قصة

الخرائب الدائرية/ خورخي لويس بورخيس

ترجمة: أحمد عويضة

لم يره أحد يرسو في تلك الليلة التي لفّ ظلامها الجميع، لم يشاهد أحد قارب البامبو وهو ينزلق في الوحل المقدس، ولكن خلال بضعة أيام لم يعد أحد يجهل أن ذلك الرجل غريب الأطوار قادمٌ من الجنوب، وأن موطنه هو إحدى تلك القرى اللانهائية التي تقع أعلى النهر، في الجانب العدواني من الجبل، حيث لغة الزِند لم تتلوث باليونانية وحيث الجذام غير شائع.  في الحقيقة فقد قبّل الرجل الرمادي الوحل وابتعد عن الضفة دون أن ينحي أعشاب البامباس التي تمزق جسده (وربما دون أن يشعر بها)، دائخًا ملطخًا بالدماء حتى وصل إلى سياجٍ دائري مُتَوج بنمرٍ أو حصانٍ من الحجارة كان له يومًا لون النار ولكن الآن له لون الرماد. هذا البناء الدائري كان معبدًا التهمته النيران قديمًا، دنسته غابة المستنقعات ولم ينل إلهه أي تقدير من البشر. تمدد الغريب أسفل قاعدة التمثال ولم يستيقظ إلا بعد أن علت الشمس. تبيّن – دون اندهاش – أن جروحه قد التأمت، أغمض عينيه الباهتتين ونام مرة أخرى، ليس عن ضعفٍ جسدي، بل بإرادته. أيقن أن هذا المعبد هو المكان الذي يتطلبه هدفه العصّي، وعلِم أن الأشجار اللا متناهية لم تتمكن من تضييق الخناق على أطلال معبدٍ آخر – في اتجاه مجرى النهر – لآلهةٍ مُحترقِة وميتة، وفطِن إلى أن واجبه الفوري هو أن ينام. حوالي منتصف الليل أيقظته صرخة طائر لا تحتمل. نبهته آثار الأقدام العارية والتين والإبريق إلى أن أهل المنطقة كانوا يتلصصون على نومه بتوقير وأنهم يريدون وضع أنفسهم تحت مظلته أو يخافون سحره. سرت برودة الخوف في جسده وفتش في الجدار المتهدم عن أي حفرة تشبه القبر، وغطى نفسه بأوراق أشجارٍ غريبة.

لم يكن الهدف الذي يسعى إليه مستحيلًا، بل كان خارقًا للطبيعة. سعى إلى أن يحلم بإنسان، يحلم بكل تفاصيله الدقيقة ويحضره إلى العالم الحقيقي. ذلك المشروع السحري استنزف روحه تمامًا، إن سأله أحدهم عن اسمه أو عن سمةٍ من حياته السابقة لم يكن ليتمكن من الإجابة. ذلك المعبد المهجور المحطم يلائم غرضه تمامًا فقد كان بعيدًا عن مرأى العالم، وأيضًا لأنه قريب من الحطابين الذين أخذوا على عاتقهم توفير احتياجاته البسيطة. الأرز والفاكهة الذين أُحضِرا كتحية كانا كافيين لجسده المكرس للقيام بواجبٍ واحد، النوم والحلم.

في البدء كانت الأحلام فوضوية، ولكن بعد فترة وجيزة اكتسبت طبيعة جدلية. حلم الغريب بأنه في منتصف مدرجٍ دائري هو بشكلٍ ما نفس المعبد المحترق، وسُحُبٍ من التلاميذ قليلي الكلام أرهقت المدرج، كانت وجوه الأخيرين منهم معلقة به على بعد قرونٍ وعلى ارتفاعٍ يضاهي النجوم، لكنها كانت كلها واضحة دقيقة بالنسبة له. أعطاهم الرجل دروسًا في علم التشريح، في علم الفلك، وفي السحر.. ارتسمت على الأوجه علامات الإصغاء القلِق والسعي لإجاباتٍ تعبر عن الفهم، كأنهم يحزرون أهمية ذلك الإختبار، الذي سينتج عنه تخليص أحدهم من ذلك الوجود العبثي وإقحامه في الحياة الحقيقية. في حلمه وفي يقظته.. كان الرجل ينظر في إجابات أشباحه، لم يسمح لنفسه بأن ينخدع بالمحتالين منهم، ورأى في بعض الإجابات الحائرة ذكاءً متناميًا. كان يبحث عن روحٍ تستحق أن تشاركه الكون.

في الليلة التاسعة أو العاشرة امتزج إدراكه بالمرارة.. لا يمكنه أن ينتظر شيئًا من هؤلاء التلاميذ الذين يعتنقون مذهبه بسلبية، ولا حتى من هؤلاء الذين يخاطرون أحيانًا ويعارضونه بشكلٍ مقبول. الأُوَل – رغم جدارتهم بالمحبة والمودة – إلا أنهم لا  يستطيعون أن يترقوا ليصيروا إنسانًا أما الأخيرون فوجوهم سابق على ذلك قليلًا. في إحدى فترات ما بعد الظهيرة (الآن صارت فترات ما بعد الظهيرة روافدًا للحلم، أصبح لا يبقى مستيقظًا إلا لعدة ساعات عند شروق الشمس) قام بتخريج كل المدرسة الوهمية الضخمة ولم يتبقى سوى طالب واحد. كان صبيًا قليل الكلام، ذابل، متمرد أحيانًا، وذو ملامح حادة تعكس ملامح الحالم به. لم يشتته الإستبعاد المفاجئ لأقرانه طويلًا، وأثار تقدمه – بعد عدةٍ دروسٍ خصوصيةٍ- إعجاب معلمه. مع هذا حدثت الكارثة، ذات يومٍ هجر الرجل الحلم كأنه صحراء لزجة، نظر إلى ضوء الظهيرة العبثي والذي اختلط عليه في البداية بالشفق، وأدرك عندها أنه لا يحلم. انقض عليه أرق غير محتمل طوال تلك الليلة وطوال اليوم، أراد أن يستكشف الغابة، أن يجهد نفسه، وبالكاد تمكن بين نباتات الشوكران من أن يغفو ويحلم قليلًالعدة مراتٍ متتالية تم التخطيط لها بشكلٍ عابر وبدائي:  كانت عديمة الفائدة. أراد تجميع المدرسة، وما أن نطق ببعض كلمات النداء المقتضبة حتى تشوهت وانمحت. أحرقت دموع الغضب عينيه الشائختين في تلك اليقظة الأبدية.

عرِف أن مسعاه لتشكيل المادة الذاهلة غير المتناسقة التي تتكون منها الأحلام هو أكثر ما يمكن أن يقوم به الفرد صعوبةً، حتى لو استطاع تجاوز جميع الألغاز في النظام الأعلى والأدنى، أكثر صعوبةً من نسج حبل من الرمال، أو احتواء رياح مجهولة الهوية. فهِم أن فشله الأولي كان حتميًا، وأقسم على نسيان ذلك الهذيان الرهيب الذي أدى به إلى الضلال من البداية والبحث عن طريقة أخرى لإتمام العمل. قرر، قبل أن يشرع في العمل مرة أخرى، أن يكرس شهرًا لاستعادة القوى التي أهدرها الهذيان. تخلى عن الحلم مع سبق الإصرار،  مع الإستمرار في النوم لفترات معقولة من اليوم. في المرات النادرة التي حلم فيها في تلك الفترة لم ينتبه للأحلام. انتظر أن يكون قرص القمر مكتملًا لاستئناف المهمة، بعد الظهيرة قام بتطهير نفسه في مياه النهر، وتعبد لآلهة الكواكب وتلفظ بالمقاطع المشروعة لاسمٍ قويٍ من أسمائها ونام. وفي الحال تقريبًا، كان يحلم بقلبٍ ينبض.

حلم به نشِطًا، دافئًا، سِرّيًّا، في حجم قبضةٍ مُغلقة، لونه يشبه لون العقيق، كان داخل جسد بشري ليس له وجه أو جِنس حتى الآن. بفيض من الحب استمر في الحلم به لأربعة عشرة ليلةٍ صافية، وفي كل ليلةٍ كان يدركه بوضوحٍ أكبر. لم يمسّه، راقبه ولاحظه فقط، وربما صحح شيئًا فيه بمجرد النظر. أدركه وعاشه، من مسافاتٍ متباينة وزوايا مختلفة. في الليلة الرابعة عشر مسّ الشريان الرئوي بسبباته، ثم مسّ القلب كله من الخارج والداخل. أرضاه الإختبار. تعمّد ألا يحلم لليلة واحدة، ثم استعاد القلب واستحضر اسم إله كوكبٍ واحدٍ وشرع في رؤية عضوٍ رئيسي آخر. خلال أقل من عامٍ وصل إلى الهيكل العظمي والجفنين. ربما كان الشعر الذي لا يحصى هو أصعب مهمة. حلم برجلٍ كاملٍ، شاب، لكنه لم يستطع الوقوف ولا التحدث ولا حتى فتح عينيه. ليلة بعد ليلة، حلم به الرجل نائمًا.

 في الرواية الغنوصية لنشأة الأكوان، عجن الديمورجوس[1] آدم الأحمر الذي لم يكن قادرًا على الانتصاب واقفًا على قدميه، غليظًا وغير مؤهل، بدائيًا مثل ذلك الآدم من التراب كان آدم من الحلم الذي صنعته ليالي السحر. ذات مساءٍ كاد الرجل ان يُدمر إبداعه تمامًا، لكنه تراجع (كان من الأفضل له أن يدمره). منهكًا من وعود القوى غير الطبيعية للأرض والنهر، ألقى بنفسه عند قدمي التمثال الذي ربما كان نمرًا وربما كان مُهرًا وتوسل طالبًا نجدته غير المألوفة. في ذلك الشفق حلم بالتمثال، رآه حيًا، يرتجف، لم يكن لقيطًا وحشيًا لنمرٍ أو لمُهر، لكنه كان هذين المخلوقين العنيفين في نفس اللحظة، وأيضًا كان ثورًا، وردة، عاصفة. كشف له هذا الإله المتعدد عن اسمه الأرضي: نار، وأنه في هذا المعبد الدائري (وفي الأخرى على حد سواء) عُبِدُ وقدِمت له الأضحيات وأنه سيحرك بطريقة سحرية ذلك الشبح الذي يحلم به، وسيجعل كل المخلوقات، باستثناء نار نفسه والحالم، يظنون انه رجلٍ من لحمٍ ودم. وأمره أن يرسله – بمجرد أن يُعلِمه الطقوس – إلى المعبد الآخر المحطم الذي تستمر أهرامه واقفةٍ في مجرى النهر، حتى يُمجِده صوتٌ ما من ذلك المبنى المهجور. في حلم الرجل الذي حلم.. استيقظ الحلم.

 امتثل الساحر للأوامر، كرّس فترة (امتدت في النهاية إلى عامين) لإكتشاف أسرار الكون وعبادة النار. داخل نفسه كان الإبتعاد عنه يؤلِمه، وبذريعة الإحتياج التربوي مدّد الساعات المخصصة للحلم كل يوم. قام أيضًا بإعادة بناء الكتف الأيمن، ربما كان معيبًا. في بعض الأحيان كان يزعجه شعوره أن كل هذا قد حدث من قبل.. بشكلٍ عام كانت أيامه سعيدة، ما أن يُغمض عينيه حتى يفكر: سأكون الآن مع ابني، أو بمزيد من الغرابة: الطفل الذي انجبته ينتظرني ولن يوجد إن لم أذهب.

تدريجيًا أخذ في الاعتياد على الواقع. أُمِر ذات مرةٍ بأن يضع رايةً على قمةٍ بعيدة، وفي اليوم التالي كانت تُرفرف مشتعلة فوقها. أجرى تجارب أخرى مماثلة، كل تجربة أجرأ مما قبلها. أدرك بحزن أن ابنه مستعدٌ لأن يولد، بل ربما نفذ صبره. في تلك الليلة قبّله للمرة الأولى، وأرسله إلى المعبد الآخر الذي يغتسل حطامه في مجرى النهر، على بعد فراسخ من الغابة المتشابكة ومن المستنقع. قبل ذلك، وحتى لا يعرف أنه شبح، غمر في النسيان التام كل سنوات تعلمه.

شوّه الضجر انتصاره وسلامه. في أوقات الشفق والغسق يسجد أمام التمثال الحجري، ربما تخيّل أن ابنه اللاحقيقي يمارس نفس الطقوس، في خرائب دائرية أخرى، في أسفل مجرى النهر؛ في الليل لا يحلم، أو يحلم كما يحلم كل الرجال. تلقّى أصوات وأشكال الكون ببعض البهتان: الإبن الغائب كان يتغذى على هذا الهبوط الذي أصاب روحه. تحقق الغرض من حياته، أصّر الرجل على الاستمرار شاعرًا بقدرٍ من النشوة. بعد وقتٍ، يفضِل بعض رواة قصته على حسابه بالأعوام بينما يفضل البعض الآخر على حسابه بأنصاف العقود، أيقظه إثنان من الملاحين في منتصف الليل، لم يتمكن من رؤية وجهيهما، لكنهما حدثاه عن رجلٍ سحري في معبدٍ في الشمال، يقدر على الخطو في النار دون أن يحترق. تذكر الساحر فجأة كلمات الإله. تذكر أن من كل المخلوقات التي تشكل الكوكب، النار هي الوحيدة التي تعرف أن ابنه شبحًا. تلك الذكرى التي كانت مرضية له في البداية انتهى بها الأمر إلى تعذيبه. كان يخشى أن يتأمل ابنه في هذا التميّز غير الطبيعي ويكتشف بطريقة ما حالته كمجرد محاكاة. ليس إنسانًا، بل إسقاط لحلم رجلٍ آخر. ألا تكون إنسانًا، أن تكون إسقاطًا لحلم رجلٍ آخر.. يا لها من إهانة لا تُضاهى! يا له من دوار! كل أبٍ يهتم بالأبناء الذين أنجبهم (وهو ما سمح به) في حالة من التشويش المجرد أو السعادة، من الطبيعي أن يخشى الساحر مما سيأتي بالنسبة لابنه، يفكر في كل حشية من أحشاءه، في كل سمةٍ من سماته، في ألف ليلة وليلة سرية.

نهاية تأمله تلك كانت مفاجئة، لكنه أُعطي الوعود ببعض الإشارات. الأولى كانت سحابة بعيدة فوق تلٍ، بعد جفافٍ طويل، خفيفة كالطائر، ثم السماء التي اكتسبت لون وردي يشبه لثّة الفهود في جهة الجنوب، بعد ذلك الدخان الذي أصاب معدن الليل بالصدأ، وفي النهاية الهروب المذعور للوحوش. لأن ما يحدث الآن تكرار لما حدث منذ قرون.. دُمِرت أطلال حرم إله النار بالنيران. في فجرٍ دون طيور، رأى الساحر الحرائق المتفرقة وهي تندلع من الجدران. للحظة فكر في الهروب لجوءً إلى الماء لكنه ما لبث أن أدرك أن الموت جاء ليتوج شيخوخته ويعفيه من عمله. سار على أشلاء النار، لم تقضم لحمه، بل كانت تداعبه وتغمره دون سخونة أو احتراق. بارتياح.. بشعورٍ بالإهانة، وبرعبٍ أدرك أنه أيضًا صورة، وأن رجلًا آخر يحلم به.

………………….

* نُشِرت القصة ضمن مجموعة قصصية بعنوان (حديقة الممرات المتشعبة) في عام 1941

[1] في الفلسفة الغنوصية هو فيض من فيوض الرب مسؤول عن الخلق المادي للكون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى