أبحاث

الطائفة المستباحة والاستحقاق السوري المقبل/ عبير نصر

لم تنشأ “العلوية السياسية” عن حالة استبطان العصبية في بلدٍ شديد التعقيد، كسورية، بل ترافق واندمج ذلك مع باطنية سياسية دينية نمت في أحشاء الدولة، هي نوعٌ من الباطنية الدينية العلوية المعروفة تاريخياً. وبعيداً عن الكلام الفضفاض والاتهامية، ربما الأدلة هي الفيصل، رغم المخاطر من التطرّق إلى هذا الفخّ المدمّر الذي حفره الأسدان، ليؤديا الدور “الطائفي” الوظيفي، بكلّ دقةٍ ومنهجيةٍ وعداء. وبالعودة إلى أسّ العلّة وأساسها، أكد المستشرق الهولندي، نيكولاس فاندام، أنّ آل الأسد كانوا يدعون “بيت الحسنة”، لأنّ سكان المنطقة كانوا يتصدّقون عليهم. لذا من الطبيعي، ومذ تبوأ حافظ الأسد سدّة الحكم، أن تبدأ العائلة كلها في الانتفاع والسيطرة على مقاليد الثروة والسلطة. ولتحقيق ذلك، كرّس نظام الأسد سياسة طائفية في مختلف مجالات الحياة، ففرّق السوريين وأخلّ بالنسيج المجتمعي، ثم عمد إلى تجريم أيّ توصيف لطائفيّته المتوحشة، فبات أيّ حديث عنها محطّ تخوين واتهام ببثّ الفتنة ووهن نفسية الأمة، معزّزاً صفوفه بمزيد من أتباع طائفته، الذين شكّلوا مليشيات متطرّفة للدفاع عنه، على غرار قوات الدفاع الوطني، فضلاً عن التجنيد القسري لآلاف العلويين، ككبوش فداء مؤجّلة على مقصلة الأسد.

واليوم، لم يعد لدى الأسد وأركان نظامه المقرّبين ما يخسرونه، لذا ما زالوا يتّخذون منهج “الطائفية السياسية” ورقة أخيرة للمراهنة على الحصن الآمن من السقوط. في المقابل، تبدو تبعات جرائم الأسد محيقة بالمحسوبين عليه، الباقين بعد رحيله، وهم، بطبيعة الحال، السوريون من أبناء الطائفة العلوية. ومثل هذا “الإدراك/ الاعتقاد”، لدى العلويين، أنهم هدف للثأر، سيعني أنهم سيستمرّون في دفع فواتير بقاء الأسد في السلطة. وهو ما لا يعني فقط اقتطاع جزءٍ من سورية لتشكيل دويلةٍ تخوض حرباً متواصلة مع محيطها، بل أيضاً ارتكاب جرائم تطهير عرقي على الجانبين، ولا يقلّ عن ذلك خطورة أبداً، إن لم يكن أسوأ بكثير، تبنّي “المنتصرين” عقلية الانتقام، فهل سينتقمون حتى آخر “علوي”؟!: خوفٌ ملحّ بالطبع.

مرّة أخرى، ليس من الطائفية بمكان التطرّق إلى هذا الانزياح الخطر والمافيوية العلنية، بل الجريمة بالصمت عن جرّ البلاد برمتها إلى المستنقع الطائفي، وإنْ كان التبجّح بالوطنية والعلمانية على المنابر. ولعلّ تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، منذ مارس/ آذار 2012، تأكيدٌ على التوافق على أكثر الشعارات عدمية ووجودية في آن: “لن نسمح بوصول حكم سنّي في سورية، ويقلقنا في هذا الوضع مصير المسيحيين، وهناك أقلياتٌ أخرى كالأكراد والعلويين وكذلك الدروز”. في المقابل، أعلن بشار الأسد ما هو أوقح وأكثر مراراً، ابتداء من أنّ السوريين ليسوا هم من يمتلكون الجواز السوري، ومن ثم بالسعي إلى التجانس وتغيير الديمغرافيا وصولاً إلى الذي نشهده حالياً: لجوء الأسد إلى تقسيم البلاد ليبقى على كرسي أبيه، تحديداً على “سورية العلوية” أو ما تسمّى، تلطيفاً، “سورية المفيدة”.

وفي الحقيقة، بنى نظام الأسد نفسه على أساس “مشروع تكوين سلالة عائلية حاكمة إلى الأبد”، ولتحقيق ذلك، أعاد إنتاج الوجود الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي والأيديولوجي، بما يخدم مشروعه، ويبدو لنا أنّ العصبية الطائفية التي ساهمت في تعاضد أكثريةٍ علويةٍ مع حكم الأسد، استندت، بشكل خاص، إلى الاستقطاب في الجيش والنشاطات الدينية التعبوية والسرديات التاريخية العاطِفَة اضطهاداً دينياً على اضطهاد اجتماعي. وعليه، تقف الطائفة العلوية على مفترق طريق حرج، بعدما تبيّن لها أنّ استدامة سيطرة الأسد على البلاد أصبحت شبه مستحيلة، في أعقاب عقد من القتال الضاري، وعقود من القبضة الحديدية التي تهشّمت فعلياً، فيما وجد الذين رفعوا شعارات مثل “الأسد أو لا أحد” أن “لا أحد” يسيطر اليوم على سورية، وأن مستقبل الأسد وطائفته ومنظومة حكمه في حكم المجهول.

نجح نظام الأسد في اختطاف العلويين، وزجّهم في مواجهةٍ خاسرة مع الشعب السوري، كي يتخذ منهم درعاً يتلقى عنه اللوم والانتقادات والغضب. ففي إحصائية لصحيفة تلغراف البريطانية، قُدّر عدد العلويين القادرين على حمل السلاح بنحو 250 ألف شخص، غير أن ثلث هؤلاء قتلوا في المعارك والثلث الآخر خارج الخدمة. مع هذا، ورغم الاستياء االشديد الذي تفاقم بين أبناء القاعدة العلوية، بسبب الواقع الاقتصادي المأزوم، ما زال كثيرون منهم يرون أنهم مرغمون على تأييد النظام باعتباره ضرورة وجودية، وعلى يقين أنّ الأغلبية السنية لا بدّ محمّلة بأحقاد الانتقام لما وقع في العهد الأسدي، وتريد إعادة العلويين إلى أيام الذل والاضطهاد، وفق ما تردّده أبواق النظام المؤيدة، التي صوّرت الثورة السورية صراعا “سنيا -علويا”، في حين تتهم المعارضةُ مافيات الأسد بتنفيذ أعمال عنفٍ ضد العلويين أنفسهم، ونسبتها للثورة لتكتيل الطائفة ضدها، كما حدث في مجزرة اشتبرق عام 2015.

يعزّز هذه الفرضية أنه، وفي العام نفسه، أغلق النظام السوري المنطقة الساحلية في وجه مئات العائلات العلوية التي هربت من قرى في سهل الغاب خوفاً من وصول جيش الفتح إليها. وشوهدت طوابير السيارات تصطفّ على مسافةٍ تزيد على خمسة كيلومترات عند أول حاجز على مدخل الجبال الساحلية. في المقابل، لم يكن الهاربون يعلمون أنّ النظام، الذي ضحّوا بالغالي والرخيص في سبيله، سيغلق أبوابه بوجههم، ويتركهم لمصيرهم الكارثي إذا ما وصل “المسلّحون” إلى قراهم.

ملاك القول إنّ ثمّة موسم حصادٍ للصمت العلوي، هو استحقاق سوري لا بدّ أن يحين قطافه. في المقابل، الحقيقة المرّة الجلية هنا: أنّ العلويين الذين وُسموا بـ”المرابعين” في زمن مضى باتوا اليوم عبيدَ حكمٍ أشد قسوة وعنجهية. لا يُسمح لهم حتى بنقد فساد الحاكم وإجرامه. إذ سبق أن اعتقلت حكومة الأسد الصحافي (العلوي) كنان وقاف، وهددته بالتصفية، إثر نشره وثائق تدين محافظ الحسكة، صاحب اليد الطولى في نظام الأسد. وعلّق وقاف على التهمة الفضفاضة: “وهن نفسية الأمة؟ أيّ أمة تقصدون؟ أمة الفساد.. نعم”. في السياق، وفي فضيحة لن تكون الأخيرة، بالطبع، كشف ناشط (علوي) آخر، يدعى كمال رستم، قائمة بأسماء أقارب بشار الأسد ممن يعيشون في قصور وفيلات، في حين يدكّ الفقر مضاجع الطائفة العلوية التي استخدمها نظام الأسد وقودا لآلة إجرامه ضد انتفاضة الشعب السوري. وتعويضهم كان لا يتعدّى “سحارة برتقال” أو “ساعة حائط” في أحيانٍ كثيرة.

مؤكّد أنّ عائلة الأسد استخدمت مع الطائفة العلوية مختلف الإغراءات والترهيبات من أجل ضمان استغلالها، وأعطتها بعض الامتيازات التي كان يمكن أن تحصل عليها في كلّ الأحوال وفي كلّ العهود. لذا لا يمكن للصراع أن يصل إلى خاتمته من دون سقوط “العلوية السياسية” تماماً، كما الحرب اللبنانية ما كان يمكن أن تصل إلى خاتمتها من دون سقوط “المارونية السياسية” وليس الموارنة في لبنان. المؤسف أنّ الطائفة المستباحة نفضت عن كتفيها غبار التمرّد على جلاّدها، معزّزة الوعي بمركزيتها وتمحورها حول رأس النظام، لا بوصفه قائداً سياسياً تنتفي بوجوده ذاكرة الخوف في المخيال العلوي فحسب، بل باختلاط ذلك واندماجه مع المعتقد الديني الباطني الذي يرى في الأسد قائداً يصل، في درجة قداسته، إلى مرتبة الألوهية.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى