منوعات

«ساعة القيامة» بين الكارثة النووية وغنائيات البنتاغون/ صبحي حديدي

«ساعة القيامة» في تعريفها الموسوعي المبسط والشائع دولياً، هي أداة توقيت رمزية ترصد دنوّ الكوارث الكبرى التي من صنع أيدي البشر، على غرار اندلاع حرب نووية لا تُبقي ولا تذر مثلاً؛ وهي، منذ أن ابتدعها في سنة 1947 أعضاء «نشرة العلماء النوويين» جهاز مجازي يحدد عدد الدقائق أو الثواني التي تفصل البشرية عن منتصف ليل الكارثة/ القيامة، وذلك في كانون الثاني (يناير) من كلّ عام. وكما هو معروف، كانت الساعة تلك قد تعدلت 17 مرّة ضمن معدلات زمنية أقلّ أو أكثر، كانت القيمة الأبعد فيها 17 دقيقة سنة 1991، والأدنى (التي أُعلن عنها يوم 24 كانون الثاني/ يناير هذه السنة) كانت 90 ثانية قبل منتصف الليل.

الحكاية ليست لعبة، بالطبع، والمؤكد أنها ليست وسيلة ترهيب وردع على المستوى الشعوري في أقلّ تقدير؛ وزائر موقع «نشرة العلماء النوويين» على الإنترنت سوف يجد الكثير من المعطيات الجادّة، الملموسة الموثقة أوّلاً، والخطيرة المفزعة استطراداً. والسادة العلماء يسوقون عدداً من العوامل الكونية التي دفعتهم إلى تقصير أجل «القيامة النووية» إلى 90 ثانية فقط، على رأسها الحرب في أوكرانيا واحتمالات تصعيد المواجهة العسكرية الروسية ـ الأمريكية، أو الروسية ـ الأطلسية، وكذلك التهديدات المتزايدة الناجمة عن أزمة المناخ، والانكسار التدريجي للنُظم العالمية التي تحتاج إليها الإنسانية من أجل ضبط انفجارات التطور التكنولوجي والأخطار البيولوجية على شاكلة كوفيد ـ 19. راشيل برونسون، الرئيسة والمديرة التنفيذية للمعهد الذي يصدر النشرة، لا تتردد في التصريح هكذا: «نحن نعيش في زمن من الخطر غير المسبوق، وتوقيت ساعة القيامة يعكس الواقع الفعلي. 90 ثانية نحو منتصف ليل القيامة هو الأقصر الذي بلغته الساعة، وهذا قرار لا يحمله علماؤنا على محمل الخفّة».

ربما على محمل الجدّ الأقصى، بالفعل، غير أنّ المرء لن يجد عناء في تلمّس «خفّة» من طراز مختلف لا يعتمد ساعة منبّه من أيّ نوع، بل لعله لا يكترث كثيراً بالرمز أو المجاز في تحذير المعمورة من الانزلاق المضطرد نحو الكارثة؛ وهذا إذا اختار المرء وضع نبوءات «نشرة العلماء النوويين» جانباً، وذهب إلى أرلنغتون، ولاية فرجينيا، حيث مقرّ البنتاغون، وزيارة الموقع الرسمي لوزارة الدفاع الأمريكية على الإنترنت، وتصفّح بعض تفاصيل التقرير المسمّى «ستراتيجة الدفاع الوطني» لأيّ سنة يشاء، ولكن 2008 على وجه الخصوص. ولسوف يقرأ، في المستهلّ، مقدّمة جيو – سياسية تتغنّى بـ 230 سنة قضتها القوّات العسكرية الأمريكية وهي تلعب دور الحصن المنيع المدافع عن الحرّية والفرصة والرخاء داخلياً، ودور المساند الأقوى للراغبين في حياة أفضل على نطاق العالم بأسره؛ حين كانت أمريكا هي «النبراس المضيء في الأماكن المظلمة». كذلك سوف يجد فصولاً لاحقة، تتحدّث عن البيئة الستراتيجية، والإطار الستراتيجي، والأغراض الستراتيجية، وإمكانات الوزارة ووسائلها، وإدارة الأخطار…

والحال أنّ قارئ التقرير يمكن أن يخرج بانطباع يفيد بأنّ العالم في عقيدة البنتاغون لم يتغيّر كثيراً منذ سقوط جدار برلين وانهيار نظام القطبين وأفول الحرب الباردة، حتى لتبدو الصورة وكأنّ الإنسانية لم تغادر العام 1988 إلا زمنياً فقط، وليس جيو ـ سياسياً أو جيو ـ عسكرياً. عالم واحد ثابت، وإلى الجحيم بأيّ وجميع المتغيرات والهزّات والانقلابات، دولية كانت أم إقليمية، داخلية أمريكية أم خارجية كونية، إيديولوجية أم سياسية أم ثقافية… وبالمعنى العسكري، وهو ميدان البنتاغون وعلّة وجوده، العالم كما هو في اعتبارات شتى مركزية، لأنه ببساطة (أي: بتبسيط عن سابق قصد وتصميم) صورة طبق الأصل عن الحال ذاتها التي اقتضت، قبل أعوام وعقود، إعداد سيناريوهات تعبوية وقتالية ولوجستية لمواجهة… حلف وارسو!

مثير، أيضاً، مقدار التشابه بين التقارير السنوية وتلك التي اعتادت الوزارة رفعها إلى الكونغرس كلّ أربع سنوات، وتأخذ صفة البرنامج العقائدي والعسكري والتكنولوجي والإداري والمالي طيلة السنوات الأربع اللاحقة. ومن المعروف أنّ عقود الحرب الباردة جعلت تحرير مثل هذه التقارير مسألة روتينية للغاية، لأنّ العقيدة لم تكن تتغير في قليل أو كثير ما دام الخصم على حاله، وما من حكمة تبرر تجميد هذا الخطّ أو ذاك في الصناعات العسكرية، بل الحكمة كلّ الحكمة في تطوير أجيال الأسلحة وفق مبدأ هنري كيسنجر الشهير: لا تتوقفوا عن تطوير الأسلحة، وسيضطرّ الشيوعيون إلى اللحاق بنا، حتى يأتي يوم تفتح فيه السيدة الروسية الثلاجة فلا تجد سوى الجليد والرفوف الخاوية. سيدة تلك الأيام، السوفييتية كما يصحّ التذكير، ليست هي ذاتها سيدة روسيا فلاديمير بوتين غنيّ عن القول؛ وهي، أيضاً، ليست ابنة عمّ السيدة الأوكرانية أو الجورجية أو مواطنة روسيا البيضاء وجزيرة القرم…

على مستوى العقيدة العسكرية كانت الرؤية الدفاعية، وتحديداً في عهد رونالد ريغان وطور «حرب النجوم» قد نهضت على مفهومين ستراتيجيين:

– أشكال التعامل مع النزاع الخفيف Low Intensity Conflict أو LIC، والذي لقي اهتماماً محدوداً في السبعينيات إثر هزيمة فييتنام، لكنه اكتسب حيوية خاصة في مطلع الثمانينيات مع إحياء اهتمام البيت الأبيض بالعالم الثالث. ريغان، من جانبه، ارتقى بالمفهوم ليعطيه أولوية عسكرية في ولايته الثانية، حين انتقل اهتمام الإدارة من سباق التسلح النووي إلى التسابق على اجتذاب أنظمة الجنوب، خصوصاً تلك التي كانت موالية للاتحاد السوفييتي.

– أشكال التعامل مع النزاع المتوسط Mid-Intensity Conflict أو MIC، وهو القتال الذي تخوضه القوات الأمريكية ضدّ قوى كبرى في العالم الثالث. وإذا كان الـ LIC مخصصاً لمواجهة ضروب حرب العصابات والجيوش الصغيرة المحدودة (كما في مثال باناما) فإن الـ MIC مخصص لحرب واسعة النطاق تشترك فيها قوّات وصنوف وأنظمة قتالية عالية المستوى والتدريب والتسليح (كما في مثال العراق، ذات حقبة سابقة).

في القسم التمهيدي الذي يحمل عنوان «البيئة الأمنية العالمية» ظلت تقارير البنتاغون تقول: «مع اقتراب القرن الحادي والعشرين تواجه الولايات المتحدة مناخاً أمنياً ديناميكياً وغير مضمون، حافلاً بالفرص مثل التحديات. ففي الجانب الإيجابي نحن في طور الفرصة الستراتيجية. لقد تراجع خطر الحرب الكونية، وقيمنا في الديمقراطية التمثيلية واقتصاد السوق يتمّ اعتناقها في العديد من أطراف العالم، الأمر الذي يخلق فرصاً جديدة من أجل السلام والرخاء وتوطيد التعاون بين الشعوب. ودينامية الاقتصاد العالمي تتسبب في تبدّل التجارة، والثقافة، والتفاعلات المتبادلة على نطاق عالمي. وإنّ تحالفاتنا، مع الناتو واليابان وكوريا، تتأقلم بنجاح مع التحديات الراهنة، وتؤمّن الأساس لبناء عالم مستقر ورغيد (…) ومع ذلك فإنّ العالم يظلّ مكاناً بالغ الخطورة وغير مضمون، ومن المرجح أن تواجه الولايات المتحدة عدداً من التحديات الهامة لأمنها ومصالحها».

هذه، غنيّ عن القول، غنائيات مستعادة متكررة متماثلة لم يتوقف البنتاغون عن إعادة استنساخها، سواء كان قيصر روسيا المعاصر جالساً على مبعدة بوصة واحدة من أزرار إطلاق القنبلة النووية؛ أو كان يلقي خطاباً في مؤتمر ميونيخ للأمن سنة 2007، ينطوي على هجاء مقذع لأحادية القطب الأمريكية؛ أو في صيغة وسيطة قبلها، سنة 1994، حين انضمت موسكو إلى برنامج «الشراكة من أجل السلام» ووقعت سلسلة اتفاقيات مه الحلف الأطلسي. الأكيد، إلى هذا وذاك، أنّ ثواني ساعة القيامة التي تقف اليوم عند 90 ثانية من منتصف ليل الكارثة، ليست البتة شريكة في توافق من أيّ طراز مع غنائيات البنتاغون.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى