أبحاث

التبعية لأربيل وقنديل جذر المعضلة الكُردية في سوريا/ جوان ديبو

تبعية متوارثة

هناك شبه إجماع لغوي وفلسفي يُفيد بأن المعضلة تعتبر مرحلة متقدمة جدا من المشكلة إن لم تكن تشكل المرحلة الأخيرة منها. ويكاد يكون هناك إجماع آخر يُفيد بأن المشكلة يمكن أن تُحل، بينما المعضلة عصية أو صعبة على الحل. لكن في بعض الأمثلة والحالات النادرة، كما في حالة القضية الكردية في سوريا، فمن الممكن أن تتجاوز مدلولات ومكنونات المعضلة دائرة الحل لتطال وتشمل دائرة الفهم أيضا.

فعندما نقول القضية الكردية في سوريا، فهذا يوحي سلفا بأن جوهر هذه القضية والمعنيين بها وأصحاب القرار فيها هم الكُرد في سوريا، لكن التاريخ القريب والواقع المحسوس يشي بعكس ذلك وبأن من يملك القرار بخصوص واقع ومصير الكُرد في سوريا هم حزب العمال الكردستاني (بككة) وقيادته في جبال قنديل والحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك) في أربيل بكردستان العراق وذلك خدمة لأجنداتهما ومصالحهما الخاصة، وليس لخدمة القضية الكردية في سوريا. ومن أجل الخوض في محاولة فهم ما تيسر من جوانب وأبعاد هذه الظاهرة غير السوية لا مناص من دراستها في سياقها التاريخي.

بالتزامن مع انبثاق الإرهاصات الأولى للوعي السياسي للكُرد في سوريا وتبلوره في ولادة الحزب الديمقراطي الكردستاني – سوريا سنة 1957، رافق ذلك إنبات البذرة الأولى لآفة التبعية السياسية والحزبية والفكرية شبه المطلقة في كردستان سوريا لصالح المركز الكردستاني الأول آنذاك والمتمثل في الحزب الديمقراطي الكردستاني – العراق (حدك) بزعامة الراحل مصطفى بارزاني. بعد تأسيس حزب العمال الكردستاني سنة 1978 في كردستان تركيا، تم زرع البذرة الثانية لفايروس التبعية الروحية والسياسية والحزبية والفكرية الكردية في سوريا لصالح المركز الكردستاني الثاني والمتمثل آنذاك في (بككة) بكردستان تركيا والبقاع اللبناني. وبالتالي تم الإجهاز على بقايا الآمال المتبقية في إمكانية حيازة الكُرد في سوريا لاستقلالية قرارهم السياسي بعد مصادرته طوعيا وقسريا من قبل كل من (حدك) في كردستان العراق و(بككة) في كردستان تركيا.

وهذا بحد ذاته يدفع إلى الاستنتاج الأولي ومفاده: عدم قدرة الكُرد في سوريا تاريخيا وحاضرا على التبلور والاستمرارية سياسيا بمعزل عن إرادة وقرار وعون “الأشقاء” الكبار غير المجانية في جنوب وشمال كردستان. لكن هذا التبلور السياسي والحزبي كان الهدف منه أولا وأخيرا خدمة أجندات “الأشقاء” الكبار الذين لم يكترثوا في يوم من الأيام لمعاناة وحقوق الكُرد في سوريا بقدر ما كانوا ولا زالوا يكترثون لأجنداتهم ومصالحهم السلطوية المتداخلة إلى حد ما مع أجندات أنظمة الدول التي تضطهد الشعب الكردي. هؤلاء “الأخوة” الذين لم تكن قضية الشعب الكردي في سوريا بالنسبة إليهم سوى ورقة يستفيدون منها في صراعاتهم البينية ويستخدمونها في مساوماتهم ومقايضاتهم مع نظام الأسد الأب، حتى وصل الأمر بعبدالله أوجلان شخصيا إلى الإنكار التاريخي لوجود شعب كردي في سوريا.

كما بدأ (بككة) بتجنيد المئات من الشباب الكُرد في سوريا وإرسالهم للقتال ضد الجيش التركي في شمال كردستان، وذلك بالتنسيق مع الاستخبارات السورية التي شجعت تلك الظاهرة بشكل لافت وملحوظ. وبالتزامن مع استشهاد عدد كبير من الشباب الكُرد في سوريا المنضوي ضمن (بككة) في القتال ضد الجيش التركي، أصبح الحزب يستحوذ على قاعدة جماهيرية واسعة في كردستان سوريا، خاصة أن العداء للدولة والجيش في تركيا كان ومازال جزءا لا يتجزأ من الذاكرة والتراث والثقافة الجمعية الكردية في سوريا.

هذا الأمر ينطبق أيضا بشكل أو بآخر على (حدك) في كردستان العراق. على سبيل المثال لا الحصر، في عام 1996 زار الزعيم مسعود بارزاني مدينة القامشلي في كردستان سوريا قادما من دمشق بعد أن كان ضيفا على حافظ الأسد. تجمهر عشرات الآلاف من الكُرد لاستقبال الزعيم الكردي في وقت كانت فيه مظاهر اضطهاد الكُرد من قبل نظام الأسد الأب في أوجه، ولم يكلف زعيم (حدك) الضيف نفسه عناء التباحث أو الإشارة إلى تلك المظاهر مع نظام الأسد الأب على الأقل بهدف التخفيف منها. وكان جُل تركيز الزعيم الكردي هو تأمين استمرارية دعم نظام الأسد الأب لهم ضد نظام صدام حسين آنذاك. وهذا أمر مباح ومفهوم في عالم السياسة الذي يخضع لمعيار الأولويات. لكن الأمر غير المستساغ وغير الشرعي كان وما يزال توظيف القضية الكردية في سوريا لخدمة أجنداتهم الخاصة حتى إذا كان ذلك على حساب استفحال مأساة الكُرد في سوريا.

لذلك منذ العقدين السادس والثامن من القرن الماضي وإلى أيامنا هذه، تقع مراكز القرار بالنسبة إلى الكُرد في سوريا خارج كردستان سوريا. كل حزب رئيسي في كردستان سوريا يسبح في أفلاك أربيل وقنديل لا يُقدم على خطوة واحدة إلا بعد أخذ المشورة والنصيحة والتعليمات والأوامر من أربيل وقنديل. وكأن الأحزاب الكردية الرئيسية في سوريا مثل حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يقود الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا والحزب الديمقراطي الكردستاني – سوريا الذي يشكل نواة المجلس الوطني الكردي المنضوي ضمن الائتلاف السوري المعارض الموالي لتركيا، قد تحولت بالفعل إلى فروع للأحزاب الكردستانية الرئيسية في أربيل وقنديل أو إلى أحزاب الشخطة (-) فرع سوريا كما تسمى.

وكانت النتيجة أنه لم يتسن للكُرد في سوريا خلق أو اكتساب هوية سياسية مستقلة ومتميزة وخاصة بهم تمكنهم من التخطيط والتحرك بشكل مستقل وبعيدا عن مؤثرات “الأشقاء” الكبارالمؤذية وغير النزيهة. وبات الكُرد في سوريا يُعرفون ويُصنفون على أنهم إما بارزانيون أو آبوجيون نسبة إلى لقب آبو المنسوب إلى عبدالله أوجلان، والأغلبية الساحقة منهم مبتهجون وفخورون بهذه الهوية وبهذا التصنيف.

والأنكى من كل ذلك، أن معظم الكُرد في سوريا المحسوبين على المدرستين البارزانية والآبوجية باتوا يعيبون على بعضهم البعض الانتماء والتبعية إلى المدرسة المناوئة. بمعنى أن البارزانية أصبحت بالنسبة إلى معظم الآبوجيين وكأنها تهمة، وأضحت الآبوجية بالنسبة إلى معظم البارزانيين أيضا تهمة. على هذا الأساس، إذا لم تكن بشكل من الأشكال بارزانيا أو أوجلانيا (آبوجيا) في كردستان سوريا، معنى ذلك أنك تهرطق وتخرف وتجازف وتصبح طوباويا وسرياليا. حتى وصل الأمر ببعض المحسوبين على النخبة السياسية الكردية في سوريا بابتداع مصطلحات وهمية من قبيل “بارزانيزم” نسبة إلى الزعيم مصطفى بارزاني و”أوجلانيزم” نسبة إلى زعيم (بككة) المعتقل في تركيا عبدالله أوجلان.

علما أن (حدك) نفسه في كردستان العراق وقيادة (بككة) في جبال قنديل لم يقوما بابتكار مثل هذه البدع والهرطقات. هذه الحالة المأساوية المضحكة – المبكية تعكس هيمنة الولاءات والتبعيات الأيديولوجية والحزبية التي تقع ما وراء الحدود على مقاليد السلطة والقرار لدى الكُرد في سوريا، بالإضافة إلى أن التبعية الحزبية والسياسية والفكرية للأحزاب الرئيسية في كردستان سوريا لصالح المحاور الكردستانية في أربيل وقنديل لا تعكس الامتداد والتداخل والتشابك والترابط التاريخي والجغرافي والمجتمعي الكردستاني كما يحلو للمستفيدين تأويل ذلك، وإنما توضح الغياب والتغييب الممنهج للشخصية الكردية السياسية المستقلة في سوريا لصالح أجندات أربيل وقنديل حتى لو كان ذلك على حساب تفاقم مأساة الكُرد في سوريا. وهذه النزعة تتجدد وتنمو في الوقت الحاضر أكثر من ذي قبل بفعل مؤثرات المال السياسي الذي بات يتدفق بغزارة من (حدك) في أربيل على أتباعه في كردستان سوريا، وعلى العكس من ذلك، من أتباع (بككة) في كردستان سوريا على قنديل بعد أن استلموا مقاليد السلطة في المناطق الكردية منذ 2014.

إن الكُرد في سوريا وإن كانوا مفصولين عمليا عن كردستان العراق وكردستان تركيا بسبب الحدود الدولية، إلا أنهم كانوا ومازالوا تابعين لهم روحيا ووجدانيا وسياسيا وتنظيميا وفكريا. كردستان سوريا لم تنتج شخصيات كاريزمية كاملة كانت من الممكن أن تصبح بمثابة مرجعيات سياسية وفكرية وروحية على غرار ما حصل في كردستان العراق وكردستان تركيا. وهذا ما تمخض عنه تاريخيا إحساس مركب لدى الكُرد في سوريا قوامه عقدة النقص والدونية والتبعية. وهكذا أصبحت البارزانية والأوجلانية قوتين راسختين في كردستان سوريا وربما أكثر مما هي عليه في عقر دارهم، أي في كردستان العراق وكردستان تركيا. كردستان إيران، على سبيل المثال، لديه تاريخيا ما يكفي من القادة الكاريزميين من أمثال القاضي محمد وعبدالرحمن قاسلمو وغيرهم لكي يبقوا بمثابة الإشعاع الفكري والسياسي والنضالي للأجيال اللاحقة، وبالتالي لكي يبقى القرار السياسي فيه مستقلا نسبيا وبعيدا عن مؤثرات المراكز الكردستانية في أربيل وقنديل.

الكُرد في سوريا يعيشون هذه الأيام أوقاتا عصيبة وأياما حالكة السواد لدرجة باتوا عاجزين عن فهم واستيعاب تعقيدات الحاضر واستشراف النزر اليسير من ملامح المستقبل الضبابي الذي ينتظرهم بعد أن أوشك ما كان يسمى تجاوزا بشهر العسل الكردي في سوريا على النضوب، لا بل بعد أن تحول تدريجيا ما كان يتراءى للبعض بأنه شهر عسل كردي إلى جحيم لا يشي فقط بإجهاض الحلم الكردي الوليد، وإنما إلى كابوس يستهدف وجود الكُرد كشعب وذلك باقتلاعهم قسريا من أراضيهم بعد موجات من الهجرة الطوعية بسبب الفقر والبطالة وضلال وجهالة القيادة وتبعات الحرب التي لا تنتهي.

فمن ناحية، تركيا التي تعاني من الفوبيا الكردية منذ قرن من الزمان، تتربص بهم مرة أخرى وليست أخيرة وهي تدق طبول الحرب مجددا لاجتثاث ما تسميه بالخطر الكردي الداهم القادم من وراء الحدود. ومن ناحية ثانية، القيادة “الكردية” التي تتزعم الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) تمضي قدما وعن سابق إصرار وتصميم في مغامراتها ومقامراتها وطوباويتها التي اكتوى ويكتوي بتداعياتها ما تبقى من مشروع شعب ووطن.

التجربة الكردية الراهنة في سوريا تكتنفها الشوائب المفصلية منذ البداية على نحو كانت الشكوك تحوم حول ديمومتها منذ انطلاقتها من حيث عدم توفر مقومات البقاء والصمود. فالقرار السياسي الكردي في سوريا غير مستقل وهو يتفرع إلى تيارين. تيار يتبع حزب العمال الكردستاني وقيادته في قنديل وهو الذي يحكم عمليا الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا وقوات سوريا الديمقراطية “قسد”. وتيار يتبع الحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم في أربيل وتمثله بشكل رئيسي الأحزاب المؤلفة للمجلس الوطني الكردي المنضوي ضمن الائتلاف السوري المعارض التابع لتركيا. وبالتالي التبعية المكلفة وغير المجانية التي أدمن عليها الكُرد في سوريا لصالح أربيل وقنديل هي بمثابة اللعنة التي حلت عليهم وساهمت في عدم قدرتهم على النضوج وفهم اللعبة السياسية المشيدة على القوة والمصالح والدهاء. وبالمقابل، سيكون خلاص الكُرد في سوريا من التبعية والولاء لأربيل وقنديل بمثابة الخطوة الأولى نحو فهم واستيعاب تعقيدات اللعبة السياسية وحجر الزاوية في بناء الشخصية السياسية الكردية المستقلة في سوريا التي من شأنها رسم ملامح المستقبل بعيدا عن تأثيرات الأخوة – الأعداء في أربيل وقنديل.

جوان ديبو

كاتب سوري كردي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى