الناس

صورة سوريا المنقبة!/ حسام جزماتي

أظن أن وزير الخارجية الروسي لم يكن سيطلب من حفل تخرج طلاب جامعة الشام في مدينة اعزاز أنسب من الصورة المرفقة، ليرفعها في وجه نظرائه من الغربيين، مذكراً بأنها صادرة رسمياً عن مؤسسة مدنية لا عن فصيل، وأنها ملتقطة في مناطق سيطرة المعارضة المعتدلة لا حكومة الإنقاذ المرتبطة بهيئة تحرير الشام.

تشغل الصورة أو مقطع الفيديو موقعاً مركزياً في عصرنا. فتصنع الرأي العام، وقد تحل مكان بحث أو تحقيق أو استطلاع رأي. وللأسف ما نزال نتعامل مع هذا الجانب باستخفاف، ونهمل الدلالات التي توحي بها صورة كهذه يجدر أن تكون موضع نقاش، لأنها تنتمي إلى المجال العام، بحكم مناسبتها والجهة التي نشرتها واللوغو الذي تحمله، وليست مسربة من موبايل إحدى الخريجات أو مأخوذة لهن من احتفال خاص في «أرض الديار».

في الصورة تظهر الخريجات، أو معظمهن على وجه الدقة، منقبات بشكل يوحي باللباس الموحد. وتقول الأرقام إن الدفعة تكونت من 140 خريجاً باختصاصات مختلفة، بينهم 32 خريجة توزّعن على كلية التربية (13) وكلية الشريعة والقانون (12) وكلية الهندسة (7). جميع الخريجات محجبات. اثنتان بحجاب يكشف الوجه، في حين ترتدي ثلاثون النقاب. ومن السهل توقع أن النسبة كانت معكوسة قبل عشر سنوات. وإذا تجاوزنا الانطباع الأول الذي تثيره الصورة بأن هذا اللباس مفروض، لأنه احتمال غير دقيق بحسب نظام الجامعة، قد نستنتج أن تحولاً دينياً واجتماعياً عاماً يجري في مناطق سيطرة فصائل الثورة، من دون أن نتحدث الآن عن إدلب التي تهيمن عليها جهة إسلامية وتحوي أكبر الجامعات في الشمال.

بالعودة إلى الصورة نلحظ أن الخريجات يقفن في نصف دائرة، تتوسطها إحداهن حاملة علم الجامعة التي التُقط المشهد في أحد الهنغارات المعدنية التي تستخدمها بحكم الظروف الخاصة. ترتدي الفتيات أرواب التخرج التقليدية المعتمدة في الجامعات الغربية، وتضعن قبعاتها المربعة الشهيرة. وقد أسهم اجتماع هذه العناصر في إعطاء الصورة ملمحاً عسكرياً، بغير قصد.

والجدير ذكره هنا أن المدافعين عن الصورة أغفلوا، بتأثير حماستهم، تناقضاً في الهوية التي تحملها لم يكن ليفوتهم في مناسبات أخرى، هم الذين يدعون إلى الابتعاد عن الغرب وعدم اتّباع سلوكياته حتى لو دخل «جحر ضب». فتجاهلوا، بضمير مرتاح، اجتماع اللحى والنقاب في حفل تخرج «مستورد»، يرتدي طلابه الزي الذي يعود أصله إلى الرهبان الكاثوليك في العصور الوسطى، ويرمون قبعاتهم وفق عادة أكاديمية أميركية نشأت في مطلع القرن العشرين.

غير أن التناقض لا يقتصر على الناحية الشكلية. ففي دفاعهم عن مضمون الصورة استخدموا حجة أساسية هي «الحرية الشخصية»، قائلين إن المظهر الموحد للخريجات هو نتيجة اجتماع خياراتهن الفردية الحرة، متناسين أن الحجاب، والنقاب عند القائلين بفرضيته، لا يخضع للخيارات الشخصية في المنظومة الإسلامية، مثله مثل الصلاة والصيام. لكن الاختباء وراء مصطلح الحرية الشخصية بدا مناسباً للمحاججة، بغض النظر عن درجة تناقضه مع ما يؤمنون به، وعن مدى ازدواجية المعايير لديهم في الاستخدام الكيفي للمفاهيم.

على كل حال فإن الانسجام الذاتي للمدافعين ليس موضوعنا، بقدر الإيحاء بفكرة «المجتمع المتجانس» الذي أعطته هذه الصورة لأي مشاهد. وهي رسالة خطرة لباقي السوريين، قبل أن تكون للدول الغربية. ويشمل هذا مجتمعات ثورية في الداخل (درعا)، واللاجئين في الخارج، ومدن كبرى هاجعة (دمشق)، فضلاً عن الإثنيات والأعراق والطوائف الأخرى. لا نقصد النظام والإدارة الذاتية، بل سكان هذه المناطق الذين لا بد من أخذهم في الاعتبار عند التفكير في أي مستقبل للبلاد.

ومن هنا لا تأتي أهمية الصورة من كونها تسجيلاً تذكارياً للحظة فرح يستحقها أصحابها بكل جدارة، بل من أنها علامة على تحول متصاعد في المحرَّر باتجاه التمركز حول طابع عربي سنّي من لون واحد ينفّر الآخرين، ليس انتشار النقاب إلا أحد تعبيراته فقط. تعطي هذه الصور، في لحظة غير مسؤولة، انطباعاً أن الشمال قد تقوقع على هوية واحدة ولون موحد في السنوات القليلة الماضية. ومن حق جمهور الثورة في كل مكان أن يتساءل عن دلالات ومعاني نشر هذه الصور رغم أن حقائق أخرى تشير إلى أن مجتمع الشمال ليس بالحالة التي يُروَّج لها. فقد سبق لنا جميعاً أن دفعنا ثمن سلوك رجل واحد هو أبو صقّار، عندما قرر، منفرداً، أن يشق صدر أحد جنود النظام ويلوك قلبه، انتقاماً لسلسلة من الانتهاكات. وقد استخدم الرئيس الروسي بوتين نفسه هذه الحادثة حين دافع عن دعمه للأسد، ورفعها كحجة في وجه نظرائه الغربيين عند الحديث عن تسليح المعارضة في قمة الثمانية الكبار عام 2013.

مهما كان غضبنا على «العالم» فنحن نحتاج إليه، وتهمنا «صورتنا» أمامه وطبيعة النموذج الذي نقدّمه لسوريا. وإذا خصّصنا الحديث بجامعات المحرَّر فيجب أن ندرك أن آخر ما تطلبه منا المديح، بعد أن تجاوزت تجربتها السنوات السبع، وصارت الدفعة التي نناقش صورتها من خريجي جامعة الشام، مثلاً، هي الرابعة. جهد القائمين على هذه المؤسسات وأساتذتها وطلابها هو قبض على الجمر بالفعل، والمصاعب التي يعانونها عديدة. غير أن أبرز ما يفكر فيه عشرات آلاف المنتسبين إليها هو كيف تتحول الشهادة التي سينالونها من «كرتونة»، غير قابلة للاستخدام إلا في هذا الجيب المعزول، إلى وثيقة معترف بها من المراجع التعليمية في العالم. فما الذي أضافته هذه الصورة للثورة السورية وللجامعات التي ترغب في الحصول على الاعتراف من الغرب الذي يتخوف من صور كهذه؟

تلفزيون سوريا

—————————-

دفاعاً عن منقّبات أعزاز/ عمر قدور

 مثل أي ترند على وسائل التواصل الاجتماعي، انتهى سريعاً الاهتمام “المحدود أصلاً” الذي أثارته صورة منقّبات “جامعة الشام”-مدينة أعزاز في حفل تخرجهن، حيث ارتدين النقاب مع زيّ التخرج المعروف عالمياً. كأن لسان حال المتابعين هو اليأس من الأوضاع في تلك المناطق التي تسيطر عليها فصائل “معارضة”، وربما يكون لسان حال اليأس أن هذا الوضع أفضل من تدابير أقسى، كأن تمنع سلطات الأمر الواقع هناك تعليم البنات اقتداءً بحركة طالبان.

ثمة حذر، مفهوم ضمن الحساسيات السورية، لدى ناشطات وناشطين من بيئات غير سُنيّة، من باب مراعاة خصوصية التدين السني، وفق الصورة السائدة عنه كتدين معادٍ للاختلاط بين الجنسين، ومحجِّب للنساء بالضرورة؛ هكذا كان وهكذا قد يبقى! بهذا المعنى أيضاً، لا بأس في انتزاع مكاسب محدودة من ذلك المجتمع السني الذكوري بامتياز، مكاسب من نوع الحق في التعليم والحق في العمل للنساء، على أمل أن تُحدث هذه المكاسب تراكماً طويل الأمد لحقوق أولئك السُنيّات البائسات.

يسند التوجه السابق ما يُشاع منذ عقود عن موجة أسلمة سنية طاغية، لتبدو كقدر محتوم لا فكاك منه. ثم لتأتي الثورة التي أُلبست في بعض العقول اللباس النمطي للغالبية السنية، وصار التعرض للنمط محفوفاً بمخاطر النيل من الثورة ذاتها. بل صار النمط حاكماً للنقد، من باب خشية تأويله مضاداً للثورة، أو من خشية استخدامه من قبل المتربصين بها.

هذا المقال، بلا مواربة، دفاع عن حرية النساء اللواتي ظهرن منقّبات. هو، بلا أدنى مواربة، دفاع عن حقهن الكامل غير المنقوص في التصرف بأجسادهن، سفوراً وتحجباً. ودفاع عن حقهن الكامل غير المنقوص كفاعلات جنسيات، لهن مطلق الحرية في اختيار شركائهن، وبالطريقة التي يخترنها بلا إكراه من أية سلطة كانت، سياسية أم اجتماعية أم دينية.

مع هذا الدفاع، ندرك أن الواقع بعيد جداً عنه، وأن تساند سلطات الأمر الواقع يضع التضييق على النساء في أعلى أولوياتها. ندرك أن المرأة السورية مرشّحة للتقدم أكثر من عقود مضت، بحكم المقتلة السورية التي ستتطلب منها مهاماً وأدواراً تفوق دورها السابق، وتقدّمها سيولّد الخشية لدى المنظومة الذكورية المتحكمة، المنظومة الخائفة من تقدّم المرأة في الفضاء العام، والتي راحت تحيطها بأسوار وأسوار “منها النقاب” بسبب ذلك الخوف.

يُستحسن أن نقولها صراحة، ما يُحرك سلطات القمع تلك هو الخوف من أجساد النساء، والدفاع عن حرية تصرفهن بأجسادهن يذهب فوراً إلى عين المشكلة، بلا تأتأة ولا حياء مرغوب فيه من قبل تلك السلطات. هو، كما نعلم، خوف الذكورة المدججة بكافة الأسلحة من تلك الأنوثة التي كلما بالغ الذكور في قمعها وكبتها كلما استولت على أذهانهم وتفكيرهم وأثارت مخاوفهم أكثر من ذي قبل.

هؤلاء الذين يقمعون النساء ليسوا ثواراً، لندع هذه الكذبة جانباً لئلا يستمر التستر باسم الثورة. رئيس المجلس الإسلامي السوري المعارض، الشيخ أسامة الرفاعي، خصص قبل سنة خطبة الجمعة في أعزاز نفسها التي زارها للهجوم على المنظمات الدولية العاملة في تلك المناطق، مستهدفاً على نحو خاص النساء اللواتي يعملن هناك بذريعة أنهن يدعون إلى حرية المرأة وتمكينها وإلى الوعي بقضايا الجندرة. في خطبته تلك، لم يتوقف الشيخ عند قضايا يُفترض أن يكون لها الأولوية لدى أي ثائر أو أي معارض غير خائف من أجساد النساء أو مهجوس بالسيطرة عليهن.

لقد تم تحويل النساء في المناطق المعنية طوال سنوات إلى مادة للمزايدة في التدين، فمظهرهن هو من أكثر المظاهر وضوحاً، ونقابهن أو حجابهن المفروضان بالقوة الخشنة والناعمة أكثر دلالة من ألبسة الذكور الخالية من الدلالة تقريباً. استرخاص أجساد النساء وحرياتهن على هذا النحو هو سلوك ميليشوي مستجد، ولا علاقة له بالتدين الشعبي السني القديم وأنماطه القامعة للمرأة على نحو “أكثر اعتدالاً”.

عندما نطالب بحرية تصرف تلك النسوة بأجسادهن فنحن لا نبتعد عن الواقع الذي يعرفه الجميع، الواقع الذي في السرّ، والذي يعيش فيه الجنسان غرائزهما بدرجات متفاوتة، بشعور بالإثم أو من دونه. ونعلم أن همّ التضييق على أجساد النساء هو المزيد من الدفع في اتجاه حدوث ما يحدث، وما سيبقى يحدث، إنما في السر، لأن الوصول إلى العفة التامة المطلوبة ضرب من الخيال أو الجنون. بالأحرى، نحن نطالب بما هو أكثر واقعية لا بالمستحيل.

وإذا اعتبرنا المطالبة نوعاً من المستحيل، فهي تبقى مشروعة ومحقّة لأن المطالبة بالمستحيل هي السبيل إلى الحصول على الممكن، أما المطالبة بالممكن فهي السبيل النموذجي لتحويل الممكن إلى مستحيل أو عزيز المنال. أما ذلك اليأس من المطالبة، بسبب وقوع النساء تحت سلطة متطرفة، فهو يأس يضحّي بالنساء الأكثر عرضة للاضطهاد بدعوى عدم القدرة على فعل شيء لهن، لينصرف الجهد إلى نساء أقل حاجة للتضامن والدعم!

لا نريد أن نفعل مثل “حراس العفة”، فنزاحمهم على باب الغيرة المزعومة على الإسلام، ونقول أننا نربأ بأهله عن ترك الانشغالات الأهم والتفرغ لحراسة أجساد النساء وكأنها الفريضة الإسلامية الوحيدة. كأن هؤلاء الحراس أنفسهم “سدنة سلطة الأمر الواقع” لا يحتطبون الغابات العامة لبيعها وقوداً للتدفئة، ولا يفككون السكك المهجورة للقطارات لبيع حديدها، وكأنهم لا يفرضون الأتاوات هنا أو هناك، ولا يغتصبون أملاك الغائبين المهجرين. كأن ذلك كله لا يسيء إلى الدين بقدر ما يسيء إليه جسد حر لامرأة.

قبل ذلك وبعده، نرفض أن يُستخدم الدين فزّاعة لمنع النقد والحوار، ولمنع الحرية، ونعني بها الحرية الفردية الشخصية للجميع إناثاً وذكوراً، لا حرية الذكور بالتصرف بنساء العائلة وبالتصرف والتحدث نيابة عنهن. بهذا المعنى أيضاً، ندافع هنا عن منقّبات أعزاز، عن حق أولئك النساء في خلع الحجاب أو ارتدائه، ضمن ظروف حرة حقاً، أو خالية على الأقل من أي ضغط مباشر عائلي أو اجتماعي أو من سلطات الأمر الواقع، وواجب الأخيرة لتكون سلطة مشروعة هو حماية تلك الحرية من ضمن حريات الجميع.

وكي لا يسبقنا أحد إلى قولها؛ نعلم أننا نتحدث عن بعد جغرافي، وهذا لا يجب أن يُقال على سبيل الانتقاص، لأنه يتضمن حرية القول التي لا يمتلكها نساء ورجال هناك بسبب الثمن الباهظ المهدَّدون به. من المؤسف أن تكون القسمة هكذا، القسمة التي لا نريد لها أن تكون على حساب نساء أعزاز أو غيرها من مناطق ذات ظروف مشابهة أو أشد قسوة، فما هو ظرفي وطارئ ينبغي ألا يحجب ما هو حق مستدام لهن أسوة بباقي النساء أينما كنّ.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى