سياسة

إيران واستغاثة البصل السورية/ عمر قدور

يكتب صديق مقيم في الداخل السوري، الواقع تحت سيطرة الأسد، أن البصل المفقود من الأسواق السورية قد يعود إلى الظهور في أسواق دول غربية أو عربية، إنما بعد أن يُحشى بالكبتاغون. بينما يعلّق آخر، من الداخل السوري أيضاً، بالقول: الأمل بالبصل. القول الأخير استخدمه البعض كوَسْم على وسائل التواصل، وهو تحوير ساخر للشعار الذي أعلنه بشار الأسد لولايته الرئاسية الجديد “الأمل بالعمل”.

كانت سيرة البصل قد تفاقمت بعد قرار السلطة بيعه، بأسعار قيل أنها مخفّضة، على ما يُسمّى “البطاقة الذكية”. وفي مواجهة السخرية والانتقادات نشرت وزارة التموين على موقعها أن “كل دول العالم تستخدم البطاقات لشراء أي شيء”، في تعمية عن الفرق بين بطاقتها والبطاقات البنكية، أو بطاقة زبون لشركة ما.. إلخ. وصلت السخرية في الداخل إلى المقارنة بين غلاء البصل وفقدانه، كناية عن باقي السلع الغذائية، وبين توفر الكبتاغون ورخصه، لإظهار أن غلاء الغذاء ورخص الكبتاغون متلازمان ومن فعل جهة واحدة.

نضيف، لمناسبة رمي المسؤولية على جهة واحدة، ما أوردته وكالة سانا في صدارة أخبارها يوم الاثنين بعنوان: بتوجيه من الرئيس الأسد وزير العدل يتفقد مبنى القصر العدلي في اللاذقية. في تفاصيل الخبر أن الوزير بتوجيه من رئيسه، حاشا أن يكون بمبادرة منه، قد ذهب لتفقد المبنى المذكور بعد مرور شهر فقط لا غير على وقوع الزلزال.

ربما يصحّ أن نسميه الزلزال المبارك لكثرة ما استفاد منه الأسد، معنوياً بزيارات وفود عربية، ومادياً بالمساعدات التي وصلت إلى غير مستحقيها أو غير الذين بأمسّ الحاجة لها، بالإضافة إلى إعفاءات ولو مؤقتة من العقوبات الغربية. ألا يظهر أثر ولو طفيف لذلك كله، فالأمر لا يتوقف عند مألوف الفساد، فإما أن الفساد تفاقم إلى مستوى يهدد السوريين بالمجاعة، أو أن التدهور في اقتصاد الأسد فاق بمراحل تلك الجرعات المسكِّنة التي لا تنفع مع داء السرطان. ثم إننا لا نستبعد تضافر الاحتمالين السابقين، مع انعدام النية لضبط أي منهما، بمعنى أن هذه الطغمة غير قادرة على أن تكون سوى ما هي عليه حالياً.

كلما أثير الحديث عن التدهور الاقتصادي والمعيشي، يُستحضر الحليف الإيراني الذي لطالما أنقذ الأسد من أزمته الاقتصادية الخانقة، بموازاة التدخل العسكري لإنقاذه. حدث هذا مع فقدان الوقود، بل إلغاء أيام دوام للموظفين والطلاب وإلغاء امتحانات بسبب فقدانه شبه المطلق، وأُشيع حينها أن الحليف الإيراني أبلغ الأسد توقفه عن تقديم الهبات، وأنه يريد الثمن فوراً، بالاستيلاء على المزيد من الأصول السورية أو القطاعات الرابحة، إن لم يكن التسديد نقداً.

في غضون ذلك توارى الحديث عن الحليف الروسي المتورط في أوكرانيا، رغم أنه يملك الكثير من مخزون النفط الكاسد بحكم المقاطعة الغربية. تحرّكُ موسكو الملموس كان خلال الفترة نفسها مكرّساً لدعم التطبيع بين أردوغان والأسد، وكانت موسكو في وقت أبكر قد بذلت جهوداً لدى العديد من العواصم العربية الفاعلة من أجل الهدف نفسه، وقد يكون تغير موقف الرياض كما أشيع مؤخراً واحداً من ثمار تلك الجهود. أيضاً ظهرت موسكو كأنها مستنكفة عن الاستمرار في إنعاش اقتصاد الأسد، مع التعويل على فك العزلة عنه كي يصير في وضع أقلّ بؤساً.

كأن ما تقوله طهران، وموسكو أيضاً، أن مهمة إنقاذ الأسد من السقوط عسكرياً قد تمت، وبقيت مهمة انتشاله من السقوط الاقتصادي التام. وهذا كما نرى ينطوي على تناقض، لكون حلفاء الأسد يريدون له الدعم ممن كانوا أعداءه حتى الأمس القريب. أبعد من ذلك، تريد طهران وموسكو استرداد ديونهما وفق السيناريو الوردي عن تدفق الأموال من أجل إعادة الإعمار. والحق أن لا شيء يحل التناقض الصارخ سوى الإيمان بنظرية المؤامرة، والاعتقاد أن إيران وروسيا حاربتا في سوريا نيابة عن واشنطن وسواها ممن ادّعوا صداقة “الشعب السوري”!

ما هو مؤكد حتى الآن أن الغرب لا يريد تلبية رغبات حليفي الأسد، والأسد متروك مع العقوبات الغربية واقتصاده المنهار حتى إشعار آخر، وهو أجلٌ قد يمتد طويلاً جداً لأنه بلا أدنى خسارة لواشنطن وعموم الغرب. وواضعو العقوبات يدركون أن الأسد لن يستجيب لها أبداً، والأصل في فرضها أن يتململ حلفاؤه من عبئه عليهم، وأن يجبروه على الذهاب إلى عملية تفاوض حقيقية حسبما هو معلن، والأرجح أن المطلوب هو قيام حليفيه بالتفاوض لأن الثقة منعدمة بدخوله مفاوضات حقيقية.

نذكّر بأن واشنطن قد سعت قبل سنوات إلى تصفير قيمة الأسد، وقد أتت تصريحات من طهران ثم من موسكو تصب في المنحى ذاته إذ تعلن أن بقاءه لم يكن ممكناً لولا تدخل كلٍّ من القوتين على التوالي لإنقاذه. الآن، مع المغزى الرمزي لفقدان البصل الذي كان يُضرب المثل بتوفره وتدنّي سعره، تظهر سلطة الأسد على المقاس ذاته؛ تظهر منعدمة القيمة بنظر الخاضعين لها؛ الساخرين منها رغم احتفاظها بكامل جيشها ومخابراتها.

السؤال الذي يُطرح، مع هذا الانهيار التام، هو لماذا لا تتدخل إيران لإنقاذ الوضع؟ أو لماذا لا يكون هناك تفاهم إيراني-روسي لإنقاذ الوضع؟ نعني بالسؤال إنقاذ ما يسيطرون عليه من سوريا من الخراب المستفحل، وهي خطوة لا يُستبعد أن تضمن أرباحاً أكبر بكثير من ترك الوضع يتعفن إلى ما لا نهاية. الآن، أكثر من أي وقت مضى، تبدو تنحية الأسد شرطاً لازماً وضرورياً لإنقاذ الواقعين تحت سيطرته، وفي مناطق السيطرة هذه هناك منتصر هو القادر على التغيير، ولا نقصد بذلك التغيير الديموقراطي المنشود، وإنما إعادة تدوير السلطة بمعزل عن الأسد، لأن مشروع إعادة تدويره يسير من فشل إلى فشل.

قد يكون هذا هو اليوم السيناريو الوحيد الذي يمكن تنفيذه، وفي المقابل منه يمكن الحصول على تنازلات عن العديد من الشروط الغربية لرفع العقوبات، وضمان انسحاب القوات التركية والتطبيع مع كافة البلدان العربية. لكننا نعلم أن طهران لن تصغي إلى استغاثة البصل السورية، في حين أن حرب موسكو الأوكرانية تجعلها أكثر تصلباً وجموداً. وحدها طهران بالاتفاق مع موسكو يمكنها فتح مسار آخر سوى “الأمل بالبصل”، إذا امتلك الطرفان قليلاً من فروسية المحتل المنتصر. السيناريو الآخر هو بقاء الوضع على ما هو عليه وتصفير قيمة الانتصار، وأن يكتشف السوريون خطأهم عندما ظنوا من قبل أنهم وصلوا إلى الحضيض.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى