منوعات

عريّ مُقلِق…الحمّامات والمرأة الذمّية في حلب القرن الـ18

ترجمة أزدشير سليمان

بتسليطها الضوء على الحمّام والعريّ، ومن خلال دراسة أرشيف المحكمة الشرعية في حلب القرن الثامن عشر، تُبرز المؤلفة إليز سمرجيان، أستاذة تاريخ الشرق الأوسط في Whitman College، المُخجِل والمُضمر في تواريخنا المحلية واليومية. وقد يتبدى أحيانًا، في ثنايا هذه الدراسة، أننا إزاء عوالم “ألف ليلة وليلة”، بغرائبيتها وسورياليتها، وهي تتحفنا بوصف تفصيلي شيّق وتحليل مُتبصّر للسياقات الاجتماعية والسياسية والفقهية والتاريخية وللتفاعلات الانسانية المُثقلة، وتُجادل بوطأة التاريخ والنص والغيب والرقيب والهوامات الجنسية على الأجساد حتى في أدق خصوصياتها. نُشر المقال في International Journal of Middle Eastern Studies وتحصل على جائزة أفضل مقال لجمعية الدراسات السورية العام 2014.

هنا القسم الأول من المقال…

إبان القرن الثامن عشر، تجاوز غير المسلمين والنساء الحدود الاجتماعية خلال فترة زيادة الاستهلاك العالمي، ما دفع المسؤولين العثمانيين إلى التدخل. فعلى المستوى الإمبراطوري، أصدر السلطان مراسيم لتقييد مثل هذه التجاوزات، متبعًا بذلك مسار القوانين السابقة التي كانت تنظم الأماكن العامة بما في ذلك الحمّامات. وفي حلب، تجلى الانعكاس المحلي لهذه الاتجاهات في القرن الثامن عشر من خلال زيادة مراقبة العريّ والاتصال بين المسلمين وغير المسلمين داخل حمّامات المدينة. فقد اشترطت اللوائح أن يوفر أصحاب الحمامات أدوات استحمام منفصلة للمسلمين وغير المسلمين، وحُظر الاستحمام المُشترك لأفراد من طوائف مختلفة وللنساء على وجه الخصوص. وبمساعدة النقابات – وبدرجة أقل ممثلي المِلل – سُجلت جداول الاستحمام المعقدة للنساء المسلمات وغير المسلمات في المحكمة لدعم سياسات الفصل. وأعلن الفقهاء ممن ناقشوا متطلبات الحشمة للنساء المسلمات أن النساء غير المسلمات (الذمّيات) ينبغي أن يُعامَلن كرجال غرباء من حيث منعهنّ من النظر إلى امرأة مسلمة عارية.

وشُيِّدت أحكام الشريعة الصادرة عن المحكمة على المنوال نفسه، ما يشير إلى أن المرأة الذمية كانت فئة اجتماعية متقلقلة وحدية بفعل تصنيف نظرتها في بعض الظروف على أنها ذكورية. ووضعت النخب الذكورية المسلمةن والنقابات المحلية، في نهاية المطاف، لوائح استحمام منفصلة لحماية نقاء النساء المسلمات من الخطر الذي تشكله الذميات.

في 24 كانون الثاني (يناير) 1762، جرى التوصل إلى اتفاق مطوّل بين أعضاء نقابة أصحاب الحمامات ومفاده الأمر بفصل النساء المسلمات عن غير المسلمات في حمّامات حلب في أيام محدّدة بحكم قضائي “المرأة الذمّية كالرجل الأجنبي” ولذلك فمن الأصح ألا تنظر إلى أي جزء من جسد المرأة المسلمة”. قلب هذا البيان الترتيب النموذجي للامتياز حسب الجنس والدين في التسلسل الهرمي الاجتماعي العثماني. إذ كيف يمكن أن ينتج عن الاستحمام مختلِط الطوائف، ما يكفي من القلق لدفع الفقيه إلى استنتاج أن جنس المرأة غير المسلمة يمكن أن يتحول فجأة من أنثى إلى ذكر؟ وتشكل وثيقة 1762 واحدة من عشر قضايا من سجلات محكمة الشريعة في حلب بين العامين 1726 و1795 التي سعت إلى تنظيم حمّامات المدينة.

ووثق المؤرخون تصاعداً أوسع في اللوائح التي استهدفت النساء والأقليات الدينية في أنحاء الإمبراطورية خلال القرن الثامن عشر. وركزت تواريخ عديدة على اللباس – وهو مؤشر رئيس لكل من الوضع الاجتماعي ومدى السيطرة الإمبراطورية – خلال هذه الفترة من الأزمة الاجتماعية والسياسية.

وبسبب من توكيد رأس المال الاجتماعي عبر عروض الملابس في المجتمع العثماني، فقد أسفرت إزالتها إلى وضع النظام الذمّي بأكمله، القائم على التقاليد الإسلامية المبكرة التي تؤكد تفوّق الذكور المسلمين، في حالة تغير مستمر. ويُظهر توثيق الأرشيف، القلق المتزايد بشأن العُريّ والاستحمام المختلط بين الطوائف في حلب القرن الثامن عشر، ويكشف كيف شكّل جسد الأنثى مجالًا للنزاع، وبناء عليه، “أي جسد الأنثى”، استُخدمت تعريفات العُري لتحديد الهوية المجتمعية، حيث خضعت النساء لمراقبة أشد من تلك الخاصة بالرجال لأن احتشام الإناث كان مفضلًا دائمًا.

واستكشفت الدراسات الحديثة الفئات المتداخلة بين الجنس والدين التي شكلت المحاور المعقدة والمتقاطعة للتسلسل الهرمي الاجتماعي العثماني. ويُظهر الانتباه إلى الهويات متعددة الطبقات للرعايا العثمانيين تعقيد العلاقات الجنسانية بسبب علامات أخرى على الوضع الاجتماعي. فبشكل عام، ثمة امتياز للرجل غير المسلم على المسلمة، في حين تُصنف المرأة المسلمة فوق المرأة غير المسلمة. وأظهر مارك ديفيد باير Marc David Baer أن التصنيفات الاجتماعية المرنة في اسطنبول القرن السابع عشر، ساعدت على استيعاب المتحولين المسلمين الجدد، ومع ذلك كانت المرونة الزائدة مصدر قلق لرجال الدين المسلمين والدولة، ممن سعوا أحيانًا إلى وقف مثل هذا العبور وتعزيز التسلسل الهرمي الاجتماعي. فالانتقال من فئة إلى أخرى، وضع المرأة في موقف حدّي حيث افتقرت إلى هوية دائمة ومستقرة وبالتالي شكلت خطرًا. تميل هذه الحالة الحدية المسبّبة للقلق – أي قدرة الأفراد على التقلب بين الفئات الاجتماعية- إلى تخلل الخطاب الاجتماعي في أوقات الأزمات. درور زئيفي Dror Ze’evi أظهر من جهته أن عدم استقرار التعريفات الجسمانية للذكور والإناث دفع الفقهاء العثمانيين الحديثين الأوائل إلى وضع حدود قانونية لتعريف الجنس بشكل أكثر دقة ومن ثم تجنب الفوضى الاجتماعية (الفتنة) التي كان يُخشى اندلاعها إزاء عدم وضوح الجنس. وتتفاعل الدول بدورها، مثل الفقهاء، مع أزمات النوع الاجتماعي من خلال فرض بنية، لها شكل هوية اجتماعية هرمية، على المجموعات الاجتماعية غير المُطابِقة من أجل استعادة النظام.

كما دفع عدم اليقين حول الحيز المناسب للنساء والأقليات الدينية في المجتمع العثماني، السلطات، إلى زيادة إنفاذ أحكام الملابس، أحيانًا من طريق التهديد بالقتل أو غير ذلك من العقوبات الشائنة، من أجل دعم التمييز الاجتماعي للمرأة والأقليات الدينية في وقت كانت تنكمش فيه “أحكام الملابس”. ومن ثم وُضعت، في القرن الثامن عشر، لوائح أكثر صرامة في الحمّام داخل بيئة من الاستهلاك المُبهرج، والتزمت الديني المتصاعد، وترسيخ نظام المِلل. كما اعترض رجال الدين المسلمون والمسيحيون على طمس الحدود في الممارسات الاجتماعية اليومية والتأثيرات الخارجية المُفسِدة في مجتمعاتهم الدينية. وإلى جانب سجلات المحكمة، تكشف السجلات والخطابات التي كتبها رجال دين مسلمون ومسيحيون معاصرون، محاولة لتثبيت الحدود الاجتماعية وفرض الامتثال لفصل اجتماعي أكثر صرامة.

وتمكنت النخب المسلمة، بالوسائل العديدة المُتاحة لها، والتي تفوق إمكانيات الذمّيين، من تأكيد تفوقها الموضعي من خلال الأجهزة القانونية والسياسية لتنظيم فضاء الحمّامات، وهو موقع مشبوه غالبًا بسبب ارتباطاته الثقافية بالانحراف الاجتماعي والأخلاقي. وأدى القلق المتزايد من العري إلى لوائح تستهدف النساء المسلمات وغير المسلمات، ما يشير إلى أن المجموعتين الاجتماعيتين كانتا تُعتبران تهديدًا للنظام العام ورأس المال الرمزي الذي كانت النخبة من الذكور المسلمين تمتلكه. وارتبطت المحاولات الجديدة لتنظيم الحمّام في هذه الفترة بالتأديب المكثف للجسد الاجتماعي. فعلى مدار القرن الثامن عشر، قامت لوائح الحمامات في حلب بفصل مجموعات النساء، تدريجيًا، وخصصت المزيد من الوقت والمساحة للنساء المسلمات حتى في الحمّامات الموجودة في الأحياء الحضرية غير المسلمة.

أزعمُ أن هذه السياسات سعت إلى تحديد نقاء المرأة المسلمة وتفوقها على نظيرتها غير المسلمة ومن ثم شكل أنثوي مثالي من خلال هذا البنية المزدوجة. وجرى “تخصيص أو تعريف الأفراد” هذا من خلال التشديد الخطابي للحدود المجتمعية، وتجريب أنظمة تنظيمية جديدة، وتطبيق طرق جديدة للمراقبة. وبرغم ذلك، ثمة تناقض داخلي ضمن هذه السياسات: فعدم اليقين الفقهي المتصل بالمرأة الذمّية وذكوريتها أثناء الاستحمام المختلِط الطوائف، قوّض النظام الذي سعت النخب المجتمعية إلى الحفاظ عليه. كما يشير تكرار مثل هذه السياسات أيضًا إلى أن السلطات ربما واجهت صعوبة في إنفاذها.

الذمّيون في النظام العثماني للأشياء

تزامن اندماج الإمبراطورية العثمانية المتزايد في الاقتصاد العالمي في القرن الثامن عشر، مع زيادة مراقبة الأقليات الدينية والنساء. وأسفرت التغييرات في الاستهلاك عن رد فعل ديني غاضب ضد ما اعتبره رجال الدين المسلمين والمسيحيين تدهوراً أخلاقياً في العالم. وفي الوقت نفسه، أدى تشديد الحدود بين المجتمعات الدينية وإنشاء نظام الملل إلى ترسيخ سلطة رجال الدين على مجتمعاتهم الدينية. ومع اندماج العثمانيين في الاقتصاد العالمي، بدأ العديد من غير المسلمين الميسورين في ارتداء أحدث صيحات الموضة العالمية، وطمس الحدود الدينية وتجاهل قوانين “الإنفاق”. كما ازدادت جرأة النساء العثمانيات ممن انتمين إلى النخبة، في ملابسهن، فارتدين حجابًا شفافًا محظورًا وعباءات تبرز شكل الجسد مصنوعة من أقمشة ملونة وزينة من الفراء، اعتبرتها الدولة بمثابة مظاهر تفاخر بالثروة وزي استفزازي جذب انتباه الذكور في الفضاء العام. وقد وثق العمل الرائد الأخير لمادلين زلفي Madeline Zilfi رد الفعل العنيف ضد هذه التجاوزات، بما في ذلك “فرمان” السلطان عثمان الثالث للعام 1757 الذي منع النساء من دخول الأماكن العامة لأغراض خارج تلك المسموح بها في الشريعة الإسلامية.

واستهدف الفرمان على وجه التحديد، النساء اللواتي خالفن قواعد الحياء الإسلامية بارتدائهن أزياء معاصرة، ومعاطف ضيقة، وأغطية رأس فضفاضة، وأقمشة ملونة. كما أصدرت الدولة أوامر بمنع أشكال معينة من اللباس للأقليات الدينية لتعزيز تبعيتهم ومنعهم من الظهور كمسلمين في الأماكن العامة. وبالمثل، مُنع المسلمون من ارتداء ملابس غير المسلمين لأن التقليد النبوي والآراء الفقهية العثمانية أكدت أن أولئك الذين فعلوا ذلك قد تخلوا عن دينهم ومن ثم فهُم مُدانون بالردّة، وهو انتهاك يُعاقَب عليه بالإعدام.

ولم يكن السلاطين العثمانيون وحدهم من استهدف العروض الباهظة للثروة خلال عصر الاستهلاك المتزايد. ففي العام 1709، كتب البطريرك الماروني في بكركي (لبنان حاليًا) يعقوب عوض الحصروني، رسالة إلى الطائفة المارونية في حلب يشكو فيها ملابس النساء اللواتي غامرن بالخروج إلى الحمّامات العامة وإلى الكنيسة. ودان عروض الثروة هذه باعتبارها تنفر أبناء الرعية الأفقر. وأشار إلى أن النساء المسيحيات “يختلطن” [بالمسلمات] ويكتسبن عاداتهن. وأنحى البطريرك باللائمة خصيصًا على اندماج الطوائف الدينية في تدهور أخلاق رعيته من الإناث. وأشار إلى المفارقة المتمثلة في منع النساء المسيحيات من ارتداء اللون الأخضر أمام قاضٍ عثماني، في حين شعرن بالحرية في ارتداء ما يردن للكنيسة. وفي النهاية، أوصى القساوسة بالاقتراب من النساء في الكنيسة اللواتي يرتدين ملابس غير لائقة لطلب المزيد من الملابس المحتشمة، واقترح، في حال إصرار النساء، أن ينصح الكاهن “أزواجهن بالتدخل”.

وانبثق خطاب أكثر تطرفاً من حركة قاضي زاده Kadızadeli (1621-1685)، سعى إلى دعم تعاليم الإسلام والقضاء على الممارسات الاجتماعية غير الأخلاقية، بما في ذلك استهلاك القهوة والتبغ. واكتسب قادة الحركة المصداقية والسلطة بتحالفهم مع السلطان محمد الرابع (1648-1687)، الذي تبنى أيديولوجيتهم المتزمتة القائمة على “التحول إلى التقوى”. وسرعان ما انتشرت الحركة في إسطنبول ثم امتدت إلى المحافظات، مشكّلة ما أطلقت عليه مادلين زلفي “بؤرًا ملتهبة وسط مخاوف القرن الثامن عشر”.

حدثت هذه النقاشات الاجتماعية حول الاستهلاك والأخلاق بينما كانت الدولة العثمانية تواجه عددًا من الأزمات السياسية الداخلية والخارجية: انتفاضتان رئيسيتان في بداية القرن، الخسائر الإقليمية الناجمة عن الحروب، وتنافس الأعيان الحضريين والانكشارية على جذب الباب العالي، وانتهاك غير المسلمين بشكل متزايد لمراسيم الإنفاق السابقة وتباهيهم بازدهارهم. وفي الوقت نفسه، سعى رجال الدين المسيحيون العثمانيون إلى تعزيز مركزية الدولة من خلال نظام الملل لمواجهة الاستحواذ على رعيتهم من قبل المبشرين الكاثوليك. إذ ركز الكاثوليك، الممنوعون من اعتناق الاسلام وغير المعترف بهم من قبل الدولة العثمانية، على تحويل المسيحيين الأرثوذكس إلى نسختهم من المسيحية، ليصبحوا شوكة في خاصرة رجال الدين ممن سعوا إلى السيطرة على مجتمعاتهم. وفقًا لبروس ماسترز Bruce Masters، ادعى البطريرك اليوناني (الروم) الأرثوذكسي أن هذا الدمج كان عودة إلى النظام الذي سُن في عهد محمد الثاني، لكنه كان في الواقع نتاج سلسلة جديدة من العلاقات التي خدمت مصالح السلطان والقيادة المسيحية المحلية في حلب، وكلاهما سعيا، لأسباب مختلفة، للحفاظ على الفروق الطائفية.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى