سياسة

11 عاماً على الثورة السورية – لائحة مقالات مختارة قصيرة-

—————————–

11 عاماً على سقوط بشّار الأسد/ وائل السواح

لم تذهب تلك السنون سدى، ولا مضت عبثاً، ففيها ومنها تعلمنا دروس الحرية، وكسرنا حاجز الخوف، وأفقدْنا الطاغيةَ وأعوانه هالاتهم المزيفة.

انقضى 11 عاماً على تاريخ ثورتنا السورية. كانت 11 سنة مؤلمة، خسرنا فيها من نسائنا ورجالنا وأطفالنا مئات الآلاف، واعتقل مئات الآلاف وعذِّبوا واغتصبوا وحرموا رؤية آبائهم وأبنائهم، وهدمت منازل ومستشفيات ومساجد وكنائس وجسور وطرق، وأُتلفت محاصيلُ وأُحرقت مصانع، وهاجرت عقول، وتخلّف ملايين الأولاد عن مدارسهم، وغرق آلاف في عرض البحر وهم يحاولون الهروب من جحيم الأسد وعائلته.

ومع ذلك، لم تذهب تلك السنون سدى، ولا مضت عبثاً، ففيها ومنها تعلمنا دروس الحرية، وكسرنا حاجز الخوف، وأفقدْنا الطاغيةَ وأعوانه هالاتهم المزيفة التي كانوا يحيطون أنفسهم بها، وكشفنا الفساد المرعب الذي كان يحكم البلاد. وفيها أسّسنا مجالسنا المحلية الأولى بكلّ شفافية، وأحلّ السوريون هيئاتهم المدنية لتقوم بمهمات الدولة التي انسحبت منها، وخضنا معارك سياسية وعسكرية مشرّفة. وشكّلنا هيئاتنا المعارضة وهيئاتنا التفاوضية، وخضنا محادثات دولية ناجحة، وأبقينا سوريا على الطاولة في أجندات معظم الحكومات الصديقة والشقيقة. أوصلنا قيصر إلى الأمم المتحدة، وحشدنا الصحافة الغربية والبرلمانات الغربية معنا، وأسسنا إعلاماً موازياً وبديلاً لإعلام النظام الرخيص، وبرز من صفوفنا قادة من الرجال والنساء، في السياسة والمجتمع المدني والفكر والصحافة والفن والأدب.

ألم يشُبْ أداءَنا خطأٌ؟ بلى، وفي أحيان كثيرة. تسلّحنا رغم أننا كنا نعرف أن السلاح سيجعلنا نخسر معركتنا السياسية مع النظام، وسمحنا للنظام بأن يجرّنا إلى أماكن هو الأقوى فيها، وانطلقنا وراء الثأر بدل العدالة، وانقسمنا فرقاً وشيعاً، وفشلنا في التوحّد حول قيادة واحدة.  قاتلنا حيث لم يكن القتال واجباً، وتنافسنا حين لم تكن المنافسة في مصلحتنا، وأغمضنا عيوننا عن أخطاء جسيمة لأننا وضعنا العربة قبل الحصان والهدف قبل الوسيلة، ووضعنا ثقتنا في أطراف وأشخاص لم يكونوا على قدر تلك الثقة. قتلنا أبو فرات ونصّبنا أبو عمشة، ورهنا قرارنا لأنقرة وموسكو والرياض وغيرها.

وها نحن هنا اليوم، في محاولة لتصحيح بعض ذلك، ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، في محاولة لنعيد العربة إلى السكة، ونعطيها الدفعة الأولى في الاتجاه الصحيح. ولكي نفعل ذلك علينا أن نتفق على المسلّمات التالية، ونقف وراءها بقوة وشفافية، ودون ارتباك أو خجل:

سوريا التي نريد بناءها هي سوريا ديموقراطية موحدة، وذات سيادة، تقوم على أساس تداول السلطة والمواطنة المتساوية وسيادة القانون وحق الجميع في التعبير والتجمع والتحزب والترشّح والانتخاب، من دون أي عائق.

تكون السلطة في سوريا للشعب، عبر برلمان منتخب من المواطنين، وفق دستور، يتفق عليه السوريون ويحقق مصالحهم جميعاً.

العرب والكرد والسريان والآشوريون والتركمان والأرمن والشركس وكلّ القوميات الأخرى متساوون مساواة مطلقة في القانون وأمامه.

الرجال والنساء متساوون مساواة مطلقة في القانون وأمامه، ويتمتعون بالحقوق نفسها والواجبات عينها.

سوريا بلد مسالم وصديق للشعوب، وهو جزء من النسيج الحضاري العربي ويتمتع بعلاقات تكاملية مع الدول المجاورة، يعتمد الاقتصاد الحر، ويرتبط بالعالم الديموقراطي ارتباطاً اقتصادياً وثقافياً وإنسانياً، يقوم على أساس المبادئ الدولية وحقوق الإنسان.

إقرأوا أيضاً:

للوصول إلى سوريا التي نسعى إليها، سيكون عمل السوريين المتكامل في السياسة والثقافة والعلم والقوة أمراً لا مندوحة عنه. وهو يحتاج إلى وجود تكامل بين المعارضة وقوى المجتمع المدني والمثقفين والمفكرين السوريين من كلّ ألوان الطيف. وبينما قوى المعارضة السورية موجودة على أرض الواقع وبقوة، وقد حققت نجاحاً ملموساً في أماكن عدة، فإننا نحتاج إلى إحداث اختراق في أدائها، من خلال تطوير آليات عملها، وخلق آلية جديدة عملية للتواصل بين أطراف المعارضة وجماعات المجتمع المدني ومراكز الأبحاث والمثقفين السوريين. ونحتاج إلى ضخ دم شبابي في مؤسسات المعارضة بشكل يؤدي إلى إحداث فرق حقيقي في الأداء، ونحتاج- إلى ذلك- إلى تمتين العلاقات بين مؤسساتها والسوريين في الداخل والخارج، وتجييش المجتمعات السورية في المنافي لتكون رافدا وهاديا لمؤسسات المعارضة من خلال خبرتها الطويلة في المجتمعات الديمقراطية وإمكاناتها المالية والاقتصادية وتنوّرها وإتقانها اللعبة الديمقراطية.    

هذه الآليات الجديدة ستعمل على إعادة وضع المسألة السورية باعتبارها مسألة شعب ووطن، لا باعتبارها أزمة ينبغي حلها بأي طريقة. لم يقدّم السوريون ملايين الضحايا والمهجّرين والبيوت المتهدمة، لتنتهي ثورتهم كأزمة، ولتسعى بعض الأطراف إلى حلّ هذه الأزمة على أساس “لا غالب ولا مغلوب”، فقد جربنا هذه الصيغة في لبنان والعراق، ولم تكن النتائج في صالح اللبنانيين والعراقيين. إن أيّ حلّ سياسي يتجاهل العدالة هو حل شائهٌ لا مستقبل له؛ لأن القطيعة بين السوريين والنظام الفاسد قد استحكمت، ولم يعد الجمع بين الطرفين ممكنا، وبالتالي فإن الخيار سيكون حتما بين واحد منهما: بين السوريين أو النظام القمعي الطائفي الفاسد، بين العدل والظلم، بين الحق والباطل.  

ستتيح الآليات الجديدة لنا الانفتاح على السوريين جميعا، وبدون استثناء، سوى من فسد وأفسد في الأرض، وارتكب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. إننا نسعى لهدف كبير ومهمة جليلة: بناء أمّة جديدة واستنهاضها ووضعها من جديد على خارطة العالم، كأمة عصرية مزدهرة ومسالمة. هذان الهدف والمهمة لا يمكن أن يقوما على قسم واحد من السوريين، بل يحتاجان تآزر سواعد السوريين جميعاً، في الجزيرة الشمال والساحل والوسط والجنوب، يحتاج إلى مهارات السوريين ومواهبهم ومعنوياتهم العالية ونشاطهم ودأبهم وأموالهم وعلاقاتهم الدولية والإقليمية. وما لم يشدّ السوريون أيدي بعضهم على بعض، بقوة وتفهّم ومسؤولية، فسيظلّ هدفنا على بعد أميال كثيرة منا.

هنالك أمور لا يمكن أن نغمض أعيننا عنها: الظروف الإنسانية الخانقة التي يعيشها أهلنا في المخيمات والمنافي، كما يعيشها أهلنا في المدن والبلدات والقرى السورية في الداخل، من أزمة اقتصادية ضاغطة وانهيار في البنى التحتية وانعدام في الموارد المالية ونقص في الغذاء والدواء والدفء والمأوى. فما لم نضع نصب أعيننا ضرورة رفع هذا الحيف عن السوريين، فلن نجد من بينهم من يؤازرنا ويشدّ في عضدنا. 

سنعيد سوريا إلى أولويات أجندات الحكومات في العالم. إن السوريين قادرون، إذا ما آثروا العمل المشترك بين السياسيين وقادة المجتمع المدني ومراكز الأبحاث والمثقفين السوريين، على أن يحدثوا فرقاً في تعامل الحكومات الصديقة معها، بحيث تتحول المسألة من مجرد تعاطف إنساني واعتراف شكلي إلى علاقة تشاركية معها في البحث عن حل للقضية السورية يحمي مصالح السوريين ومصالح الجوار والعالم بأكمله.

لقد حلّ التعب والملل تجاه المسألة السورية محلّ الحماسة التي أبداها أبداه أصدقاؤنا العرب والغربيون بداية الثورة، وسيكون من الضروري تذكير الأصدقاء بأن الموقف من نظام الفساد في دمشق يجب ألا يحكمه ملل أو تعب، لأن عدم حل المسألة السورية ديموقراطياً على أساس العدالة الانتقالية والمصالحة، من شأنه فقط تأجيل الضرر الذي لا يزال يحدق في جيراننا في المنطقة وفي أوروبا ما لم يوضع حدّ لإجرام النظام.

لا يستطيع الحل في سوريا أن يكون حقيقياً إلا إذا تضمن جملة من الأعمدة التي سيقوم عليها، وهي:

المساءلة والعدالة الانتقالية والمصالحة المجتمعية، بما في ذلك إطلاق سراح جميع المعتقلين ومعرفة مصير المفقودين والتعويض وجبر الضرر؛

الانتقال السياسي الفعلي الذي ينقل سوريا كلية من حقبة إلى أخرى؛

عودة من يرغب من المهجرين مع تأمين البنية التحتية الاقتصادية والمجتمعية والنفسية لعودتهم؛

كتابة دستور سوري عصري، من قبل سوريين، وفي مصلحة السوريين؛ وإجراء انتخابات حرة ونزيهة بإشراف الأمم المتحدة؛

إعادة الإعمار الحقيقي بمشاركة الجاليات السورية ورؤوس الأموال السورية في الداخل والخارج ودعم الدول الصديقة والأمم المتحدة؛

تحييد روسيا ودحر الوجود الإيراني في سوريا، لأنه حجر الزاوية الذي يدعم سيطرة حكومة إيران على الهلال الخصيب بأكمله؛

خروج القوى غير السورية كافة، والبدء بإصلاح حقيقي للمؤسسة العسكرية والقطاع الأمني في سوريا؛

إصلاح النظام القضائي القائم على سيادة القانون واستقلالية القضاء.

فمن من بيننا اليوم قادر- كما أنا- على أن يمد يده للآخرين ممن تضمهم هذه القاعة وممن لم يستطيعوا المشاركة اليوم لأسباب خارجة عن إرادتنا، وللطيف الأوسع من السوريين في داخل البلاد وفي المخيمات والمنافي وعلى امتداد العالم؟ من بيننا يحلم، كما أحلم، بسوريا عصرية ديموقراطية ومزدهرة؟ ومن بيننا قادر على أن يحوّل الحلم إلى حقيقة؟

درج

——————————

11 عاماً على الثورة السورية: حين اعتقدنا أن الحريّة تأتي لو ناديناها/ كارمن كريم

أليس كسر جدار الخوف العالي هو أول خطوة في طريق الحريّة؟ في مكان عميق من قلوب السوريين يدركون أنهم انتصروا بطريقة ما، إذ أنه وكلما كان النظام أكثر استبداداً كلما كان قيام الثورات في حد ذاته انتصاراً.

بعد 11 عاماً على الثورة السورية، هل ما زالت ثورتنا موجودة حقاً، وما الذي اختلف اليوم لو أردنا استعادة بعض الذكريات؟

بعد كل هذا الوقت قد نخشى تذكّر ما حصل، وكأنَّ تلك اللعنة التي سقطت على رؤوسنا فجأة مازالت تهددنا بعودتها في أيّة لحظة.

تغيرت الكثير من الأشياء، تحوّلت أشكال معاناة السوريين لكنها لم تنتهِ، استمرت الصراعات في العالم وقد يكون الوقت والحروب الجديدة ابتلعت ما تبقّى من ذكريات الثورة السورية، إذ أن المعاناة لو استمرت وقتاً طويلاً تغدو عادة، والسوريون باتو يمتلكون هذه العادة، يتأقلمون مع كلّ جديد وانهيارٍ وخسارة كأنها جزء من حياتهم، لحظة تعبُر كما عبرت الصواريخ من فوق رؤوسهم وكما تحولت أجساد أحبائهم إلى أشلاء وعلى الرغم من ذلك استمروا في حين اعتقدوا أن الحياة ستغدو مستحيلة.

وكأنَّ السوريين يدركون اليوم أن الحرب الروسية الأوكرانية ستبعد ذكرى ثورتهم بشكل ما، على الرغم من ذلك نستطيع أن نستشف تعاطفهم القوي مع الأوكرانيين. يشعر السوريون بامتداد المعاناة، إنها ذات آلامهم لكن في مكان آخر، هناك حيث يشترك الدب الروسي في قتلهم، قد يكون من التطرف القول أن السوريين أكثر من يشعر بألم الأوكرانيين اليوم، لكن الحقيقة تقول أنهم جربوا كيف تهدم المنازل فوق رؤوسهم، وكيف يفرون حاملين القليل من ذكرياتهم، إلّا أن حرباً جديدةً قد تعني نسيان القديمة وتوجه الأنظار نحو مكانٍ آخر، ولا يعني هذا أن السوريين يودون من العالم الانتباه إلى معاناتهم وحدهم، لكنهم يخشون أن يتم نسيانهم، ما من شيء يخيفنا اليوم، سوى الاعتياد على نهاية الثورة والاكتفاء بإحصاء السنوات والضحايا.

قبل أحد عشر عاماً كانت فكرة التغيير ممكنة وكان الأمل موجوداً، كنا نعتقد أن الحرية تأتي لو ناديناها، والديمقراطية تسود فيما لو علا صوتنا.

اعتقدنا أننا أقوى من الأنظمة السياسة، لكن كما يستيقظ ناجٍ تحت أنقاض منزله، استيقظنا على الواقع، البعض أدرك الحقيقة باكراً، أدركها آخرون بعد أسابيع من بدء الثورة، أشهر أو سنوات والبعض لا يصدقون لليوم النهاية                  المأساوية للثورة، فهل انتهت الثورة حقاً وكلّ ما حصل لم يكن سوى فترة تحوّل دموية في حياتنا؟

هل يمكن اعتبار الثورة السورية خاسرة؟

ما المعيار الذي يحدد مدى انتصار الثورات؟ هل تغيير النظام هو المعيار أم تحقيق جزء من المطالب الشعبية؟ ماذا عن الشعوب التي لا تكسب شيئاً إنما تغدو أنظمتها أكثر قمعيّة؟ ولنا أن نتساءل، هل كانت لحظات قليلة من الانتصار تستحق كلّ ما عشناه لاحقاً من مجازر وقصف واعتقال وتعذيب؟

من الصعب تصنيف الثورة السوريّة، بخاصة مع غياب أي نتائج ملموسة على صعيد التغيير الإيجابي، لكن هناك شيء لا يمكن دراسته أو ملاحظته أو حتى قياسه، وهو الخوف. من يعرف السوريين قبل الثورة، يدرك تماماً حجم الخوف الذي كانوا يعيشونه كلما ذُكر اسم الأسد أمامهم أو كلما قيلت كلمة معارض أو شيوعي أو أحداث حماة.

الكثير من الكلمات كانت تثير الخوف في نفوس السوريين، والثورة أنقذتهم من الخوف ومن الاستمرار في امتلاك الشعور ذاته، فرددوا للمرة الأولى عبارات لطالما خشوا قولها، وواجهوا واحداً من أكثر الأنظمة ديكتاتورية، واختبروا الحريّة والقوة وتحدي الديكتاتور، أليس كسر جدار الخوف العالي هو أول خطوة في طريق الحريّة؟

في مكان عميق من قلوب السوريين يدركون أنهم انتصروا بطريقة ما، إذ أنه وكلما كان النظام أكثر استبداداً كلما كان قيام الثورات في حد ذاته انتصاراً، وهنا يكفي قيام الثورة السورية في يومٍ ما، مهما كان بعيداً، يكفي ترديد كلمات خشي الآلاف قولها لنفهم الانتصار في شكله الخام والأولي، نعم نمتلك الحقّ في اعتبار الثورة نصراً وفي الوقت نفسه التألم لخسارات كثيرة عشناها ثمناً لهذا الانتصار الصغير.

درج

———————————

هل هُزمنا؟/ مرسيل شحوارو

هل هُزمت الثورة السورية؟ قد يكون من التعقّل الإقرار بالهزيمة، على الأقل في الجولة الأولى لذاك النضال الشجاع الذي بدأ في لحظة آذار 2011. ولكنني أحاول أن أفهم هنا لماذا أقاوم إعلان الهزيمة، ما الذي يثير الغصّة فيَّ كلّما واجهتُ السخرية من عبارة «الثورة مستمرة»؟ حتى في الأوقات التي كنتُ أنا أسخر فيها من نفسي ومن تلك العبارة.

لماذا أقاوم الاعتراف بهزيمة ثورة 2011؟

أضع بعض أسبابي هنا، للتفكير والنقد والمساءلة، وربما بشكل أساسي للرأفة:

أقاوم الاعتراف بالهزيمة، لأن هناك ماضياً شديد القسوة، لكن إضفاء المعنى النضالي عليه ساعدَنا في تخفيف وطأة قسوة خساراته وذاكرته. مثلاً، عند محاولات تحريض الذاكرة التي أقوم بها أثناء عملي حالياً على كتابة ذاكرتي في كتاب عن المشاركة في ثورة حلب، فَجَعني عددُ الجثث التي أتذكرها، التي شهدتُها تقتل. فَجَعني عدد الأشخاص الذين أعرفهم وفقدتهم، والدتي ومصطفى الصديق ورفيق الدرب أقربهما. يساعد استمرار النضال في إضفاء معنىً على العنف الرهيب الذي عايشناه. دونه، النضال أقصد، يصبح العنف مجانياً: قُتلنا دون جدوى، خسرنا دون جدوى. مجاناً متنا، مجاناً تم تعذيب بعضنا، مجاناً دَفنّا من نحب، مجاناً تم تهجيرنا من المدن التي نحبها، والتي حتى وإن لم تكن أجمل من مدن غربتنا إلا أنها كانت مُدننا.

كيف أقرأ رحلة باسل شحادة، من أميركا إلى سوريا، أنا التي أُجبرتُ على رحلة معاكسة، في ظل الهزيمة اليوم؟ ليس لديّ جواب يحفظ قراره الشجاع في الذاكرة إلا الثورة.

ربما أن هناك جانباً فيَّ يقاوم الاعتراف بالهزيمة لأنني كنتُ أعتقد أن بعض خساراتي مؤقتة، سأستطيع أو نستطيع إصلاح بعضها «لدى سقوط النظام». أنَّ الأصدقاء الذين انقطعوا عن التواصل خوفاً من المخابرات، سيعودون يوماً إن لم تعد المخابرات والاختفاء «وراء الشمس» عُرفاً في سوريا. لأنني كنت أعتقد أن الانقطاعات في ذاكرتي، تجاه شوارع حلب، تجاه بيت أهلي، مؤقتة. غداً عندما «نعود»، سأتذكرّ. سأزور قبر والِدَيّ. لستُ جاهزة بعد لأقول: إذا عدنا يوماً. لا زلتُ أمام «عندما نعود».

أقاوم الاعتراف بالهزيمة كي أقاومَ الصورة التي يُعرِّفنا بها العالم: ضحايا لاجئون لا معنى مُسيساً لوجودنا. يُعقّد استمرار الثورة من سرديتنا حتى أمام أنفسنا بشأن كوننا مجرد ضحايا، نحن الذين امتلكنا صرخة «لا» في وجه واحد من أكثر الأنظمة فاشيةً. يحافظ استمرار ذاك النضال على شعورنا بذواتنا أمام عالم يناقش علناً ترحيلنا، يرفض لمَّ شملنا بأهلنا، ويطالبنا بإذن سفر إذا أردنا التحرك بين مكان وآخر.

ربما كنتُ سأكون أكثر مرونة أمام الهزيمة، لو أنها لم تترافق مع التهجير. أصبحَ مطلوباً منّا الانتقال من الثورة، كفعل جماعي مُحمّل بالمعنى، إلى الهزيمة في اللجوء، الفعل شديد العزلة والوحدة. أن أنتقل من المظاهرة كفعل ثقة بين غرباء علّمهم الأسد أن في الثقة الندامة، إلى الهزيمة التي تجعل التواصل بين الحلفاء عنيفاً، ومستحيلاً حتى. لذا أتمسّك بالمعنى كما عرفته، جماعياً وثورياً، إلى حينٍ ربما نستطيع فيه إيجاد جماعة نتعاون ضمنها على إيجاد معنىً جديد. قد تسحقنا ذاكرتنا إذا فرّغنا منها المعنى، خصوصاً إذا اضطررنا إلى مواجهتها وحيدين. إذاً ربما يصبح تَمسُّكُنا بالنضال أحد أدوات نجاتنا وتعافينا، ولتكن الثورة حالياً تَعافِياً للمكلومين فيها.

وماذا لو كَمنت الثورة حتى تعافي مصابيها، حاملي الراية وحرّاس «ورد الشهداء»؟ ماذا لو أعطينا خيرة شباب البلد وصباياها بعضاً من الوقت لالتقاط النفس قبل اليقين القطعي أمام قطبي الهزيمة واستمرار الثورة؟ ما الذي نحن على عجالة في حسمه ونحن ندخل في عامنا الحادي عشر؟

أقاوم الهزيمة خوفاً من عدمٍ يبتلع عدداً كبيراً من المهزومين في دوائرنا. لا مجال لأن أحيا مهزومةً في عالم تَركَنا نموت. وأنا مهزومة، لا مجال لأحافظ على نظرتي إلى البشر على أنهم ليسوا قتلة بمعظمهم، وذلك بعدما حدقّنا في القتلة يومياً. طريقي الوحيد لأقاوم العدمية في علاقتي مع العالم هو أن تتسع ثورتي لتشمل تغييره، أن يتسع حلفاؤنا إلى كل أولئك الثوار في أنحاء العالم، سواء تحدثنا لغتهم أم لا. دونها، الثورة أقصد، يصبح غضبي تجاه العالم تدميرياً، أو في أحسن حالاته لا مبالياً وغير قادرٍ على التعاطف.

أخاف من إعلان الهزيمة الذي أصبح ساخراً من كل القيم الإيجابية في العالم: ساخراً من الكرامة والحرية والشعب السوري الواحد، ساخراً ليس من أجل عالم أفضل بل لأن تلك القيم قد خذلته.

أقاوم الهزيمة خوفاً من الترويض الذي ألحظه اليوم في أفكاري أمام حراكات في السويداء، أو في مصر. أنا التي اعتدتُ أن أتفقد المظاهرات في أي بقعة تواجه أي طاغية، أصبحتُ عوضاً عن الفخر والتعاطف أتهيّبُ المجرزة، أتوقعها، أنتظرّها وأخافها. عوضاً عن النظر إلى المتظاهرين، أبحث عن بندقية ستطلق النار عليهم. أخشى أن أنقل ذاك الترويض، أن أبشّرَ به، أن أصبح أحد دعاة «إذا الشعب يوماً أراد الحياة» فمن الممكن جداً ألّا يستجيب القدر.

يعتقد البعض أن الثورة السورية هُزمت بعد الاتفاق الروسي الأميركي الذي تلا مجزرة الكيماوي وتجاوز خط أوباما الأحمر، وربما كانوا محقين في ذلك. لكنني كنت في تلك المرحلة جزءاً من ثورة حلب التي وجدت نفسها في مواجهة استبداد جديد، لم نكن نفهمه بعد: داعش. خطفت داعش في تلك الفترة سمر صالح ومحمد العمر وأبو مريم وكُثُر غيرهم. كنا نحن في مواجهة سؤال كيف نستطيع المقاومة؟ باللاعنف؟ كيف نحمي أنفسنا من الاختطاف؟ بمن نثق؟ وهل هذا الجسم شديد العنف فصيلٌ مقاتلٌ وسينقضي كغيره؟ أم أنه فعلاً مشروع «دولة»؟

لذا لم يصلنا، لحسن الحظ، إعلان الهزيمة. كنا بحاجة ثورة 2011، بحاملها الوطني والشجاع، لمقاومة داعش.

يعتقد جزء آخر أن الثورة السورية هُزمت بعد سقوط حلب المريع في العام 2016، وربما كانوا محقين في ذلك. ولكنني كنتُ كذلك جزءاً من ثورة حلب، أحاول أن أتعامل ليس فقط مع تهجير معظم من أحبهم بعد حصار شديد، ولكن كذلك مع المراجعات شديدة الاسترخاء التي تلت مرحلة سقوط حلب حول ما يعتقد البعض أنه «أخطاء الثورة».

ماذا يكون إذاً اختيار رائد الفارس البقاء حتى اغتياله، في 2018، إن لم يكن ثورة.

ربما تحديداً من تلك الفترة، فترة ما بعد سقوط حلب، أجد في نفسي مقاومة للاعتراف بالهزيمة.

عنى سقوط حلب، وإعلان الهزيمة التي تلاه، بالنسبة للبعض فرصةً ليخبرونا كم كنا «مخطئين» بمناهضة الأسد. كم كانوا يتوقعون موتنا وخسارتنا وكلّما حصل لنا: «قلنا لكم إن عليكم الخضوع لبشار الأسد، وأبديته».

عنى إعلان الهزيمة للبعض الآخر فرصةً للانتقال من ثورة كان هدفها تحقيق انتقال ديمقراطي في سوريا، وكرامة وعدالة لشعبها، إلى الحفاظ على مؤسسات أصبح أقصى طموحها العودة إلى مصالحة دمشق، والتشبه بمؤسسات «الأمانة السورية للتنمية». فرصةً لتمييع ما حصل تحت دعوات الحوار والمصالحة وإعادة الأعمار، وكأن المشكلة لم تكن عنفاً غير محدود بل مشكلةً في التواصل بين الرعاع.

كان إعلان هزيمة الثورة للبعض فرصةً للقول مجدداً «إنها لم تكن ثورة في المقام الأول»، ولذا فإن جُبنهم كان على حق عندما خذلوها. كانت الثورة صرخة حق، سواء هُزمت أم استمرت.

أخاف من إعلان الهزيمة من الشتات بينما هناك في داخل سوريا من يفتح معارك مع أكثر من سلطة أمر واقع.

أخاف من إعلان الهزيمة الشبيه بما تلى الثمانينات، وبالتالي خذلان جيل سيأتي لا محالة في سوريا ليهتف «الشعب السوري ما بينذل».

يبقى أحد اسئلتي الملحة، التي أطرحها على نفسي مراراً، بماذا نعد أولئك الذين سيستعيدون لا محالة الشارع في سوريا في المستقبل؟ ماذا لو كنا مخطئين في مبالغتنا بالاعتماد على ما نعتقده واقعاً، كما كان الجيل الذي سبقنا في السنوات التي سبقت انفجار الـ 2011 في طلب للحرية؟

ربما تبدو أسباباً عاطفية تلك التي تدفعني إلى الوقوف دون اليقين في هزيمة الثورة، ولكن لماذا يتم تقديس التعامل مع بلادنا دون عاطفية؟ كأننا جرّاح أمام جسد هامد، لا كأن هذا الجسد في نهاية المطاف جسدنا. من قال إن السياسة هي حسابات الأمر الواقع لا شجاعة الحالمين وأملهم السياسي؟

أتفهّم طبعاً حاجة البعض إلى خاتمة. حاجة نفسية وحياتية. أتفهّم أيضاً ذاك الحنق من بيعنا أوهاماً بنصّر قريب. أتفهّم وأشارك غضب أولئك الذين يرون في شعارات استمرار الثورة فرصة لزعامة على الضوء أو المال أو السلطة، في بلد نطفو فيه على جثثنا. أتفهّم وأشارك غضب أولئك الذين تعبوا من الانتصارات الدونكيشوتية، التي يصبح فيها تصريح لمسؤول أجنبي أولى بشائر النصر، أو تصبح فيها محاكمة مسؤول منشق، مهما كان، إسقاطاً قريباً لنظام الأسد.

لست هنا في معرض الدفاع عن «الثورة المستمرة» كاستمرار للوهم القائم على إذا «رمضن الأسد ما بيعيّد»، أو لتبني إعلان هزيمة يقارب الاستسلام وإيقاف النضال انحناءً للأمر الواقع.

ما يعنيني هو ما يلي هذين الشعارين: ماذا بعد إعلان هزيمة الثورة أو استمراريتها؟

إن كان ما يليهما نضالاً ضد الأسد وبحثاً عن بناء بلاد لا تظلمنا، فأنا مع ذاك النضال مهزوماً أو مستمراً.

إن كان ما يليهما تغييراً جذرياً للأدوات، حيث لم يعدّ من المنصف أو المجدي حتى، أن نقف في عواصم الدول الأجنبية مرددين: «عالجنة رايحين شهداء بالملايين»، فأنا مع التفكّر بذلك التغيير في أدوات النضال، سواء كان مرافقاً لإعلان نهاية تلك المرحلة، أو جزءاً من اتساع أدوات الثورة وتعريفها لنضالها.

ربما يقود الاعتراف بالهزيمة إلى توحيدٍ قيميٍ أوضح للحلفاء، الذين نمتلك معهم فعلاً مشروعَ وطن عادل للجميع لا يسوده استبداد مفضّل بناء على الطائفة أو القومية أو الطبقة.

والأهم أن الاعتراف بالهزيمة قد يقود إلى نضال جوهره القيم لا النتيجة: نناضل ضد الطاغية لا لننتصر بل لأن النضال فعل حق وكرامة وعدالة حتى لو متنا دون أن نراها دولةَ كرامة وعدالة.

قد تكون مطالبة البعض لنا بالاعتراف بالهزيمة محقّة، لكن أحياناً يكفي كما يقول فرج بيرقدار «طائرٌ واحد كي لا تسقط السماء»، وهناك لتلك الأرض، لتلك البلاد القاسية، سوريا، طيورٌ كثيرة.

موقع الجمهورية

—————————–

في سنوية الثورة السورية: مواعيد معلومة ومصير مجهول/ ياسين الحاج صالح

في هذا العام 2022، يبلغ عمر الكيان السوري المعاصر 104 سنوات، وقع خلال نصفها بالتمام والكمال 52 عاماً، تحت الحكم الأسدي. هذه الوقعة السوداء هي الواقعة الأساسية في تفسير الحال التعس لأقدم جمهورية عربية اليوم. فبقدر ما إن 104 سنوات مدة ليست بالطويلة في عمر بلد، فإن 52 عاماً زمن طويل جداً في أعمار الأنظمة السياسية، خاصة إن كان 4% فقط من المحكومين يتجاوزون الستين، ما يعني أن أقل من مليون واحد من نحو 23 مليون سوري أكبر في السن من الحكم البعثي المتمادي منذ 59 عاماً. الانتداب الفرنسي على سوريا، بالمقابل، استمر بالكاد 26 عاماً، نصف الأمد المتمادي للحكم الأسدي.

بفعل تركيبها الذي تحفزه نوازع السلطان، السيادة والعلو والقوة والأمن المطلق، أي بفعل تركيبة حكم بطريركية، رجعية التكوين، ومثيرة للتمرد، انتقلت سوريا من كونها بلداً عالم – ثالثياً متخلفاً، إلى بلد منتج للفظاعة واليأس واللاجئين. خرجنا من التخلف، لكن إلى البربرية مثلما رأى ميشال سورا منذ ثمانينيات القرن العشرين، ودفع حياته ثمناً لما رآه. سوريا عاشت حرباً أهلية مستمرة خلال السنوات الاثنين والخمسين الماضية، تفجرت مرتين بعنف شديد، بعد نحو عشر سنوات من حكم حافظ، ثم بعد نحو عشر سنوات من حكم بشار. سقط في الأولى عشرات ألوف الضحايا، ولم تكن ملفاتها طويت، حين تفجرت الموجة الثانية من الصراع، المستمرة إلى اليوم، وقد سقط فيها مئات ألوف الضحايا.

والأرجح أن تطلعاً إلى كسب جيل إضافي في عمر هذه الدولة السلطانية، كان محفزاً غير مصرح به في وعي أركان حربها. كان ما يقترب من ثلاثة عقود قد انقضت بين مذبحة حماه الكبرى في شباط/فبراير 1982 والثورة السورية، ولا بد أن نموذج حماه كان ثاوياً في تفكيرهم، وأنهم عولوا على سحق الثورة سحقة لا تقوم للمجتمع السوري بعدها قائمة لثلاثين عاماً أخرى على الأقل، بحيث يطول عمر النظام إلى ما بين مطلع أربعينيات القرن وأواسطها، أي إلى حين يشيخ الجيل الأسدي الحالي من أمثال بشار الأسد وأخيه ماهر، ورجال مخابراتهم وقادة عسكرهم الأمني، ويبلغ الجيل اللاحق عمر الحكم. يقتضي الأمر في الحد الأدنى بقاء بشار في السلطة 14 عاماً على الأقل كي يصير حافظ الثاني، وهو في العشرين اليوم، في الرابعة والثلاثين، عمر أبيه وقت عُدِّل له الدستور كي يرث جده حافظ. وسيكون عمر بشار وقتها نحو سبعين عاماً، عمر حافظ الأول وقت موته. والواقع أن هذا ممكن وميسور، إن اقتصر الأمر على الديناميكيات الداخلية السورية، مثلما كان الحال بقدر كبير بعد حماه 1982، لكن لا يبدو الحال كذلك اليوم. سوريا بلا داخل يذكر كي يكون للديناميكيات الداخلية أثر مهم. فمن أجل أن يدوم حكمها، دعت الأسرة الأسدية الإيرانيين وميليشيات تابعة لهم لحماية السلطنة المحدثة، ثم شاركها الحامي الإيراني في دعوة حامٍ ثان، روسيا، لتحقيق الغرض نفسه. وقد تحقق بالفعل، وحكم الأسرة ليس مهدداً اليوم من قبل أي سوريين، لكن أمره لم يعد بيده، فعدا عن أن ثلاثة أقسام من سوريا تقع تحت سيطرة سلطات أخرى (فضلاً عن مرتفعات الجولان) وأن نحو 30% من السوريين لاجئون في بلدان أخرى قريبة وبعيدة، فإن المتن السوري انقلب إلى محمية لا تحمي نفسها، ولا تتحكم بشروط دوامها. من يتحكم هم الإيرانيون والروس، قوتان قوميتان توسعيتان، تقيمان استقرارهما على نزع استقرار ما حولهما، مثلما فعلت الأسدية بالذات لنحو ثلاثين عاماً، بعد التدخل في لبنان عام 1976. هذه السياسة تحمل تناقضاتها التي قد تقود إلى توترات حادة أو حتى تفجرات حربية، مثلما يحدث اليوم إثر الغزو الروسي لأوكرانيا، انفتح بهذا الغزو باب لا يعرف إلى أين يفضي، ولا متى يغلق، ومن المستبعد ألا تكون له آثار سورية.

على أنه ليس هناك ما يشير اليوم إلى أن حرب روسيا الراهنة في أوكرانيا ستؤثر في سيطرتها السورية وحمايتها للنظام، ليس هناك طرف سوري معارض محترم يستطيع أن يستفيد مما يسنح من ظروف، ويضع انسحاب القوات الروسية من سوريا على جدول النقاش الدولي. يبقى صحيحاً مع ذلك أن دوام الحكم الأسدي رهن بديناميكيات إقليمية ودولية، ليست غير مستقرة فقط، وإنما هي سائرة في مسالك وعرة، كثيرة المنعطفات، ولا يتوقع أن تغيب منها المفاجآت. الولايات المتحدة ليست غائبة، بطبيعة الحال، عن التفاعلات الخاصة بسوريا، ويبدو أنها تعرض اليوم تشدداً محسوباً حيال بشار الأسد ونظامه. وهي تعود إلى الكلام عن محاسبة النظام على جرائمه، وهذا في سياق لا يبدو منقطع الصلة بحرب روسيا في أوكرانيا. لكن هذا قليل جداً ومتأخر جداً، حسب تعبير إنكليزي مأثور. إلى اليوم تقريباً، كانت لدينا روسيَتان لا واحدة في سوريا، إحداهما هي الولايات المتحدة التي لم تُدِن، لا هي ولا أي من الدول الغربية، التدخل الروسي في سوريا، بل رحبت به ضمناً على الأقل. وفي حين تقترب العلاقة بين القوى الغربية وروسيا من الحرب بعد غزو بوتين لأوكرانيا، فإن العلاقة بين الأمريكيين والروس في سوريا لم تكن يوماً تعايشية، وأبعد عن التنازع مثلما كانت في سوريا منذ الصفقة الكيماوية الخسيسة في أيلول/سبتمبر 2013، بل إنه يرجح لاحتمال التوقيع على اتفاق نووي مع إيران، يتمخض عن رفع العقوبات عن نظام الملالي، أن يزيد الأمريكيين روسيّة في سوريا ولا ينقصها. وإن لم يطلق الاتفاق المحتمل اليد الإيرانية الطليقة أصلاً في سوريا (والعراق ولبنان واليمن) فإنه لن يقيدها. ومعلوم أن إيران ليست قوة احتلال في سوريا فقط، وإنما هي عاملة على تغيير تركيبة البلد الديمغرافية، على نحو يستأنف عمل الحكم الأسدي في التهجير ويبني عليه. تعرض تركيا، وهي قوة رابعة فاعلة في الشأن السوري حذراً، متصلاً بتجارب غير مشجعة مع شركائها الأطلسيين، فلا هي تؤيد روسيا البوتينية ولا هي تعاديها إلى اليوم. سبق لتركيا أن فعلت شيئاً كهذا في مطلع الحرب العالمية الثانية، ونالت لواء إسكندرون السوري كمكافأة من فرنسا كي لا تنضم إلى دول المحور. والقوة الخامسة المهمة، إسرائيل، وهي روسية جداً بدورها في سوريا، تبدو باحثة عن الانتفاع من الحرب في أوكرانيا مثل تركيا والجميع، إلى درجة تباعد ملحوظ عن راعيها الأمريكي. في كل حال، مصير سوريا، والنظام مثل الجميع، هو مسألة تفاعل بين هذه القوى لا يبدو معرضاً لتغيرات درامية، لأسباب أوكرانية قد تصير أمريكا أقل روسية بقليل في سوريا، لكن لأسباب إسرائيلية و»إرهابية»، من المستبعد أن تصير معادية لروسيا.

بعد 52 عاماً من الحكم الأسدي، و59 عاماً من الحكم البعثي، و11 عاماً من الثورة السورية، سورية اليوم مجهولة المصير مثل 130 ألفاً من المغيبين القسريين. هذا رهيب، لكننا سلفاً وراء كل شكاية، وحده هذا المصير المجهول، للأفراد كما للبلد، ينادينا، يدعونا بلا توقف للتساؤل والبحث.

القدس العربي

—————————-

عن جثة ثورتنا التي تعفنت في العراء/ عمر قدور

بخلاف السنوات الماضية، لم ينشغل السوريون “خاصة من سكان وسائل التواصل الاجتماعي” باقتراب ذكرى انطلاق الثورة، ولم يعمدوا مثلاً إلى اجترار خلافاتهم حول توقيت ومكان انطلاقها؛ دمشق 15 آذار أم درعا 18 آذار؟ لم يخترعوا من أجل الذكرى خلافاً افتراضياً جديداً، خلافاً ينتهي مع حصيلته من اللايكات أو غيرها من التفاعلات في انتظار موسم آخر. كأن ذكرى الثورة السورية هذه السنة اكتفت بالحدث الأوكراني، بوصف أوكرانيا ضحية توأماً، لعل بقايا الأمل الأوكراني تنهض قليلاً باليأس السوري.

خلال عشر سنوات، أي بعد انقضاء السنة الأولى منذ انطلاقتها، لم تحدث تغيرات كبيرة في النظر إلى الثورة أو الموقف منها. عند ذلك التاريخ تقريباً، ظهر كأن البعض يستعجل إعلان موت الثورة، بذريعة العسكرة أو الطائفية أو كليهما، بينما كانت النسبة الساحقة تميل إلى اعتبار الثورة مستمرة، وبما قد تنطوي عليه من أخطاء، فلا ثورة نقية في التاريخ.

ضمن ذلك المناخ ستبرز أقوال مثل ذاك المنسوب إلى الراحل صادق جلال العظم: “الثورة السورية هي ثورة، سواء تأسلمت أو تَعَلْمَنَتْ، هي كاشف أخلاقي وإنساني وثقافي لكل البديهيات القديمة. هي ثورة ضد التبرير والقبول الكاذب لواحد من أكثر الأنظمة الشمولية تفسخاً وعنفاً. كل من هو منخرط في جوهرها لا يخشى منها ولا يخشى عليها. كل من هو جالس على حافتها… سيصيبه الرعب منها”. وهو قول يحتمل كونه رد فعل فيه غاضب إزاء من يخدمون الأسد مواربة بالتهجم على الثورة من دون إظهار ولائهم، ويحتمل توصيف الثورة كحدث تاريخي، بما في ذلك أنها شر لا بد منه. إلا أن الشق الأول، وما يماثله عند آخرين، كان الأكثر رواجاً لما فيه من تبرير يحتاجه البعض، ولما يحمل معناه المباشر من تبسيط يرتاح إليه بعض العقول.

لا بأس بأن يُضاف إلى ما سبق أن الثورة مِلكٌ مشاعٌ، فلا يحق لأحد “نظرياً” وضع شروط عليها أو على ناسها، ولا يحق له إعلان وفاتها عندما لا تروق له. غير أن هذا الكلام الصحيح شكلاً لا يصعب “ولم يصعب حقاً” استخدامه على نحو مرسل، وبحيث تحتمل الثورة أي شطط يقترحه من ينسب نفسه إليها، ليصل الشطط إلى حدٍّ تفترق فيه الثورة نهائياً عما كانت عليه بدايةً. فما هو متفق عليه أن الثورة انطلقت بمطلب الحرية ويُفهم أن الديموقراطية شرطها اللازم، وهذا لم يمنع فصائل أو تنظيمات من رفع العلم الذي صار رمزاً للثورة رغم عدائها المعلن للديموقراطية والحرية، ولا يقلّ سوءاً أولئك الذين يحسبون أنفسهم على الثورة “من خارج الفصائل والتنظيمات المعنية” إذ لا يرون حرجاً في إطلاق وصف ثوار على المنضوين فيها.

المثال الأخير هو واحد من نماذج فاقعة على ظواهر صارت هي المهيمنة باسم الثورة، وأكثر ما يستفيد منه أصحابها هو عدم الاتفاق على انتهاء الثورة التي أصبحت واقعياً، منذ سنوات، بمثابة جثة مرمية في العراء بما لهذا الوصف من تبعات. وعدم الاتفاق هذا له جانبان، أحدهما سياسي والآخر معرفي. الأول لا يخلو لدى البعض من رد الفعل أو النكاية تجاه الذين عادوها منذ انطلاقتها، أو لا يخلو من البعد الرمزي الذي يرى أصحابه في إعلان النهاية هزيمةً لا قيام بعدها.

ما يهمنا في الجانب المعرفي أن إنكار نهاية الثورة، بالقياس إليها كمرجعية، أهدر فرصاً ثمينة للتعرف على أحوالنا، وفي ذلك استئناف لإنكار أخطاء الثورة أو الدفاع عنها لجهة تفويت فرص معرفة أفضل. لقد رأينا مثلاً استمرار الجدل بين رافضي ومؤيدي الخيار العسكري، بينما كانت العسكرة تتقدم من دون نقد عام يطال طبيعتها وخياراتها التكتيكية، وما هو مقبول منها وما هو ضار أو مدمِّر. تقدّمت العسكرة من دون اتفاق عام في الآراء على أنها حقبة جديدة، ثم سرعان ما ستتخذ طابع الحرب فلا تعود عسكرة للثورة بالمعنى الذي بدأت به، وهنا أُهدرت فرصة الحديث عن الحرب بأدواتها لا بأدوات تجاوزتها الوقائع الميدانية. تالياً، أُهدرت فرصة الحديث عنها باصطفافاتها المختلفة عن الانحياز أو عدم الانحياز إلى قيم الثورة، مع أن هذا التمييز كان سيحل الفصامات الفكرية الآتية من احتساب بعض الفصائل التي تحارب الأسد على الثورة، ثم لاحقاً احتساب المرتزقة عليها.

ولا يندر أن يذكّر تعبير المرتزقة بالارتهان المشين الذي انحدر إليه الإطار الذي ينال أوسع اعتراف حتى الآن تحت مسمى “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”، وكما هو معلوم أنشئ هذا الكائن أصلاً برغبة دولية وإقليمية. ما يهمنا في هذا السياق إيحاء الاسم الذي يحيل زوراً إلى “قوى الثورة”، إذ من المعلوم أن قوى الثورة انتهت بنهاية الثورة نفسها منذ سنوات. على هذا المستوى أيضاً يبرز استغلال جثة الثورة من قبل أشخاص وكيانات لا يمثّلون السوريين، ولا يمثّلون قيم الثورة، وكان للاتفاق على دفن الجثة بدل تركها في العراء أن يصونها منهم.

الأمثلة صارت أكثر من أن تُحصى في عجالة على أن الإصرار على استمرار الثورة بات بمثابة إعاقة سياسية وفكرية معاً، ومن ذلك عدم بناء قضية سورية مطابقة لوقوع البلد تحت مختلف أنواع الاحتلالات، ولتهجير ما لا يقل عن نصف السوريين بين الداخل والخارج. بحكم الأمر الواقع، فقد السوريون فعاليتهم السياسية التي كانوا على وشك استردادها بالثورة، ولا نجاح يُسجّل للأخيرة “رغم البؤس الحالي” ما لم تتمسك كتلة فاعلة منهم بحقها في السياسة لتقترح آليات تفكير وعمل جديدة وناجية من جعل آذار 2011 قفصاً مغلقاً على العقل. من المحتمل أن يكون هناك بعض الفائدة أيضاً إذا غادرت عقول الشريحة البائسة من الموالين القفص نفسه.

دفنُ تلك الجثة، والاتفاق على نهاية الثورة ولو أنه متأخر جداً، ليس مشروعاً شخصياً ولا ثقافياً بالمعنى الضيق، بل هو لا يأخذ صفة المشروع إلا من اتفاق تتسع دائرته بين السوريين على انقضاء مرحلة. لعل هذا يكون مفيداً أولاً لإعادة التفكير في الأطوار التالية على انطلاق الثورة، حيث لا يكفي أو لا يصلح الانقسام الأول حول الثورة لفهم تلك الأطوار. لن ينتهي الحدث السوري “بالمعنى التاريخي” بدفن ما أسّس له، بل على العكس ستفتح الجنازة على مواجهة الأسئلة الشاقة عما بعدها. لمن تستهويه الكلمة ويعزّ عليه التخلي عنها؛ مواجهة الأسئلة الصعبة هي ثورة أيضاً.

المدن

——————————-

سوريا: حرب جامدة بلا حسم وأزمة داخلية وخارجية هامدة/ رفيق خوري

حرب سوريا دخلت يوم 15 مارس (آذار) عامها الثاني عشر من دون أن يحسمها أي طرف، لا داخلي ولا خارجي. والمشهد، بحسب الموفد الدولي غير بيدرسون، هو “جمود استراتيجي” بعدما انتهت “مرحلة العمليات العسكرية” كما أبلغه الأطراف. وفي التقييم السنوي لأجهزة الاستخبارات الأميركية، أنه “من المرجح استمرار الصراع والتدهور الاقتصادي والأزمة الإنسانية خلال السنوات المقبلة”. النظام بات يسيطر على 65 في المئة من الأرض في “قلب سوريا”، ويتصرف كمنتصر بعدما بقي برئيسه ورجاله وأجهزته وسياساته بدعم روسي- إيراني. المعارضون ليسوا موحدين ويرفضون الاعتراف بأنهم خسروا. الكرد تحت حماية أميركا يسيطرون على 23 في المئة من مساحة سوريا شرق الفرات، وتحتفظ أميركا بقاعدة “التنف”على الحدود السورية-العراقية-الأردنية. والباقي تحتله تركيا في الشمال ومعها ميليشيات سورية تابعة لها، في حين تسيطر “هيئة تحرير الشام” المتطرفة بزعامة أبي محمد الجولاني على محافظة إدلب. روسيا في قاعدتين عسكريتين جوية وبحرية على الساحل، كما في محيط دمشق ودرعا. إيران تتوسع مع ميليشياتها اللبنانية والعراقية والأفغانية والباكستانية عسكرياً من البوكمال قرب الحدود مع العراق إلى تدمر وقاعدة “تي فور” قرب حمص في الوسط، ثم إلى مقربة من الجولان، كما في منطقة السيدة زينب قرب دمشق. فضلاً عن توسعها الاقتصادي والاجتماعي وتغلغلها الثقافي. “داعش” لا يزال في البادية السورية وأماكن أخرى، ويقوم بعمليات عسكرية ضد قوات النظام. وإسرائيل لا تزال تقصف من الجو القوات الإيرانية والميليشيات والمراكز والأسلحة التابعة لها، ضمن تفاهم إسرائيلي- روسي.

الموفد الدولي بيدرسون، وهو الثالث منذ بداية الحرب، لا يزال يبحث عن “شكل دولي جديد” لفتح باب التقدم نحو التسوية السياسية ضمن مقاربة “خطوة مقابل خطوة” يرفضها النظام والمعارضون حتى الآن. وكل ما يعمل عليه حالياً هو اجتماعات متباعدة لأعضاء “اللجنة الدستورية” التي لم تتقدم خطوة واحدة حتى الآن في مناقشة الدستور. فالظروف تبدلت من حول القرار 2254 الذي يراد صنع التسوية السياسية على أساسه: الوضع تجاوز الأزمة بين طرفين هما نظام ومعارضة لا تكفي التسوية السياسية بينهما للحل. ولا بد من “تسويات” على النفوذ الإقليمي والدولي بين أميركا وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل.

وكل ذلك في طريق مسدود. أميركا وإسرائيل تراهنان على إخراج إيران من سوريا بمساعدة روسيا. إيران تتصرف على أساس أنها هي الباقية في سوريا وتطالب بانسحاب تركيا، وتطلب مع سوريا انسحاب أميركا. تركيا تحلم بتوسيع المنطقة التي تسيطر عليها للوصول إلى حلب من جهة وضرب الكرد شرق الفرات من جهة أخرى. دمشق تقول إن “موسكو رفضت عرضاً أميركياً لمقايضة سوريا بأوكرانيا”. والانطباع السائد حتى في موسكو أن دمشق تتهرب من التسوية السياسية لأن النظام يرفض المشاركة. وهذا يعني استمرار الجمود السياسي والانهيار الاقتصادي. روسيا وإيران قادرتان على التدمير، لا على إعادة الإعمار. وأميركا والاتحاد الأوروبي مصران على “ثلاث لاءات”: “لا تطبيع مع دمشق، لا مساهمة في إعادة الإعمار، ولا رفع للعقوبات حتى تحقيق تقدم في العملية السياسية بموجب القرار 2254”.

والتراجيديا الإنسانية تتعمق. 90 في المئة من السوريين في”فقر متعدد الأبعاد”، بحسب الأمم المتحدة. 12 مليون سوري بين نازح في الداخل ولاجئ في الخارج. الخسائر تجاوزت نصف تريليون دولار. وكما كانت الأطراف الإقليمية والدولية “تصدّر” إلى سوريا مقاتلين وإرهابيين، فإن سوريا صارت “تصدّر” متطوعين ومرتزقة. بعضهم أرسلتهم تركيا إلى القتال في ليبيا وقره باغ إلى جانب أذربيجان، وبعضهم الآخر تسميهم روسيا “متطوعين” للقتال مع قواتها في أوكرانيا. والأخطر هو أن الأزمة السياسية التي كانت سبب اندلاع ثورة تحولت إلى حرب، صارت أسوأ من دون أمل في حل يلوح في الأفق. وليس قليلاً ما يخسره العالم العربي في مجالات القوة والتوازن والدور جرّاء تحول سوريا التي كانت “قلب العروبة النابض” من لاعب إقليمي إلى ملعب إقليمي ودولي.

———————————-

============================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى