سياسة

 مقالات تناولت كلمة “عمر الشغري” أمام مجلس الأمن

في السجال حول عمر الشغري/ بكر صدقي

أثارت الكلمة التي ألقاها عمر الشغري في جلسة لمجلس الأمن مؤخراً، كالعادة، جملة من ردود الفعل بين من هاجم الناشط السوري الشاب الناجي من جحيم معتقلات النظام الأسدي، ومن دافع عنه. كلمة «كالعادة» تحيل هنا إلى ظهورات سابقة للشغري أثارت بدورها سجالات مشابهة، كما إلى سجالات أخرى شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي بين سوريي الشتات الذين يفترض أنهم، من حيث المبدأ، معارضون لنظام الأسد. فقد انتهى منذ وقت طويل السجال الحاد بين ضفتي الموالاة والمعارضة، وأصبح السجال يدور داخل الضفة المعارضة بصورة رئيسية.

قد يشير ذلك إلى القطيعة التامة بين الضفتين، فلم يعد ما يحدث «هناك» يهم الواقفين «هنا» والعكس بالعكس. لكن القطيعة نفسها تنطوي على دلالة إضافية هي انتهاء حلم الثورة على ضفة المعارضة والتسليم بالهزيمة، فالنظام باق «هناك» ولا جدوى من أي سجال مع مواليه الذين حددوا خيارهم بصورة نهائية ولا سبيل لتغيير ذلك، ناهيكم عن رموزه وأركانه وأدواته.

غير أن ثمة قسماً من المعارضة في الشتات أو في «المناطق المحررة» يختلف مزاجه عن ذلك الموصوف أعلاه، ما زال يؤمن أن الثورة مستمرة ولم تهزم، وما زال بالتالي يساجل أفعال النظام وأقواله من منطلق الكشف عن حقيقته الإجرامية وضرورة سقوطه، وإن كان يتقاسم التشاؤم مع المجموعة الأولى التي سلمت بهزيمة الثورة. ولكن هنا أيضاً نلاحظ صعود صراع بين المجموعة الأولى التي يغلب عليها الميل العلماني مقابل الميل الإسلامي لدى المجموعة الثانية. بكلمات أخرى: إسلاميو الشتات و«المناطق المحررة» يؤمنون باستمرارية الثورة، مقابل تسليم العلمانيين بهزيمتها. وهذا مفهوم بالنظر إلى اختلاف مفهوم الثورة نفسه بين المجموعتين، إضافة إلى اختلافات عميقة بينهما في مواضيع أخرى. هذه تصنيفات اختزالية طبعاً لا تعكس غنى وتنوع المواقف والأمزجة بين السوريين، ولكن لا بد من الاختزال لمحاولة فهم السجالات ودوافعها وخلفياتها.

لعل أكثر ما أثار انتقادات في كلمة الشغري هو لغة الشكوى والاستياء العميق من المجتمع الدولي التي سادتها، وتكثفت في كلمة (F. You) التي وجهها إلى أعضاء مجلس الأمن الدائمين. شتيمة تعبر عن قهر السوريين ووجعهم بلا أي تزويق أو دبلوماسية. فاعتبر البعض أن هذه اللغة «غير لائقة» في مكان رسمي كمجلس الأمن، في حين اعتبرها آخرون أنسب كلمة يمكن أن تقال هناك تعبيراً عن المأساة السورية الرهيبة وفي وجه اللامبالاة الدولية بها.

الواقع أن الشغري ليس سياسياً أو دبلوماسياً تتطلب منه صفته لغة منضبطة، ومن الصعب إطلاق تكهنات بشأن الجدوى السياسية من لغة الشغري بالقياس إلى لغة أكثر انضباطاً بقواعد الأتيكيت في المحافل الدولية.

فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الكلام المكرر الذي يدور منذ سنوات في اجتماعات مجلس الأمن المتعلقة بالمسألة السورية ربما فقد بمرور الزمن أي إثارة، فمن المحتمل أن اللغة الكاوية التي استخدمها الشغري قد أيقظت المتثائبين في الاجتماع وأعادتهم إلى لب المشكلة السورية، من غير أن يتعلق المرء بأوهام حول احتمال حدوث تغييرات في سياسات الدول الفاعلة في الصراع السوري بفعل كلمة الشغري، سواء كانت بلغة بذيئة أو لائقة. فالاعتراض إذن على «بذاءة» لغة الشغري غير ذي موضوع، خاصة إذا قارناها بـ«بذاءة» الواقع السوري وبذاءة اللامبالاة الدولية.

الاعتراض الآخر الذي عبر عنه البعض يتعلق بما اعتبروه اختلاق الشغري وقائع غير حقيقية فيما خص تجربته الشخصية في الاعتقال، وهذا اعتراض غريب حين يصدر عمن يعتبرون أنفسهم معارضين لنظام الأسد. ولا أقصد أن الاختلاق ـ إذا صح ـ هو أمر مبرر حين يتعلق الأمر بفضح جرائم النظام. فجرائمه المحققة كافية وتزيد لإدانته والمطالبة بإزالته، ولا يحتاج الأمر لأي اتهامات مفبركة. بل العكس هو الصحيح: أي اتهامات مختلقة ستبقى باهتة بالمقارنة مع الجرائم المهولة التي ارتكبها النظام طوال الأعوام الأحد عشر الماضية وتعرفها جميع الدول، كاستخدامه للسلاح الكيماوي مرات ومرات، واستخدامه للبراميل المتفجرة، وحصار المدن والبلدات طوال سنوات، والتجريف الديموغرافي وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية. لقد مضى منذ زمن طويل عهد مجابهة الروايات وتكذيبها بصورة متبادلة بين النظام والمعارضة، ولم تعد هناك قيمة لتفصيلات صغيرة وحالات فردية مهما بلغ هولها وفظاعتها أمام الفظاعات المطلقة التي ارتكبها النظام. الغريب إذن هو «تنقيب» سوريين معارضين عن أخطاء مفترضة في رواية الأحداث عند هذا الناشط المعارض أو ذاك. النظام نفسه وأبواقه الإعلامية كفوا عن تتبع «أكاذيب» مفترضة للمعارضين على وسائل الإعلام، بعدما غرق في هموم جديدة تتعلق مثلاً بعجزه عن استعادة الأراضي الخارجة عن سيطرته، أو عن تأمين الوقود والمواد الحيوية للسكان الخاضعين لحكمه، أو في مواجهة الاستحقاقات السياسية وغيرها…

بالمقابل لن يهتم أعضاء مجلس الأمن أيضاً، بما في ذلك روسيا والصين، بالتدقيق في صحة روايات ناشطين أو ناجين، لمعرفتهم، مثلنا، أن النظام «لبّيس» لأي فظاعات قد يتهم بارتكابها، فإذا كانت هناك بعض «الأكاذيب» في بعض روايات المعارضين، فلا قيمة لها أمام ما يعرفونه على سبيل اليقين من فظاعات تفوق تلك التي قد تكون مختلقة. حتى الجرائم الكبرى الموثقة التي اتهم بها النظام، يستمر وزير الخارجية الروسي لافروف في تكذيبها (الهجمات الكيماوية مثلاً) ولكن سائر العالم لا يلتفت إلى تكذيباته، فهل نتوقع منه أن يهتم بتكذيب تفاصيل في شهادة الشغري الشخصية؟

يبقى السؤال معلقاً عن غاية متهمي الشغري باختلاق أكاذيب مزعومة تخص شهادته عن تجربته الشخصية. هل هو الشعور بالتنافس لأن الشغري حصل على فرص استثنائية يرونها من حقهم؟ هذا ما لا يصرح به أحد، بل يدافعون عن «المصداقية» التي تهدد تصريحات الشغري بفقدانها كما يقولون. الغريب أكثر أن تلك المصداقية المزعومة لم تتقوض إلى اليوم على رغم «كشف» هؤلاء المنقبين عن «أكاذيب» معارضين المرة بعد المرة، فيعودون للدفاع عنها كلما جد جديد في إطار اهتمامهم.

كاتب سوري

القدس العربي

——————————

في الخلاف على شتيمة/ عمر قدور

تأخر السوريون يومين حتى انتبهوا إلى كلمة الشاب الناشط عمر الشغري في مجلس الأمن، وهذه دلالة على انعدام الاهتمام بجلسات المجلس الخاصة بالشأن السوري، والتي آلت إلى ما يشبه جلسات بيروقراطية لموظفين متكاسلين يأتون ليكرر كلّ منهم على مسامع زملائه ما سبق أن سمعوه وملّوا منه، أو ربما غفا الواحد منهم في انتظار مجيء دوره في الكلام. على ذلك، نبالغ إذا توقعنا من أولئك الموظفين تيقظاً خاصاً إزاء كلمة عمر الشغري الذي أتى لينطق باسم الضحايا، فهم قد اعتادوا أيضاً هذا النوع من الخطابات التي لا تقدّم ولا تؤخّر، ومن السذاجة الظن أنها تستثير مشاعرهم أو مشاعر رؤسائهم.

عطفاً على انعدام أهمية الجلسة، أتى مفاجئاً انقسامُ السوريين حول كلمة الشغري، ومدى ما يمكن لها أن تخدم أو تسيء إلى القضية السورية. وكان أكثر ما أثار الجدل تلك الرسالة التي نقلها المتحدث عن شخص يُدعى كريم من إدلب يقول فيها أن مجلس الأمن تصرف بعجز منذ عام 2011، وأنه فقد كل ما يملك وما يحب، لذا يخاطب المجلس عديم الفائدة بقوله: Fuck you.

الرسائل التي قال الشغري أنه ينقلها عن آخرين، ثم رسالته في النهاية، كانت غاضبة من الجميع بلا استثناء، مع تحديد روسيا وإيران حليفتي الأسد، والأردن والإمارات المشجعين على التطبيع معه، وتركيا ولبنان حيث يتعرض اللاجئون للمضايقات. موقع الأمم المتحدة وصف المداخلة بكونها نابعة من حرقة صاحبها، فكان أرأف من سوريين عزّ عليهم أن يخرج سوري عن الكياسة ليشتم أعضاء مجلس الأمن على هذا النحو.

أول التناقضات أن تُدان كلمة الشغري، والتي لولاها لمرت جلسة المجلس بلا اكتراث سوري. بعبارة أخرى، من النفاق تحميله مسؤولية إهدار فرصة جيدة للحديث، بما أن الرجاء مقطوع أصلاً من المجلس، ولا يُستبعد في القريب جداً أن تستخدم موسكو حق الفيتو لمنع وصول المساعدات الغذائية إلى قرابة ثلاثة ملايين محتاج في الشمال السوري.

ثم إن الشغري لم يذهب إلى مجلس الأمن ممثلاً سياسياً للقضية، وهو تحدث كناطق غير حصري باسم المعاناة. لذا هو غير مطالب بمراعاة الاعتبارات الدبلوماسية، وغير مطالب بإرضاء أولئك المصرين عليها في مكانها وفي غير مكانها. وسيكون مضحكاً، بانعدام الفائدة المرجوة من استخدام اللباقة، الخشية مثلاً من أن يسيء الشغري إلى السوريين فيُنظر إليهم كشعب قليل الأدب!

الأفلام الأمريكية الأوسع انتشاراً في العالم مليئة بالشتيمة ذاتها، ويندر أن يخلو فيلم منها. تلك الأفلام تُعرض لأناس أجدر بالاحترام، وفي صالات لم تشهد القذارات التي شهدها ويشهدها وسيشهدها مجلس الأمن. العيب ليس في هذه الشتيمة حقاً، بقدر ما هو في الإبقاء على الأسد عضواً في المنظمة الدولية، وفي إعطاء مندوبه حق التفوه بالأكاذيب المفضوحة التي تهزأ بالضحايا وبالقوانين الدولية.

وإذا كان من شعبوية في الشتيمة فهي غير ضارة، بخلاف شعبوية رئيس القوة الدولية الأعظم ترامب عندما وصف الأسد قائلاً: This is an animal. فالشتيمة هنا تحتمل خبث التملص من استخدام الوصف الصحيح ضد من كان قد استخدم الكيماوي للتو، أي وصفه كمجرم حرب ومجرم ضد الإنسانية، بما لهذا الوصف من عواقب قانونية.

زعيم قوة عظمى سابقة، هو السوفيتي خروتشوف، كان قد لوح بفردة حذائه في الجمعية العامة للأمم المتحدة. آنذاك لم يكن العالم في خضم موجة شعبوية، وقيل الكثير في الحادثة، إلا أن الإعلام الذي انشغل بها لم يحاسب صاحبها بوصفه خارجاً عن اللباقة، إذ كان مفهوماً أنه عبر عن احتجاجه وغضبه بطريقة مسرحية سيُكتب لذكراها البقاء أكثر من مداولات تلك الجلسة. الرئيس الأمريكي ريغان عبّر من على نفس المنبر عن هلوساته بالدعوة إلى الوحدة ضد تهديدات آتية من كواكب أخرى، أما القذافي فقد رمى ميثاق المنظمة على الأرض، وقائمة التصرفات “غير الدبلوماسية” في أروقة الأمم المتحدة تطول.

لقد قدّم الشغري عرضاً شعبوياً قد لا يكون الأفضل ضمن هذا التوصيف، لكن لا وجاهة لانتقاده كأن العرض الذي يقدّمه أعضاء المجلس فيه ولو شبهة الاحترام خارج الشكليات. لا وجاهة لذلك الانتقاد الذي يضمر الدونية أمام هؤلاء، ويفضّل أصحابه أسلوب الاستجداء والاستعطاف رغم فشله مراراً. للوهلة الأولى فقط، قبل أن يتبدد، سيظهر كما لو كان هناك تناقض “لدى أصحاب هذا النقد” بين الدونية أمام أعضاء مجلس الأمن، بمن فيهم حلفاء الأسد، وبين الاستعلاء على الشغري.

لعل التلاميذ النجباء لمنظمات الإن جي أوز هم الأكثر استياء من أداء الشغري، ولا نريد بهذه الإشارة لوم المنظمات، فالعلة هي في نسبة كبرى من السوريين وجدت فرصتها بالعمل معها من موقع قول ما يرضي الممول، والأسلم هو قول الكلام الذي لا يثير حفيظة أحد لأنه وفق هذا المنطق لا يثير حفيظة الممول. نشطاء الإن جي أوز لا يعترفون أساساً بالغضب، ولا ينظرون باحترام إلى المشاعر عموماً. هم تقنيون، ويمجّدون تلك اللغة التقنية المجردة، ويستهجنون ما عداها بوصفها لغة رعاع بلا تمايزات بين هؤلاء الرعاع. أيضاً، لا غرابة في أن هؤلاء النشطاء المتعالين بفظاظة على عموم السوريين يصعب عليهم إخفاء تلك الدونية تجاه مشغّليهم.

ورغم أن نشطاء الإن جي أوز هم عادة من منتقدي نظرية المؤامرة إلا أنهم راحوا يتساءلون عن الجهة التي أوصلت الشغري إلى مجلس الأمن، ولقّنته بالتفصيل ما سيقوله، بل درّبته على لغة للجسد غير مناسبة بدورها للمقام. ولا يُستبعد بالطبع أن يكون لسان حال صاحب الانتقاد أنه أحقّ بالفرصة، لأنه كان سيجلس برصانة ويقدّم للحاضرين درساً في التهذيب واستخدام اللغة اللمّاحة.

الافتراض الأخير يعيدنا إلى البدء، فلو تحقق لذلك الناشط ما يريد لكانت الجلسة قد مرت بلا انتباه على الإطلاق، واقتصر الأمر على بضع “لايكات” ينالها عندما يضع رابط كلمته على صفحته. كنا خسرنا فرجة فيها ما فيها من الضعف لأن الذي أدّاها لا يتقن جيداً هذا الفن، وإلا كان قد لفّق رسائل أقوى من التي تلاها، وكان بدلاً من الربع الأول لكلمته قد اختار الختام للرسالة التي تقول لأعضاء المجلس: Fuck you  

المدن

——————————-

البديل السوري وعورة المجتمع الدولي/ رشا عمران

يتحدث مسؤولون وعاملون في منظمة الأمم المتحدة ممن كانوا مختصين بالملف السوري خلال السنوات العشر الماضية، في جلسات خاصة، عن كواليس الاجتماعات الخاصة بسوريا، (تصادف أن سمعت من بعضهم شخصيا وسمعت أيضا نقلا عنهم من أصدقاء)، ويقولون إن وفود المعارضة السورية إلى الأمم المتحدة كانت أشبه بالفضيحة التي يتم تناقل أخبارها في أروقة ومكاتب المنظمة الدولية الأكبر، فمن طلبات أعضاء الوفود بتغطية تماثيل عارية في ردهات فنادق ينزلون بها، إلى طلبات بحجوزات (vip) في التنقل والإقامة، إلى أحاديث عن الخلافات الشخصية بين أعضاء الوفود والتي كانت تشق طريقها إلى العلن، وتظهر على شكل تسريبات لصور أو تسجيلات صوت وصورة شخصية من الغرف الخاصة بالأعضاء، نوعا من أنواع الحرب الدائرة بين أركان المعارضة السورية، إلى الخطاب الرسمي المتكرر والممتلئ بالتشكي والتظلم دون تحديد أي مطلب رسمي سوى المطلب الدي رفعه شباب الثورة مند البداية (إسقاط النظام)، بينما كان يفترض بوفود المعارضة أن يكون حضورها مدعما بخريطة طريق متفق عليها بين فصائل المعارضة وهيئاتها المختلفة.

يقولون أيضا “إن إحساسا كان يصل إلى المجتمع الدولي بعدم كفاءة المعارضة السورية وعجزها عن طرح بديل سياسي مناسب للنظام السوري، ذلك أن حضورها الدبلوماسي لم يكن يرقى إلى مستوى الكارثة السورية، بينما كان حضور النظام السوري دبلوماسيا رفيع المستوى وبخطاب محدد وواضح لا مساحة كبيرة فيه للتشكي والتظلم”.

ورغم أن كلاما كهذا فيه بعض الظلم الواقع على هيئات المعارضة من حيث إنه لم يسبق للسوريين الخوض في عمل سياسي عام وعلني وعلى المستوى الدولي، إذ عمل النظام السوري على تجريف المجتمع بالكامل خلال عقود طويلة ومنع السوريين من حقهم في العمل السياسي المنظم، وبقي ذلك محصورا في دائرة صغيرة محددة وبخطاب براغماتي يخدم براغماتية وديماغوجية النظام خارجيا وداخليا، بينما منع أمنيا كل ما يمكن أن يشكل نواة لمعارضة تمارس حقها الدستوري في المراقبة والمحاسبة والاعتراض والعمل السياسي، ما جعل هناك فجوة كبيرة أمام السوريين عند انطلاق الثورة حاول تنظيم الإخوان المسلمين (التنظيم السوري الوحيد القائم على مؤسسة) الاستفادة منها لصالح أجندتهم العابرة للوطنية السورية والتي لا تأخذ في حسبانها خصوصية المجتمع وما تراكم فيه خلال أكثر من خمسين عاما من ثقافة لا تتناسب البتة مع مشروع الإخوان المسلمين.

كما أن المجتمع الدولي لم يكن يوما صادقا بما يخص الثورة السورية ولا واضحا بما كان يريده من سوريا، ولا شفافا بخصوص علاقته مع النظام، وهو الأمر الذي لطالما أربك هيئات المعارضة غير المعتادة، أصلا، على التعامل مع حدث بحجم الكارثة السورية في المحافل الدولية.

رغم ما سبق فإنه  لا يمكن إنكار أن هناك بعض الحقائق في كلام المطلعين على كواليس الوفود السورية المعارضة في هيئة الأمم المتحدة وفروعها تثبتها الحال الذي وصلت إليه الثورة السورية وهزيمتها في المقام الأول، وعجز المعارضة بكل هيئاتها عن فتح ثغرة ولو صغيرة في عنق الزجاجة السورية خصوصا في ملفات ملحة كملف المعتقلين والمغيبين وملف اللاجئين والمهجرين، أو حتى في ملفات بالغة التعقيد والتأثير كملف الشمال السوري والعلاقة مع الأكراد، مسلمة أمرها لدول خارجية كما سلم النظام أمر سوريا لدول أخرى، بحيث أصبحت هده الدول هي المتحدثة بما يختص بالشأن السوري وهي المفاوضة والفارضة والآمرة والناهية والمستفيدة من الكارثة السورية الكبرى.

كما أنه كان واضحا خلال العقد الماضي سيطرة كهول وشيوخ المعارضة على المشهد السياسي والمؤسساتي، ومنعهم كوادر شبابية كانت هي على رأس المظاهرات الأولى والثانية من الانخراط في هدا المشهد (أحد عتاة المعارضة صرح يوما بأن شباب الثورة مازالوا غير مؤهلين للعمل السياسي) ما حرم ثورة السوريين من دماء جديدة وحداثية كان يمكن أن تملك خطابا مختلفا أكثر تأثيرا من خطاب المعارضة التقليدية، وأكثر قدرة على لفت الانتباه الخارجي والداخلي السوري إليه. لكن النخب التقليدية المعارضة أصرت على إقصاء الجيل الشاب في واحدة من خطوات كثيرة جعلت المعارضة السياسية السورية نسخة مشوهة من نسخ النظام الذي تعارضه.

ينتمي الشاب عمر الشغري، وهو ناج سوري من معتقلات الأسد إلى بلدة البيضا في ريف بانياس على الساحل السوري، البلدة التي شهدت مجزرة مروعة في ٢٠١٣، وعمر من مواليد ١٩٩٥ أي إنه حين انطلقت الثورة كان مجرد مراهق في الخامسة عشر من عمره، اعتقل مرتين من قبل النظام وتعرض فيهما لصنوف لا توصف من التعذيب، وحين أطلق سراحه للمرة الثانية استطاع الهرب والنجاة بحياته والوصول إلى الولايات المتحدة الأميركية حيث واصل تعليمه ودخل المجال الحقوقي وأصبح واحدا من أهم الشباب السوري الناشط والمتحدث في المحافل الدولية. ومن الواضح أن عمر الشغري حظي باهتمام مؤسسات تثقيفية وتأهيلية ساعدته للوصول إلى ما هو عليه الآن من حضور وقدرة على التواصل في المحافل الدولية بثقة ليست خافية على أحد، بل ومبالغ فيها أحيانا لكنها تعكس حماسة الشباب ورغبته في التأثير والتغيير بعد مرور أكثر من عقد على الاستعصاء.

عمر الشغري ليس سياسيا، ما يعني أنه ليس مطالبا بتنميق خطابه أمام المجتمع الدولي، هو يمثل شريحة كبيرة من الشباب السوري الذي وجد نفسه مطعونا بأحلامه وآماله وفاقدا أية بادرة للتغيير في بلاده الذاهبة بسرعة مهولة نحو مجهول أسود وربما نحو الفناء، وجد نفسه في عالم متوحش وشرس، يتشدق بالحديث عن حقوق الإنسان في استعراضات هوليودية لا تمت للواقع بصلة، وجد نفسه عاريا في غابة تعج بوحوش المصالح وتحالفات السياسة والاقتصاد التي يمكنها أن تلتهم شعوبا بأكملها.

الرسائل الأربع عشرة التي حملها لمجلس الأمن قبل أيام، هي رسائل أبنائنا وبناتنا حقا، ورغم أنها تشبه ما قاله ذلك الطفل السوري: “حين سأقابل الله سوف أخبره بكل شيء” من حيث إن الكلام السابق مجرد فكرة رمزية تنسب إلى طفل سوري ما، كذلك هي رسائل الشغري، هي مجرد رسائل رمزية تحمل أسماء مرسلين سوريين قد يكون أحدهم ابنتي أو ابن جارتي أو صديقي. لا يطلب من أحد بمكان عمر الشغري تقديم الحقيقة التي بات يعرفها العالم بأسره، بل مطلوب منه التأثير وإعادة توجيه دفة الرأي العام نحو الكارثة السورية المنسية، ورغم أنه قدم في نهاية الخطاب ثلاثة مطالب محددة إلى مجلس الأمن، إلا أن الأهم، في رأيي، هو قدرته على لفت الأنظار إلى صدقه وحماسته وانفعاله وتفاعله، إلى وجوده كشاب سوري في محفل كهذا بوصفه ممثلا عن جيل كامل من السوريين ونموذجا لما حصل له.

وحتما ليس المطلوب تحويل عمر الشغري إلى أيقونة ثورية (وجود الأيقونات دليل على ذهنية التقديس المدمرة) والتهليل له، لكن أيضا لا يجوز التقليل مما يفعله ولا الطعن بخطابه بذريعة أنه خطاب انفعالي غير دبلوماسي، نعم هو خطاب انفعالي يتناسب جدا مع سنه وحالته ووضعه، ويتناسب مع حالتنا جميعا، حالة السوريين جميعا، السوريون المخذولون من قبل مجتمع دولي منافق وفاسد يدعم نظاما مجرما كنظام الأسد ويدعم معارضة فاسدة وفاشلة كالمعارضة السورية الرسمية، ويتذرع بعدم وجود بدائل تنقذ سوريا. عمر الشغري ليس سوى واحد في طابور طويل من الشباب السوري الذي يطور نفسه ويراكم خبرات ويشير إلى عورة المجتمع الدولي صراحة وهو يقول: أنا البديل

تلفزيون سوريا

——————————

عن الغضب والصراخ../ علي سفر

في مكان ما من العالم قام أحد الأذكياء بتأسيس مشروع، يقدم لمن يرغبون إمكانية التعبير عن الغضب، من دون أن يؤدي ذلك إلى إيذاء الآخرين. وقد جمع صاحب الفكرة في المكان كل الأدوات التي يمكن للغاضب أن يحطمها، في سبيل أن يفرغ غضبه، كما أنه خصص كابينات صغيرة، يمكن لمن يرغب أن يصرخ في داخلها أيضاً.

لقي المشروع نجاحاً، وتم تقليده في عدة بلدان. ورغم أن طابعه الربحي لا يخفى، لكن من قاموا بتجريبه اعتبروه عملاً نبيلاً، يساعد الذين يعانون من التوتر المزمن على تجاوز ذلك، من دون أن يدمنوا على الأدوية، التي يمكن أن يصفها لهم الطبيب النفسي.

الغضب ههنا يمكن جعله مساوياً للمرض الجسدي، فكلاهما يحتاجان إلى الدواء كي يساعد المصاب على تجاوز الألم، وضمن هذا الترابط، لا يمكن النظر إلى صاحب المشروع الربحي على أنه يتاجر بآلام الآخرين، إنه يقدم لهم فرصة للتخلص مما يعانونه، طالما أن أحداً لم يفعل شيئاً يساعدهم على ذلك.

لنتخيل ما الذي سوف يقوله شخص غاضب من مديره في العمل، حينما سيدخل الكابينة المخصصة للصراخ! هل نحتاج للشرح، أو للتخيل أصلاً؟

الفكرة مبنية على أن يمنح هذا الموظف فرصة لسب مديره، من دون أن يجرح مشاعر المشتوم، ودون أن يخاف من فقدانه لعمله، ولكن لو حصل ذلك فعلياً في مكان العمل، ألن تكون فرصة رائعة لقول كل شيء في مواجهة غير متوقعة!

يريد البعض من السوريين أن يكونوا مؤدبين وهم يتألمون، وألا يعبروا عن غضبهم إلا في كابينات مقفلة، لا يسمعهم فيها أحد، لا لشيء سوى أن طريقة تعبيرهم قد تتجاوز الحدود المقبولة في صالونات السياسة الدولية!

الحدث الذي صنعه الناشط السوري عمر الشغري في مجلس الأمن (وهو مكان غير مخصص لتفريغ الغضب) يستدعي نقاشاً مطولاً حول ما يجب على السوري قوله في المحفل الدولي، وما يجب عليه ألا يقوله، وفقاً لقواعد البروتوكول المعتمدة، ووفقاً للصوابية السياسية. وهذا يمكن أن نتمسك به، طالما أن القضايا التي سوف نناقشها تخضع لذات القواعد، الأمر الذي لا يحصل في حالتنا، إذ لا شيء منطقيا في كل ما حصل لنا!

من قال إذاً: إن التعبير عن الغضب يمكن أن يمضي في مثل هذه الحالة وفق خطوط مرسومة، ونقاط علام، يجب الالتزام بها؟!

طوال السنوات الماضية لم يُمنح السوريون فرصة لفعل شيء سوى أن يموتوا، أو يحاولوا النجاة عبر ركوب الأهوال!

كانت الدول المؤثرة في قضيتهم لا تنظر إلى مآسيهم في بلدهم، بل كانت تحدق بحرص المتضرر المرغم على القبول بما يجري، وهي تراهم يعبرون الحدود، ويخوضون البحار لكي يصلوا إلى أمكنة آمنة.

وحين غضبوا من قتلهم، ومن الصمت الدولي على المجازر التي ارتكبت بحقهم، حُرموا من حق المساعدة على رد الظلم والألم.

وحين حملوا السلاح ضد ظالمهم، أطلقت عليهم قطعان التوحش من كل حدب وصوب! لاشيء يمكن له أن يعبر عن السوريين سوى صور قتلاهم، لكن الموتى لا يغضبون، بل يحتاجون لمن يفعل شيئاً من أجل ألا يفلت القتلة بفعلتهم من دون عقاب، وإذا تعذر ذلك في الوقت الراهن، لابد من أن يصرخ أحد في وجه هذه البلادة المخزية، وهذا أضعف الإيمان!

قيل الكثير عن الشغري في الأيام الماضية، لكن ما لم يقل كان أكثر، خاصة أنه بذاته وبعد أن بات العالم يعرف الفظائع التي عاشها، صار أنموذجاً عن السوري الناجي من كارثة لم ينج منها سوى القلة، وقلة القلة هم من تمكنوا من الحديث عما جرى معهم!

لا أجزم بدقة كل ما يقوله الرجل من تفاصيل تجربته في الاعتقال، لا بل أظن (من موقعي كناقد يفكر بأدوات المنطق) أنه يبالغ في بعض الأشياء، ولكن هل هناك فرصة للتأكد من الحدود الفاصلة بين المنطقي وغير المنطقي في الحالة السورية؟ بين الواقعي والخيالي؟ بين الممكن وغير الممكن؟ بين غير الواقعي الذي نحب الحديث عنه، والواقعي الذي من غير المستحب ذكره؟!

أليس الجميع عرضة للإصابة بالهلوسة، وهم يتعرضون لرضوض جسدية ونفسية غير متوقعة؟!

نعتقد كحالة جمعية أننا وصلنا إلى ذروة الألم في تجربتنا، لكننا ومع كل انكشاف لمذبحة، نبدأ من جديد، وكأننا نعيش الحكاية لأول مرة!

أليس هذا أكبر الأدلة على أننا لم نخرج أصلاً من حالة الصدمة؟

نحتاج وفق أساليب العلاج إلى فرصة لأن نصرخ، طالما أننا لا نميل إلى العنف، ونرفضه، وإذا استطاع واحد من قومنا أن يفعل ذلك، هل نلومه؟

أليس التقريع الذي تعرض له الشغري هو شكل من أشكال لوم الضحية؟!

لنترك كينونة الرجل، فهي ليست شأناً عاماً، ودعكم من التشكيك بممارساته، وحتى أفعاله في المحيط الذي يعيش فيه، ولننظر إلى القصة من فرضية بسيطة هي حصول أي شخص غاضب على فرصته في التعبير عما يخالج نفسه، ولنسأل: ألم يقل بوضوح ما يفكر به الغاضبون؟!

تلفزيون سوريا

—————————————

خطاب الشغري.. صوت المغيبين من السوريين/ أحمد عيشة

تناول كثيرون ما قاله عمر الشغري، في كلمته التي قدّمها في مجلس الأمن بتاريخ 29 حزيران الماضي، حيث توزعت آراء السوريين بين ثلاثة اتجاهات: الأول، وهو رأي أكثرية السوريين، وفحواه تأييد ما قاله الشغري والشعور بالسعادة لرنين كلماته، التي عبرت عما يجول في خاطرهم ووجدانهم، لكونهم تعرّضوا لمختلف أشكال الفظائع التي ارتكبها الطاغية الأسدي بحقهم من اعتقال وقتل وتهجير وغيرها، والثاني، تأييد مع استدراك، بمعنى أن ما قاله الشغري جيد، لكن ما قاله ليس في المكان المناسب، بل ذكر بعضهم أن كلماته لا تحتوي على برنامج سياسي، أو ليس كلامًا سياسيًا، والثالث، رفض ما قاله من حيث المكان والمضمون، حيث لخص مضمونه بعبارة، ما هكذا تورد الإبل، بمعنى أن كلامه كان استدرارًا للعواطف واستثمارًا في آلام السوريين، وليس كلامًا سياسيًا.

قبل تناول ما قيل حول الكلمة القصيرة، لا بد من المرور قليلًا على سيرة هذا الشاب: فهو من مواليد 1995 في بلدة البيضا/ بانياس، اعتُقل وعمره لا يتجاوز ستة عشر عامًا، في بدايات الثورة السورية، وشهد وهو في ذلك العمر أفظع صنوف التعذيب، وخبر بحسه الفطري دوافع ذلك التعذيب، حيث “العقوبة تتضاعف حسب الاسم والجغرافيا”، وكيفية اغتصاب النساء وحتى الرجال، ومقدار الإهانات التي لا تُحتمل، وشهد أيضًا موت أحد أقاربه نتيجة التعذيب المفرط، وعلم بالمجزرة الشهيرة التي وقعت في بلدته وراح ضحيتها نحو 250 إنسانًا، وهو في المعتقل، وهي المجزرة التي وثقتها منظمات عدة (هيومن رايتس ووتش، منظمة العفو الدولية والشبكة السورية لحقوق الإنسان)، كمجزرة ذات عمق طائفي واضح. فعمر الشغري هو ابن لتلك الفظائع، والمعجب بصوت الهتافات الأولى المطالبة بالكرامة والحرية من دون أن يدرك حينها معناها ومآلاتها، لكنها حفرت عميقًا في ذاكرته ووجدانه.

على هذه الأرضية، يمكننا فهم كلمات الشغري والتعامل معها، كصوت حقيقي للناس الذين تعرضوا للفظائع، وليست كبرنامج سياسي أو خطة سياسية لخلاص سوريا، التي يقف فيها منتقدوه وأحزابهم وتشكيلاتهم على التواصل الاجتماعي عاجزين عن الاتفاق على أي نقاط فيها، هذا إن وجدت ثمة خطة، ومن ناحية أخرى، نقل الشغري، بأمانة، أصوات السوريين العاديين، الذين لم تسنح لهم الفرصة للتحدث على مثل تلك المنابر، لكنهم يعبّرون عن الألم الحقيقي للسوريين، وما يكابدونه من تهجير وتمييز وقهر في أماكن وجودهم، هذا الألم الذي لا تتجرأ على ترجمته والتعبير عنه عموم حركة المعارضة والمعارضين، لأسباب لا يستوعبها عمر وأمثاله الكثيرون في سوريا، الذين لا خلفيات أيديولوجية أو سياسية تؤطر أفكارهم، سوى معاناتهم وحجم الكارثة والفظائع التي ارتكبها النظام الأسدي بحقهم. وبذلك، كانت كلمات عمر صوت المغيبين والمحرومين، الصوت المعبر عن التوق إلى الكرامة والحرية.

لربما يعيش السوريون أسوأ حالاتهم من الانقسام والتفرقة، ليس بسبب الاختلافات في الرأي، وإنما بسبب الحال المزرية التي وصلوا إليها نتيجة التصارع الدولي، وتحويل الأرض السورية إلى ساحة لتصفية الحسابات، وربما لرسم المنطقة من جديد، حسب ما نراه من ترتيبات واتفاقات. والأمر المرعب هو شعور السوريين بحالة العجز المطلق عن الفعل، والاستقطابات الحادة التي يعيشونها نتيجة للخلافات الدولية وصراع تلك الدول على مصالحها سواء في سوريا أو خارجها، والاندفاع نحو التبرير لهذا الطرف أو ذاك وفق “فهمهم” للعلاقات الدولية والاستراتيجية والتكتيك، وما يجب أن يقال وألا يقال، وهو الأمر الذي يبدو أن الشغري لم يتعمق به على طريقتهم.

لقد خلقت حالة سوريا عديداً من المنظمات والمراكز البحثية والتجمعات السياسية والمنافذ الإعلامية، بدعم من الدول والمنظمات الدولية، بغاية معلنة وهي تقديم العون للسوريين وتنمية قدراتهم، وهي مشكورة قدمت شيئاً من ذلك، لكن من جهة ثانية، فقد خلقت فئة من المتنفذين في هذه التشكيلات، مرتهنة لأجندة داعمها بالكامل ومبررة لأفعاله أياً كانت، فئة منفصلة عن هموم السوريين، وإذا ذهبنا بعيدًا في النظر إليها، يمكن تشبيهها بالفئة العسكرية التي بنتها الدول الاستعمارية في أواسط القرن الماضي لتتولى زمام الأمور عند انسحابها من تلك البلدان، مفرغة نضال الشعوب من أجل الاستقلال الذي حوّلته تلك الفئات إلى تصارع على السلطة، السلطة المرتهنة للخارج والمعادية للداخل، وهي تلعب هذا الدور من الآن تعبيراً عن الامتنان لداعمها وقابليتها للقيام بأدوار أخرى في المستقبل.

وفق ذلك، يمكن تفسير معنى كلمات “ليس هكذا تورد الإبل”، لوصف كلمات عمر، الذي لا يعرف أنها تورد في كبت الصوت الحق من خلال الضغط على الناس حتى في لقمة عيشهم، والتمتع ببركات الداعم وما يوفره من مظاهر ترف زائفة. باختصار، مثلت كلمات عمر الشغري صوت الأحرار، مقابل الصوت المرتهن، الذي يخاف على فقدان المزايا والنعم التي يغدق بها سيده لقاء فهمه العميق لخريطة الصراع والانتقال بين الاستراتيجية والتكتيك، وصوغ الخطط الدقيقة، وسياسة فض النزاعات وأمور الحوكمة، ولا ننسى الدقة في المراقبة والتقييم.

هناك فرق بين من يتطلع إلى الحرية لسوريا، وبين من يتعامل معها كقطاعات تستوجب الإدارة، بين من يسعى للتحرر وبناء دولة ديمقراطية ومن يسعى لإدارة شركة بمصالحه الضيقة. بين من يعيش الجرح وبين من يعتاش عليه. قد فات  هؤلاء المتذمرين من خطاب العواطف أن الشغري لم يكن يبتغي من إلقاء كلمته إقناع الدول في المجلس، إنما كان يبتغي إحراجهم وإيصال رسالة إلى الشعوب أنفسها، من خلال مخاطبة ضمير تلك الشعوب الإنساني وتبيان ما تفعله دولهم تجاه الكارثة في سوريا، فضلاً عن أنه يعي أن خطاب الدبلوماسية لم يفلح في إيقاف طاحونة القتل طيلة الأعوام العشرة الماضية.

مئة وردة لعمر الشغري، صوت سوريا، وأحد رجالها في المستقبل، الذي كشف مدى التقاعس والارتهان اللذين نغرق فيهما.

تلفزيون سوريا

————————————-

14 رسالة حملها عمر الشغري إلى مجلس الأمن: ماذا دهاكم؟
وجه مدير شؤون المعتقلين في فرقة عمل الطوارئ السورية، المعتقل السابق عمر الشغري، 14 رسالة إلى مجلس الأمن الدولي، في جلسته التي انعقدت أمس الأربعاء، 29 من حزيران.

وحمل الشغري رسائل لأعضاء مجلس الأمن موجهة من 14 سوريًا، وتعبر عن السوريين كافة، إذ نقل رسالة سيّدة من درعا، تقول فيها “لديكم الصلاحية لتحويل الكابوس إلى حلم، فلماذا لا تفعلون ذلك”.

بينما قالت رسالة أخرى لمواطن سوري من دمشق “أليس من المستغرب مدى قوتكم وصلاحياتكم ولكن مدى عجزكم في مواجهة أعدائنا!”.

رسالة أخرى من حمص تقول فيها سيّدة سورية “ابنتي مريضة، هل لكم أن تساعدوا في خروجها لأي مشفى آمن في العالم”.

وإلى جانب ذلك، يقول أحد المواطنين السوريين من محافظة حماة في الرسالة التي نقلها الشغري، “فقدت كل شيء أمام ناظريكم، وكل ما تستطيعونه لوم روسيا والنأي بأنفسكم عن هذه المسؤولية”.

وهناك رسالة نقلها الشغري من مواطنة سورية من اللاذقية، المحافظة التي ينتمي رئيس النظام السوري لإحدى قراها، جاء فيها “لم تكن سوريا بهذا الخوف والرعب والترويع، حتى مؤيدو النظام لا يسلمون أيضًا من التوقيف والتعذيب والقتل”.

وارتفعت حدة الخطاب الذي قدمه الشغري مؤكدًا أنه لا ينتقي من كلمات الشعب السوري، لكنه يصدح بأصوات الناس، وتجلى ذلك في إحدى الرسائل التي نقلها عن مواطن من أبناء محافظة إدلب ونصّها “لقد كنتم عاجزين بل ومشلولين منذ عام 2011، لقد فقدت كل شيء أحببته يومًا ما، تبًا لكم، يا ويحكم، إذ إنكم لم تحترموا الأرواح الإنسانية”.

أما رسالة مواطنة من محافظة حلب، فجاء فيها “كل ما نحتاجه هو الحماية، سئمت من خشية السماء، فلست بحاجة لمزيد من القنابل”.

وعن أحد أبناء محافظة الحسكة، شمال شرقي سوريا، نقل الشغري، “لا تدعوا روسيا والصين وإيران يتلاعبون بكم، تصرفوا بقدر مستواكم، ومنصبكم وقوتكم كمجلس للأمن، لا مجرد لعبة في (ديزني لاند)”.

وتقول رسالة لسيّدة سورية من محافظة ريف دمشق “لدي رهاب من الأماكن المغلقة، وكلما شن علينا النظام هجمة علي الاختباء ولا أستطيع التنفس”.

كما نقل الشغري رسالة عن شاب صغير للغاية من أبناء القنيطرة يقول فيها “لقد استأنست قطة منذ مدة، وهي عالمي كله، رجاء ساعدوني لأبقي هذه القطة على قيد الحياة وأحفظها، واسمها جودي”.

وفي رسالة من مواطنة سورية من أهالي السويداء، “لقد بدى أن كل شيء مستحيل ولن يحدث أبدًا إلى أن يقع ويتحقق وتقع علينا الواقعة”.

ومن الرقة نقل الشغري رسالة لشاب سوري قال فيها “فيما كنتم تفكرون أن الحرب انتهت، فهي لم تنته وما زال السوريون يقتلون”.

تبع ذلك رسالة من دير الزور ونصّها “ثمة سبيل واحد لإنهاء الحرب في سوريا، وهو محاسبة نظام الأسد”.

بعد ذلك قدّم الشغري رسالته نيابة عن محافظة طرطوس، لتكون الرسالة الـ14، مشيرًا للغطاء السياسي الذي منحته روسيا للنظام السوري عبر استخدامها المتكرر لحق النقض” فيتو، لعرقلة قرارات تغطي انتهاكات حقوق الإنسان واستخدام القوة بحق المدنيين وتدعو لوقف شامل لإطلاق النار في سوريا.

الشغري موجهًا الحديث لأعضاء مجلس الأمن، قال “ماذا دهاكم؟ أما تبقى لديكم النذر اليسير من الإنسانية؟ ألا تُقض مضاجعكم ليلًا؟ كيف تنظرون بأعين أطفالكم؟”.

وتابع “ولا تتجرأوا أن تحاضروا بسيادة النظام السوري فما هذا إلا دليل على عجزكم”، كما لفت إلى الانتهاكات الإيرانية في سوريا والعراق، إلى جانب انتهاكات روسيا.

وفي سياق منفصل، ندد الشغري باستقبال الإمارات لرئيس النظام السوري ، بشار الأسد، في 18 من آذار الماضي، “أليس لديكم أي احترام لملايين يعانون منذ سنوات بسبب الأسد، للأمهات الثكلى اللواتي فقدن أبنائهن، وللسواح في جميع أنحاء العالم ينبغي أن تعرفوا أنكم تؤيدون قتل الأطفال والنساء في سوريا وتعذيبهم، (…) لن تفلتوا مني أبدًا سأتخذ كل الخطوات اللازمة لأفضحكم”.

كما ندد برفض الأردن السماح لامرأة حبلى تقيم في مخيم الركبان بالوصول إلى مستشفى على أراضيها، لتضع حملها.

الشغري دعا لموقف أمريكي أكثر جدية ويتعدى ما وصفها بـ”التصريحات الجوفاء”، مشددًا على ضرورة الضغط على موسكو لفتح جميع المعابر الإنسانية، إلى جانب “باب الهوى” للسماح بدخول المساعدات الإنسانية.

ودعا لجمع الأدلة واستخدامها لمحاسبة النظام السوري وإبطاء عملية التطبيع، وناشد المجتمع الدولي لـ”القتال” مع الشعب السوري، لتحرير كل المحتجزين بسبب مطالبتهم بحقوقهم.

وختم الشغري رسالته بالعربية “لكل ضحية، لكل مهجر، لكل أرملة، لكل يتيم، لكل سوري عندو أمل بالحرية، الحرية جاية، والأمل كبير”.

وشكك ممثلو العديد من الدول بما فيها، الولايات المتحدة وبريطانيا، بجدية “مرسوم العفو” الذي أصدره النظام في 30 من نيسان الماضي، إذ طالب المندوب الأمريكي بعدم استخدامه كذريعة لإعادة اللاجئين، باعتبار أن الظروف غير مواتية لعودة كريمة.

ودعت العديد من الدول لتمديد تمرير المساعدات عبر الحدود إلى سوريا، على خلاف الموقف الروسي


عمر الشغري والانقسامات السورية/ عمار ديوب

قدّم الناشط الحقوقي السوري عمر الشغري، قبل أيامٍ، مرافعة أمام مجلس الأمن، أثارت نقاشات كثيرة على مواقع التواصل الاجتماعي. كعادة السوريين بالتفكير الأحادي، اصطف بعض معه فتمّ تقديسه، واصطفت جماعات ضده فشيطنته، وهناك من حاول أن يأخذ دور الحكيم، فرأى أنّ الشغري أخطأ في مجلس الأمن، ولو ألقى خطبته في مكان آخر لأصاب أيما إصابة، ولكن لماذا حدث هذا؟

في كلمته التي لا تتجاوز بضع دقائق، وبّخ الشغري أعضاء المجلس، وشتمتهم أيضاً، وتلا أربع عشرة رسالة، وهي بعدد المحافظات السورية، وجميعها تقول إن الوضع لم يعد يطاق، ولا بد من حلٍّ للمشكلة السورية؛ هذا هو فحوى كلمته. لم يقبل المشيطنون ذلك، فهذا مجلس الأمن، ويجب أن تعرض فيه مشكلات سورية، وتُقرن بالقرارات الدولية المنصفة للشعب، وأن تكون لغة الكلام دبلوماسية. وهناك من قال إن الرجل طامح سياسي، وما زال صغيراً، 27 عاماً، وكان عليه أن يعتذر وتتقدّم شخصية “ثقيلة” بأفكارها، وبما يساعد على شرح قضيتنا بشكل عقلاني، لا بشكل عاطفي، وابتزازي، وعبر رسائل منقولة من أناسٍ يعانون معاناة شخصية، وكأن هذه المعاناة تقتصر على أفراد الرسائل، وليست معاناة شعب بأكمله. تتفق كل التحليلات على أن أكثر من 90% منه تحت خطر الفقر، وأكثر من 12 مليون سوري بأمسّ الحاجة إلى مساعدات دولية ليستمروا في الحياة، وإلّا المجاعة حاصلة.

رسالة الشغري، وأسلوب كلامه، هي طريقته في إيصال قضية السوريين إلى العالم. الرجل ليس ممثلاً للمعارضة، والأخيرة أجرت لقاءات كثيرة منذ 2011، وأعضاء مجلس الأمن على اطلاعٍ دقيق على أوضاع السوريين، وبالتالي، يصبح من التكرار غير المستحبّ أن تُكرّر القوانين المنصفة للسوريين، ويصبح الكلام “العاطفي”، وهو ليس كذلك، مدخلاً جيداً لإيضاح الأحوال، وتحميل ذلك المجلس، أعلى مؤسسة دولية لتمثيل دول العالم، مسؤولية الكارثة المستمرة منذ 2011.

ليست شيطنة عمر الشغري صائبة بحال، فالرجل اجتهد، والقضية السورية مُعلقة منذ 2011، فهل ستؤخر كلمته حلّ القضية، وهل ستتحرّك الدول العظمى لنجدتنا لو تلا على أسماعهم القرارات الدولية المؤيدة لنا. هذا منطقٌ غريب؛ فقط يمكن تأييد الشيطنة ردّاً على التقديس والعكس صحيح، ولكن الرجل لا هذا ولا ذاك، ويمكن أن يصيب ويمكن أن يخطئ، وجميعنا كذلك أيضاً.

لا يمثل الشغري المعارضة السورية، ويفترض بكلمته ألا تكرّر المكرّر، ولدينا لجنتان فاشلتان في المعارضة، اللجنة الدستورية ولجنة لقاء أستانة، وهناك الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية وعشرات المؤسسات الفاشلة بدورها؛ وكلمته أضاءت الوضع الإنساني، وهذه رسالة مهمة إلى العالم؛ وتضمّنت مطالبة مجلس الأمن باستمرار فتح معبر باب الهوى، حينما سينَاقش الأمر بعد بضعة أيام في المجلس، وفتح بقية المعابر، وأيضاً رفض أي شكل لتعويم النظام، وأفكار كثيرة لمحاسبة الأخير.

تضمّنت كلمته الإنسانية شحنة انفعالية عالية، ولكن ماذا يفعل شاب، يرى بلاده وقد أصبحت على الأرض وأغلبية أفراد عائلته قتلوا، ولا يرى أفقاً لبرّ الأمان قريباً؛ ربما يمكن التعبير بطريقة أخرى، وربما لو جلس شابٌّ في عمر الشغري لتكلم بطريقة مختلفة، أقول ربما، ولكن لن يتغير في الأمر شيء. لم يذهب عمر للتفاوض مع وفد للنظام، أو مع أعضاء مجلس الأمن وللوصول على اتفاقٍ سياسيٍّ ما؛ ذهب الرجل إلى هناك عبر آليات معينة، وما قاله يتحدّث به السوريون بالسر والعلن؛ فصرخاتهم شديدة هذه الأيام، ويشمل الأمر الموالين، وصرخاتهم لا تتضمن شتم النظام أو التظاهر، فهذه دونها ما فعله النظام في سورية منذ 2011، ولهذا يصمتون.

تضمّنت كلمة الشغري قطعاً كاملاً مع النظام، وهذا يتفق مع رؤية الثورة حينما وصلت إلى تغيير النظام، وكانت قبل ذلك تطالب بإصلاحه. تغيّر الواقع كثيراً، وصار من العقلانية بمكان البحث عن تسوياتٍ سياسيةٍ جديدة، ولكن هل هذا ممكن من أصله؟ هذه الفكرة يكرّرها فاعلون كثيرون في الوسطين الثقافي والسياسي، وهي تتلاقى مع فشل الثورة ومصالح المتدخلين، وتعقد الوضع السوري الذي تسيطر عليه دول إقليمية وعالمية، وتقسمه إلى أربع مناطق. مشكلة السوريين في غياب التوافق الخارجي، وهذا بالضبط ما يبرّر كلمة الشغري، ويجعل منها ضرورة إلى أن تتغيّر المعطيات العالمية والإقليمية، ويعود الحل السياسي إلى طاولة التفاوض.

لم أجد ما أشيطن به الرجل، ولا ما أنتقده عليه أيضاً. لقد أعاد تذكير العالم بمأساة كل السوريين بكل بساطة ووضوح، وتكلم عن كل المدن السورية الأربع عشرة. هل كان يعي أنّه يتجاوز بذلك مفهوم الموالاة والمعارضة ليتكلم عن السوريين، ربما نعم وربما لا. والقضية السورية التي ظهرت في كلمته يجب أن يستعيدها كل الفاعلين السوريين، أفراداً ومنظمات ومؤسسات وقوى سياسية وثقافية. هذا فارق كبير بين خطاب يخص المعارضة وآخر يخص النظام. الشغري هنا يؤكد ضرورة إنتاج خطاب جديد، يطوي خطابات النظام والمعارضة.

فشل النظام في الدفاع عن مواليه، وهم في أسوأ الأحوال، وفشلت المعارضة في الدفاع عن الثائرين، والمطرودين من جنّة النظام إمّا في المنافي أو الخيام أو في مناطق سورية تحت الفصائل وقوات سورية الديمقراطية (قسد) وهيئة تحرير الشام، وجميعهم، بمن فيهم الموالون، يعانون الأمرّين. هذا الفشل، والذي ناقشناه طويلاً في مقالاتنا عن سورية يستدعي خطاباً كالذي قاله الشغري، ويستدعي خطابات وبرامج ورؤى جديدة تسمح للسوريين بالتقارب فيما بينهم، وطي صفحة الانقسامات الكثيرة.

يحتاج عمر الشغري، وسواه من الشباب السوري الناشط، خبرات واستشارات كثيرة، ولكن بالتأكيد لا يحتاجون أبداً لدعمٍ من قيادات المعارضات الفاشلة؛ فهل يسعى هذا الشاب وآخرون من أجل حركة وطنية جديدة، تستجيب لما آلت إليه الأوضاع السورية. الأمر في غاية التعقيد، وربما لن يتحقق، فالتعقيد يعني أن هناك شروطاً موضوعية مانعة لهذه الحركة، وأية إرادات لا يمكنها تغيير هذه الشروط، وبالتالي، صرخة الشغري في مجلس الأمن، وتوبيخه دول هذا المجلس، الأساسية منها بصورة خاصة، كانت ضرورية؛ حينما تتأخر السياسة عن الفعل تتقدم الأخلاق بقوة.

العربي الجديد

—————————-

=======================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى