سياسة

متى نخرج من أنفاق تركيا و”العمال الكردستاني”؟/ هوشنك اوسي

دفع “العمال الكردستاني”، بالكثير من الشباب الكرد، نحو أنفاقه الأيديولوجيّة والعقائديّة، حتى أصيبوا بتسمم رهيب، أدخلهم في غيبوبة حزبيّة.

منتصف الشهر الماضي، زرتُ تركيا، للاطمئنان على صحّة والدتي التي أنهكها المرض. عقب مغادرة سيارة “التاكسي” مطار دياربكر (آمد) ودخولها المدينة، راعني مشهد صور الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، الكثيرة والكبيرة، معلّقةً على أعمدة الكهرباء، في كل مكان. فوراً، حملت الموبايل وبدأت بتصوير فيديو. عقب العودة إلى بلجيكا، حمّلت الفيديو على حسابي على “تويتر” مرفقاً بتعليق: “رجب طيّب الأسد، رجب طيّب صدام حسين”! ومقصدي من ذلك أن زعيم تركيا، وهو يرى صوره على أعمدة الكهرباء، مبتسماً، طبيعي أن ينتابه ما كان ينتاب حافظ الأسد أو بشّار الأسد، أو صدام حسين، أثناء رؤيتهم صورهم معلّقة بتلك الطريقة، وأن البلاد والعباد في تركيا، باتا من ضمن ممتلكات أردوغان الشخصيّة! وإن بلاد الأناضول لمّا تزل قابعة في نفق عادات الأتاتوركيّة وتقاليدها وإرثها، حتّى بعد دخولها نفق الأردوغانيّة الإسلامويّة. إذاً؛ تركيا الآن، محكومة بنفقين: أتاتوركي – قومي علماني يتآكل، داخل نفق أردوغاني– إسلامي يتعاظم. ضمن ذلك، كيف يمكن تصوّر حال الشعوب في تركيا؛ كرداً، تُركاً، عرباً، وأرمناً؟! أيّ مستقبل ينتظر ويتهدد هؤلاء البشر، في ذلك النفق المزدوج الذي يسمّى؛ ديموقراطيّة رجب طيب أردوغان وعلمانيته؟

أثناء وجودي هناك، حاولت دخول موقع قناة “العربيّة” لتصفّحهِ، واكتشفت أنه محجوب. وكذا حال مواقع قنوات وصحف سعوديّة ومصريّة أخرى، والمواقع الموالية لـ”حزب العمال الكردستاني” أيضاً كانت محجوبة. إذاً، على رغم قوّتها وترسانتها العسكريّة واقتصادها التي صدّعت رؤوس العالم بها، هناك ما تخافه دولة رجب طيب أردوغان. لو كانت تلك الدولة واثقة من نفسها، وأمنها، وديموقراطيّتها، لما لجأت إلى حجب مواقع الكترونيّة عن مواطنيها، خشيةَ أن يتسرّب ما يخلّ بـ”طمأنينّة” دولة الزعيم – الحزب و”ثقتها” ويهدد أمنها، إلى عقل كثير من المواطنين الأتراك العالقين داخل أنفاق الأتاتوركيّة- الأردوغانيّة.

أنفاق PKK في روجآفا

في 4/7/2021، وضمن وثائقي “المسافة صفر”، كشفت قناة “الجزيرة” القطريّة عن شبكة أنفاق حفرها “حزب العمال الكردستاني” في منطقة شرق الفرات، تحت الأحياء السكنيّة في المدن، والقرى، هناك. ذلك الشريط الوثائقي، خلق صدمة مفاجئة، وموجة من الدهشة بين أنصار العمال الكردستاني، ومؤسساته الإعلاميّة، والمؤسسات التي تمشي على رصيف الحزب في منطقة “روجآفا”، واعتبر المحازبون الأوجلانيون أو من في حكمهم؛ أن الكشف عن تلك الأنفاق، من قماشة؛ إفشاء معلومات سريّة، تحرّض تركيا على اجتياح المنطقة. تجاهل أولئك الذين صبّوا جام غضبهم وسخطهم على “الجزيرة”، أنه لا يكاد يمضي شهر، وإلاّ ويهرب أحد قادة “العمال الكردستاني” أو عناصره، الموجودين هناك، إلى تركيا، حاملاً معه، كميّات من الأموال، والمخططات والمعلومات العسكريّة. وفي معمعة تلك الهبّة والفورة الغاضبة والهيجان القومي – الحزبوي، نسي المحازبون أو تناسوا  أن موضوع تلك الأنفاق، مكشوف ومفضوح بالنسبة إلى تركيا، وبثّ القناة القطريّة ذلك الوثائقي، كان تحصيلاً حاصلاً. عدا الأقمار الاصطناعيّة التركيّة وطائرات تركيا المسيّرة، ترصد وتمسح المنطقة، كاشفةً دبيب النمل.

وعليه، الهجوم على قناة “الجزيرة” لم يكتفِ بتناسي يتناسَ الوثائقيّات والتقارير والمقابلات التي كانت تبثّها القناة، دعماً وتسويقاً للعمال الكردستاني، من 2006 ولغاية 2010 تقريباً، (على سبيل الذكر لا الحصر، وثائقي “دولة الجبل” الذي أعدّه وقدّمه الصديق والزميل، أحمد الزاويتي، مدير مكتب الجزيرة في أربيل في 10/4/2006)، بل تجاهل المحازبون أيضاً طرح سؤال: لماذا يجعل العمال الكردستاني، من المدن، القرى، الأحياء السكنيّة في كردستان سوريا، متاريساً ودروعاً بشريّة ومدنيّة لصراعه مع تركيا؟! تجاهلوا أن استخدام المدن والمدنيين في أغراض عسكريّة، جريمة ضد الإنسانيّة، لا تسقط بالتقادم، طبقاً لبنود اتفاقيّة خاصّة بهذا الشأن، تلاحق المؤسسات والجهات المتورّطة والداعمة لتلك الجرائم. ويستطيع أيّ باحث أو صحافي استقصائي، أن يقارن ممارسات حزب العمال الكردستاني، سواء في تركيا، أو جبال قنديل، أو سوريا، بماهيّة الجرائم ضد الإنسانيّة وسيضبط الحزب بالجرم المشهود، في ارتكاب هكذا جرائم على أكثر من صعيد.

لكن، أُسر ضحايا “العمال الكردستاني” (مقاتلين ومدنيين)، لا يلجأون إلى مقاضاة قيادات الحزب، العسكريّة والمدنيّة الضالعة، والمغطيّة على تلك الجرائم! تجنيد القاصرات، جريمة ضد الإنسانيّة، حفر الأنفاق العسكريّة، تحت مدارس الأطفال والأحياء السكنيّة، في المدن والقرى، الخطف والاعتقال والإخفاء القسري، القتل تحت التعذيب، تصفية المعارضين والمنشقّين داخل الحزب، تصفية جرحى الحزب (راجع حوار عبدالله أوجلان مع كريس كوتشيرا، مجلة الوسط، لندن، كانون الثاني/ يناير 1999، وكشفه أن جميل بايق أمر بتصفية جرحى الحزب)… هذه الممارسات، وغيرها، تندرج ضمن جرائم ضد الإنسانيّة، لا تسقط بالتقادم. لكن، العصبيّة القوميّة، تدفع حتّى بعض الكرد، غير الموالين للعمال الكردستاني، للدفاع عنه، ورفض الكشف عن تلك الجرائم، على أن ذلك؛ يثير الكراهية ضد الكرد، لدى الترك والعرب والعجم، والعالم! وإن “نشر الغسيل الوسخ” هو ضرب من ضروب الخيانة، المدفوعة الثمن من قبل تركيا، واستخباراتها! هكذا أوهام وخرافات وترّهات، كثيراً ما يروّجها “العمال الكردستاني”، ضد منتقديه والمناوئين له من الكرد والعرب، من دون تقديم أدّلة كافيّة ومقنعة تفنّد تلك الانتقادات الموجّهة للحزب وممارساته المشينة، وسياساته المتهوّرة، التي ألحقت أفدح الأضرار بالكرد، في تركيا، سوريا، العراق!

حاولت دخول موقع قناة “العربيّة” لتصفّحهِ، واكتشفت أنه محجوب. وكذا حال مواقع قنوات وصحف سعوديّة ومصريّة أخرى، والمواقع الموالية لـ”حزب العمال الكردستاني” أيضاً كانت محجوبة.

حرب خاصّة متبادلة

في 18/05/2021 أعلن الجيش التركي عن استهداف نور الدين صوفي؛ قائد الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني (PKK، وأن العملية جرت في منطقة (Gare) داخل كردستان العراق. نفى الحزب ذلك الخبر في تصريح رسمي أصدره جناحه العسكري على موقعه الرسمي، واعتبر ذلك “حرباً نفسيّة خاصّة”، ثم كشف الحزب عن فيديو يظهر فيه صوفي يرقص بصحبة قياديين آخرين، فقد اثنان منهم حياتهما، أحدهما اسمه بوزان تكين، أعرفه والتقيتُ به عام 2007 في جبال قنديل. يعني؛ كي يفنّد PKK تصريح الأتراك، كشف مقتل قياديين آخرين، لم يعلن عن مقتلهما حتّى الآن، عبر نشره فيديو قديم! كذلك، لم يظهر نورالدين صوفي في أيّ تصريح أو فيديو جديد له، ما يدعم صحّة الرواية التركيّة عن مقتله.

وفي 28/09/2021 كشفت أنقرة عن استهداف القيادي البارز في PKK إنغين قره أصلان (من كرد تركيا، اسمه الحركي حيدر) في القامشلي، لكن حزب PKK لم يصدر حتّى الآن تصريحاً يفنّد فيه الإعلان التركي، كما فعل في حادثة نور الدين صوفي. لماذا؟ لأن الاستهداف أتى داخل سوريا، بالتزامن مع وجود الرئيسة المشتركة لمجلس سوريا الديموقراطيّة؛ إلهام أحمد، في واشنطن، ونفيها وجود “العمال الكردستاني” هناك. أو ربّما، يبحث الحزب في أرشيفه، عن فيديو للقيادي حيدر، وهو يرقص، من دون أن يكون فيه ما يشير إلى أنه فيديو قديم، كما حصل في نفي الحزب مقتل نور الدين صوفي!

في 29/09/2021، نشرت على صفحتي مقطعاً بعنوان “السيّدة المحترمة إلهام أحمد تكذب على أميركا”، ذكرت فيه رأيي حول زيارتها واشنطن، والدور الموكل إليها من قبل “العمال الكردستاني”، وعضويتها في هذا الحزب المصنّف إرهابيّاً في أميركا والاتحاد الأوروبي، ونفيها علاقة سلطة “الإدارة الذاتية الديموقراطيّة” لحزب العمال الكردستاني. طبعاً، نفيها علاقتها العضويّة- التنظيميّة مع حزب (PKK) هو أشبه بنفي نظام الأسد تبعيّتهُ لإيران وروسيا، أو نفي “حزب الله” اللبناني تبعيته لإيران، أو نفي النظام الحالي في لبنان تبعيّته لسلاح “حزب الله”، أو نفي الحكومة العراقيّة تبعيّتها لطهران… وهكذا دواليكم!

أرفقت المنشور المذكور، بصور فوتوغرافيّة لي مع السيّدة إلهام أحمد، في جبال قنديل، حين زرتُ تلك المناطق، موفداً من صحيفة “الحياة” صيف 2007، وأجريت حواراً مع مراد قره إيلان (رئيس اللجنة التنفيذيّة، وقتذاك)، كما أجريت تحقيقاً صحافيّاً حول القرى والمناطق الحدوديّة هناك، تحت القصف التركي– الإيراني. ونشرت “الحياة” الحوار في 31/8/2007، ثم نشرت التحقيق الصحافي المذكور.

“البوست” الذي نشرته على الفيسبوك، لو لم يكن مقروناً ومشفوعاً بالصورة الفتوغرافيّة التي ظهرت فيها مع السيّدة إلهام أحمد، ترتدي زيّ المقاتلات الكرديّات في جبال قنديل، لربّما مرّ من دون أن يحظى بكميّة هائلة من الشتم والإهانة والاستهداف الشخصي لكاتب هذه الأسطر، من أشخاص يقدّمون أنفسهم على أنهم نشطاء حقوقيون، كتّاب، صحافيون، فنانون، أناس عاديون… الخ! اتهمني المحازبون بأنني أمارس “حرباً خاصّة” نفسيّة، إعلاميّة، تشويهيّة ضدّ “العمال الكردستاني”، وأن تلك الحرب مدفوعة الثمن من النظام التركي الأردوغاني، وكلامي وكتاباتي خيانة للأمّة، وللأمانة… الخ!

مقارنة بين سلاحي “حزب الله” و”حزب عبدالله”

الحشود الموالية لـ”العمال الكردستاني” التي خوّنتني، كان بينهم أشخاص لديهم “بزنس” مع الحزب المذكور، في مناطق سيطرة قوات سوريا الديموقراطيّة “قسد”، على شكل مشاريع إعلاميّة، منظمّات مدنيّة، تتلقّى التمويل من الأميركيين والأوروبيين ومن سلطة “العمال الكردستاني” أيضاً. وعليه، أولئك الناقمون، في تهجّمهم على المنشور وما تضمّنه من معلومات، والمرفق بالصور الشخصيّة التذكاريّة، كانوا يدافعون عن مشاريعهم مع “العمال الكردستاني”، وليس عن الحزب نفسه، من حيث المبدأ! حال هؤلاء كحال من يدافع عن “حزب الله” “اللبناني” – الإيراني، لأنه مرتبط بمشاريع مع سلطة– “حكومة” الحزب في لبنان، من دون أن يكون مقتنعاً بالحزب وطروحاته ومشاريعه السياسيّة والعقائديّة، عابرة الحدود.

الأنفاق التي حفرتها حكومات تركيّة متعاقبة في وعي الموطن التركي وذهنه، جعلت الكثير من الأتراك يقدسون الدولة وأيّ حزب يقودها، وكأن كل ما يصدر كلامٌ منزّل، صادق ومُنزّه عن العلل والأخطاء والعيوب. من ذلك النفق التركي الرهيب، خرج “حزب العمال الكردستاني”، ليدخل كرد تركيا، على وجه الخصوص، والكرد في كل مكان، في نفق دموي، قوامه الشعارات وخرافات الأيديولوجيا الحزبيّة وأوهامها. وقد دفع الحزب بالكرد إلى مواجهة تركيا، وحمل السلاح، تحت شعار “تحرير كردستان” وتشكيل دولة قوميّة اشتراكيّة، طيلة عشرين سنة. حربٌ سقط فيها ما يزيد عن 50 ألف كردي. وعقب اعتقال أوجلان في شباط/ فبراير 1999، غيّر الحزب شعاره القومي– اليساري الكبير والبرّاق، إلى شعار ينادي بالدولة الديموقراطيّة، والأمّة الديموقراطيّة… ويطرح مشاريع طوباوية، هي أقرب إلى أهداف منظمة من المجتمع المدني، وفي أفضل الأحوال، أهداف حزب سياسي مدني، لا أهداف حزب عسكري، ميليشاوي، يحمل السلاح! ولا أحد من أنصار الحزب ومثقفيه يجرؤ على طرح سؤال: متى كان السلاح والبارود، مدخلاً لتحقيق الديموقراطيّة، وسنداً لها؟!

هكذاً، دفع “العمال الكردستاني”، بالكثير من الشباب الكرد، نحو أنفاقه الأيديولوجيّة والعقائديّة، حتى أصيبوا بتسمم رهيب، أدخلهم في غيبوبة حزبيّة، تكنّ العداء للتنوّع والاختلاف والنقد، وتسعى إلى أدلجة التنوّع وتنميطه، إلى درجة أن إعلامه يظهر نسوةً عربيّات من محافظتي دير الزور والرقة على قنوات تلفزة الحزب، وهنّ يمدحن أفكار أوجلان، ويصفنه بالزعيم! أبعد من ذلك، ولكثرة استثمار الحزب في ملف الجندرة والمرأة، تداولت قناة “روناهي” التابعة للحزب خبراً تحت عنوان: “الاتحاد النسائي الثوري الأفغاني: الشعب الأفغاني ممتنّ لأوجلان”!

على ضوء ما سلف؛ من الصعب تقدير حجم الضرر النفسي والعقلي والمعنوي الذي تسببت به أنفاق “حزب العمال الكردستاني” داخل شخصيّة المواطن الكردي ووعيه، قبل محاولة تقييم حجم الضرر والتلف والخطر الذي تتسبب فيه أنفاق الحزب، تحت المدن والقرى والأحياء الكرديّة في مناطق روجآفا! تلك الأنفاق التي جعلت المناطق في شمال شرقي سوريا أهدافاً عسكريّة “مشروعة” لأيّ غزو وعدوان محتمل للجيش التركي! لكن، دائماً هناك من سيأتي ويدافع عن فظائع ذلك الحزب وكوارثه، على أنها إنجازات ومكاسب كونيّة! وإنه لولا “العمال الكردستاني”، لأبيد الكرد عن بكرة أبيهم، ولولاه لهتك “داعش” أعراض نساء الكرد، وباعهم في أسواق النخاسة! وأن الكرد كانوا موتى، بعثهم “العمال الكردستاني” من قبورهم! تماماً كما يدافع بعض اللبنانيين عن عبث “حزب الله” براهن لبنان وقراره وسياديته الوطنيّة، التي لم يبقِ منها الحزب شيئاً.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى