أبحاث

النزاع الحدودي بين لبنان وسوريا من الانتداب مروراً بـ1967… ماذا عن الدور الروسي؟/ محمد علوش

عام 2011، أقدم لبنان على ترسيم حدوده البحرية مع سوريا منفرداً، ما استدعى أن تقوم الأخيرة بترسيم خاص بها، بعد تقديمها اعتراضاً لدى الأمين العام للأمم المتحدة، ورأت أن المرسوم اللبناني “لا أثر قانونياً ملزماً له تجاه الدول الأخرى ويبقى مجرد إخطار تعترض عليه الجمهورية العربية السورية”، مع إشارة من الجانب السوري إلى عدم رغبته في فتح الملف من دون استعادة العلاقات السياسية الطبيعية مع لبنان، فكانت النتيجة، احتمال خسارة ما بين 750 و1،000 كيلومتر من البحر شمالاً.

منذ الاستقلال إلى اليوم، مرّ ملف ترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان وسوريا بالكثير من المحطات، كما أنه كان على الدوام مادةً للصراع اللبناني-اللبناني الداخلي، وخاصةً بعد خروج الجيش السوري من لبنان عام 2005. سبق أن تناولنا ملف الحدود البحرية الشمالية، توازياً مع الترسيم البحري الذي أنجزه لبنان مؤخراً مع إسرائيل، فيما الحديث كثر في الأيام الماضية، خاصةً في أوساط رئيس الجمهورية ميشال عون، عن ترسيم حدودي بحري قريب مع سوريا، سرعان ما رد عليه الجانب السوري بتأجيل زيارة وفد لبناني إليه لمناقشة المسألة.

هكذا وُلد النزاع الحدودي

في ظل الانتداب الفرنسي، وفي أيلول/ سبتمبر من عام 1920، تم إعلان ولادة دولة لبنان الكبير بعد ضمّ ولاية بيروت مع أقضيتها وتوابعها (صيدا وصور ومرجعيون وطرابلس وعكار)، والبقاع مع أقضيته الأربعة (بعلبك والبقاع وراشيا وحاصبيا)، إليه، وأصبحت الخريطة على الشكل الذي نعرفه اليوم، والمساحة 10،452 كلم مربعاً. وعليه، قبل مئة عام أخذ لبنان شكله الحالي، وهو ما لم تحدده السلطات الفرنسية بشكل مباشر على أرض الواقع.

يقول المؤرخ الدكتور عصام خليفة، في حديثه إلى رصيف22، إن “مسألة الحدود هي علم قائم بحدّ ذاته، وهناك خمس مراحل تتعلق به: تعيين الحدود، وتحديدها وترسيمها وتثبيتها وإدارتها. مرحلة ما بعد إعلان دولة لبنان الكبير شهدت لجاناً فرنسيةً عدة عملت على الحدود، وأصدرت قرارات بضم قرى إلى لبنان وأخرى إلى سوريا”.

ويُضيف خليفة: “في فترة الانتداب تم إعداد محاضر “التحديد والتحرير”، على امتداد الحدود اللبنانية، وكانت المحاضر تُعدّ بالتعاون مع مخاتير القرى المقابلة على ضفتي الحدود بعد عرض الوثائق الثبوتية، بحضور قاضٍ عقاري سوري وآخر لبناني”، مشيراً إلى أن “الاتفاق على خلق نقاط حدودية لم يُنفذ بسبب الإهمال من قبل السياسيين اللبنانيين باستثناء يوسف السودا، وكذلك كميل شمعون، وأيضاً من الجانب السوري. فصحيح أن سوريا اعترفت في بروتوكول الإسكندرية بأن لبنان دولة مستقلة لكن بقيت عينها عليه كتوأم لها”.

لم يحسب المسؤولون اللبنانيون حساب الترسيم البحري مع سوريا، خاصةً في ظل عدم وجود أي اتفاق في شأن الترسيم البري، وما يؤثر عليه لناحية معادلات إقليمية مهمة تتعلق بمزارع شبعا التي يقول لبنان إنها من حقه، لكنه غير قادر على إثبات ذلك بسبب عدم ترسيم الحدود البرية الجنوبية مع سوريا. لذلك، عندما بدأ لبنان بالتفكير بعد العام 2005 والخروج السوري، في ترسيم حدوده البحرية، وقّع اتفاقاً مع قبرص عام 2007 لترسيم الحدود البحرية بينهما، ونص الاتفاق على أن يبدأ خط الحدود من النقطة 1 (الخط رقم 1 في الجنوب)، لا الـ23، ويتجه شمالاً، ومن النقطة 6 شمالاً بدل النقطة 7، وهو ما أوقع لبنان في الخطأ وجعله يعدّله عام 2011، مما خلق النزاع البحري مع العدو الإسرائيلي من جهة، ومع سوريا من جهة أخرى.

عندما عدّل لبنان عام 2011، حدوده بحسب معاهدة قانون البحار، عبر المرسوم رقم 6433، عاد إلى احتساب الحدود على أساس النقطة 7 شمالاً مع سوريا، الأمر الذي عارضته دمشق لأنه حصل من دون التنسيق معها أو التشاور في شأنه، فاعترضت على الترسيم عام 2014، في الأمم المتحدة، ورسّمت بحسب قانونها كونها ليست عضواً في المعاهدة، ووُلدت المساحة البحرية المتنازع عليها والتي تتراوح بين 750 و1000 كلم مربع.

يرى خليفة أن أهمية مسألة الحدود بدأت بعد حرب عام 1967، إذ أصبحت هناك معادلات جديدة وتغيير للحدود بعد توسع إسرائيل في الجولان ودخولها إلى بعض مزارع شبعا، إلى جانب المخططات الدولية، بالإضافة إلى بروز نوع من الحدّ من سيادة الدولة اللبنانية على حدودها مع الراحل ياسر عرفات، “ناس تدخل وتخرج”، مشدداً على أننا “لا نريد شيئاً من سوريا غير الإقرار بحدودنا، والمشكلات يمكن أن تُحل بالحوار، بالرغم من تأجيل السوريين الذين يعتقدون أن الوقت لصالحهم، ولكن الوقت ليس لصالح أحد”.

نزاع برّي أكبر وأصعب

في حال كان الحديث عن النزاع البحري بين لبنان وسوريا أمراً مستجداً طرأ خلال السنوات العشر الماضية، يبدو أن النزاع البري، وتحديداً في الجنوب اللبناني، أشد وأهم وأقدم، فكما ذكرنا في السابق لم تتمكن سلطات الانتداب الفرنسي من ترسيم الحدود على أرض الواقع، ومع بروز الصراع الإسرائيلي واحتلال إسرائيل لمناطق واسعة من لبنان وسوريا، برزت أهمية الترسيم بين الدولتين شرقاً وجنوباً.

عندما نتحدث عن الترسيم البري مع سوريا، يكون المقصود بالتأكيد مزارع شبعا المحتلة من قبل العدو الإسرائيلي الذي بدأ منذ العام 1967، بعملياته في المزارع لاحتلالها وتهجير سكانها، ونجح في ذلك عام 1989، إذ ظهرت المواقع العسكرية الإسرائيلية على مرتفعات المزارع التي تُعدّ إستراتيجيةً نظراً إلى موقعها بين المستوطنات الإسرائيلية والجولان.

قبل تحرير الجنوب عام 2000، لم تكن المزارع محطّ خلاف بارز. فبعد التحرير رسمت الأمم المتحدة “الخط الأزرق”، الذي لم يضمّ مزارع شبعا، عادّةً أن العدو انسحب من كامل الأراضي اللبنانية، وهو ما رفضه لبنان الذي يعدّ قسم منه أن المزارع لبنانية، والقسم الآخر الذي يعدّ أن سوريا لا تريد الترسيم البري لأنها لا تعترف بلبنانية المزارع، ولا تريد سحب ذريعة سلاح حزب الله الذي يقول إن المزارع لبنانية وعليه تحريرها.

في الأمم المتحدة وثائق تثبت لبنانية المزارع، وأخرى تثبت سوريتها، وتالياً لا يمكن حل هذا الخلاف من دون جلوس الأطراف المعنية على الطاولة والاحتكام إلى الوثائق والقوانين المعمول بها دولياً، وما يُعطي الموضوع أهميةً هو الخلاف الداخلي عليه، كون الرافضين لسلاح حزب الله يتمنون أن تكون المزارع سوريةً، وهم يتهمون النظام السوري بأن رفضه الترسيم يهدف إلى إعطاء ذريعة للسلاح، وتالياً فإن الترسيم في حال حصل، بغض النظر عن نتيجته، ستكون له تداعيات مهمة في الداخل وفي الخارج.

بدوره، يؤكد الدكتور عصام خليفة “لبنانية مزارع شبعا”، عادّاً أن إسرائيل لا تريد أن تنسحب منها، لأن لديها مشاريع سياحيةً، مشيراً إلى أن “الترسيم البري لا يرتبط بالترسيم البحري إنما يرتبط بالأطماع، فإسرائيل تطمع بالنفط والغاز وحرمون وموقعه الإستراتيجي، أي أن هناك أطماعاً توسعيةً، وعلى الدولة اللبنانية أن ترد وتدافع عن حقوقها التي يكفلها القانون الدولي سواء في الحدود البرية أو البحرية”.

الترسيم والدور الروسي

في لبنان انقسام عامودي حول العلاقات مع دمشق، وهو أمر ألقى بظلاله على ملف الترسيم الذي كان يتحرك بشكل خجول للغاية في السنوات الأخيرة. إنما بعد إنجاز الترسيم مع إسرائيل بوساطة أمريكية، والتواصل بين قبرص وبيروت لتصحيح الخطأ، عاد الترسيم مع سوريا إلى الواجهة من خلال قرار تشكيل وفد لبناني رسمي اتّخذه عون في أسبوع ولايته الأخير للتوجه إلى سوريا والبحث في المسألة، وحدد الوفد نهار الأربعاء الماضي موعداً للزيارة، لتأتي الصفعة من دمشق، ولو كانت بلون وردي، بإلغاء الموعد لأسباب ظاهرة تتعلق بالتنسيق بين البلدين، وباطنية تتعلق بما هو أبعد ويصل إلى حدود علاقات لبنان وسوريا، والدور الروسي في الترسيم والتنقيب في تلك المنطقة.

حاول السفير السوري في لبنان علي عبد الكريم علي، عقب زيارته عون، التقليل من حجم المسألة عبر القول: “إن الزيارة تأجلت ولم تُلغَ، وهناك لبس حول تشكيل وفد لبناني إلى سوريا وكيفية تبلّغ الخارجية السورية بطلب الزيارة في وقت متأخر الأحد، ومن ثم إعلان السلطات اللبنانية عن موعد الزيارة قبل مناقشته مع سوريا”.

يظنّ الباحث السياسي قاسم قصير، أن ترسيم الحدود البحرية مع سوريا أمر ممكن بغض النظر عن الموقف من الحدود البرّية، تماماً كما حصل في ملف ترسيم الحدود بين لبنان والعدو الإسرائيلي، إذ تم الاتفاق على البحر وتأجيل البحث في البرّ، لذلك لن تشكل الحدود البرية وتشعباتها وعلاقتها بالصراع اللبناني الإسرائيلي أي خطر على ترسيم الحدود البحرية.

ويشير قصير، في حديثه إلى رصيف22، إلى أن “مصلحة لبنان وسوريا على حدّ سواء تحتّم التوصل إلى اتفاق الترسيم، لأجل الهدف الأساسي وهو استخراج النفط والغاز، والدور الروسي قد يكون مساعداً في هذا الإطار. وبذلك تكون الظروف شمالاً مشابهةً للظروف جنوباً مع اختلاف الأطراف المعنية، إلا أن الأهداف هي نفسها، والترسيم يحقق هذه الأهداف، سواء مع سوريا، أو قبرص أو العدو الإسرائيلي”.

تكمن مصلحة كل الأطراف في تسريع الترسيم لبدء التنقيب واستخراج النفط، مع تحقيق مكاسب في السياسة خلال القيام بذلك. فسوريا لا تعدّ نفسها اليوم مستعجلةً على الترسيم في حال لم يسوِّ لبنان وضعه معها، مع العلم أن ما فقدته روسيا جنوباً من خلال نص الاتفاق على منع عمل أي شركة معاقبة دولياً، وخروج الشركة الروسية توفاتيك، من الحقل رقم 9، بسبب العقوبات التي تعرضت لها بعد الحرب في أوكرانيا، لن ترضى بفقدانه شمالاً، حيث ستحرص على حجز موقعها في التنقيب من جهتي الحدود اللبنانية-السورية، بالرغم مما يؤكده قصير من أن الحصة الروسية في الحقول الشمالية اللبنانية لن تحرك أي فيتو أمريكي في وجهها، ولن تؤثر على قرارات لبنان.

من جهته، يشدد خليفة على أهمية الدور الروسي الذي يتولى عملية الاستخراج في المنطقة الاقتصادية السورية، وهو أيضاً يعمل على تأهيل مصفاة النفط في طرابلس، وعلاقتنا جيدة مع الروس، وتجب الاستفادة من ذلك كما يجب أن تكون العلاقات جيدةً مع الأمريكي، بعيداً عن الصراعات والمحاور الدولية والإقليمية.

ويضيف: “سوريا لم تقُم بترسيم نهائي، وتالياً لا أظن أن ترسيم الحدود الجنوبية بصعوبة ترسيم الحدود الشمالية”، يقول خليفة، مشيراً إلى أنه “يمكن للبنان أن يعقد اجتماعاً مع خبراء سوريين، ونحاول التوصل إلى حل، وإذا لم نتمكن، نُرسل الملف بكل أخوّة إلى محكمة البحار الدولية التي تتولى الحكم في المسألة”.

فهل تُحلّ أزمة الحدود الشمالية “حبّياً”، أم يختلف الجاران حول الثروات؟

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى