منوعات

جفاف أوروبا: غضب الطبيعة أم غلواء الرأسمالية؟/ صبحي حديدي

خير أن تُقرأ جيداً، وبتبصّر لائق وتأمّل عميق، تصريحات أندريا توريتي الخبير الإيطالي وأستاذ علوم المناخ في جامعة برن، سويسرا: جفاف سنة 2018 كان شديداً إلى درجة أنّ معدّلاته لا سابق لها خلال 500 سنة في الماضي، ولكنّ معدّلات هذه السنة 2022 أسوأ مما كانت عليه قبل ثلاث سنوات. والرجل لا يتحدث عن أفريقيا أو أستراليا هذه المرّة، ولا عن مناطق الجفاف المعتادة المألوفة، بل يقصد أوروبا على وجه التحديد؛ ومثاله الأبرز، على غرار سواه من علماء مناخ أوروبيين، هو ما يتعرّض له نهر كبير عريق مثل الراين، على أصعدة انحسار المياه إلى مستويات مرعبة قد لا تسمح بأيّ شكل من أشكال الملاحة فيه.

من جانبه يشير “مرصد الجفاف الأوروبي” إلى أنّ 64% من أراضي الاتحاد الأوروبي تتأثر اليوم بظواهر جفاف مختلفة الشدّة والنطاق، وأن” 47% منها تقع تحت وطأة شروط “الإنذار”، و17% باتت تُصنّف في دائرة “الاستنفار”؛ الأمر الذي يدفع مركز أبحاث المفوضية الأوروبية إلى تبنّي أطروحة توريتي بأنّ قارّة أوروبا العجوز لم تشهد ظواهر جفاف مماثلة منذ 500 سنة، والمثال هنا نهر آخر آخر عريق كبير هو الدانوب أطول أنهار القارّة. وليس انحسار المياه هو وحده سمة هذه التبدلات العاصفة، إذْ بات نهر بو في إيطاليا عاجزاً عن تأمين سقاية حقول الأرز أو حضانة المحار، كما أدّت سخونة مياه نهرَيْ رون وغارون في فرنسا إلى تعطيل طاقة تبريد المفاعلات النووية. والمعطيات خلال الأشهر الثلاثة المقبلة سوف تنطوي، في يقين توريتي نفسه، على “مخاطر جفاف شديد يضرب أوروبا الغربية والوسطى، إلى جانب بريطانيا”.

أسماك أوروبا، بسبب درجات حرارة المياه العالية وانخفاض محتوى الأوكسجين، تنفق بالملايين؛ وعلى مدّ النظر بات نهر أودر، الذي ينبع من جمهورية التشيك ويتفرّع في بولندا ويحاذي ألمانيا، مغطى بالأسماك الميتة، لأنّ غضب الطبيعة تلاقى هنا مع التلويث الصناعي للنهر فصار انحسار المياه حاضنة مفتوحة لتدفّق سموم الصناعات الكيميائية وركودها في الحوض. زراعات الحبوب الأوروبية هبطت بنسبة 20 إلى 40% في إيطاليا، و20% في فرنسا، فأضافت مشقة على عسر استيراد الحبوب الأوكرانية؛ وأمّا زيتون إسبانيا الشهير، الذي يعادل قرابة نصف الصادرات إلى العالم، فإنّ أرقامه اليوم تشير إلى ربع المحصول المعتاد المسجّل خلال السنوات الخمس الماضية. وحتى في البلدان الأعلى رطوبة، مثل النروج، فإنّ تدنّي معدلات المياه في الأحواض تسفر تلقائياً عن انخفاض قدرتها على توفير الطاقة الهدروكهربائية، وهذا يضيف المزيد إلى حرج تغييب مقادير النفط والغاز التي اعتادت روسيا تأمينها.

مسؤولية النظام الرأسمالي عن قسط أكبر من هذه الظواهر المميتة تبدأ، كما يقول المنطق البسيط، من حقيقة أنّ الغالبية الساحقة من حكومات أوروبا الغربية والوسطى تعتمد هذا الشكل أو ذاك من تنويعات اقتصاد السوق في المنظور الرأسمالي. القطاع الخاصّ، في المقابل، يدين أيضاً لاشتراطات السوق وقوانين العرض والطلب، من جهة أولى؛ ويظلّ غير ملزَم، حتى ضمن منطوق العقيدة الشهيرة: “دَعْه يعمل، دعه يمرّ”، بالحدّ من جشع تكديس الأرباح على سبيل الإسهام في خدمة الطبيعة والمناخ وكبح جماح غضبات الجفاف والفيضان والحرائق، من جهة ثانية. ذلك يتجلى بصفة خاصة في ميدان الزراعة، إذْ تشير معطيات وكالة “ناسا” إلى أنّ 13 ضمن 37 من أحواض المياه الجوفية الكبرى يتمّ استنزافها بأسرع مما يمكن إعادة تعبئتها؛ وأنّ الزراعة تستهلك 70% من استخدام المياه العذبة، مقابل 20% في قطاع الصناعة. لكنّ البلوى تبدأ من جشع توظيف الزراعة لتحقيق أرباح فلكية، سواء عبر طرائق الريّ عالية الاستهلاك للمياه، أو زراعة المحاصيل ذات المدى القصير والربح السريع في مناطق غير ملائمة مائياً أو حتى مناخياً، أو احتطاب مساحات واسعة في الغابات لتحويلها إلى حقول زراعية.

وقبل أقلّ من سنة اجتمع في غلاسكو، برعاية الأمم المتحدة، 120 من زعماء العالم على مختلف المستويات، وأكثر من 22 ألف مندوب و14 ألف مراقب؛ وعكفوا على قراءة وتحليل مختلف جوانب التغيّرات المناخية، كما درسوا العلوم والحلول والسياسات؛ واختصر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الحصيلة هكذا: “النصوص المعتمدة هي حل توافقي”. بالطبع، لأنها “تعكس المصالح والظروف والتناقضات وحالة الإرادة السياسية في العالم اليوم”، والمشاركون اتخذوا “خطوات مهمة، ولكن لسوء الحظ لم تكن الإرادة السياسية الجماعية كافية للتغلب على بعض التناقضات العميقة”. وبالطبع، استطراداً، لأنّ التخفيضات في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بعيدة عن المستوى الذي يتوجب أن تكون عنده للحفاظ على “مناخ صالح للعيش”، و”لا يزال الدعم المقدّم للبلدان الأكثر ضعفاً والمتضررة من آثار تغير المناخ ضعيفاً للغاية”، كما اعترف تقرير غوتيريش.

وكان مؤتمر غلاسكو مناسبة جديدة لتأكيد النتائج الميدانية الهزيلة التي انتهت إليها توصيات مؤتمر المناخ الأشهر، باريس 2015؛ حيث لم يكن قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالانسحاب كلياً من التزامات أمريكا في ذلك المؤتمر هو وحده رصاصة الرحمة الأكثر دوياً في الإجهاز على روحية التوصيات، بل كذلك لأنّ هذه الأخيرة لم تكن في الأصل ملزِمة للدول الموقّعة عليها! وكان المعنى الأجدى بالاستخلاص يقود إلى أنّ دولاً أخرى في عداد كبار الملوِّثين، أمثال الصين وروسيا والهند والبرازيل، لها أن توقّع على التوصيات في غلاسكو صباحاً، وأن تنقع توقيعها بالماء مساء في بكين أو موسكو أو نيو دلهي أو برازيليا… وأمّا بعض فضائل غلاسكو القليلة فقد تمثلت في إتاحة منبر عالمي يعيد التشديد على تعبير “الإبادة المناخية” Climate Genocide الذي، للمفارقة الصارخة، كان من نحت الأمم المتحدة ذاتها في التقرير الشهير المفزع الذي صدر مطلع آب (أغسطس) 2021. وللتذكير المفيد، كانت أبرز خلاصات تلك المذبحة أنّ استقرار ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي أعلى في العام 2019 ممّا كان عليه خلال مليونَيْ سنة من عمر البشرية؛ ودرجة حرارة الأرض قفزت، ابتداء من 1970، بشكل أسرع من أيّ زمن عرفته المعمورة منذ 2000 سنة على أقلّ تقدير.

وليس الأمر أنّ غضب الطبيعة لا رادّ له، أو أنّ الحلول مستعصية أو مستحيلة، بل أنّ جوهر العلاج يبدأ من خلاصات علوم المناخ حول إرضاء الطبيعة وحُسْن التعامل مع متغيراتها؛ وهذا، غنيّ عن القول، مشروط بما يُستطاع من إرغام الأنظمة والشركات الكبرى والصناعات الملوِّثة ذات التوجهات الرأسمالية الصرفة على اعتماد سياسات صديقة للمياه، مطيعة للبيئة، خادمة للإنسان وحاجاته في المقام الأوّل، وليس لمراكمة الأرباح وتكديس المليارات. ليس مثالياً هذا المآل، أو غير قابل للتحقق كما قد يقول قائل متشكك، لأنّ صندوق الاقتراع الذي يتيح للناخب الأوروبي اختيار أمثال إمانويل ماكرون وأولاف شولتس في أعلى هرم القرار السياسي والاقتصادي، يُلزمه كذلك بإرغام الساسة على تطويع توحّش رأس المال وانفلات الاستغلال من كلّ عقال، في ميادين حيوية مثل الصناعة والزراعة والمياه والطاقة النووية.

صحيح أنّ سيرورة كهذه قد تستوجب تغيير النظام في كثير أو قليل، غير أنّ غلواء الرأسمالية تفرض طرازاً من التغيير قادماً لا محالة، في قلب مظاهر الرعب كما توثّقها مشاهد الجفاف والفيضانات والحرائق؛ وليس للمواطن الأوروبي خيار في هذا، غير أن يقاوم ويرفض ويسعى إلى التبدّل والتبديل.

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى