صفحات الحوار

راتب شعبو: في حضور العنف تختفي السياسة

لماذا لا يُربّى في بلداننا سوى الخوف والفساد؟

قلّة قليلة جدًا من المعارضين والمناضلين تمكّن خلال السنوات السابقة من الحفاظ على صورته الرمزيّة التي كانت قبل الثورة. وإلى هؤلاء القلّة ينتمي المناضل والكاتب السوري، راتب شعبو، الذي يشعر المرء ويلمس ويحس بحجم الإجماع حول شخصه حتى من أشدّ المخالفين له بالرأي. لهذا، ولأسباب كثيرة أخرى، سعت حكاية ما انحكت إلى دخول “مطبخه”، كيفيّة قضاء يومه في المنفى، عائلته، انشغالاته الفكريّة، بعض ما كتب ويكتب اليوم، إضافة إلى عرض صور من محطات حياته وشهادات ممن تقاطعت دروبهم مع دربه بهذا القدر أو ذاك.

بقدر ما كانت الثورة السوريّة ثورة ضدّ حكم الطاغية الأبدي، كانت أيضًا ثورة ضدّ الكثير من “الرموز” المعارضة، التي خسرت الكثير من رصيدها ورأسمالها الرمزي الذي راكمته وهي تقارع الطاغية. قلّة قليلة جدًا من المعارضين والمناضلين من نجا من هذا المصير وتمكن من الحفاظ على صورته الرمزيّة تلك، دون أن يتخلّى عن مبادئه أو مواقفه. وإلى هؤلاء القلّة ينتمي المناضل والكاتب السوري، راتب شعبو، الذي يشعر المرء ويلمس ويحس بحجم الإجماع حول شخصه حتى من أشدّ المخالفين له بالرأي، الأمر الذي يغري المرء بالسعي للتعرف عليه ومجالسته التي تأتي لتؤكد أنّ راتب لا يأسر قلوب مجالسيه فقط، بل يؤكد أمرًا أخرًا نادرَ الحدوث أيضًا في حياتنا الثقافيّة والسياسيّة، ونعني بذلك ما يتعلق بتلك المطابقة، والتي نادرًا ما تكون، بين ما شخصيّة الكاتب/ المناضل الحقيقيّة وما يكتبه، فنفهم حينها سرّ محبة الناس واحترامهم له.

لهذا، ولأسباب كثيرة أخرى، سعت حكاية ما انحكت إلى حوار راتب شعبو، محاولة البقاء بعيدة عن السياسة قدر الإمكان، دون أن تنجح بالطبع، إذ كيف تُبعد السياسة التي غيبته لمدة ستة عشر عامًا في سجون قاسية وظالمة؟ ومع ذلك، حاولنا أن ندخل إلى “مطبخه”، لنرى كيفيّة قضاءه لأيامه في المنفى، ونحكي عن عائلته، وعن انشغالاته الفكريّة، وعن بعض ما كتب… في محاولة منّا لإعطاء هذا المناضل الصلب، بعض ما يستحقه، وفاء لديون كثيرة دفعها عنّا ولا يزال.

نعرف الكثير عن راتب شعبو، السجين السياسي والمناضل والكاتب، لكن قليلٌ جدًا ما نعرفه عن راتب شعبو الإنسان في الحياة اليوميّة. حدثنا عنك، كيف تقضي يومك؟ ماذا تحبّ؟ ماذا تقرأ؟ عن عائلتك؟ صداقاتك؟

منذ سبع سنوات اتخذ يومي إيقاعًا ثابتًا تقطعه بعض “الطوارئ” وبعض السفرات القليلة. ضربات الإيقاع هي فنجان القهوة (من قبل كان كأس المتة يشغل افتتاحيّة اليوم، على الطريقة السلمونيّة)، ثمّ فترة مشي في الحديقة العامة، ثمّ انشغالي في مكتبي المنزلي المتواضع والمتعارف عليه ضمن العائلة باسم “الصومعة”، ثمّ فترة مشي مسائية. على هذا الإيقاع يتغيّر اللحن كثيرًا ولكن على مقام ثقيل وحزين وموجع لا يتغيّر، هو المقام السوري.

أمشي في الحديقة العامة التي تهتم البلديّة بها كما يهتم أحد بحديقته المنزليّة، فيها مساكب ورد وملاعب بيتانك (لعبة فرنسيّة تقليديّة تشبه لعبة الكلل “الدحل” عندنا ولكن بكرات كبيرة بحجم طابات التنس) ومساحات خضراء وأشجار حور ودلب وأنواع لا أعرفها، إضافة إلى أشجار عالية كثيفة تحف بالممرات ويواظبون على تقليمها بأشكال منتظمة… الخ. هذا مما يزيدني غضبًا وألمًا، لماذا لا نكون هكذا؟ لماذا يربون الجمال في بلدانهم ولا يُرّبى في بلداننا سوى الخوف والفساد؟

أحبُّ قراءة الشعر والروايات، ولكن أقرأ بشكل أساسي في الكتب والمراجع والدراسات التي تفيد في مشروع الكتابة الذي أعمل عليه. كما أقرأ، بطبيعة الحال، متابعات صحفيّة للأحداث السوريّة وحول العالم. في فواصل الاستراحة من القراءة أحبُّ سماع أغان عربيّة (كلاسيكيّة غالبًا) أو مشاهدة أدوار شطرنج عالميّة ومن ضمنها أدوار الشطرنج السريع (البليتز)، هذا يجدّد الطاقة عندي.

تواصلي قليل مع الأصدقاء، ولكني أشتاق لهم كثيرًا، وخصوصًا أصدقاء السجن. في نهاية 2019، جاءتني فكرة أن أجمع أصدقاء السجن المتوفرين كي نقضي بضعة أيام معًا، ومشيت في الفكرة (تأمين بيت مناسب، تواصل مع بضعة أصدقاء…) ولكن جائحة كورونا أحبطت المشروع.

قضيت ستة عشرة عامًا في السجون السوريّة، وقد كتبت عن هذه التجربة في كتاب نشرته دار الآداب اللبنانيّة، تحت عنوان “ما وراء الجدران”. لن أسألك عن المعتقل، ولكني أود سؤالك عن شيء على ضفافه. شيء له علاقة بمقاومة العائلات خارج السجن لاعتقال أبنائهم. أنت ولدت لعائلة في الساحل السوري. حدثنا عن مقاومة عائلتك لشروط اعتقالك بكلّ ما يعني ذلك من كونك معارض سياسي للنظام أولًا، وبما يعني ذلك من كونك معارض قادم من البيئة التي يعتبرها النظام ظهره وسنده. كيف قاومت العائلة هذا الشرط الصعب والقاسي حقًا. حدثنا عن أمر كهذا؟ خاصة أنّ والدتك رحلت قبل فترة قصيرة، وقد احتملت خلال سجنك الكثير.

في الفترة التي اعتُقلت فيها (1983) لم يكن الاستقطاب السياسي بالحدّة التي ظهر بها بعد العام 2011. لم تكن عامة الناس في البيئة التي تتحدث عنها، تنظر إلى معارضي نظام الأسد على أنّهم خائنون وعملاء… الخ. كانت الصورة مختلفة إلى حدّ كبير. موقف عائلتي من معارضتي للنظام لم يكن سلبيًا، بل كان في النفوس تقدير لوقوفي، ووقوف غيري (من غير الإسلاميين بالطبع)، ضدّ نظام فيه من القسر والفساد والتمييز ما لا يُخفى عليهم. ولكن كان لدى الغالبيّة منهم يقين بأنّ هذه المواجهة فاشلة ولن يدفع ثمنها سوى الشخص وعائلته.

المحيط الأوسع في هذه البيئة لم يكن بالتالي ضاغطًا على العائلة، كان إهمال الأمر هو قاعدة التعامل مع عائلة المسجون. كانت أمي تقدّر عاليًا أيّ شخص يكسر قشرة الإهمال ويسألها، ولو مجرد سؤال، عن أحوالي في السجن. وأنا بدوري، مثل غيري من رفاق السجن، كان يُفرحني أن أعلم من زوّاري أنّ أحدًا ما من المحيط قد سأل عني، وكان هذا كافيًا لأن أنشغل في إعداد هديّة أُرسلها له في الزيارة القادمة. كان هذا حالنا جميعًا. كنّا مرميين كفضلة لا قيمة لها يغمرها غبار النسيان. هذا كي تدرك تأثير التخلّي العام الذي كنّا نعيشه في السجن، والذي دفع البعض إلى الكفر بالمجتمع بوصفه شريكًا في جريمة سجنهم.

كان هناك موت عام في المجتمع، وقبول ذليل بالهزيمة أمام السلطة. ليس مفاجئًا أن تكون الصرخة الأولى في الثورة السوريّة 2011 (الشعب السوري ما بينذل).

لكي تُكمل العائلة حياتها كان عليها أن تعتاد غيابَ سجينها أو مفقودها. الأم هي الأقل اعتيادًا على فقد ابنها. في ظل الصمت العام، كانت أمي لا تكف عن توزيع صوري على المزارات لتذكيرها بي، بعد أن ضاق صدر أبي بشكواها الدائمة.

بعد العام 2011 حدث تغيّر عميق في الوسط العلوي. لم يعد المعارض مقبولًا حتى ضمن العائلة. وقد امتد هذا الموقف ليشمل عائلات ذات تاريخ طويل في المعارضة، ودفعت أثمانًا ثقيلة بسبب مواقف أبنائها. كأنّ هذه البيئة استشعرت خطرًا وجوديًا يطغى فيه المنبت المذهبي على الموقف السياسي، فامتلأت بالخوف واستجابت بشكل غريزي كما يستجيب الخائف. يحتاج الأمر إلى التأمل والدراسة الجادة لتحليل هذه الاستجابة الصادمة.

 نشرت مؤخرا، كتابًا عن تجربة حزب العمل الشيوعي في سوريا. وقد غطى الكتاب نقصًا فادحًا في المكتبة السوريّة والعربيّة عن تاريخ هذا الحزب. ولأنّك كنت عضوًا قياديًا في الحزب (صحح لي هذه المعلومة حال خطأها)، لدي سؤال موّجه لك وللحزب ربما: لماذا لم يصدر الحزب طوال تاريخه كتابًا تعريفيًا عن نفسه؟ لم بقيَ الأمر رهن الكتابات والمنشورات السريّة التي يطلع عليها قلّة من الناس والباحثين الدؤوبين؟ ألم تتأخروا في إصدار كتاب كهذا؟ ما الأسباب التي كانت وراء هذا التأخير؟

حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2)

23 تشرين الأول 2020

لم أكن قياديًا على أيّ مستوى في حزب العمل الشيوعي، ولكن رئيس فرع الأمن السياسي في دمشق، حيث جرى التحقيق معي ضمن حملة اعتقال شملت 14 طالبًا من مختلف الكليات في جامعة دمشق، صنّفني كـ”مسؤول التنظيم الطلابي في جامعة دمشق”، كي يضفي على نشاطه القمعي قيمة أمام رؤسائه، فيقول إنّه يعتقل “رؤوسًا كبيرة”، وليس مجرد طلاب لا نشاط سياسي لهم، وبينهم من لم يسمع باسم الحزب أصلًا. وبناء على هذا التصنيف قضيت ضعف المدة التي قضاها زملائي.

يمكن أن أقول إنّني كنت مفتونًا بالتجربة أكثر مما كنت مفتونًا بالحزب. أقصد إنّ تحدّي الحزب للنظام وكفاحيته ولغته العالية في مواجهة النظام، والاحتكاك بهؤلاء الشباب النشيطين والدؤوبين الذين يؤمنون بفكرة ويخلصون لها حتى الموت، هو ما شدّني أكثر من صوابيّة الأفكار والخط والتحليل السياسي الذي كنت أقرؤه على أنّه الصواب، لأنّني، كما قلت، كنت مفتونًا بالتجربة ولم يكن لدي بالتالي جهاز مناعي ضدّ ما يقوله هذا الحزب. وبالمناسبة، هذا خطر شبابي يصعب علاجه، ويكمن في أساس قوة التنظيمات الإسلاميّة الجهاديّة.

الطبيعي أنّ الحزب “يكتب” تاريخه من خلال نشاطه وكتاباته ومواقفه… الخ. وكان حزب العمل نشيطًا وغزير الإنتاج قياسًا على بقيّة الأحزاب المعارضة. نشاط الحزب كان سريًا، ولكن لا يصح أن نقول إنّ منشوراته كانت سريّة، على العكس، كان، مثله مثل بقيّة الأحزاب المعارضة المعرّضة لقمع شديد ومتواصل، يسعى إلى “إعلان” منشوراته وإيصالها إلى أكبر عدد من الناس. غير أنّ قلّة الإمكانات وقلّة اهتمام الناس جعلت دائرة انتشار الحزب ضيقة، كما تقول.

الحزب لا يكتب تاريخه، وإذا كتبه فهو يكتبه من باب الدعاية والتباهي الكاذب بأنّ الأحداث تثبت صحة وصوابيّة خطه… الخ. التاريخ الذي يُركن إليه لأيّ حزب هو التاريخ الذي يكتب من خارج الحزب، متحرّرًا من الانحياز والنزعة “الحزبيّة”.

نعم تأخرت كتابة تاريخ حزب العمل، وهذا غريب فعلًا، بالنظر إلى أنّ الكثير من أعضاء الحزب امتهنوا الكتابة والبحث، وكان يعتقد المرء أن يكون لمشروع كتابة تاريخ الحزب أولويّة. هناك من دون شك شهادات مفيدة ورشيقة مثل “وائل سواح”، وهناك مقالات تحليليّة ممتازة على يد البعض مثل “علي الكردي”، وكلاهما من قياديي الحزب. دون أن نذكر الكتابات غير القليلة ولكن القليلة الاطلاع أو القليلة الموضوعيّة في تدوين تجربة الحزب، والتي أشرت إليها في كتابي عن الحزب.

يسعدني أن أكون أول من كتب “قصة الحزب”، التي استهلكت مني الكثير من الجهد البحثي ومن الوقت. كان الحصول على أرشيف الحزب مشقة بذاتها، فقد ضاع الأرشيف في حملات الاعتقال المستمرة وما تحوي من مصادرات وإهدار للمواد… الخ. للحصول على أكمل نسخة من أرشيف الحزب كان علي الذهاب إلى المعهد الدولي للتاريخ الاجتماعي (IISH) في أمستردام، كان قد قدمها للمعهد الصديق جلبير الأشقر.

على كلّ حال، كتبت تاريخ الحزب من موقع الباحث وليس من موقع “ابن الحزب”. وأعلم أن هناك أكثر من كاتب يعمل على تدوين تاريخ هذه التجربة غنيّة الدلالات.

يتعرض اليوم اليسار السوري الذي كان حزبكم جزءًا منه، لاستقطابات كثيرة، متعددة، كلّ منها يقول “أنا اليسار”. سؤالي: من هو اليسار السوري اليوم حقًا؟ لماذا يوجد سعي لاحتكاره من قبل البعض؟ وأبعد من ذلك، برأيك: هل ما زال لليسار مكان في عالم اليوم؟ كيف يحدّد اليسار نفسه في ظلّ التحولات الجديدة والأسئلة الجديدة والقضايا الجديدة التي تطرح نفسها على ساحة العالم اليوم؟

بتعميم واسع يمكن تعريف اليسار السوري بأنّه القوى غير الإسلاميّة خارج الحزب الحاكم. كان هذا اليسار مستقطبًا على طول الخط بعد 1970، لأنّه لم يمتلك في أيّ وقت ما يكفي من القوة ليكون مستقلًا. يسار يراهن على النظام، ويسار يراهن على الإسلاميين. يمكنني القول إنّ المحاولة اليساريّة الأبرز لحيازة استقلاليّة فعليّة عن طرفي القوة في المجتمع السوري (السلطة، الإسلاميين)، بصرف النظر عن صوابيّة أو لا صوابيّة طرحها السياسي، كانت تجربة حزب العمل الشيوعي التي تحطمت تحت ضربات القمع المتوالية.

عاش اليسار السوري دائمًا في بيئة عنيفة، وهي السمة الدائمة للمستوى السياسي في مجتمعاتنا. وفي حضور العنف تختفي السياسة، وتتحول إلى تبعيات، ومن يرفض التبعيّة ينتهي مسحوقًا ما لم يكن يمتلك القوة على سحق غيره أو صدّه، على الأقل. لم يمتلك اليسار السوري هذه القوة في أيّ يوم. ينطبق الحال نفسه على اليمين (الإسلاميين) أيضًا، ولكن هؤلاء لديهم الاستعداد والإمكانيّات لامتلاك القوة ومواجهة عنف النظام، واستتباع بعض اليسار.

اليسار السوري كان، على طول الخط، في موقع التابع ولم يمتلك قوة بذاته.

لا يمكن الكلام عن اليسار السوري اليوم. يمكن الكلام عن مجموعات مشتتة ضعيفة الصلة بالمجتمع السوري ولا يمكن أن تخدم، في ظلّ الوضع الراهن، إلا كواجهة لرافعة خارجيّة.

بالفعل هناك تحولات وأسئلة وقضايا جديدة تضع مفهوم اليسار واليمين على المحك. الثابت فيما يمكن أن نسميه اليسار هو الانحياز الدائم إلى فكرة العدالة والمساواة، والعنصر المميز في تحديد اليسار اليوم هو البعد العالمي للمساواة، أو “الأمميّة”، ليس بمعناها الاصطفافي السوفييتي، بل بمعنى وحدة مصير العالم ومقاومة الميل الانغلاقي القومي الذي يبرز في الشطر الغني من العالم، لتبرير عدم التضامن مع الدول الفقيرة، ويبرز في الشطر المفقر لتبرير الاستبداد، وفي الشطرين يرفع راية السيادة الوطنيّة.

الشيء الجديد الذي طرأ على الساحة الدوليّة بعد أن انهارت الكتلة الشرقيّة (الاشتراكيّة) هو زوال الاستقطاب الزائف بين شرق وغرب أو شيوعيّة ورأسماليّة وانكشاف محدوديّة الديموقراطيّات القوميّة، وهو ما تظهره بوضوح القضايا الكونيّة مثل أزمة المناخ وجائحة كورونا، فقد كشفت مدى الأنانيّة “القوميّة” ومدى حاجة العالم إلى المساواة على الصعيد العالمي.

قضيّة اليسار اليوم هي العدالة والمساواة على صعيد عالمي، سوى ذلك سيجد اليسار نفسه على مسار يميني أكيد، هو مسار التمييز والانغلاق القومي، وربما الحروب اللا نهائيّة.

قضيت حوالي ستة عشر عامًا في المعتقل، وأنت منذ حوالي عدّة سنوات، تعيش في المنفى. كيف تقرأ المنفى على ضوء تجربة المعتقل؟ هل المنفى نوع من اعتقال أخر بشروط أخرى؟ أم أن منفى اليوم مختلف عن “المنفى” الذي عاشه كتّاب ومنفيون أخرون في شروط أخرى، بحيث أنّ المنفى اليوم أفضل من الأوطان التي هربنا منها؟

كلمة المنفى ارتبطت في أذهاننا بحالات فرديّة تطال غالبًا أشخاصًا مؤثرين لا تعتقلهم السلطات ولا تقتلهم وتريد التخلص من تأثيرهم الداخلي بالإبعاد عن البلد. على هذا كان في النفي بعض الاعتبار للمنفيين. بهذا المعنى لا ينطبق المفهوم على السوريين. نحن هربنا من القتل والخطف والاعتقال. حصل هروب عام من المناطق التي كانت تتعرّض للقصف، أو المناطق التي تنتظر المصير نفسه، فخرج الأهالي يبحثون عن الحماية من الموت أينما كان، وكيفما كان. يمكن أن نقول إن هذا لجوء، ولكنه يضمر معنى النفي، أيّ الإقصاء والإخراج من المعادلة أو إعدام الفاعليّة.

وحصل هروب فردي لأشخاص من مناطق ليست ساحة مواجهات عسكريّة مباشرة، ولكنهم على لائحة الاستهداف من قبل القوى المسيطرة في مناطقهم، لأسباب مختلفة. هؤلاء أيضًا خرجوا بحثًا عن الحماية الشخصيّة خارج سوريا، وهم لاجئون أكثر مما هم منفيون، بالمعنى القديم للنفي، كممارسة قمعيّة.

التغيّر الهائل في مجال التواصل نسف القيمة القمعيّة للنفي بمعناه القديم. صار يمكن للشخص أن يكون فاعلًا ومؤثرًا في مجتمعه من الخارج، ولم يعد الإبعاد من البلد كافيًا “لنفي” تأثير الشخص الذي يمتلك قدرة على التأثير.

على ضوء الشروط السيئة التي يعيشها السوريون في سوريا، أصبح المنفى امتيازًا.

بالنظر إلى حالة النفي العامة التي تشهدها سوريا: لجوء ملايين السوريين إلى الخارج، ونزوح ملايين أخرى، وحياة تحت خط الفقر للملايين الباقية، لصالح رفاه وبطر وتشبيح فئة ضيقة من السوريين، فإنّ الأدق أن نقول سوريا المنفيّة. كل السوريين باتوا غريبين عن وطنهم، الصورة الأدق هي حرمان السوريين من وطنهم، أو نفي وطنهم عنهم.

أما عن المقارنة بين المنفى والسجن، فإنّ السجن أقسى من المنفى بدرجات. في السجن لا تكون فقط محرومًا من حريتك، بل تبقى مع ذلك تحت رحمة السجّان، تبقى مرهونًا له مباشرة في صيانة وجودك البيولوجي (أكلك وشربك) وتبقى تحت رقابته ومزاجيته وعقوباته… الخ، فلا تشعر باستقرار، لا في كرامتك ولا في أمانك. في المنفى تُحرم من بيئتك المكانيّة والاجتماعيّة (هذا حرمان يحقّقه السجن أيضًا) ولكنك تتحرّر من سجّانك، فتشعر بالأمان وتكون كرامتك بحماية أكبر. المنفى أكثر سهولة بالنسبة لمن مرّ بتجربة السجن.

شهادات عن راتب شعبو:

حسيبة عبد الرحمن: ألمع رفيق من حزب العمل في سجن عدرا

التقيت راتب لأول مرة في شتاء دمشقي لعام (1981) وهو عام دخوله كلية الطب. كان شابا صغير السن، وبعجالة يلتقط المرء ذكائه وسرعة بديهيته وقدرته على ترتيب أفكاره وآرائه، أضف إلى ذلك الجانب الساخر لديه. وبحكم صلة الصداقة بيني وبين رفاقنا من أقارب راتب كجمال سعيد وبهجت شعبو، فقد ساعد الأمر على فتح بوابات المودة بيننا سريعا، وبعدها اضطررت للتخفي وترك منزلي، تلا ذلك بفترة عام اعتقال راتب وتحويله إلى سجن عدرا، فكانت أخباره تأتي متقطعة إليّ حين بدأ الكتابة مع مجموعة من رفاقنا السجناء وتهريبها ونشرها في جريدة الطريق (مجلة الحزب الشيوعي اللبناني)، وهي الخطوات الأولى له باتجاه الصحافة، وإن كانت باسم حركي ومع مجموعة.

راتب شعبو من الأسماء التي بقيت صلدة ومحافظة على قيمها ومبادئها رغم سجنها الطويل وتنقلها بين عدرا وتدمر، لم يتنازل عن ذلك مقابل الإفراج والحرية، وبعد خروجه من سجن تدمر وإقامته في اللاذقية، كانت لقاءاتي به قليلة، لأني أقيم في دمشق، لكن علاقتي مع رفاقي ورفاقه وباقي المعتقلين ممن كانوا معه في سجن عدرا، والذين شهدوا أمامي وبإجماع على سعة أفق راتب وذكائه الحاد (إنه ألمع رفيق بحزب العمل في سجن عدرا)، ومن كان منهم يكتب يؤجل النشر حتى معرفة رأي راتب في الكتاب.

وحينما التقيته بعد زمن سألته: لماذا لا تكتب في الصحافة وأنت صاحب قلم وفكر وقلَ من تتوفر لديه الإمكانيتين معا؟ أجاب بأنه مشغول جدا. ورغم تأخر دخوله هذا المجال إلا أنه وبسرعة قياسية أصبح اسما معروفا ثم لامعا.

والشاب الذي كان من العشرة الأوائل في الثانوية العامة ابن ضيعة كفريا الساحلية الساحرة بمحمياتها الطبيعية وأشجار تفاحها وخرّبوها، أصبح حاليا من الأسماء التي يشار إليها، سواء في الصحافة أو التأليف أو الترجمة.

————————–

خولة دنيا: فلاشات عن شاب عنيد وقلم لاذع

تموز 1992: كان الصيف بعزّه، والحافلة الصغيرة المتوجهة إلى مخيم الوافدين وسجن عدرا مكتظة بالوجوه المألوفة للعائلات مع أطفالها. في مقعد جانبي جلسنا لنعطي مجالًا للأكبر سنًا، بينما اكتظت الممرات وأسفل المقاعد بالأكياس الخشنة، وامتلأت الأيدي بالأكثر نعومة منها… إنّه يوم الاثنين المخصص للزيارات، كنت أتسلل كي أزور أصدقاءً أحبهم في شهر لا أحبه.

يَعلق ذاك الشهر في رأسي كما تعلق تلك الذكرى، وما تزال العيون على بُعدِ شبكين تنظر إليّ بنفس الحماسة، كما أنظر إليها بنفس الفضول والشوق، جدار على علو يقارب المتر والنصف، مبني بشكل متدرج على شكل غرف مربعة، يعلوه شبكين من المعدن يصل إلى السقف، يختفي الشبك تدريجيًا، عندما يبدأ المساجين بالدخول إلى الممر ليأخذوا أمكنتهم في زوايا هذه الغرف مقابل زوارهم.

كنت أعرف غالبيتهم بالأسماء، تلك الأسماء التي نوجزها بكلمة واحدة (الشباب): منهم أقارب لي وأصدقاء ورفاق الزنازين المنفردة التي جمعتنا سويّة في وقت مضى في قبو أحد الفروع الأمنيّة. وكان هناك ذلك الوجه العنيد للشاب الطويل والنحيف، كل ما فيه يقول إنّه جبلي ساحلي كان ذاك (راتب شعبو) بضحكته ونكاته اللاذعة التي لم يستطع السجن الذي قاربَ العشر سنوات حينذاك، التخفيف منها. يومها تحولت الحكايات التي سمعتها من رفاق السجن الذين أٌفرج عنهم إلى بشرٍ وعيون وضحكات وتعليقات. وأصبح راتب صاحب برج السرطان الذي ردّ على معايدته بعيد ميلاده بأن أرسل لي هدية عبارة عن قرط مصنوع من الخرز مكتوب عليه (with one ear) يجب أن تخاف كلمته اللاذعة وتستعد لها جيدًا!

في السنوات اللاحقة، وخلال زيارات نادرة لسجن عدرا (الخمس نجوم عند مقارنته مع سجن تدمر وصيدنايا والأفرع الأمنيّة) كان “الشباب” حاضرين دائمًا مع قوائم الكتب التي يطلبونها، زيارات الأصدقاء، سهرات الرفاق، زيارات الأهالي… ابتسامة أم فادي التي لا يمكن نسيانها وهي تعد العدّة لزيارة السجن بكلّ الحب الممكن تقديمه للشاب وأصدقاءه في سجن عدرا.

ثمّ كانت الكارثة بترحيلهم جميعًا (عقوبة تأديبيّة) إلى سجن تدمر لسنوات طويلة، كان (راتب) الشاب بعناده ولذاعته معهم، ولسنوات طويلة مرّت كان كلّ ما عرفناه عنهم حكايات بعيدة مليئة بغبار الصحراء وقسوة ما مرّوا به.

كانون الأول 2000: الشتاء كان لطيفًا لهذا العام، واللاذقية الجميلة ضمّت أحبّة كثر التقوا بعد غيابات قسريّة، الأجساد النحيلة لدرجة التكسّر، الوجوه الشاحبة، لكن العيون ما تزال تشع بالذكاء والعناد… شيء ما تكسّر في جو المدينة وطغى على الفرح الممتلئ بالدموع، والحكايات كانت سيدة الأسرار المخفية لسنوات.

بالنسبة لي لم أكن أجسر على أي سؤال، يكفي ما يودون قوله عمّا مرّوا به وأوصلهم لكلّ ذاك الشحوب والذوبان، السعادة الوحيدة كانت بأنّهم نجوا أخيرًا من المحرقة.

في الذاكرة، مكانٌ أيضًا لتلك الضيعة الغافية على مرتفع جبل مطلٍ على طريق اللاذقية – حلب، والمناسبة العزاء بفقد أحبة له… حملتنا حافلة مشابهة لمفرق الضيعة وتركتنا كي ندبر رأسنا في الوصول إلى الأعلى، لنجد تراكتورًا صاعدًا أخذنا بطريقه بكلّ ودّ، ومن منهم لا يعرف آل شعبو!! كان يضحك وكنّا نحن أيضًا نضحك متعمشقين على جوانب التراكتور. وهناك كان الشاب العنيد قد تخلّى مؤقتًا عن لذاعة لسانه كي يستقبلنا.

كلّ ما عرفته عن راتب عبارة عن فلاشات، عادَ إلى الجامعة، أصبح طبيبًا، فتح عيادة، تزوج امرأة جميلة ولطيفة، أصبح لديه أطفال، حكى لنا حكايات النساء الباحثات عن الجمال وعمليات التجميل التي يجريها.. انكفاءه عن الكتابة لسنوات لصالح عمله وتأسيس حياته التي يريد استعادة ما فاته منها.

ثم خروجه من البلد وعودته إلى ما يحب القيام به، ويتقنه، شغف البحث ومتابعة ما يجري، والكتابة بقلمٍ لاذع، يثير دوامات من الجدل والنقاش، ويراقب بعينين غير حياديتين كلّ ما يجري، وما زال الشاب العنيد اللاذع عنيدًا.

—————————

سمير سليمان: يعيش حياته بانسجام مع ما يكتب، احساس رهيف بالحرية

الكتابة حول شخص لا يمثل قضيّة عامة ولا يأخذ دورًا عموميًا في محيط اجتماعي، ليس مما يتوافق مع قناعاتي أو عاداتي ولا مع مزاجي الشخصي. ولكن عندما سألني الصديق “عبد الله أمين الحلاق” إن كنت أرغب بقول شيء حول الكاتب الصديق راتب شعبو لموقع “حكاية ما انحكت” لم أتردّد بالموافقة. فعلاوة على أنّ راتب شعبو صديقي الشخصي، وعلاوة على رفاقيتنا السابقة في حزب العمل الشيوعي، إلا أنّني رأيت في ذلك فرصة لي للقول بضعة كلمات حول ما يتميز به راتب شعبو ككاتب سياسي يلتزم العدالة الاجتماعيّة باعتبارها قضيته الرئيسيّة، وكمثقف ملتزم بمعايير الحريّة بأوسع معانيها. وهو تميّز لا يجعله متفرّدًا، ولكنه يبقيه مع أقليّة من المثقفين والكتّاب السوريين الذين نتابع باهتمام وشغف ما يكتبون وما يقولون.

علاقتي الشخصية براتب شعبو ليست هي ما يؤسس شهادتي هذه، فأنا لا أنوي أن أتكلم عنه باعتباري قارئًا لما يكتبه فحسب، ولكني أودّ القول أيضًا أنّ العلاقة الشخصيّة والاحتكاك الحياتي مع أيّ كاتب أو مثقف، تُكمل الصورة الانطباعيّة التي يعطيها الكاتب عن نفسه من خلال كتاباته، تؤكّدها أو تناقضها. وفيما يتعلق براتب، فهو يعيش حياته وعلاقاته بنفس الانسجام مع المعايير التي نلمسها في كتاباته السياسيّة والثقافيّة. وسأكتفي بهذه الشهادة على صعيد المعرفة الشخصية براتب شعبو.

خارج العلاقة الشخصيّة، لديّ معرفة بالبيئة الضيقة التي نشأ بها راتب شعبو. معرفة تشكلت تاريخيًا، في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، بحكم وحدة التجربة الحزبيّة النضاليّة في ذات البيئة الجغرافيّة والسياسيّة والزمنيّة، رغم فارق السن بيننا. وعليه أقول إنّ راتب تشرّب روح الاعتراض السياسي من بيئة عائليّة لها إرث في رفض الاستبداد لا يزال قائمًا. وهذا ما يفارقه عن جيل الكتّاب السوريين الجدد الذين أظهرتهم الثورة السوريّة منذ عشر سنوات. فقد عاش تجربة نضاليّة جمعت جيلين فصلت بينهما ثورة. وليس هذا بحدّ ذاته ما يميّز راتب، بل ما ميزه أنّ تجربته السياسية الأولى التي اختتمها في المعتقلات الأسديّة لسنوات طوال، لم يعقبها ارتكاس انكفائي كما حصل مع الكثيرين من أقرانه، لا بالمعنى السياسي ولا السلوكي. وهو ارتكاس لوحظ بوضوح عند الكثير من المعارضين التاريخيين، من معتقلين سابقين أو غير معتقلين. بل استثمرها باتجاه ثقافي يسمو على السياسة عندما أصبحت هذه الأخيرة متاهة للكثيرين، وغدت مجال ارتزاق للبعض.

راتب شعبو، باعتباره معارضًا سابقًا للنظام الأسدي قبل الثورة، لم يُصب برهاب الإسلام السياسي الذي أصاب الثورة السوريّة في مقتل، كما جرى مع الكثيرين من المعارضين المتحدرين من الأقليّات، بعد الثورة. ولم يعوّم نفسه بالمقابل في تملّق للموجة الإسلاميّة التي اجتاحت البيئة المعارضة وسمّمت وعيها السياسي وأثلمت أدواتها النضاليّة. وهذا يعود في رأيي إلى عاملين توفرا عند راتب: ارتقاء الوعي السياسي ووضوح الفكرة عنده من جهة، وإحساسه الرهيف بمعيار الحريّة كهدف أول وأساسي للاعتراض السياسي، من جهة أخرى. والعامل الأول، نضج الوعي السياسي ووضوح الفكرة في الذهن، هو ما يُظهر ملموسية أفكاره السياسيّة ورؤيته للبنية الاجتماعيّة السوريّة في حضورها وغيابها، في كتاباته وحواراته. فراتب لا تجده يكتفي بالبقاء في المجال السياسي عندما يتطلب الموضوع الخوض في الاجتماع، ولا يلجأ للمصطلحات الأكاديميّة عندما يمكن له طرح الفكرة بوضوح وبلغة عموميّة. لذلك أقول إنّ راتب يعرف في حواراته كيف “يغمّس” في صحن الموضوع المطروح للنقاش. والعامل الثاني، اعتماد الحريّة كمصدر للمعايير السياسيّة والثقافيّة، هو ما يجعل كتاباته بضاعة ليست للبيع في الأسواق التي ابتدعها المال السياسي في الثورة السوريّة. فهاجس الحريّة هي الموجّه في تفكير راتب ونشاطه، وهو ما يبقيه كاتبًا حرًّا وملتزمًا بقضيّة الحريّة لشعبه ولكلّ الشعوب.

——————————

علي رحمون: الانسان الحالم بانسانيته

من أين سأبدأ بالكتابة عن راتب، خاصة وإنّني لستُ بكاتب ولا أحبُّ الكتّاب، لكن لا بدّ من قول ما يتوجب قوله بحق راتب: الإنسان الحالم بإنسانيته.

سأبدأ من حيث وُلد في تلك القرية الوادعة على كتف جبل بطبيعة خلابة حيث أشجار السنديان والبطم والتين والزيتون  ورمزيتهم وأثرهم بسمو الروح، وأثر النبوعة (نبع صخري صنع بركة ماء تتسع لغسيل أرواحهم وتطهيرها)، تلك الضيعة البعيدة عن صخب المدينة رغم مآسي أهلها المحفورة بذاكرة راتب.

راتب الإنسان الذي أُقحم في عالم السياسة كونه ابن مناضل نقابي قديم منذ خمسينيات القرن الماضي (تمّت ملاحقة ومن ثمّ اعتقال أخوه الكبير المهندس بركات شعبو). ينتمي راتب إلى عائلة لها إرثها وأثرها في الحركة السياسيّة الوطنيّة المحليّة وفي مواجهة القمع والظلم (أيضًا تمّت ملاحقة ابن عمه بهجت شعبو) لمدّة أكثر من عشر سنوات، وكان ما يزال طالبًا في كلية الطب ثمّ لاحقًا تمّ اعتقاله، وكذلك تمّ اعتقال ابن عمه المهندس (منير شعبو).

عائلة وجدت بالعلم والثقافة مخرجًا للوعي والعمل لتحقيق العدالة والمساواة، لذلك كانت بوصلة العائلة هي التعلم كمنقذ أساسي من واقعهم، عائلة لها المرتبة الأولى علميًا وثقافيًا في القرية.

وراتب الذي تفوق في دراسته الثانوية سجّل في كليّة الطب البشري ليحقق حلمه بأنّ يكون طبيبًا مداويًا أوجاع ناسه وليحقق ذاته كإنسان له دوره في مجتمعه. لكن نظام الطغمة كان له بالمرصاد كما لغيره من طامحي الحريّة، ليقضي على آماله في تحقيق أحلامه.

لماذا اُعتقل راتب؟ ماذا فعل؟ لا شيء أبدًا يستحق ذلك، كلّ ما فعله هو المطالبة بتحقيق العدالة والمساواة بين الناس، طالب بالحريّة، حريّة الرأي والتعبير، كلّ ما فعله هو تعديه على المحرمات وخرق التابو (العمل بالسياسة)، عَمِل على الارتقاء بوعي غيره بأهمية الوعي السياسي والعمل على تغيير الواقع وهذه من مهام الشباب الثوري  وقد يكون متأثرًا بالثورات والعالم، وبالأخص ثورات أمريكا اللاتينيّة وتجربة “أرنستو غيفارا” الطبيب والثائر. وراتب كما غيره من الشباب الحالم والطامح بالقضاء على الاستبداد والقمع والظفر بالحريّات.

لا بدّ لي من الإشارة إلى أنّ راتب عمل على تجسيد أفكاره واقعيًا، وذلك بانضمامه لدوره تدريبيّة في معسكرات التحرّر العالميّة في بعلبك التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينيّة بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، عاصمة الحريّة المُقاوِمة للمحتل الإسرائيلي في لبنان خريف ١٩٨٢، وذلك مع غيره من رفاقه في حزب العمل الشيوعي، حيث أنهى دورته وعاد إلى جامعته ليكمل دراسته، لكن زوّار الليل، وكعادتهم، خطفوا راتب في ليلة من ليالي دمشق الحزينة مع آخرين من رفاقه ليبعدوه 16 سنة عن دراسته، أهله، رفاقه، أصدقائه، ناسه وبلده. نعم ستة عشر عامًا متواصلة وهو معتقل في زنازين  القمع والقتل.

هل نتخيل أن يُعتقل إنسان، لم يتجاوز عمره عشرين سنة، لمدة 16 سنة؟! ولماذا؟  لأنّه مؤمن بالإنسان وحريته وكرامته!

بعد خروجه من المعتقل سيعود راتب  لتحقيق ما بدأه عبر إكمال دراسته بالطب وتخصّصه، لعلّه بذلك يعود لتحقيق جزء من أحلامه بالتخفيف من أوجاع ناسه، وليعود إلى مكانته ودوره بالمجتمع بدون يأس أو إحباط، محاولًا سلوك طرق مختلفة لمواجهة الاستبداد، تارة بالصمت الناطق وتارة بالكتابة وتحت أسماء مستعارة.

ثم يجسّد لنا تجربته بالاعتقال والمعتقل برواية (ماذا وراء تلك الجدران؟)، وهي تحكي تجربته من سجن “الشيخ حسن” إلى سجن عدرا، ثمّ التجربة الأمر والأقسى حيث “جهنم وسجن تدمر”، هناك حيث ينعدم كلّ أمل.

كي تبقى تلك التجربة حيّة في وجدان الجميع عن مرارة وقسوة الطغاة بحق إنسانيتنا، يوثّق لنا راتب تجربة حزب العمل الشيوعي في كتاب. وكون راتب ولد في بلد سلطاته لا تغفر “الخطايا” ولا تسمح بحريّة التعبير، بل قاتلة لكلّ أشكال الحريّة، وكونها تعتبر أيّ فعل أو عمل سياسي  هو من الخطايا المميتة، لذلك فرّ راتب من بلده، وأصبح لاجئًا في فرنسا حيث يشعر بالأمان  وبالحريّة واتجه للكتابة بصمت  مشاغب، وبهدوئه المعتاد، ليكتب من مناخات روحه ووعيه لدوره بنشر أفكاره  وقيم الحريّة والعدالة مجسّدًا فكرة ابن الرومي “الشيء الذي لا يمكن التعبير عنه بالكلمات لا يمكن إدراكه إلّا بالصمت”.

راتب يدعونا دومًا للحوار  الفعّال والجاد والمسؤول،  وفعليًا راتب يجسد المقولة “حاولوا وقفنا ولم يعلموا أنّنا بذور”، لذلك تابع بصمت واتزان وبكلّ جديّة مع آخرين العمل على تأسيس “نواة وطن” كي تكون جسرًا مع الآخر وللعمل يدًا بيد من أجل الوصول إلى سوريا دولة القانون، دولة المواطنة المتساويّة، والتي تحمي الإنسان من وحشيّة السلطات، وهذا جزء عن راتب الإنسان الحالم.

—————————–

عماد ديوب: الرجل الذي قتلته بلاده

كان راتب شعبو باحثًا منشغلًا بتملّك الماركسيّة منهجًا ومعرفًا وممارسة سياسيّة. مارس ذلك قبل اعتقالها الطويل، وبعد اجتثاثه من الحياة، أكمل انشغالاته في تعلّم اللغة، والترجمة والإبحار في علوم وآداب متعدّدة. خرج من موته إلى الحياة التي واجهته بقضايا تتعلّق بإكمال دراسته وبموضوع الزواج والعمل، وهي مهمات ثقيلة بامتياز على من لم يُعتقل. انتهت كذلك أهدافه السابقة في تغيير المجتمع اشتراكيًا، وصار عليه أن يلبي احتياجات العمر والمكانة الاجتماعيّة.

أيضًا لم يتأخر الصديق راتب عن إكمال دارسته، وبدأ بأعمال الترجمة والكتابة المتقطعة هنا وهناك إلى أن استعاد الكتابة المنتظمة بعد العام 2011، العام الأخطر في حياة السوريين، وربما منذ عشرينات القرن العشرين، وقبل استقرار سوريا وفقًا لاتفاقيّة سايكس بيكو.

حُوصر راتب من جديد. ليس هو فقط، بل أغلبيّة المعتقلين السابقين، الذين لم يتركهم النظام لآلامهم وقضاياهم الذاتيّة، ليرّمموا ما فاتهم، ولن تترمم قضايا القهر والروح المسحوقة أبدًا؛ لأنّ المعتقل والسجن لا يغادرا السجين مطلقًا. حُوصر من النظام، ومن المجتمع أيضًا؛ فدعاية النظام بأنّه يحمي الأقليّات وسوء خطاب المعارضة المكرّسة تجاه غير السنة وضع راتب وأمثاله، ممن يعيشون في بيئة علويّة في مصيدة حقيقية. كان لا بدّ من الهجرة، والتي تعدّدت أشكالها وأساليبها وأسبابها في سوريا، وفي مختلف المدن.

الهجرة لمن يمتلك مشاريع أدبيّة وثقافيّة وسياسيّة، ومشبع بقضايا الوطن والمواطنة وحقوق الانسان، وبعض من اشتراكيّة الأمس… قضايا ثقيلة على الصدر وعلى المعنى من الوجود. ومع تكثّف الحصار صارت هذه المشاريع قضايا غير مطروحة، فهناك البحث عن الأمان والتخلص من الخوف وتأمين العائلات، ولا سيما الأطفال.

ترك راتب حياته السابقة، بكلّ ما فيها؛ ليس هو بل الجميع. هذا اقتلاع كامل، وليس مثله الاعتقال ذاته. برز راتب كباحث وكاتب منتظم، وتميّز بأطروحاته ورؤاه التي نخالفه في الكثير من توجهاتها، ولا سيما قضية المسألة الديموقراطيّة، وضرورة خلق ديموقراطيين، وبالتالي لا تغييرات حقيقيّة في مجتمعاتنا دون ذلك. المشروع هذا ينطلق وينتهي من خلال طبقة مهيمنة وهي البرجوازيّة.

صديقنا، الذي ما زال كذلك، نقل بذلك ترسانته المعرفيّة في التغيير من الفئات الشعبية إلى البرجوازيّة. مشكلتنا هنا، ولكن ثقل مهمة التغيير الاشتراكي، وتعقيداتها، دفعت راتب وآلاف مؤلفة، ودون “ائتلاف القلوب” إلى وهم إمكانيّة البرجوازيّة على تحمّل مسؤوليّة التغيير التاريخي لمجتمعاتنا.

خسر اليسار والاشتراكيّة راتب شعبو بانتقاله نحو التيار الديمقراطي، وبالأدق نحو الليبراليّة، ولكنها الحياة أيضًا. مشكلة راتب أنّ كلّ انشغالاته هذه لن تجد طبقة تشتريها، لأنّ برجوازيتنا ليست أكثر من أدواتٍ للرأسماليّة المتقدمة. هنا كارثة مجتمعاتنا. صديقنا رجل مجتهد بكثرة وبأصالة وبجديّة كبيرة، وهذا ما يميزه، لهذا نحترمه كثيرًا، وإن كنّا لا نوافقه دائمًا.

برحيل راتب عن البلاد، خسرت سوريا رجلًا، كان يمكن أن يقدّم الكثير، حينما وضعته، ومنذ أن رغب أن يدخل المجال العام، داخل خيارات محدودة وهمشته وقتلته وهو في الحياة، وفي النهاية دفعته ليغادر بلاده التي أفنت شبابه وطموحاته في معتقلاتها.

لراتب كلّ المحبة.

حكاية ما انحكت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى