أبحاث

السلطة والثورة، الاعتماد المتبادل/ راتب شعبو

مقدمة

تحاول هذه الورقة الكشف عن علاقة تبادلية سيئة نشأت في بلداننا بين السلطة والثورة، من حيث دور انغلاق السلطات السياسية القائمة في جعل طيف الثورة حاضراً في الخيال على طول الخط، بوصفها حلاً سحرياً، الأمر الذي دفع إلى ظهور معارضات قصوى. كما تسعى إلى تبيان أن منع المعارضات النسبية يقود إلى ولادة معارضات مطلقة، وأن هذه تقود، في الواقع، إلى تعزيز السلطات القائمة حين تظهر على أنها، في قمعها لهذه المعارضات “الثورية”، إنما تواجه التطرف. أما في حال انتصار هذه المعارضات التي سميناها استبدالية، فإنها سوف تنتهي إلى بناء سلطات جديدة منغلقة، وتدفع، بالتالي، إلى ولادة النوع نفسه من المعارضة الاستبدالية، في مسار حلقي مفرغ.

الثورة، انتصار الكلمة على المفهوم

لم يكن الطلب عالياً على كلمة في المجال السياسي العربي كما كان، ولا يزال، على كلمة الثورة ومشتقاتها. من الأحزاب الثورية إلى تزيين الانقلاب العسكري باسم الثورة إلى مجالس الثورة إلى الشرعية الثورية إلى الثورة المقبلة … الخ. لقد استطاعت هذه المفردة أن تحافظ على تأثيرها رغم الابتذال الشديد الذي عانته في الواقع. فقد كانت هذه الكلمة، كما هو معلوم، محط صراع في تحديد ما جرى في سوريا في ربيع 2011، وصارت، بعد ذلك، بمثابة حد اعتباري فاصل بين معسكرين، أحدهما يستكثر الكلمة في تعريف ما جرى، وآخر لا يقبل بأقل منها، في اعتراف مشترك على أنها (أي كلمة الثورة) قيمة بحد ذاتها.

الثورة، في الخيال العام، حدث ساحر في قوته وعدله، يقلب الأوضاع الظالمة السائدة وينتقم من الظالمين ويقيم العدل. وليس الثائر سوى الثورة مجسدة على هيئة شخص ترك ضيق المصالح والأهواء الشخصية، ليحمل قيم الثورة ويتماهى بها. من هذا النبع “الشاعري” الذي لا ينضب، تستمد الكلمة نضارتها الدائمة وتقاوم الابتذال.

لكن المصدر الأعمق لديمومة فكرة الثورة في التداول هو استمرار الحال السيء للناس رغم تغير الأنظمة السياسية الحاكمة. وأهم من ذلك، أن الأنظمة السياسية التي تحافظ على استمرار البؤس، تحافظ على ذاتها بالصد العنيف لأي اعتراض أو حتى لأي استقلالية نسبية يمكن أن تنشأ وتشكل محل استقطاب سياسي. إذن، يجد الناس أنفسهم على الدوام أمام المعادلة التالية، حال سيء، تحرسه سلطة مسيطرة تمنع أي نشاط معارض يسعى لتحسين الحال، مهما يكن شكل أو لون هذا المسعى، طالما أنه مستقل عن السلطة. الحل الوحيد لهذه المعادلة المغلقة هو الثورة، بوصفها شيئاً خارقاً وساحراً يبطل الظلم ويعيد كل شيء إلى نصابه. لا شيء أقل من ثورة، يمكن أن ينفع مع حال بهذا السوء وهذا الثبات. الثورة هي الجواب على بؤس العالم حين لا يوجد جواب.

استمرار نضارة الكلمة، رغم شيوعها، يدل على أمرين: الأول هو توق الناس للخلاص من واقع ثقيل مزمن لا يبدو أنه يميل إلى الزوال ولا بد لذلك من “ثورة”، والثاني هو هروب الناس من التفكير في “مفهوم” الثورة، أي في إمكانية الثورة وتوفر عناصرها وانسجام الكلمة مع المفهوم. يتفادى الناس هذا الخط من التفكير مخافة أن يكتشفوا غياب الأساس الواقعي لما يأملونه سبيلاً للخلاص، أي الثورة. لا بد لهذه الثورة من أن تكون ممكنة كما هي، حدث خلاصي بالغ النقاء والقدرة والعدل وكأنها ميتافيزيك أو ما وراء الواقع. هكذا تغلبت شاعرية المفردة على مضمونها المفهومي.

لإجراء مصالحة بين الكلمة الشاعرية الجذابة والمفهوم الضنين، يُصار إلى توسيع المفهوم أو تمديده، فتعرّف الثورة على أنها: “الانتفاضة الشعبية المستمرة فترة طويلة نسبياً (بمعنى أنها ليست حدثاً طارئاً أو فعلاً احتجاجياً واحداً)، والتي تطالب بتغيير نظام حكم بآخر، حتى لو لم يتغير نمط الإنتاج”. رغم توسيع المفهوم، وتحت ضغط تقليد ماركسي متأصل، فإن صاحب التعريف يجد حاجة للإشارة بأن “تغيير نمط الإنتاج” ليس شرطاً لإعطاء شهادة “الثورة”. والحال إنه لا يوجد، أصلاً، تصور يقترح تغيير نمط الإنتاج الرأسمالي القائم بعد أن انهارت التجربة الاشتراكية التي تصورت أنها تبني بديلاً عن الرأسمالية أكثر تقدمية. على أن الكاتب يكمل ليقول إنه سبق أن عرف الثورة في مكان آخر على أنها “تحرك شعبي واسع لتغيير نظام الحكم من خارج البنية الدستورية القائمة” . وهو بدوره تعريف مرتبك، فلا يفهم القارئ ما معنى “البنية الدستورية”، هل هي الدستور؟ ألا يكون كل تحرك شعبي لتغير نظام الحكم هو تحرك من خارج الدستور؟ الدستور لا يعطي تشريعاً للثورة. ثم ماذا نقول عن الحركات الاحتجاجية الواسعة التي لا تستهدف تغيير نظام الحكم، بل فرض تغيرات مباشرة على قوانين وقرارات قائمة، مثل حركة السترات الصفراء في فرنسا؟ أم أن “البنية الدستورية” هي كناية عن البنية الاجتماعية الاقتصادية؟ في هذه الحالة نعود إلى إشكالية الثورات الاجتماعية وتغيير نمط الإنتاج وهو ما لا يمت للعالم الواقعي اليوم بصله.

من الواضح أن تنظيرات عزمي بشارة في الكتاب المذكور تقع تحت ثقل الجو السياسي المباشر في العالم العربي، ذلك أن كلمة الثورة، في هذا الجو، تشكل حداً فاصلاً وتشي بموقف معين وتتخذ معنى سياسياً، وقد نقول نفسياً أيضاً، لا يعبأ بالمفهوم النظري. أي إن بشارة أراد في تعريفه الآنف الذكر إسباغ معنى نظري على موقف سياسي. يتضح هذا في قوله: “لو افترضنا حسن نية المعترضين على تسمية الثورات، أي لو افترضنا أن الدافع لهذا الموقف ليس معارضة الثورات العربية، أو الخوف منها، أو التمسك بالنظام، فإن هذا الحكم عليها ينبع من خلط بين الثورات الاجتماعية الاقتصادية السياسية الشاملة التي تقود إلى نمط انتاج جديد بحسب التنظير الماركسي … وثورات سياسية لتغيير نظام الحكم” . يدرك الكاتب إذن أن من يعترض على تسمية “ثورة” يقع تحت إحدى هذه التهم، قبل التفكير بصحة اعتراضه من عدمه. هذا يشير إلى الحضور السياسي المباشر في الجهد المفهومي، والنتيجة الطبيعية هي إفقار المفهوم.

بحسب اطلاعنا، لا نلاحظ هذا التعلق بكلمة “ثورة” خارج البلدان العربية. الكلمة الشائعة في التعبير عن خروج الناس في مظاهرات إلى الشوارع وتقديم مطالب وتعبير عن مواقف رافضة لما هو قائم من سياسات أو قوانين أو أنظمة، هي “الاحتجاج” (protest)، كما نرى في دراسة صدرت حديثاً، في تشرين الثاني/نوفمبر  2021 (الطبعة الالكترونية تنسب نفسها إلى 2022)، تنظر في المظاهرات التي شهدها العالم بين 2006 و2020، وتحمل عنوان (الاحتجاجات في العالم، دراسة عن مواضيع الاحتجاج الرئيسية في القرن الواحد والعشرين)، ترد كلمة الثورة 26 مرة، ومعظمها يتعلق بما يستخدمه العرب للحديث عن حركات الاحتجاج العربية، فيما ترد كلمة احتجاج 1755 مرة.  قد يعكس هذا التعلق بكلمة الثورة في العالم العربي، تصوراً راسخاً يقول إنه لا شيء يمكن أن يغير واقع الحال المتأصل في سوئه وثباته سوى ثورة، وأن التثمير السياسي للمظاهرات أو للاحتجاجات غير ممكن مع استمرار السلطات القائمة التي لا تقتلعها سوى ثورة. هذا فضلاً عن الصدى الشاعري للكلمة ورصيدها الذي لا ينضب.

معايير تصنيف الاحتجاجات الشعبية

الحركة الشعبية التي تفضي إلى انتقال من نمط انتاج إلى آخر هي الثورة بالمعنى الماركسي الذي يتميز عن غيره بوجود هذا المعيار النوعي، أما وقد تلاشى التصور الذي ساد عن أن سمة عصرنا هي الانتقال إلى الاشتراكية، أي إننا في مرحلة انتقال من نمط انتاج إلى آخر، وأننا في عصر ثورات مفتوح، نقول بعد أن تلاشى هذا التصور إلى حد أغرى بالحديث عن “نهاية التاريخ”، فإن تقديم تعريف نظري عن الثورة لم يعد سهلاً. لم تعد هناك معايير نوعية تميز الثورة عن الانتفاضة عن الانفجار الثوري عن التمرد عن الهبّة عن الحراك عن الاحتجاجات … الخ. “يعد مفهوم الثورة من المفاهيم الزئبقية التي يصعب على الباحث الإمساك بتلابيب خيوطه … ويتخذ هذا المفهوم تمظهرات متنوعة منها: الخروج، والفتنة، والحراك، والانقلاب، والانتفاضة، والعصيان المدني والاعتصامات … الخ” .

غير أن الماركسيين لم يقصروا مفهوم الثورة على الانتقال من نمط إنتاج إلى آخر، وقد اعتمدوا مفهوم “الثورة السياسية” التي تعني تغيراً في الفئة الحاكمة على أرضية نمط الإنتاج السائد نفسه. هكذا أصبح لدينا ثورة اجتماعية (تغير من نمط انتاج إلى آخر)، وثورة سياسية (تغيير في الفئة الحاكمة) . ولكن هل نربط المفهوم بنجاح الحراك في تحقيق التغيير؟ أم تكفي الأهداف المعلنة؟ أم أن الأمر كله يتعلق بتحليل الباحثين وربط تصنيف الحراك بحدوده التاريخية من جهة، ووعيه لذاته من جهة أخرى؟

في تناوله الثورات العربية أو الربيع العربي، يضع جلبير الأشقر عنواناً فرعيا لكتابه “الشعب يريد” الصادر في 2013، هو “بحث جذري في الانتفاضة العربية” (يعتبرها حدثاً واحداً، كما هو واضح)، كي يتفادى مشكلة التصنيف: “استخدام اسم “الثورة” وصفاً للفوران الجاري في المنطقة العربية كان ولا يزال موضع نقاش حار وتنازع … وإذا كان العنوان الفرعي لهذا الكتاب يستخدم مصطلح “الانتفاضة” الأكثر حياداً، فإن الغرض هو عدم الإجابة عن ذلك السؤال على الغلاف، لاسيما أن مصطلح الثورة له أكثر من معنى” . ويشير الأشقر إلى المعنى الواسع لمصطلح الثورة العربي الذي يطابق مفهوم التمرد (revolt) أكثر مما يطابق مفهوم الثورة بمعناه الحديث (revolution)، من الثورة العربية الكبرى إلى ثورة العشرين في العراق إلى الثورة السورية الكبرى إلى ثورة فلسطين الكبرى، في حين أن الترجمة الإنكليزية لكل هذه الثورات هي تمرد أو انتفاضة (revolt).

وينتقل برهان غليون بين مصطلحي “الثورة” و”الانتفاضة” دون تلكؤ، ففي حين يحمل كتابه “عطب الذات” عنواناً فرعياً “وقائع ثورة لم تكتمل”، نراه يتكلم في تقديم الكتاب عن “الانتفاضات الشعبية التي اندلعت في سورية، وكثير من البلدان الأخرى”، وأن هذه الانتفاضات تشكل “امتحاناً قاسياً للأفكار والنظريات والاعتقادات” . فهو لا ينشغل بالتمييز وإن كان يغلب لديه استخدام كلمة “ثورة”. وهناك من تكلم عن “الانفجار السوري”، معتبراً أن ما جرى في سورية هو “انتفاضة لم تتحول إلى ثورة”، مستنداً إلى غياب المشروع الوطني لدى المنتفضين وغياب القيادة المشتركة والآليات التنفيذية والبرنامج المتكامل لإحداث تغيير جذري للنظام .

واضح أن الانشغال في تعريف الثورة عما عداها، لا يستهلك كثيراً من جهد الباحثين، فهو شبه غائب والحدود بين المصطلحات غير واضحة، والواقع أن تصنيف الحركات الشعبية وفق مصطلحات الثورة والانتفاضة … الخ، مهمة شاقة وضعيفة المردود، إلى ذلك. ربما كان الأجدى أن نعتمد معايير أخرى في التصنيف، كما لاحظنا في الدراسة التي أشرنا إليها آنفاً، والتي تتناول الاحتجاجات في القرن الحالي، فتصنفها وفق معيار مختلف هو مثلاً طبيعة الشكاوى والمطالب التي يحملها الشارع: فشل التمثيل السياسي أو النظام السياسي، العدالة الاقتصادية ومواجهة التقشف، الحقوق المدنية، العدالة العالمية … الخ، أو تصنفها وفق معيار السلمية والمسلحة، أو الطابع المحلي أو العالمي، أو مدى النجاح في تحقيق المطالب. هذه المعايير تفيد في الاقتراب أكثر مما يجري على الأرض، قياساً على التصنيف ما بين ثورة وانتفاضة وما إلى ذلك، رغم ما لهذا التصنيف الأخير من حساسية نابعة من الموقف السياسي .

سحر المعارضة الجذرية

الحضور الدائم للعنف السياسي في مجتمعنا نجم عن غياب آلية مستقرة لإنتاج سلطات سياسية تحوز على شرعية عامة وتنطوي على آليات تغيير السلطة واستبدالها دون عنف. على هذا فإن السلطات السياسية في مجتمعاتنا تحوي صفتين متلازمتين، أنها مفروضة على المجتمع وأنها أبدية، أي لا سبيل “شرعياً” لتغييرها. على هذا، من الطبيعي أن يكون ثمة عداوة كامنة مضادة للسلطة في مجتمع لا يجد وسيلة “طبيعية” للخلاص من “سلطته” سوى “الثورة” التي تتخذ، والحال هذه، شكل انفلات العداوة المجتمعية في وجه السلطة. الأمر الذي يجعل الصراع على السلطة صراع حياة أو موت، ويجعل السلطة القائمة بالتالي، في حالة قلق دائم من السقوط، ويجعل الهم الأمني عندها طاغياً على أي هم آخر، مما يجعلها تقوم على أساس الخوف وليس القبول، أو بالأصح تقوم على أساس نيل القبول عبر التخويف بالقوة والعنف .

الهم الأمني الطاغي للسلطة يدفعها إلى المزيد من الرقابة الذاتية وتنظيف التباينات في صفوفها، وهذا يحتاج إلى مركزية شديدة تشد إليها أطراف السلطة بقوة وتقلل قدرتها على تهديد المركز. مع الوقت تصبح السلطة، والحال هذا، شديدة التجانس أو كتيمة فلا تخترقها التباينات والصراعات التي تعتمل في المجتمع. أي تصبح اكثر فاكثر سلطة برّانية مقطوعة عن المجتمع، على صورة شبيهة بسلطة الاستعمار. يمكن لهذا أن يفسر استعمال مفردات تخص النضال التحرري من الاستعمار في غضون الصراع المستمر في سوريا، مثل تسمية المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، بالمناطق المحررة، وتردد تسمية “جيش العدو” إشارة إلى جيش النظام .

حيازة السلطة السياسية كانت تتم، منذ الاستقلال، عبر عمليات انقلابية في  الغالب، فلا يحوز على السلطة إلا من يمتلك القوة العسكرية الكافية لإزاحة السلطة القائمة وفرض نفسه على المجتمع. هذا الواقع ترك أثره على أشكال مواجهة السلطات السياسية القائمة التي تصفي معارضيها بالعنف. ومن شأن العنف أن يلغي النسبية في المعارضة ويدفع باتجاه معارضة مطلقة، نقصد معارضة ترفض بالكامل النظام القائم رداً على رفضه لها بالكامل. أن ترفض النظام القائم رفضاً كاملاً، يعني أن تجرده من كل ما يمكن قبوله، وعلى هذا يتعين على معارضي هذا النظام تقديم بديل كامل وفق ثنائيات متضادة: جاهلية وإسلام أو استعمار وتحرر أو رأسمالية واشتراكية أو استبداد وديموقراطية … الخ.

على هذا فإن نشوء المعارضة المطلقة التي تجعل غايتها الأولى هي الثورة ، لم يكن نتيجة تماد أو نزق وتطرف من قبل النخبة المعارضة فقط، بل وأيضاً نتيجة إغلاق مزدوج مارسته السلطات الحاكمة، إغلاق الباب في وجه أي تغيير سياسي سواء نحو تغيير النخبة الحاكمة أو نحو مشاركة فعلية في الحكم، وإغلاق سبل التنمية في المجتمع. وهذان إغلاقان متلازمان في الغالب (ربما كانت الصين هي الاستثناء الأبرز حيث جمعت بين التنمية الاقتصادية والاستبداد السياسي)، ذلك أن فساد أجهزة الحكم ملازم للاستبداد، ومن شأن هذا الفساد أن يمتص القيمة المضافة في الاقتصاد ويحولها إلى استهلاك رفاهي أو إلى أرصدة في الخارج. هذا الواقع المغلق أسس في المجتمع ولدى العموم ميلاً نفسياً نحو تثمين النخب التي تتبنى فكرة الرفض الجذري، على أنها المعارضة الحقيقية. هكذا كانت اللوحة السياسية مستقطبة دائماً بصورة غير منتجة، تيارات سياسية ممسوحة الهوية تحت إبط النظام، وتيارات التغيير الجذري الممسوحة الفاعلية تحت بطش النظام.

الصراع يصبح والحال هذا، صراع وجود لا يقود إلى تطوير، وسقفه أن يقود إلى استبدال نخبة الحكم، وهذا الاستبدال لا يفيد حتى لو كانت النخبة الجديدة من اتجاه سياسي مغاير للنخبة السابقة، ذلك أن المشكلة هي في نمط العلاقة الراسخة بين النخبة الحاكمة والمجتمع، وليس في النخبة الحاكمة نفسها. نقصد أن النخبة التي تصل إلى الحكم، بصرف  النظر عن ايديولوجيتها السياسية، وبفعل ثبات العلاقة بين السلطة والمجتمع، سوف تغلق باب المشاركة والتغيير السياسي وسوف تنتج الظروف التي تمهد لانتشار الفساد على كل المستويات وبالتالي سوف تعرقل التنمية وتكرر الحالة السياسية السابقة للحظة وصولها إلى الحكم، وتعيد إنتاج النظام القديم، الذي سيولد معارضة استبدالية تعيد رسم الدائرة.

الصراع التنافري

في الصورة المذكورة يكون الصراع السياسي في هذه البلدان صراعاً لا يقبل التأليف (synthesis)، ويفضي بالتالي، حين يحتدم، إلى دمار أكثر مما يفضي إلى نتائج مفيدة. يمكن أن نسمي هذا النوع من الصراعات بالصراع التنافري، حيث لا يمكن لطرفاه أن يتآلفا في تركيب جديد، وحيث لا ينتج عنه سوى تكرار للحالة التنافرية نفسها. في هذا الصراع يسيطر الرفض الكلي بين طرفيه، ويميل الصراع، تحت ضغط الصد العنيف من جانب السلطات القائمة، إلى اتخاذ أشكال عنيفة وصولاً إلى الصراع المسلح.

مراجعة المحاججات السياسية بين الأطراف المختلفة في بلداننا تبين أنها خالية، إلى حد كبير، من التفاصيل المحددة والمفيدة المتعلقة بطرق إدارة البلد والموارد. ففي حين تميل المناظرات بين الخصوم السياسيين في البلدان الديموقراطية إلى الاقتراب أكثر من الواقع المحدد، والنقاش بالأرقام عن الخطط الاقتصادية مثلاً ومردودها على المناخ والبيئة والقدرة الشرائية … الخ، تميل المناظرات السياسية في بلداننا الى الحديث العمومي وإصدار أحكام عامة كلية، لا تنطوي على معطيات محددة واقتراحات وأفكار سياسية، الأمر الذي يحيل السجال إلى ما يشبه تبادل الاتهامات القيمية. لا غرابة، والحال هذا، أن تنتهي هذه المناظرات إلى تشاتم وعراك بالأيدي في مرات غير قليلة.

ماذا ينتج عن هذا الواقع المغلق الذي يحتضن الصراع التنافري؟ ينتج عنه تحويل النشاط الدعائي من مستواه المعرفي العقلي الذي ينبغي أن يجتهد في عرض محدد للمشكلات التي يعيشها الجمهور، وأسبابها المحددة والأفكار والمقترحات المحددة التي يمكن أن تتكفل بحلها، إلى مستوى نفسي تحريضي يقوم على إلصاق التهم القيمية بالطرف الآخر وخلق النفور منه. أو بكلام آخر، يغلب على الحديث السياسي أن يهدف إلى رفض الخصم أكثر من نقد سياساته، وهذه مقدمة للاقتتال والنفي المتبادل.

لا يفيد القول، على صحته، إن السلطات “الأبدية” القائمة لا تفسح في المجال لسجال سياسي معقول، فالسياسة الأمنية الإلغائية التي تعتمدها هذه السلطات، تحيل نقاش سياساتها وطريقة إدارتها البلد إلى مستوى هامشي، وتحيل الأفكار والمقترحات السياسية إلى الهامش، حين تجعل الوجود السياسي أو المادي لمعارضيها تحدياً يستهلك جل طاقتهم وجل اهتماماتهم. والأهم أن هذا الواقع يخلق تربة عدائية لدى المعارضين تجاه السلطات، من نوع العداء الذي تواجههم به هذه الأخيرة. والنتيجة الدائمة هي تعزيز الطابع التنافري للصراع.

وينتج عن الصراع التنافري نكوص هوياتي يتناسب مع مقدار ابتعاد الدولة عن العمومية المفترضة، ويغذي الميل الانقسامي في المجتمع، ليس على أساس سياسي بل بالأحرى على أساس هوياتي. وهذا لأن الصراع السياسي في هذه البلدان يفقد معناه السياسي المتعلق بالصراع على سبل إدارة الدولة وفق المصالح، ليصبح صراعاً على السلطة بمعناها المباشر، أي لا أريد السلطة كأداة لتنفيذ سياسات معينة فيها تحقيق لمصالح واسعة، بل أريد السلطة لأني أحق بها، بوصفي أكثرية قومية أو دينية أو مذهبية … الخ، أو بوصفي القوة الأكثر تنظيماً وقدرة على ضبط البلد أمنياً (الجيش). الأحقية بالسلطة تنبع إذن من خارج السياسة، بقدر ما نعني بالسياسة حسن إدارة الدولة وفتح آفاق تنموية. إذا كنا لا نمتلك برامج سياسية محددة تسمح بالمفاضلة فيما بينها، وتتيح بالتالي إعطاء أصحابها أفضليات عبور إلى السلطة، فإن أفضلية العبور إلى السلطة ترتبط بمعطيات “واقعية” من خارج السياسة، مثل قوة الجيش أو الانتماء إلى أكثرية قومية أو دينية.

اقتراب سيء من الواقع

تعرض اللوحة السابقة اقتراباً “سيئاً” من الواقع، نقصد إنه يقترب من الواقع كي يكرس فيه جوانبه المحافظة على حساب السعي التحرري فيه. وقد نقول إن هذا الاقتراب يجسد استقالة ويأس من المهمة التحديثية ونكوص إلى استجرار طاقة تغيير من خلال تنشيط روابط هوياتية ذات مفعول تفتيتي على المجتمع، ولن يكون التغيير الذي تحمله طاقة من هذا النوع، إذا حصل، تغييراً تحديثياً بطبيعة الحال. على هذا فإن وصف التيارات السياسية (في السلطة وفي المعارضة) في بلداننا بأنها ضعيفة الصلة بالواقع، يحتاج إلى تدقيق فحواه إن السلطات هي في العموم ذات صلة قوية مع الواقع في بحثها عن مصادر القوة والسند داخل المجتمع أو خارجه، وأن بعض التيارات المعارضة (الإسلامية بوجه خاص) تشاركها هذا النوع من الواقعية الداخلية، غير أن هذه الواقعية شبه مفقودة عن تيارات يسارية غلبت لديها الفكرة على الواقع، سواء في استنادها الواقعي في الداخل (الطبقات الاجتماعية مثلاً) أو في طروحاتها المستقبلية الخلاصية “الاشتراكية”.

علاقة التيارات السياسية في المشرق العربي بالواقع يتناولها حازم صاغية في كتاب (رومانطيقيو المشرق العربي)، فيقول: “أحد التيارات القوية في الفكر والابداع السياسيين المشرقيين رومنطيقي متطرف ومتصلب”، وإن “الانكار، بوصفه رفضاً للاعتراف بواقعية ما هو واقع، يحتل موقع القلب في هذا التيار”. الانشغال الأكبر للكاتب في هذا الكتاب يتعلق بالنظرة إلى العالم، وتحديد الموقع والانحيازات في العالم، وحين يتناول الكاتب فهم التيار السياسي لموقعه في مجتمعه يقول: “في مجافاتها الواقع، تذهب الرومنطيقية إلى ما قبله (الماضي المجيد) وإلى ما بعده (المجتمع الاشتراكي الأمثل أو الجنة …) …. لكنها حكماً لا تذهب إليه”. كما يرى الكتاب أن من السمات المميزة للتيار الرومنطيقي “تغليب العاطفة على العقل، والثابت الماهوي افتراضاً على المتحول”، وهذا ما بدا لنا أيضاً في عرضنا السابق، ولكن إذا كان صاغية، الذي ينشغل أكثر بالعلاقة مع العالم كما قلنا، يرد ذلك إلى “تاريخ نظرة إلى العالم عبرت عنه حركات التحرر الوطني”  فإننا، في تركيزنا على العلاقة مع المجتمع، نرد سوء الاقتراب من الواقع، بالأحرى، إلى انسداد إمكانية التغيير السياسي. على أن ثمة تداخل بين الأمرين، ذلك أن خلق وصيانة القضايا “الوطنية” المقدسة، الأمر المتصل بتاريخ النضال ضد الاستعمار، له دور في تعزيز السلطات القائمة وإغلاق إمكانية التغيير.

 إغلاق باب التغيير السياسي والصد العنيف لأي مسعى معارض، أنتج ظاهرة الاقتراب السيء من الواقع. فقد أدى إلى ولادة تيارات إسلامية تجمع بين تقديم تصورات مجافية للواقع في تقديمها الحلول “الجذرية” (حكم الشريعة مثلاً)، وبين البحث عن طاقة داعمة في تفعيل الروابط الأهلية ذات الطابع الطائفي التي توفر واقعياً مصدراً مهماً للطاقة. ولكن إذا كان هذا المصدر الذي يقوم على عصبية هوياتية، يمكن أن يخدم في النضال التحري ضد خارج استعماري، فإنه لا يخدم في النضال التحرري ضد استبداد داخلي، بل يتحول إلى مصدر لتعزيز الاستبداد.

من جهتهم، رسم الاشتراكيون حلاً مفارقاً للواقع، مقتنعين بأن الواقع يتجه “موضوعياً” للقاء تصورهم، وأن الحقيقة التي يرونها ببعد نظرهم، سوف تتكشف تدريجياً للجمهور الذي سوف يدخل من ثم في “دينهم” أفواجاً. هذا الاقتراب السيء من الواقع انتهى بهم إلى أن وجدوا نفسهم على هامش الفاعلية.

بين “شرع الله” و”شرع التاريخ”

قلنا إن رسوخ نمط الحكم السياسي العنيف الذي يستولي على المجال العام ويحتكره بالكامل ويصد كل أشكال المعارضة، مستعيناً بكامل قوة الدولة وصلاحياتها، قاد إلى بروز معارضة لم يكن أمامها سوى الهروب إلى الأمام، أي الرفض التام للحكم القائم وتقديم بديل جاهز عنه. ما يعني أن النضال السياسي لهذه المعارضة ينصب أساساً على “إسقاط السلطة” لصالحها كي تتمكن من تطبيق البديل، فيغلب على خطابها السياسي التحريض (الاشتغال النفسي) على التنوير (الاشتغال العقلي). نسمي هذه المعارضة معارضة جذرية أو استبدالية، وهي أحد أعراض التأزم السياسي في المجتمع الذي يكون دائماً على حافة هرب أهلية. أو يكون في حرب أهلية باردة تثابر السلطة على ممارستها ضد قوى المجتمع، وهي حرب سرعان ما تتحول إلى حرب ساخنة ما أن تمتلك هذه القوى إمكانية المواجهة.

لا يستوعب نمط الحكم السياسي الراسخ في بلداننا، العملَ السياسيَ غير التابع، فلا يجد المعارضون بالتالي سوى الاستسلام له أو رفضه التام وتقديم الحل “الجذري” الاستبدالي. يمكن إذن تسجيل المفارقة التالية، وهي أن المعارضة الجذرية، أي أقصى أشكال المعارضة، توجد في البيئة السياسية التي لا تسمح بوجود معارضة. رفض وجود معارضة يقود إلى وجود الحدود القصوى من المعارضة.

النموذجان البارزان لهذه الحالة هم المعارضون الإسلاميون والاشتراكيون الذين رفضوا التبعية أو الاستسلام للسلطة القائمة. في ذهن كل طرف منهما بديله الجاهز الذي لا يحتاج سوى إلى توفر السلطة السياسية. والبديلان المقترحان مفارقان للواقع ولا يسندهما التطور “الطبيعي” للمجتمع، ولا يمكن أن يعيشا إلا بالقسر والعنف، وهما من هذه الزاوية متشابهان رغم عداوتهما الشديدة المتبادلة. وكلا الطرفين، الإسلامي والاشتراكي، يجد ما يسوغ له ممارسة العنف لفرض نموذجه البديل، الأول بوصفه “شرع الله” الواجب، والثاني بوصفه “شرع التاريخ” والنموذج التقدمي.

إذا كان الإسلاميون مفارقين للواقع في “جذريتهم”، كما هو حال الاشتراكيين، فإنهم كانوا، على خلاف هؤلاء، واقعيين في بحثهم عما يعينهم على “إسقاط السلطة”، أي عن مصدر القوة والدعم في المجتمع. لم يستند الإسلاميون في مسعاهم السياسي إلى إبراز محاسن مشروعهم البديل قياساً على ما هو قائم، إنهم لا يَعدون الناس بقمع أقل، أو بوفرة اقتصادية أكثر، فهم يدركون أنهم لا يفضلون السلطات القائمة بشيء من هذا الجانب، وأن نقطة القوة في مشروعهم تقبع في مكان آخر، إنها في إيقاظ أو بالأحرى استفزاز وتحريض هوية ثاوية وتمثيلها، لاستثمار ما في هذا التحريض من طاقة وصرفها في مشروعهم السياسي. الاستثمار في الهويات الانتمائية هو أقصر الطرق وأسهلها، ولكنه الطريق الأكثر تخريباً على مستوى المجتمع.

الاشتراكيون من ناحيتهم طرحوا بديلاً “حديثاً” جاهزاً، وأرادوا حمله على طاقة حديثة أيضاً (صراع الطبقات). غير أن استخراج هذه الطاقة يحتاج إلى الكثير من الاجتهاد، هذا إذا كانت موجودة أصلاً في مكامنها. وعلى خلاف الإسلاميين الذين اتجهوا إلى مكامن جاهزة للطاقة، سعى الاشتراكيون إلى تصنيع الطاقة التي يمكن أن تسند مشروعهم، فكان حملهم مضاعفاً ونجاحهم يكاد لا يذكر قياساً على نجاح خصومهم الذين في السلطة منهم أو في المعارضة. وهكذا بقيت محصلة الصراع بين “شرع السلطة” و”شرع الله” و”شرع التاريخ” صفراً، وبقي المجتمع يدور في حلقة مفرغة.

خاتمة

ينبع الافتتان العربي بكلمة الثورة من رسوخ وثبات السلطات التي تستعمر الدولة، والتي أثبتت قدرتها على الاستمرار في وجه مجتمع استطاعت أن تتغلغل فيه وتحاصر عناصره الحيوية، فالسلطة هنا لا تسيطر على الدولة فقط بل تسيطر على المجتمع أيضاً. بكلمة أخرى، إن شيوع كلمة الثورة ينبع من اليأس أكثر مما ينبع من الأمل.

المشكلة الأساسية في بلداننا لا تكمن في السلطة فقط، بل في العلاقة المكرسة بين السلطة والمجتمع. لذلك فإن تغيير السلطات، وهو أمر كان وافراً في تاريخنا، لم يحل المشكلة. كان تغيير السلطة انقلابياً وبعيداً عن الفاعلية الشعبية، ولم ينتج عنه بالتالي أي تغيير يذكر في العلاقة بين السلطة والمجتمع. على العكس، مالت هذه العلاقة إلى السوء على يد انقلابات عسكرية خنقت المجتمع باسم الشعب والأفكار التقدمية.

الحلقة المفرغة التي نعيشها تبدأ من رسوخ نمط استبدادي للعلاقة بين السلطة والمجتمع، الأمر الذي ينتج معارضة استبدالية أو جذرية، بالمعنى الذي أشرنا إليه. هذه المعارضة تبحث عن شرعية تسند مطالبتها الاستبدالية القصوى، فكان أن عثر الإسلاميون على حكم الشريعة الذي يفترض أن يعيطهم دون غيرهم كامل الحق بالسلطة، وعثر الاشتراكيون على التطبيق الاشتراكي الذي لا يقبل بأقل من سيطرتهم التامة على السلطة، فيما واجهت السلطة القائمة هاتين “الشرعيتين” بالشريعة الأهم، وهي شرعية الواقع، أي شرعية القوة.

هذا التنافر التام في “الشرعيات” المستقلة كلها عن الصراع السياسي بالمعنى الديموقراطي، لم ينتج سوى تعزيز الاستبداد. فمن ناحية تكون فاعلية المعارضة الاستبدالية ضعيفة وتجد نفسها في مواجهة جبهية، خاسرة غالباً، مع السلطات القائمة، ومن ناحية أخرى، فإن هذه المعارضة، على افتراض أنها نجحت في إسقاط السلطة، فإنها، بامتلائها التام بشرعيتها الحصرية، سوف تؤسس لاستبداد جديد يعيد صورة العلاقة الاستبدادية بين السلطة والمجتمع.

لتحميل هذه الدراسة مع المراجع التي اعتمدت عليها اتبع الرابط التالي

السلطة والثورة، الاعتماد المتبادل/ راتب شعبو

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى