقابِ والمَلاعِق

ثُمَّ تأْتي ابْنَتُكِ -الجَميلَةُ كَدُميةٍ-

لتعلّمنا

كيفَ تكونُ الدُّمى سعيدةً وهيَ لا تَحكي

رقيقَةً وهي لا تَفْتَقِدُ أحَدًا

ثمَّ تُغلقينَ الباب

فيما الرَّجُلُ يتَذكَّرُ أنَّه رجلٌ

والمرْأةُ تتذَكَّرُ أنّها امرأةٌ

يتذكّران أنّهما يَبْتَعِدانِ معًا

كلٌّ بِمُفرَدِهِ

إلى عتمةٍ مُخيفَةٍ

ضَعي رفًّا لمِصباحٍ

ومِشجبًا لمعطفي أو قُبَّعتي

وضَعي ليلًا دافئًا بعدَ كلِّ نَهار

ومسافرين

لا يُخطئونَ موعدَهُم

ولا تفوتُهم طَرْقَة الباب

وركضكِ خَلْفَ الباب

فرْحَتكِ خَلْفَ الباب

*من ديوان: فقط لو يدكِ

“بسام حجار: الأعمال الشعرية الكاملة – دار الرافدين ومنشورات تكوين”

——————————

ألبوم العائلة

“ومساء ذلك اليوم, قال يسوع للتلاميذ:

[اعبروا بنا إلى الضفّة الأخرى ]”

(مرقس 4; 35)

1

لم أكن ضالّاً فاهتديت

لم أكن سائلًا فوجدت

كنتُ في شرقِ الحكاية أو غروبها

في مطالعها أو في الختام

لم أكن

2

الجهة الّتي أفضت بي،

انمحتْ

أرى حجرًا على التلّة

كأنّه ينتظرني

3

المدينة لم أعرف اسمها

و الشارع، ككلّ الشوارع، طويل ومزدحم و قاس

لم يفتح الباب الّذي طرقته

إذ لم يكن بابٌ يفتح في جدار يترامى إلى السماء

عدتُ أدراجي

فربّما غدًا

4

سألت الرجل الّذي كنته قبل عام

لم لا أراني بينهم؟

5

تلك زوجتي و هؤلاء أولادي

وتلك هي الحجرة

وشخص الزينة الغريب

والأريكة المزركشة و الضياء المصبّر للمبة الألّوجين

والباب المغلق

والأمسية الّتي صارت صاخبة

لم أسأل عن قرص الأسبرين و لم يلتفت أحد

لمّا غادروا أبقت اللمبة مضاءة

واستلقت على الكنبة

لم تسألني قبل أن تنام:

أتحبّني؟

6

لا أجدني واقفًا أو جالسًا أو ساهيًا

لا في أبيض الصورة ولا في أسودها

ويخيّل إليّ، إن شئت انتشال الوقت

من بئره، أنني ربّما كنت خيال ذاك

الشخص المغادر، تاركًا وراءه دخان

سيكارة و كأسًا نصفها فارغٌ من النبيذ

7

منذ عام لم تكن الصورة قد أصبحت قديمة بعد

كانت منار في عامها الأوّل

وكان الرجل الّذي كنته في عامه الأخير

وكانت كلّ سماء صافيةً و كلّ نهار مشرقًا

وكان للرجل متّسع من الوقت لكي يقبّل قدم

ابنته الصغيرة،

يقول لها قبل أن تغفو:

أحبّك

8

كنت في الصورة الكبيرة على الجدار الغربي

لردهة الجلوس

مبتسمًا

محدّقًا في الجدار المقابل

وحدي

معهم أو من دونهم

وحدي

9

لم أجدني في ألبوم العائلة

حين قال أحدهم هاتوه من الصندوق

وراح آخر يمسح الغبار والنسيان عن جِلدِه

10

كانوا من حولها كثرًا

وكانت تنظر، ساهية، إلى مكان ليس في

الصورة

إلى مكان بعيد

11

كانت تحدّق في المكان البعيد

كأنّها تراني

وكنت أعلم أني، هناك

في المكان البعيد،

حيث تراني

*من ديوان: ألبوم العائلة يليه العابرُ في منظرٍ ليليّ لإدوارد هوبر

“بسام حجار: الأعمال الشعرية الكاملة – دار الرافدين ومنشورات تكوين”

—————————–

أَيُّنا، يا أيُّها الطّيفُ، يَحيا

(فَإنَ رؤيةَ الشيء نفسه ما هي مثل رؤيته نفسه

في أمرٍ آخرَ يكونُ لهُ كالمرآة)

*ابن عربي: فصوص الحكم

أَيُّنا، أيُّها الطّيفُ، شَقيقَ غُربَتِك؟ إنّي أُبصِرُ مَن يُشبهني سائِرًا بَينَ وَحشةِ الحصاة ويُتمِها، وأُبصرهُ مُقيمًا في الضَّوءِ الماصِلِ بَينَ أَشجانِ المُقيمينَ هُنا دونَ رَجاء.

الحُفاةُ جَعلوا الطريقَ إليكَ متاهًا والحَزانى أَنفَقوا الصَّلواتِ وما قَرَّبَ الدُّعاءُ إلينا مِنكَ إلا الاشتياق .

رَأيتُني بَينَ يَديكَ ورأيتُني مَنفيًّا عَنك ورأيتُني بَيني وبينَكَ بَحرٌ ولَمَسَت يدي ثَنيّات ثوبِك. ثُمّ رَأيتُني بَعيدًا وهالَةٌ مِنكَ تَصحَبُني، ثُم رَأيتُني بَعيدًا ولا شَيءَ مِنكَ يَصحَبُني فَأدرَكتُ أَنّي في حُلمٍ لا صَحوةَ مِنهُ إلّا الحُلم. وقلتُ: أيُّها الطّيف، أَسلِكُ طريقًا أنارها العابرون بِلَهفِ أَبصارِهم وأَوْدَعَتْها القِفارُ وَحشَةَ أسرارِها، ومَشيتُ وما خاطَبتُ أَحَدًا إلّا أَشارَ عَليّ بالمشيرِ حَتّى انهكني المَسيرُ فَلاقَتني ظِلالٌ ليسَ لَها شَجرٌ ولا تَدري بِمَ تُورف، لكنّها ظَلَّلَتني بِثقلِ الغَفوةِ إِذ أَطبَقَت الغَفوَةُ على عينيّ فَرأيتُني بيني وبينكَ جَبلٌ ومُنحدَرٌ وسَهلٌ وشعاب، ورأيتُني بينَ يديكَ ومَنفيًّا عَنك ولَمَسَتْ يدي ثَنياتُ ثَوبِكَ فَأدرَكتُ أَنِّي في الحُلمِ الذي أَسلَمَني إلى حُلمٍ لا يَقَظَةَ مِنهُ وإنّما الحُلمُ الذي يَليه. وقلتُ: أيُّها الطّيف، أَسلِكُ شعابَ الجَبلِ والمُنحَدَرِ وإذا لاحت طَريقٌ أَودَعتُها رَجائي، ومَشيتُ ولَم أَعثُر عَلى الهَواءِ في أَعلَى الجَبلِ ولَم أَعثُر عَلى الينبوع في أسفلِ المُنحدَر بل تراءت لي الوَحشَةُ في هَيئةِ الشّوكِ وترامي الوعرُ كالمفازات لا تَحدُّها العَينُ أو جناحُ الطّير. فَأسلَمتُ جِسميَ للتَّعبِ يُحسِنُ وفادتي كالبيتِ وليسَت له جدرانٌ وليسَ لَهُ سَقفٌ وبابٌ ونافِذة. وغفوتُ ورأيتُني بَينَ يَديك، عَلى مَقرِبَةٍ مِنكَ ومَنفيًّا عَنك، ولَمَسَت يدي ثَنيّات ثوبِك وأدرَكتني الطّراوةُ، أعرفُ أنّها ليست في شيءٍ إنّما يجدُها النّائمُ واقفةً في الحُلمِ الذي أسلمني إلى حُلمٍ لا صَحوةَ مِنهُ إلّا إذا تَلَمَّسَتْ يداكَ الباب الذي مِنهُ أدخَلَكَ الطَّيفُ وأَضَلَّك، وقالَ لا تَبحَث عَنّي لِئلا تجدني، وما وجدني العابرونَ إلا في حُلمٍ لا يَقظَةَ منه لأنّهُ لَيسَ حُلمَ النّوم بَل حُلمُ اليَقَظَة، ولا ينهَضُ اليَقظانَ مِن نَومٍ ولا يَنهَضُ النّائمُ مِن مَوت. وليسَ إلّا النسيان.

قُلتُ: أيُّها الطّيفُ، أيّنا يَحيا؟ إنّي أُبصِرُ مَن يُشبِهُني في الحُلمِ الذي يُبصِرُني فِيه. أَراني ضَلَلتُ الطّريقَ تُسلِمُني الشّعابُ إلى شِعاب، وأَراهُ ضَلّ الطَّريقَ تُسلِمُهُ الشّعابُ إلى شعاب. وما ظَنَنتُهُ العَيشَ كانَ حُلمًا أَبصرتُهُ، وما ظَنَّهُ العَيشَ كانَ حُلمًا أُبصره. أَبصرناهُ مَعًا، الحُلمَ الذي ما كُنتُ فيهِ وكانَ عَيشي، والحُلمُ الذي ما كانَ فيهِ وكانَ عَيشه. وحسبنا، معًا، أَنّ الآخَرَ مِنّا يَحيا، وأَنّ الآخَرَ مِنّا أَضَلَّهُ الطّيفُ إِذ أَدخَلَهُ إِلى الحُلمِ الذي لا يَقَظَةَ مِنهُ إلّا الحُلم الذي يليه.

فأَيُّنا، أيُّها الطّيفُ، شَقيقَ غُربَتِك؟

الحفاةُ جَعلوا الطّريقَ إليكَ مَتاهًا، والحمّالونَ أَنفقوا الحَياةَ سَعيًا وراءَ الحُلمِ الذي يُفضي بِهم إليك.

والأحياءُ، أشقّاءٌ لَنا، حَلموا ذات يومٍ أنَّهم يحييون وصدّقوا، وما زالوا، أيُّها الطّيف، يُصدِّقون.

*من ديوان: مجرد تعب

“بسام حجار: الأعمال الشعرية الكاملة – دار الرافدين ومنشورات تكوين”

——————————

مُجرَّدُ تَعَب

(التَّعَب: هُوَ الملاك الذي يَلمس إِصبعَ مَلِكٍ نائِم، فيما يواصل الملوك الآخرون نومهم الخلوَّ مِنَ الأحلام)

*بیتر هاندکه

بارِقَةٌ واحدةٌ، ليسَ، بِالضَّرورةِ، مِن عِندِ الله.

إشارةُ يدٍ. مُجرَّدُ تَلميحٍ. حتّى ولو كانَ الإِلماحُ كاذِبًا.

فَأُصدِّقُ أنَّ كُلّ هذا تَعَبٌ.

تَعَبٌ فَقَط، تَعِبَ الرَّجُلُ يَتعَبُ تَعَبًا. فَقَط. كَمِثلِ ما يُصرَفُ عَليهِ الفِعل. أو كَمِثلِ ما يُضني جُسومَ الحَمّالينَ وعُمَّالُ المناجِم والسّائِرين أبدًا، والمَحكومينَ وبِغالُ المُهرِّبينَ والقادةَ، والقانِطين والمريدينَ كافَّةً في دروبِ المشقّات.

فَأُصدِّقُ أَنّ كُلّ هذا تَعَبٌ ويَزولُ، كَما تَزولُ الأَعراضُ مِن كُلِّ شَيء، لِأنّها الأعراضُ ولَيسَت الشَّيء وإن كانت توهمُه (أيْ الشَّيء) لِبَعضِ الوَقتِ أنَّها هو لِشِدَّةِ ما تُساكِنهُ فَيُصبِحُ مَظهرًا لَها وتصبحُ مَظهرًا لَه. كَما يكونُ الصُّداعُ انفِجارًا كَونيًّا مُتواصِلًا في الرَّأس، والعياءُ رَغبَةً في التَّلاشي. تَعَبٌ فَقَط. لَيسَ عِلَّة وأوجاعًا تُروِّضُ جِسمَكَ عَليها، وتَبرَأُ مِنها بِعُبوّاتِ الكِيمياءِ المُلوَّنَةِ، وإرشاداتِ الطَّبيب، وزَمِّ النَّفسِ تُكابِدُ أَهواءَها. ليسَ الألَمُ الذي يَجعَلُكَ تَشعُرُ بِشِدَّةِ ما يُؤلِمُك. تُصبِحُ يَدُكَ، مَثَلًا، هي اليَدُ ولا شَيءَ سِواها. الرِّئَةُ هي الرِّئَة. والقَلبُ هو القَلب. فالمُؤلِمُ هُوَ الماثِلُ في جِسمِكَ، مُستحوِذًا عَليهِ، مُمتلِكًا إِيّاه، ويَجعَلُ مِن روحِكَ مُجرَّدَ وَعي لَه.

ولكِنَّ التَّعَب…

أَحسَبُ أَنَّهُ مُجرَّدَ فِكرةٍ خاطِئَة. عَياؤُها في أَن تَكونَ سَبَبًا لِزوالِها، لا بَل رَغبَةً فيه. مُجرَّدَ فِكرَةٍ. كَأَنْ تَرغَبَ، بِالفِكرِ وَحدَهُ، أَن تَتَلاشَى، أَن تَتَخَفَّفَ مِنَ الأَحمالِ التي أَصبَحَت، فَجأةً، ثَقيلَة. فوقَ طاقَتِكَ، فوقَ احتِمالِكَ. حَتّى الخُطواتِ تَكتَسِبُ وَزنًا. فِكرَة النّهارِ، مَثَلًا. لا تَجِدُ، مَهما اجتَهَدتَ، في مصنّف للثّقات أَنّ النَّهارَ جِسمٌ مِنَ الأَجسامِ التي يَتقدَّمُ بِها الكَون في وجودِهِ المادّي. وإن فَعلتَ، سَخرَت مِنكَ القواميسُ وازدَرَتكَ المعارِف، حتّى ما لا يُجاوِزُ دَرَجَةَ الصِّفرِ مِنها. فِكرَةُ النّهارِ، إذًا. حِينَ يُحصي وَعيكَ الشَّقيُّ مَواقيتَهُ بِأعشارِ الثّانيَةِ، لا الثّانيَة. وبِالأمتارِ والسّنتيمترات مَسارَ شَمسِهِ الهائل بَينَ الشُّروقِ والمَغيب. وبِالأطنانِ، آلافها المُؤلَّفَة، الأجسامَ التي تَدُبُّ عَليهِ، مِن إِسمَنت ومَعدَن وبَشَر ودواب. وبِالأرقامِ الفَلكيَّةِ مِقدارَ ما يُقالُ فيهِ مِن كلامٍ وما لا يُقال. وما قَد يَحدُثُ فيهِ أو لا يَحدُث. وعَدَدَ الولاداتِ وعَدَدَ الوفيّات. والرَّقمَ الهائِلَ في حِسابِ الأكاذيبِ والمُفارقاتِ والمُصادفات.

ومِقدارَ ما فيهِ مِنَ الحَياةِ، ويُخيفُك.

فِكرَةُ النّهارِ، إذًا. أَحسَبُ أَنّها ما يفوقُ صَخرَة. لكنّها مُجرَّدَ فِكرَة. وتَحمِلُها في رَأسِكَ، في مَكانٍ ما مِن دِماغِك. وتَنهَضُ بِها، وتَسيرُ بِها، وتَعمَلُ بها، وتُحبُّ وتَكرَهُ وتَحزَنُ وتَفرَحُ بِها. ولا تَشعُرُ حتّى بِثِقلٍ في أَجفانِك. ثُمَّ يَأتي التَّعَب. يَأتي، ويَقولُ لَكَ أَحدُهُم: إِنَّهُ مُجرَّدَ تَعَب.

م.ج.ر.د. ت.ع.ب. أَمرٌ بَسيط. فَقَط سَتشعُرُ لِبَعضِ الوَقتِ، أَنَّ كُلّ شَيءٍ هُنا، أَقصدُ في العالَمِ مِن حَولِك، صارَ لَهُ حَجمٌ وثِقل. لَن تَرى الشُّروقَ أو الغُروبَ كَما كُنتَ تَفعَلُ في السّابق. وإِن صادَفتَ أَحَدًا، في الشّارعِ أو المَقهَى أو في مَكانِ عَملِكَ، لَن يَكونَ كَما اعتَدتَ أَن تَرى أَحَدًا في وَقتٍ آخَر.

ولا بَأسَ إذا جَعلتَ تَبكي، بَينَ الحينِ والآخَر، لِأسبابٍ تافِهةٍ، أو بِلا سَبَبٍ، هَكذا تَبكي، لِأنَّكَ أَصبَحتَ العِبءَ الذي سَتحمِلُهُ طِيلَةَ العُمرِ عَلَى كَتفَيك. أَو لِأنَّكَ أَحبَبتَ ولا تَقوى عَلى العَيشِ لِأجلِ مَن تُحِبّ، لِشدَّةِ ما أَوهَنَكَ التَّعَب، لِشدَّةِ ما لاشَاكَ وبَدَّدَكَ وغَيَّبَكَ وجَعَلَكَ رُكامًا. فَكيفَ تَقوى عَلى العَيشِ حُفنَةُ الرُّكام؟

لكِنَّهُ مُجرَّد تَعَب.

تَعَبٌ كَمِثلِ أَن تَنتَبِهَ فَجأَةً وتَجِدَ أَنَّكَ في المَكانِ الخَطأ، في اليومِ الخَطأ. وتَجِدُ أنَّكَ، نَفسَكَ، الرَّجُلَ الخَطَأ. ومَعَ ذلِكَ تَتَظاهَرُ بِأنَّ ما وجدتَهُ في هذهِ الأخطاء كُلّها هُوَ الصّوابُ الذي أَتاحَ لَكَ أَن تَحيا إلى الآن، وحِينَ تنهارُ الأشياءُ مِن حَولِكَ، وتُقيمُ عَلى العَتبةِ طَويلًا وكَثيرًا وبإفراطٍ ما بَعدَهُ إِفراط، تَحسَبُ أنّه مُجرَّدَ تَعَب. تَعِبَ الرَّجُلُ يَتعَبُ تَعَبًا. كَمثلِ ما يَتعبُ الحمّالون… إلخ. وإنّ التَّعَبَ فِكرَةٌ خاطِئة، لكنّها لا تَزول. القَليلُ مِنها وَهَنٌ يُلاشيكَ عِندَ اليَقَظة. والمِقدارُ مِنها إنهاكٌ يُلاشيكَ عِندَ النّوم. لَيسَت العِلَّة أو المرض الذي يقتلك. بَل الفِكرَةُ التي تُحْييكَ، إذا كان إِحياءُ الرَّميمِ حَياةً، والفكرة التي تحيا معك، في داخلك. ليس الموتُ الذي يُميتُكَ بل الموتُ الذي يَحيا في داخِلِك. الموتُ الذي يَحيا بِك.

وتُصدِّقُ أنَّ كُلَّ هذا تَعَبٌ.

*من ديوان: مجرد تعب

“بسام حجار: الأعمال الشعرية الكاملة – دار الرافدين ومنشورات تكوين”

—————————

حكاية الرجل الذي صار ظلَّاً

ما كنتُ منذ البداية هكذا. أقصد لم يخلقني الله هكذا، وحيداً ومتروكاً للحيرةِ، إذ لا أجد من يَصحبَني وأكون ظلّهُ. ولكن ليتني أذكُر بالدقَّة التي تَتَوخُون كيف جَرَى لي ذلك فأصبَحتُ ما أنا عليه الآن، أو منذ بعض الوقت.

أَجدُني لا أَقوَى على الحَرَكةِ، مُقيماً سوية البَلاط لا أبرح. وما يدور عليَّ من مواقيت يبدِّل من أحوالي وهَيئتي، فلي مع تبدلات الإضاءة بين مواقيت النَّهار والليل قصص أعجب من أن تُروى هنا، ولا يَتسع لها مصنف كامل من ترهات بورخيس. فالصباح يَجعلُني منبسطاً على سويَّة الأرضية المُلمَّعة، والظهيرة تُلصقني بالأشياء العمودية الواقفة ولا تتعب، ثم تتدرج بي الحال إلى استطالة تشوُّه قواميّ الطيفيّ حتّى يَكسرني الغُروب بانعكاسهِ الشَّفقي إلى نِصفين. نصف من أسفلِ الرَّكبةِ إلى القَدمين، والنصف الآخر من أسفل الرُّكبةِ أيضاً إلى هَامتي، فأقف بانحرافٍ ظاهرٍ على جدار ولا شيء يَسندني، إلى أن يحلّ الظَّلام فيذيبني في كنفهِ كأنَّنَي قطرات حبرٍ أو ماءٍ ملوَّن تمتصُّهُ ممحاة غريبة لا قوام لها.

بلى، ما أخطأتُم الحسبان، فما أتحدثُ إليكم عنه هو الظلُّ الذي صرتُه منذ بعض الوقت، لذلك يَصعبُ أن يَبصرني أحدُكم في الليلِ أو في عَتمة المَكان. كأنَّني أنتمي إليه أو أصبحتُ مِلكاً لهُ مذ غَادرني صاحبي وانتظرتُه طويلاً هنا ولم يعد. فقط بوسع واحدكمٍ أن يَراني في الضوء. في ضوءٍ فاضحٍ لا أَرى منهُ شيئاً. وطبعاً لن أشرَحَ لكم هُنا ما تَعرفونه جيداً بأنَّ الظلّ لا يَراكم حين ترونه جيداً لكنَّه يُلازم حركاتكم وسكناتكم ولا يغادركم إلا حين تلوذون بأسرّتكم الدافئة وتحلمون.

ألمعيٌّ هناك يقول: وماذا عن السير في الظلمة حيث لا ظلّ يَتبعُنا؟ فأقول من فم الظِّلال إياها إذا جاز لي أن أقول: يكون من هو مِثلي فدية نجاتكم من العبور إلى الجهة الأخرى. ليتخيل أحدكم الظَّلام مرآة، ولو معتمة، يسير بمحاذاتها على وجه الدِّقة، ويَصحبه الظل، في الجهة الأخرى من المرأة حيث يسود الظلام، ولن يخطر ببال أحدكم الأهوال التي يصادفها من هو مثلي هناك. ولكن لندع هذا الأمر جانباً، فليس في نيتي أن أشكو أو أن أجعل من ذاتي المعدومة رمزاً لبطولة الخوض في عالم الظُّلمات وإلا لأدركني المساء قبل أن أروي على مسامعكم ما صرتُ إليه منذ بعض الوقت.

ذات يوم ألفيتُني وحيداً. كان الوقتُ مساءً والظُّلمة حَالكة فلا يَبصر صاحبي إصبعه حتّى لو ألصَقَها بعينه الحَاذِقة. كان مُستلقياً على الكَنَبَةِ في ثيابهِ المُعتَادة وكان يَجهشُ في البُّكاء. يَشرب كأساً تلو الأخرى، ويشعل سيكارة تلو الأخرى، ويجهش في البُّكاء. وكانت الظلمة قد أذابتني في كنفها وامتصَّتني لكنَّني، في هيئتي السائلة، كنتُ أقعي عند قدميه لا أُغادر. أشبهُ صَاحبي في كلِّ شيء، أَقصد في ما عدا التشوُّه الذي يُسببه لي تبدَّل الضُّوء فيقرُّ منّي أو يمطني لكي أبدو دميماً، أُشبه صَاحبي إذًا في كلِّ شيء ولكنَّني ما سَلكتُ نعمة البكاءِ أو عَرفتها من قبل. وعلى الرغم من وَفائي لصَاحبي ما تمكنتُ يوماً من مُجارَاته أو إبداء التَّعاطف بدمعةٍ أذرفها حتى ظننتُ يوماً أنني من الغلظة والفظاظة ما يفوق الوصف. كان صاحبي يجهش في البكاء. ثم غادرني. سمعت دوياً أو ربما جلبة ارتطام هائلة، لست أدري. وفي اليوم التالي وجدتني هنا وحدي. وفي اليوم الثالث أيضاً. وفي الأيام التي أعقَبت ذلك إلى اليوم، بتُّ وحيداً لا قُدرة لي على الحِراك من مكاني. زوجة صاحبي وابنته لا تُعيران انتباهاً إلى الثَّكنة الطفيفة التي تبقع البلاط وموضعاً واطئاً من الجدار. وذات يوم، جاءت الزوجة بالممسحة وعدة التنظيف وحاولتْ أن تَمسَحني بكلِّ ما أوتيت من قوَّة وعَصَبية ولم يمح من هيئتي شيء. فحسبت أنَّني مُجرَّد بقعة من الرطوبة تسرَّبت من أسفل الحائط إلى البَلاط. وكفَّت عن المحاولة. وأصبحت تُحاذر إذا مرَّت بقربي أن يداني ظلّها ظلّي خَوفاً من بلل الرطوبة وشؤمها وكم وددتُ أن يألفني ظلّها فأصبح ظلًا له عَلَّني أجد من أتبعه في روحاتِهِ وغدواتِهِ. حتّى الابنة لم تَتَعرف إليّ وكنتُ دائماً في صُحبة ظلّها حين يرافقها صاحبي في نُزهة قصيرة في الجوار. ليس بِوسعي أن أكون شبيهاً به لأنَّ لا مظهر ولا هيئة له. كان وسيماً، مُستقيم القامة إلى نحول، عصبيّ المَزاج والحركة. وكنتُ أُحاكي حركاته وسكناته ثم غادرني ولا أعلم إذا كان يصحبه ظلٌ آخر هناك.

وأصبحتُ هُنا بلا نفعٍ أو قيمة حتّى وددتُ لو تمرّ بي سُلحفاةٌ فأكون ظلّها، لو يمر بي كلبٌ فأكون ظله، أو حصاة فأكون ظلّها. ذلك أني بتُّ أخاف أن تَمتصّني الظُّلمة مرة واحدة وإلى الأبد. ماذا أفعل بالضوءِ الذي يطلع كلَّ صباحٍ إن لم ينهض صاحبي من نومه، بجسمه كاملاً. الرأسُ والذراعانُ والجذعُ والساقان، لكي أتبعه فتدوسني أقدام السَّابِلة ولا ينال مني ألم، بل أواصل زَحفي الخفيف بين الحصى والنَّقح والعَجلات والنفايات، لا تعيقني أو تلوِّثني، خفيفاً وقانعاً لا أعرف لسعادة الصُّحبة مثيلاً.

ماذا أفعلُ الآن إذ غَادَرني وانتظرتُ طويلاً وما عاد بعد؟ كيف أقضي مَلاوة الدَّهر، فلا عُمر لي، في الركن وحيداً؟ ما الذي يُبقيني على قيد الحياة؟ آسف، لا بد أنكم أدركتم خطأ العبارة. أقصد ما الذي يبقيني، على أن تكون الحياة لكم ولسواكم ولمن يرغب أيضاً. لا تزيلني أحماض ولا يُحطّمني ثقل ولا يَطمرني تراب. رحماك أيُّها الضَّجر!

*من ديوان: مجرد تعب

“بسام حجار: الأعمال الشعرية الكاملة – دار الرافدين ومنشورات تكوين”

———————————-

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى