أبحاث

الانقسام السوري/ حيان جابر

تمر سوريا بحالة من الانقسام السياسي والجغرافي الذي عززه الصراع الدولي على وفي سوريا، من مناطق سيطرة النظام السوري إلى مناطق المعارضة مرورا بمناطق سيطرة قوات سورية الديمقراطية، كما يتراوح الانقسام السياسي بين مؤيدي النظام ومعارضيه، ومؤيدي قوات سورية الديمقراطية ومعارضيها، ولا يخلو الانقسام السوري من بعض ملامح الانقسامات الإثنية والطائفية والقومية، وإن لم نشهد تكريسا واضحا لها على مستوى الكتلة الاجتماعية السورية، من كل ذلك نشهد تخوف من ديمومة هذا الواقع المقسم وانعكاساته المباشرة على الكتلة الاجتماعية السورية حاليا ومستقبلا، وهو الموضوع الذي سوف نتناوله بشيء من التفصيل.

طبيعة الانقسام في سوريا :

شهدت الخريطة الجغرافية السورية تقلبات عديدة في السنوات العشرة الأخيرة، وبالتحديد بعد تنامي ظاهرة المجموعات المسلحة المعارضة، التي تشكلت في البداية كرد فعل عفوي على عنف وإجرام النظام، وذلك بغرض حماية المتظاهرين وحاضنتهم الاجتماعية، ثم تحولت بفعل المال السياسي والتدخلات الدولية إلى قوى أمر واقع تفرض سيطرتها بصورة قسرية.

 منذ هذه اللحظة بدأت التقلبات في صورة الانقسام السوري، انعكاسا للتغيرات الحاصلة في طبيعة وهوية القوى المسيطرة على الأرض، حيث تراوحت التغييرات في البداية بين سيطرة النظام وسيطرة المعارضة، ومن ثم تحولت المعارضة إلى معارضات وظهرت القوى الجهادية لتتشرذم الجغرافية السورية بينهم.

ثم جذبت الساحة السورية مزيدا من الاهتمام العالمي والإقليمي نظرا لأهمية الجغرافية السورية وغناها بالثروات الطبيعية والأثرية، وهو ما انعكس بتزايد كبير في عدد الفواعل على الأرض السورية، كإيران ومليشياتها الطائفية وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا وسواهم، الأمر الذي زاد من الشرذمة السياسية والجغرافية السورية بينهم جميعا، وزاد من وتيرة تقلبات الخريطة السورية، حتى باتت متغيرة بشكل شهري أو حتى نصف شهري في بعض المراحل الزمنية. ثم تراجعت وتيرة التغييرات رويدا رويدا حتى باتت الخريطة السورية شبه ثابته في العامين الماضين، ضمن حدود شبه ثابته لسيطرة قوى النظام السوري وقوى المعارضة وقوات سورية الديمقراطية والقوات الروسية والإيرانية والتركية، وهو ما اعتبره البعض انقساما ثابتا ومستقرا.

انقسام غير مستقر:

يمكن ملاحظة سمتين للانقسام في سوريا، تؤكدان على طبيعته غير المستقرة على الرغم من تعدد مظاهر الاستقرار السياسية وهما:

    1- تعدد الصراعات الثنائية بين قوى الأمر الواقع وانعكاسه على مناطق السيطرة المتداخلة، كما في الصراع بين النظام السوري وقوات سورية الديمقراطية، والقوات الروسية والإيرانية، والقوات الإيرانية وقوات النظام السوري، والقوات التركية وقوات النظام السوري، والقوات التركية وقوات سورية الديمقراطية. حيث انعكست جل تلك الصراعات بشكل طفيف في الأشهر الماضية على الخريطة السورية كما انعكست على الوضع الاجتماعي والسياسي في مناطق الصراع أو المواجهات.

    2- حالة التوتر والقلق الدائمة، نلحظ في الحالة السورية مظاهر متعددة للقلق والتوتر من تأثير أي متغير إقليمي أو دولي على الخريطة السورية، وعلى التوازن السوري القلق، حيث يسود اعتقاد بين مجمل السوريين أن الصراع على وفي سوريا لم ينته بعد، وهو ما يعزز احتمالات عودة الصراعات والتقلبات الكبرى، في حين يصعب على السوريين تحديد توقيت وأسباب هذه الصراعات المباشرة، وهو ما يدفع السوريين إلى القلق من أي حدث محلي أو إقليمي أو دولي حتى لو لم يرتبط بالشأن السوري.

يظهر من العاملين السابقين أن حالة شبه الاستقرار السائدة في العامين الماضين هي ظاهرة خادعة لا تعكس حقيقة الوضع السوري غير المستقر حتى اللحظة.

على حافة الحرب :

إذا و وفق العوامل الداخلية السابقة وجدنا أن الكتلة الاجتماعية السورية تدرك أن انقسام سوريا الراهن غير مستقر، وهو ما يوضحه محددان اقتصادي وثقافي.

1- المحدد الاقتصادي:

    يتناول المحدد الاقتصادي مصالح قوى الاحتلال والأمر الواقع في سوريا والمنطقة بصورة أوسع، وهو ما يرسم حدود تطلعاتها ومخططاتها المستقبلية بغض النظر عن الممكن اليوم. حيث نلحظ من خلال نظرة سريعة على هذا المحدد تداخل وتشابك مصالح قوى الاحتلال على الأرض السورية، الأمر الذي يعيق قدرتها على المساومة ويقلص احتمال الاتفاق على تقسيم سوريا فيما بينها، وهو ما يعزز من احتمالات الصدام مستقبلا. فكما يبدو من السياسات التركية والروسية والإيرانية، تتطلع جميعها لفرض سيطرتها على أوسع مساحة جغرافية ممكنة، خدمة لمصالحها وتطلعاتها الذاتية التي يتطلب تفنيدها وشرحها سياق طويلا لا مجال لذكره الآن.

2-المحدد الثقافي:

    يعنى المحدد الثقافي بقدرة قوى الاحتلال على صناعة أو خلق حاضنتها الاجتماعية، من أجل فرض سيطرتها الناعمة/ الثقافية/قبل سيطرتها العسكرية والأمنية، والسيطرة الناعمة تتطلب بناء أو خلق حاضنة اجتماعية تدين بالولاء للطرف المسيطر، وهو أمر مفقود في الحالة السورية نتيجة عوامل عديدة، أهمها:

أ- التقسيم الاجتماعي:

    لم تتجاوب الكتلة الاجتماعية السورية أو القسم الأكبر منها مع التحريض السياسي والإعلامي المحرض على تقسيم المجتمع، بهدف خلق هويات سورية طائفية وعرقية وقومية ومناطقية هنا وهناك، الأمر الذي أفشل لحد ما عملية تفتيت المجتمع السوري ثقافيا رغم النجاح في تقسيم سوريا جغرافيا ورغم الخلاف أو الانقسام السياسي الحاصل بعد اندلاع الثورة. فمن الخطأ نسب الحالة السورية غير المستقرة إلى تنافس اللاعبين الدوليين وغياب التوافق الدولي فقط، نظرا لعجز مجمل اللاعبين الدوليين عن خلق بنية اجتماعية وسياسية حاضنة لوجوده، الأمر الذي أجبر الاحتلالات على فرض سيطرتها قسرا عبر الاستعانة بمرتزقة عسكرية وأمنية محليا وغير محلية، وكأنها تحاول السيطرة على براكين ساكنة أو خاملة محتمل انفجارها بأي لحظة ولأي سبب كان، وعليه فحالة القلق وعدم الاستقرار متبادلة هنا، أي تشمل قوى الاحتلال التي لا تثق بقدرتها على ضبط المجتمع والتحكم به.

ب – تماثل قوى الاحتلال:

    تتشابه ممارسات وأهداف قوى الاحتلال المختلفة، التي لا تخفي أهدافها المباشرة وغير المباشرة في سوريا، وأسباب دعمها قوى أمر واقع استبدادية واقصائية مرتهنة لها. إذ تجاهر قوى الاحتلال بأهدافها بشكل علني وفج دون لف أو دوران، كما تمارس أبشع الممارسات الإجرامية والقمعية التي تخدم مصالحها دون أي اكتراث لمصالح وغايات السوريين ودون أن تبذل أي جهد لكسب تأييدهم أو دعمهم، حيث تتراوح مصالح قوى الاحتلال بين الاقتصادية المباشرة عبر تحويل سوريا إلى سوق مضمون لسلع الدولة المحتلة، ومن خلال نهب ثروات سوريا الجمعية والفردية، وعبر تحويل الساحة السورية إلى حقل تجارب للمنتجات العسكرية بما يخدم ترويجها، كترويج منتجات روسيا العسكرية وطائرات دون طيار التركية. وبين أهداف استراتيجية ولوجستية تتعلق بتحويل الأرض السورية إلى جسر عبور لنفوذ وهيمنة إقليمية وأحيانا دولية. حيث تتاجر قوى الاحتلال بالأرض والشعب السوري بكل صراحة ووضوح بما يخدم مصالحها المعلنة، كما في تقاسم الجغرافية السورية التي كرستها اتفاقيات الثلاثي الضمان الروسي والتركي والإيراني، وكما في المتاجرة بقضية اللجوء السوري وبملف إعادة الإعمار وأحيانا بملف المعتقلين أيضا.

ج – سقوط الأقنعة:

    فشلت قوى الاحتلال في الحفاظ على قناع المكترث لمصالح الشعب السوري نتيجة ممارساتها الفجة والعنجهية، لذا بات هناك قلة قليلة من السوريين المخدوعين بخطاب قوى الاحتلال المخادع، مثل خطاب الرئيس التركي الذي يدعي نصرة الأشقاء في سوريا ونصرة الإسلام، خصوصا بعد تكرار حوادث قتل السوريين على الحدود التركية بنيران الجيش التركي، ومتاجرته وحكومته ونظامه بقضية اللاجئين السوريين داخل تركيا وعلى حدودها المشتركة مع سوريا. كذلك الأمر تجاه الخطاب الروسي الداعي لمحاربة القوى الإرهابية وحماية استقلال ووحدة سوريا، الذي فضحته عديد الجرائم الروسية المرتكبة بحق المدنيين والأطفال وتعمد سلاح الفضاء الروسي استهداف المدارس والمشافي، وصولا إلى صمت روسيا على عشرات وربما مئات الغارات الصهيونية (الإسرائيلية) الليلية والنهارية على معسكرات ومراكز ومناطق تخضع لسيطرة النظام السوري. الأمر الذي يؤدي إلى خسارة الاحتلالات لكامل قوتها الناعمة، أي قوة خطابها الدعائي والترويجي، حتى في الأوساط المجبرة على التعامل معها بل ربما حتى في الأوساط المستفيدة منها.

شروط الانقسام المستقر :

نلحظ وجود نموذجين للتقسيم المستقر تاريخيا لكل منهما ظروفه وشروطه:

1- النموذج الأول :

    يتطلب نجاح قوى الاحتلال أو القوى المسيطرة في استثمار التناقضات الأيديولوجية والعقائدية كما في الحالة الكورية، التي تخلق ولاء أيديولوجيا مطلقا يحجب عن الكتلة الاجتماعية ممارسات قوى الاحتلال والأمر الواقع الإجرامية والنهبية.

2- النموذج الثاني :

    النموذج الثاني: يتطلب فرض الاحتلال قسريا عبر صناعة تغيير ديمغرافي في بنية المجتمع، وهو النموذج الأكثر استخداما تاريخيا، حيث تعمل قوى الاحتلال على تشجيع الهجرة أو الأصح الاستيطان في الدولة المحتلة من أجل خلق واقع اجتماعي جديد مرتبط بقوى الاحتلال ومدين لها، كما حصل في الولايات المتحدة نفسها وكندا وأستراليا وجنوب أفريقيا وكما يحصل في أرض فلسطين أيضا مع ملاحظة الاختلاف بين الحالة الفلسطينية؛ ونسبيا في الحالة الأمريكية أيضا؛ التي يعمل المستوطنين فيها على تطهير سكانها الأصليين عرقيا في حين عمل المستوطنين في باقي الحالات على تهميش السكان الأصليين وتطويعهم لاحقا لخدمة مصالح الاحتلال الاقتصادية.

استنادا لذلك يبدو من الصعب تطبيق أي من نموذجي التقسيم السابقين على الحالة السورية، فمن شبه المستحيل استقدام مرتزقة؛ استيطان؛ خارجية متماسكة أيديولوجيا وعقائديا ومصلحيا وزرعها في وسط الجغرافية السورية من أجل تثبيت واقع جديد، مع عدم التقليل من جهود إيران في تحقيق ذلك رغم افتقادها لمقومات استغلال ودمج هذه المرتزقة بعملية اقتصادية مربحة ومرتبطة بها. كما يصعب على أي مشروع احتلالي تقسيمي إعادة توزيع وتقسيم المجتمع السوري بشكل يخلق تناقضات اجتماعية داخل كل دولة أو دويلة محتملة، بحكم رفض الكتلة الاجتماعية السورية أو غالبيتها محاولات تقسيم سوريا وفق رؤى انفصالية طائفية أو عرقية أو مناطقية أو قومية. وعليه لا يبدو تقسيم سوريا اليوم أمرا مستقرا، بل يبدو أن خريطة سوريا محكومة في اللحظة الراهنة بقدرات وظروف قوى الاحتلال، التي قد يدفعها تحسنها إلى محاولة توسيع حدود سيطرتها داخل سوريا، لكنه توسع مشروط بعدم تحسن ظروف سائر قوى الاحتلال لاحقا، وإلا فقد نشهد استمرار في تبادل سيطرة قوى الاحتلال لمدة زمنية طويلة، إن لم ينجح الشعب السوري في لملمة جراحه وتوحيد نضاله، وإن لم تنجح قوى الاحتلال أو إحداها في خلق بيئة اجتماعية حاضنة لها. لذا نجد أن الواقع السوري الراهن واقعا ممكن تجاوزه مستقبلا مهما كانت نتائج الصراع العالمي،بشرط نجاح الكتلة الاجتماعية السورية في لملمة جراحها واستعادة فاعليتها النضالية وفق رؤية واستراتيجية تحررية شاملة لكافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

الحل نت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى