سياسة

هل بات القرار (2254) ضفة الأمان للمعارضة السورية؟/ حسن النيفي

لم يكن مُستبعداً ان تشهد الحالة السورية حراكاً من نوع ما، وذلك على إثر التغيّرات الإقليمية والعربية التي أظهرت نزوعاً شبه عام نحو إعادة العلاقات مع نظام الأسد، ومن ثم إعادة تسويقه وتعويمه، وواقع الحال يؤكد أن ردّات الفعل السورية، ونعني في الوسط المناهض لسلطة دمشق، لم تكن تمضي على نحو واحد، بل حملت الكثير من التباينات، إذ يمكن التمييز بسهولة بين ردّات الفعل الشعبية وخاصة في المناطق التي لا تخضع لسلطة الأسد وكذلك في بلدان اللجوء وأماكن النزوح، وبين الكيانات الرسمية للمعارضة سواء في الشطر السياسي منها أو العسكري، ففي حين حملت الأولى سمات السّخط ونبرة عالية من الإحساس بالخذلان، ولم تتردّد بالتعبير عن الشجب والاستنكار، ولعل هذا هو السقف الذي يمكنها بلوغه في ضوء تجرّدها من أية وسائل أخرى، أو ربما ليس مطلوباً دوما من الحالة الجماهيرية أن تكون البديل عمن يفكر ويخطط ويتولى مسؤولية القيادة، بالمقابل وجدنا من جهة أخرى موقفاً مرتبكاً يشوبه الكثير من التردّد، ومزيداً من الحرج والحيرة لدى الكيانات الرسمية للمعارضة.

ولعل مصدر الحرج الأكبر يتأتى من أنها لا يمكن لها أن تشجب التطبيع مع النظام وتستنكره إن بادرت به دول وجهات عربية، وفي الوقت ذاته تباركه، أو على الأقل تكتفي بالسكوت وغض الطرف فهي مرتبطة بجانب إقليمي آخر ما تزال تعمل على التنسيق معه خلال سنوات، ونعني بذلك الدولة التركية التي يتخذ الائتلاف مقراً له على أراضيها وهي الراعية والموجهة لكل مساراته.

ولكن يبدو أن فترة الصدمة الأولى قد تبدّدت شيئاً فشيئاً، وربما أيضاً أدركت المعارضة السورية أنه لا بدّ لها من تحرّك لتبديد الشعور لديها ولدى الآخرين بأنها ما تزال موجودة وفاعلة، ولا يمكن لأي حراك إقليمي أو دولي يجاوز دورها باعتبارها قوى تمثل الثورة أمام المرجعيات الدولية، فكان أنْ بادرت هيئة التفاوض إلى لقاء يجمع منصاتها بعد سنتين شهدتا خلافات مبعثها مشكلة المستقلين الذين حاولت السعودية استبدالهم عام 2019، وربما لأسباب أخرى، وكان الهدف  من اجتماع هيئة التفاوض في الثاني والثالث من حزيران الجاري في جنيف هو الضرورة التي توجب على المعارضة السورية أن تظهر بمظهر المتماسك وأن يكون لها موقف موحّد سواء من عملية التطبيع مع نظام الأسد، أو من الحل السياسي الذي تطرحه بعض الأطراف العربية استناداً إلى مبدأ (خطوة مقابل خطوة)، وبالفعل فقد تضمن البيان الختامي لهيئة التفاوض موقفاً واضحاً يؤكّد تمسّكها بالمرجعية الأممية للحل السياسي، المتمثلة بالقرار ( 2254 ) وكذلك برفضها التطبيع المجاني مع الأسد دون البحث في قضية المعتقلين والمغيبين وتأمين الضامن الحقيقي  لعودة اللاجئين، وبصدور البيان المذكور تشعر هيئة التفاوض أنها قد أنجزت ما عليها من استحقاق حيال التغيرات الإقليمية الأخيرة، كما تعتقد أن الوصول إلى التمسك بالقرارات الدولية لعله يكون هو المبتغى في المدى المنظور نظراً لعدم وجود أوراق قوة أخرى تتيح لها الذهاب أبعد من ذلك.

في حراكٍ آخر موازٍ لاجتماع هيئة التفاوض، شهدت العاصمة الفرنسية باريس في الخامس والسادس من حزيران الجاري لقاءً لمئة وثمانين شخصية تنحدر ممّا يطلق عليه (منظمات المجتمع المدني) تحت شعار (مدنيّة) برعاية مباشرة من رجل الأعمال السيد أيمن الأصفري، وكانت الغاية المُعلنة من وراء هذا اللقاء هي البحث عن (أحقية سياسية للفضاء المدني) حتى يكون فاعلاً ومؤثراً في صياغة أي قرار مصيري يمس البلاد، وذلك وفقاً للقائمين على لقاء مدنيّة، وقد حمل البيان الختامي الصادر عن اللقاء في تضاعيفه مطالب تؤكد على البحث في مصير المعتقلين والمفقودين لدى نظام الأسد، كما يبدي البيان تمسّكه بالقرار الأممي 2254 كمرجعية لأي حل سياسي وذلك في سياق رفض كامل لعمليات التطبيع المجاني مع نظام الأسد.

ما هو لافتٌ أنه على الرغم من تباين البنى التنظيمية لكلا اللقاءين، اجتماع هيئة التفاوض في جنيف، ولقاء مدنيّة في باريس، فإنه ثمة شبه تطابق فيما يخص المخرج السياسي، إذ كلا الطرفين يرفض التطبيع ومحاولات التعويم المجاني لسلطة الأسد، وكلاهما أيضاً يؤكّد على تمسّكه بالمرجعيات الأممية كإطار للحل السياسي، وربما كلاهما ينظر إلى صنيعه باعتباره المنجز الأمثل في الردّ على المآلات الموجعة للقضية السورية، فهل أصبح القرار (2254) هو بالفعل ضفة الأمان ومبعث الاطمئنان والسقف النضالي لقوى المعارضة السورية، سواء السياسية ذات الطابع الرسمي كهيئة التفاوض والائتلاف، أو الطامحة في البحث عن (أحقية سياسية) كلقاء مدنيّة؟ ربما كان الجواب نعم، ليس لأن القرار المذكور يحمل في طياته حلّاً سحريا يلبي تطلعات السوريين وليس كذلك لأنه قادر على وضع حدّ لمأساتهم، بل –  ولعله الأهم – لأنه لا يحظى بأدنى فرصة لترجمته أو تجسيده على واقع الحال السوري، إذ إن كل ما يجري من حراك إقليمي وعربي ودولي لا يشي بأي بوادر تدل على الرغبة في تنفيذه، فخطوات التطبيع بين العرب ونظام الأسد تمضي إلى الأمام، ولا حديث ذا طابع جدّي من أي طرف عربي عن ضرورة أن تتزامن العودة إلى الأسد، لا مع تنفيذ القرار المذكور، ولا حتى مع مبدأ (خطوة مقابل خطوة) كما سبق أن قيل، وكذلك لا بدّ من الإشارة إلى غياب أي معارضة أميركية جدّية وملموسة لخطوات التطبيع مع الأسد، فما الجدوى الحقيقية إذاً من وراء التمسّك الذي تبديه الأطراف المعارضة السورية بهذا القرار؟

قد لا يبدو غريباً ألّا تكون المطالبة بتنفيذ القرار الأممي (2254) ضفة أمان ومبعث ارتياح لكيانات المعارضة السورية ومنظمات المجتمع المدني فحسب، بل كذلك لنظام الأسد أيضاً، فسلطة دمشق التي قبلت بالقرار المذكور شكلاً، من خلال مشاركة وفدها في لقاءات اللجنة الدستورية، ترفضه من حيث المضمون من خلال التفافها الدائم عليه والعمل على مشاغلة المجتمع الدولي وإيهامه بأنها تقبل بالعملية السياسية التي لا تعني لها سوى غطاء سياسي لمنهجها الأمني الذي لم يتوقف حتى الساعة، فضلاً عن إدراكها أن القرار المذكور ولد ميتاً منذ أن ضمنت قدرة الروس الدائمة على تعطيل أي قرار في مجلس الأمن يمسّ مصالح النظام أو يجبره على تنفيذ أي قرار أممي، كما  تدرك أيضاً المجال الزمني الهائل الذي يتيحه القرار المذكور أمام الأسد للمناورة والمشاغلة، ولعله من المؤكد – في ضوء ذلك – أن يبدو الأسد أكثر ارتياحاً وانشراحاً حين يدرك أن اكتفاء المعارضات بالمطالبة بتنفيذ القرارات الأممية بات لا يتجاوز حالةً شعاراتية لا أكثر قد لا تختلف من حيث الجدوى بشعاراته ذات الصلة بالممانعة والمقاومة. أمّا مبعث الراحة والاطمئنان الذي يحمله القرار المذكور للمعارضات سواء أكانت تفاوضية أو مدنية، فيتجلّى في أن تلك المعارضات تدرك في قرارة ذاتها أن البنية ذات الطابع الإبادي الدموي لنظام الأسد لن تتيح له بالمطلق أن ينفذ أي قرار أممي لا جزئياً ولا كلياً، كما تدرك جيداً أيضاً أن لا جدوى – في المدى المنظور على الأقل – من انتظار أي دور دولي لتشكيل ضغط فاعل يدفع باتجاه إجبار حاكم دمشق على تقديم أي تنازل عن سلطاته، فما العمل إزاء ذلك؟ المنطق يقتضي البحث عن بدائل أخرى تتمثل ربما بإيجاد آليات ووسائل في مواجهة السلطة، موازية للقرارات الأممية، وهذا ما ينتظره السوريون، ولكن هذا في الوقت ذاته يستدعي المزيد من الجهد والتفكير، وربما استدعى تغيير الكثير من تموضعات المعارضة وربما هدّد مصالح البعض، ولذلك، ولكثير غيره، قد يبدو الركون إلى المطالبة بتنفيذ (2254) أمراً مريحاً لجميع الأطراف، بما فيها نظام الأسد.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى