أبحاث

العقل السياسي للمعارضة السورية/ سليمان الطعان

ينبغي الاعتراف بحقيقة ربما يتحاشاها الكثيرون، ويتعالى جمهور الثورة على الاعتراف بها، وهي أن الحراك الثوري العربي بمجمله، أو الربيع العربي كما شاعت تسميته، لم يكن يستهدف إحداث تغييرات جذرية في المجتمع على كل الصعد، لا من ناحية إعادة توزيع الثروة، ولا من ناحية الحريات الاجتماعية، ولا من زاوية الحريات السياسية التي كانت الملمح الأبرز في ذلك الحراك، فكل ما كان يطلبه الشباب الثائر أو المنتفض دولا أقل قمعا، تسمح بنوع من حرية التعبير وانتقاد أجهزة الدولة ولاسيما أجهزة المخابرات، دون التعرض للاعتقال أو الإعدام.

لم تكن الحالة السورية بعيدة من هذا التوجه العام، وبقي هذا المكون الأولي حاضرا، فلم يتغير العقل السياسي حتى في المرحلة التي تحولت فيها حركة الاحتجاج إلى ثورة مسلحة، وحمل فيها الثائرون السلاح دفاعاً عن أهلهم ومناطقهم، إذ ظل الطلب الرئيس للثوار إسقاط الأجهزة الأمنية والجيش، بعد أن ثبت أن تركيبتهما الطائفية هي التي أسهمت في ارتكاب مجازر بحق أفراد الشعب السوري، ولعل هذه هي النقطة الوحيدة التي ماتزال محل إجماع لدى جمهور الثورة والفصائل التي تسيطر على الشمال السوري على اختلاف توجهاتها.

أدى هذا التوجه أو هذا المحدد الذي حكم العقل السياسي للثورة إلى نكسات على المستوى السياسي سنلاحظها في الركون إلى وهم الحل السياسي، وهو ركون ربما كان له أسباب خارجية كالمتغيرات الدولية والهزائم التي منيت بها قوى الثورة ولا سيما المسلحة منها، ولكن كل هذا ما كان ليحصل لولا أن العقل السياسي للمعارضة السورية عقل إصلاحي لا يتبنى التغيير الجذري للأوضاع.

هذا التوجه الإصلاحي حتى لدى جمهور الثورة سرعان ما تلاقى مع العقلية الإصلاحية للمعارضة التي تميل بحكم طبيعتها إلى الحلول الوسط، والتوافق مع السلطة على تركيبة جديدة للحكم، لا تتضمن تغييراً في المستوى الاقتصادي ولا في المستوى الاجتماعي، وإنما يجري فيها إعادة تلفيق يتم من خلالها إشراك المعارضة في جزء من السلطة، ومن ثم الثروة. لهذا السبب الكامن في جوهر الثورة، تحولت الثورة إلى معارضة قبلت بالجلوس والتفاوض مع الأسدية. وهو أمر لا يمكن أن تقوم به ثورة تهدف إلى تغيير كلي في المجتمع.

المحدد الثاني الذي تحكّم بأداء المعارضة السورية، والذي يشكل أحد أركان العقل السياسي لها، أنها تعاملت مع العمل السياسي والدول من منطلق العمل الخيري، ولم يكن هذا التعامل نابعا من حجم المأساة السورية وكثرة المتضررين وأصحاب الحاجات، فالأمر له جذور أعمق يرتبط بالتكوين التاريخي للمعارضة السورية نفسها.

بسبب دوافعها الإصلاحية لا الثورية كما أشرنا، أسلمت “القوى الثورية” قيادة العمل السياسي لشخصيات خرجت من البلاد منذ أكثر من ربع قرن، ظناً منها أن تلك الشخصيات أكثر دراية بالعمل السياسي، وأنها تمتلك ارتباطات مع الدول الخارجية تمكنها من التعامل مع تلك الدول والحصول منها على مكتسبات تخص “العمل الثوري”، ولاسيما في ظل تصحر الحياة السياسية السورية في الداخل. ولكن المعضلة أن المعارضة الخارجية كانت خارج الفعل السياسي والعمل السياسي أصلاً، إذ تحولت نحو الأعمال الخيرية وإنشاء الجمعيات التي تعنى بمساعدة أفرادها المحتاجين. بهذه العقلية أدارت المعارضة الخارجية “العمل الثوري”، وتعاملت معه، وهو ما أفقد العمل السياسي فاعليته. إن المعارضة الخارجية ذات باع طويل في العمل الخيري والاجتماعي، ولكنها معطوبة من الناحية السياسية، ولاسيما في ظل ابتعادها الطويل عن الشارع السوري، وعدم معرفتها بطريقة إدارة الأمور داخل سوريا.

هذا الجانب الخيري، أو هذا المحدد الخيري الذي تحكم بأداء المعارضة، انعكس على التحالفات التي أقامتها، إذ نظرت إلى الشركاء والحلفاء المحتملين، فاختارت عقد تحالفات تقوم على تغليب الجانب الأخلاقي لا السياسي، تحالفات تستند إلى روابط دينية وقومية، سلمت بموجبها أوراق الضغط والقوة للحلفاء. كانت قيادة المعارضة تعتقد أو تظن أن التفوق الأخلاقي للثورة عموماً لا يبيح لها أن تتحالف مع دول وقوى لديها معايير سياسية مغايرة لما تطرحه الثورة، وهو خطأ جسيم وقعت فيه المعارضة، ذلك أن تحالفاتها أوقعتها في خسائر جسيمة كان من الممكن تجنبها عبر تغليب السياسي على الأخلاقي.

لقد كانت المعارضة تتعامل مع الدول وكأنها جمعيات خيرية، ولم تتخيل أن الدول التي يمكن أن تقف معها اليوم استناداً إلى مصالحها أو مشاريعها في المنطقة ربما تتخلى عنها غداً إن تعرضت مشاريعها للخطر، أو إن وجدت قوى أخرى تحقق مصالحها حتى لو كان نظام الأسد نفسه.

المحدد الثالث الذي يوجه العقل السياسي لدى المعارضة هو الركون إلى عامل الزمن أو الوقت. الركون إلى عامل الوقت وانتظار تبدل المعطيات والمتغيرات والمواقف ركن أساسي من أركان التفكير السياسي لدى الأسدية، وهو ركن لا يمكن أن ينجح إلا في ظل أنظمة ديكتاتورية شمولية لا تعنيها مصالح شعوبها، حتى إن كلفها عامل الزمن خسائر على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والتنموية، لأنّ ما يعني تلك الأنظمة هو بقاؤها في سدة الحكم. وقد انتقل هذا العامل إلى سلوك المعارضة السياسي.

إن ما قام به النظام من تدمير لسوريا دولة ومجتمعاً لا يسمح له أبداً أن يكون جزءاً من مستقبلها، لأنه دمّر إمكانات وجوده واستمراره. وانطلاقاً من هذه الحقيقة، لجأت المعارضة إلى لعبة الوقت والانتظار، ريثما يتجاوز النظام عتبة العودة إلى الحياة، وريثما ترفع القوى الدولية والإقليمية الغطاء عنه، لأسباب منها عجزه عن إدارة دولة يخشى من انفلات الأمور فيها، وخروج الوضع فيها عن نطاق السيطرة، ويأس القوى الحليفة له من إعانته وإمداده بما يحتاج إليه من مقومات بقاء نراها اليوم في أزمة الطاقة التي تشل المناطق التي يسيطر عليها النظام. واستناداً إلى هذا المحدد، تتوقع قيادة المعارضة أن العالم سيأتي في تلك اللحظة ليسلمها قيادة البلد، دون أن تدرك أنه لن يكون لديها بلد لتحكمه آنذاك.

يفترض بالفاعل السياسي أن ينظر دائماً إلى المحددات التي توجه عمله، ولعل من أسوأ ما تعرضنا له في خلال السنوات الماضية من عمر الكارثة السورية أن حجم الألم والكوارث لم يسمح لنا أن نقوم بمراجعات حقيقية تصحح المسار الذي نتجه فيه، وقد جاء أوان ذلك.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى