أبحاث

المجتمع السوري .. تفتيت مستمر ومشكلات خطيرة/ شفان إبراهيم

يُعتبر التشبيك والعلاقة بين الوعي الاجتماعي والتنظيم السياسي أسّ البناء المجتمعي ومسارات العيش المشترك، وتكوين مجتمع فعّال في حدّه الأدنى قادر على مواجهة تدفق موجات مُثبطات تماسك المجتمعات، كالعنف والحرب وغيرها. ولا يقوم هذا التنظيم إلا بوجود أحزاب أو نقابات أو منظمات المجتمع المدني، لكن الفاعل الأول فيها السلطة السياسية التي تلعب دوراً محورياً وفقاً لنوعيتها ما بين الاستبدادية التي تشجع كل أشكال الترميز للعنف والقسوة والتسلط، أو الديمقراطية – الليبرالية التي تشجّع الحريات والمساواة وإيجاد حلول جذرية للمشكلات الاجتماعية.

وإذا انطلقنا من مسلّمة أن المجتمع السوري كان متمدّنا، ويضم نخبا سياسية وثقافية ودينية وازنة ورصينة. وتسبب غياب الحياة السياسية الحزبية الحرّة، وإبعاد الجميع من الشراكة في صناعة القرار السياسي والاقتصادي ومسارات تآلف وعيش المكونات معاً في سورية قبل العام 2011، تسبب بعزوف قطاعات مجتمعية – نخبوية واسعة وإبعادها من الانخراط في بناء مجتمعها، وأوجد توجّها عاما من النفور والاحتقان، مقابل فئاتٍ مجتمعيةٍ فضلت الالتحاق بالسلطة، لأجل مصالحها، فانشطر المجتمع السوري نحو شريحةٍ دخلت تحت عباءة السلطة، وأخرى ناضلت وقاومت واعتقلت، وثالثة فضّلت البقاء بعيدة عن المواجهة واكتفت بالعمل من دون إبداء أيَّ موقف. لينقسم السوريون فيما بينهم، بفعل ممارسات سلطوية، إلى مجتمع خاص بالطبقة الحاكمة، وهو مجتمعٌ تميز قسم منه بالرفاهية والتطوّر، لم تحصل عليها كنتيجة للإمكانات التعليمية أو الفكرية أو الاقتصادية أو تكافؤ الفرص، بل عبر مسارات الفساد السياسي، خاضعة لتزاوج السلطة ورأس المال، وغياب الاهتمام الحكومي بهم، حيث البدائية وأحزمة الفقر والحرمان وضعف التعليم، وفقدان كل أشكال الرفاهية أو الوفرة، وأوجدت كل أشكال العنف، ما أحدث ديناميكيات موحشة في بناء المجتمع السوري.

ومع بداية الحراك الشعبي، زادت رغبة السوريين في إيجاد بنية مجتمعية – سياسية جديدة، لكن الثورة المضادّة نجحت في إشاعة التطرّف والتعصب، وعسكرة الثورة وأسلمتها ومحاولة “دعشنتها”. كما شكّل انهيار الاقتصاد والهجرة والتهجير سدّاً منيعاً أمام التغيير المطلوب، ليكون واضحاً أن جدل العلاقة بين الحكومات السورية والمجتمعات المحلية أثارت سابقاً وحالياً عقما كثيرا في إيجاد المخارج المتوخّاة. واستمرّ المجتمع السوري بالانشطار بين شرائح مجتمعية تنتسب للسلطات المسيطرة، وهذه المرّة، على اختلاف مسمّياتها على طول البلاد وعرضها، وبين أخرى لا تزال تأمل بالتغيير الاجتماعي – السياسي المنشود، رغم ما رافق الحرب من عنفٍ وإرهاب شكلت في مجملها آفات فكرية وتقويضية مجتمعية، أعاقت تطوّر المجتمع السوري وحراكه إلى الأفضل، لتزداد المخاوف الشعبية بمزيد من التصدّع وانهيار المجتمع السوري، وطول الفترة اللازمة لنهوضه ثانية في مخيلة السوري الذي أنهكته الحرب، وأوصلته إلى أبشع مراحل حياته.

ومع تعرّض المجتمع السوري لكل هذا التفسخ والانهيار، ليست بالمفاجأة بعثرة الجغرافيا السورية لوضعها الحالي والعلاقة الطردية بين الانهيار المجتمعي والانقسام الجغرافي، حيث تختلف ثلاث مناطق في تركيبتها السياسية والإنسانية والمجتمعية والبيئة القانونية، لكنهم كلهم يشتركون بحجم الإهانة التي يعيشها المواطن السوري، خصوصا المواجهة الدائمة بين الطبقات الاجتماعية الأكثر فقراً وحاجة، ومجتمع الطبقة البرجوازية الناشئة وجيش من اقتصاديي الحرب الذين أبدعوا في إذلال السوريين الراغبين بتوفير متطلباتهم المعيشية، إلى درجة أن السوريين اليوم يعيشون حياة أتعس وأسوأ من حياة آبائهم، بل إنهم في ظل الاقتصاديات الحالية يعيشون في أدنى درجات العيش وأسوئها تعليمياً وأكثرها عنفاً، وهو ما يشكّل التأثير الأعظم في إيجاد التوجهات والتطلعات الراهنة والمستقبلية. .. ويمكن القول إن المجتمع السوري يعيش أربعة عوالم خطيرة نتيجة للحرب:

الأول: صحيحٌ أن أعدادا كبيرة من السوريين شكلوا نقلة نوعية في مسار حياتهم عبر تحقيق الإنجازات المميزة على صعيد التعليم والجامعات والعمل الخاص في أغلب دول اللجوء، لكن النمو المتصاعد  للانعزالية، وتزايد مخاوف تبنّي السوريين الشباب قيم الفردية الاجتماعية المطلقة أو شبه المطلقة ضمن بلدان استقرارهم الجديدة، بما تحمله من عواقب اجتماعية، تركت علاماتٍ فارقةً في المجتمع السوري داخلاً وخارجاً، وتبنّي العنف لاسترداد الحقوق، إلى درجةٍ أصبح في صميم التصرّفات البشرية بشرائحها وأعمارها المختلفة، لتتجاوز مجرّد تحرير طاقة القسوة الكامنة في الكائن البشري المظلوم.

الثاني: غياب الثبوتيات الورقية لأعداد كبيرة من الفارّين من القصف والحرب من أصعب المشكلات المجتمعية الإدارية المقبلة، وغالبيتهم من مناطق خارج سيطرة الحكومة السورية. إضافة إلى الخلل الفظيع والمخيف في الميزان السكاني، مع فقر رهيب في أغلب مناطق سورية، والسلاح المنفلت في الداخل السوري، وذاكرة السوريين المُهجّرين المتخمة بمشاهد القتل والقصف.. إلخ، شكلت إحدى أبرز وأسهل وسائل تغلغل العنف المجتمعي وتعدّد الانتماءات وتعاظم شعور الهويات المتنافرة والمتصارعة وغياب الهوية السورية الجامعة، وهي تغيراتٌ عكست تبدّلات جوهرية وعميقة في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية للسوريين. وبات من يعيش في الداخل السوري يرمز إلى أكبر صورة بؤس كامل لحياتهم وبكل تجلياتها وتفاصيلها.

الثالث: الأكثر خطورة الذي تجلى في انحلال النماذج التقليدية للعلاقات الاجتماعية – الإنسانية والوشائج العائلية المتينة، وانقطاع شبه تام للروابط بين الأجيال، أي بين الماضي والحاضر، من حيث تبنّي الأجيال الجديدة داخل سورية، لنماذج عيش جديدة تختلف عن مسار ونماذج عيش ذويهم القاطنين معهم أو في دول أخرى. وتسبّب ذلك كله بتفكيك التركيبة الاجتماعية التقليدية على أرض الواقع.

الرابع: تعيش أجيال الداخل السوري حياة البؤس والفقد الرهيب لأغلب المتطلبات، مع مزيد من المخاوف الحقيقية للدفع بهم إلى هوامش يسهل على الحركات الراديكالية اقتناصهم والتغرير بهم، خصوصا وأن “أجيال الحرب” لم يعد يصعب عليها اللجوء للعنف انتقاماً تجاه من مارسوا العنف والظلم والقتل ضدّهم عبر عقول محترفة، وأخصائيين في الضبط والقهر النفسي، في الظلم والقهر والعنف، تمكّنوا من إيصال العنف فكرة وتطبيقاً إلى لبّ المواقف الاجتماعية المختلفة، وتسببوا بالانهيارات الفظيعة والتفكّك الذي أطاح الطبقة الوسطى. حينها يمكن تخيّل أي مجتمع سوري قائم، الذي يشبه كومة من المتفجرات الاجتماعية السياسية المشتعلة من دون أن تخمد.

أفضت الحرب إلى التفكيك وتصدع العلاقات والقيم الاجتماعية التي انكسرت تحت تأثير الجوع والخوف والعنف في الداخل السوري، وإلى شيوع الفردانية، كما تراكم الضغط النفسي للمقيمين في الخارج. وتلعب السلطة دوماً الدور البارز في ذلك التفكيك. والواضح أن السوريين لم يحصلوا على سلطة سياسية مجتمعية معتبرة، يُمكن لها انتشالهم من أبشع وأتعس مرحلة عرفها السوريون في بلدهم. وعصر الكارثة السورية الذي نعيشه حالياً على الصعيد الاجتماعي والنفسي جاء حصيلة نصف قرن من دينامية الضعف والبؤس المعيشي والاقتصادي والعسف السياسي، فقد تسبب القهر الممارس في سورية، طوال العقود الماضية، بإيجاد رواسب عميقة في نفسية السوريين ومخيلتهم، وهم الذي يعيشون حالياً تحت وطأة ديمومة المقتلة، وهدّم وطنهم اجتماعيا وبنية تحتية وتعليمياً، من دون إيجاد حل لها، ليصبح التكوين الاجتماعي – السياسي للسوريين مستعدّاً لكل التبدلات والتحولات، بما فيها السلبية والسيئة.

ووسط هذا التيه الاجتماعي والشعبي السوري، ومع تغوّل السلطة والعنف وغياب أي بوادر حلولٍ للسوريين، وفي محاولة لفهم كيف يمكن أن ننتشل المجتمع السوري من القاع الذي وصل إليه بتخطيط ودراية، ومع غياب فعل (وسلطة) الدولة الديمقراطية والشفافية ومشاريع الإنماء، فإن الاعتماد على دور الأطر السياسية الحالية في تغذية حماية المجتمع السوري كارثة اجتماعية جديدة بحد ذاتها، فعدم نجاح تنظيم المجتمع في هذه الحرب، وبل الارتدادات العكسية، تعود إلى جملة من الأسباب، في مقدمتها غياب الدور الفاعل لمنظمات المجتمع المدني، وعدم توفر دور للنخب الفكرية والثقافية في إدارة الحراك الشعبي أو المجتمعي. ومن المحتمل أن فصل المجتمع عن السلطة القائمة ربما يلعب دوراً مهماً في تقليد المجتمع المدني دوراً حاسماً في تحرير المجتمع السوري من القيود التي كُبّل بها، لكن المشكلة أن قلة قليلة من المنظمات أثبتت فاعليتها وحداثة أفكارها في التماسك المجتمعي، وهو ما يتطلّب مجهوداً مباشراً لدعم المجتمع المدني في وضع حلول جذرية للعنف والتفكّك الأسري والاجتماعي وتداعيات الحرب. العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى