سياسة

حلف شمال الأطلسي سجن أوروبا الأميركي/ علي العبدالله

انطوت نتائج الحرب العالمية الثانية على توازن قوى عسكري واقتصادي وسياسي آيته تراجع مكانة فرنسا والمملكة المتحدة، اللتين كانتا تهيمنان على العالم، وبروز قطبين جديدين، هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وخسارة القارّة الأوروبية، التي كانت أرضها ساحة المواجهة الرئيسة وشعوبها وقودا لها، لمكانتها الدولية في ضوء خسارتها قدراتها البشرية، حوالى الخمسين مليون ضحية بين قتيلٍ وجريح، دمار مدن بالكامل وتشريد الملايين، ولقدراتها الاقتصادية، استنفاد الموارد المالية والطبيعية، دمار المصانع، وانهيار أسعار عملاتها الوطنية وارتفاع تكاليف المعيشة وانتشار الفقر والبطالة، وانعدام الخدمات الصحّية والتعليمية والمواصلات، بسبب الدمار الذي لحق بالبنى التحتية، وتحوّل دولها إلى دول مدينة للولايات المتحدة، وانقسام العالم إلى كتلتين متنافستين، الكتلة الغربية بزعامة الولايات المتحدة والكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفييتي.

قادت نتائج الحرب وبروز القطبين الجديدين إلى تقسيم القارّة الأوروبية إلى غربية تحت الهيمنة الأميركية وشرقية تحت السيطرة السوفييتية، وإلى سعي كل من القطبين إلى توسيع دائرة نفوذه الجيوسياسي في أوروبا والعالم عبر الانخراط في صراع عقائدي تحت رايات الليبرالية والشيوعية، والعمل على تحقيق تفوّق نوعي في مجالات الاكتشافات العلمية والتطور الصناعي والزراعي والعسكري، بما في ذلك الأسلحة النووية وغزو الفضاء والإنتاج الثقافي والفني ومستوى المعيشة ونوعية الحياة والخدمات. ودفع هذا الولايات المتحدة إلى العمل على تحصين دول أوروبا الغربية، التي تعاني البؤس واليأس، ضد الدعاية الشيوعية، عبر إخراجها من مآزقها المالية والمعيشية عبر طرح مشروع مارشال، نسبة إلى وزير الخارجية الأميركي جورج مارشال، الذي اقترح المشروع ونفّذه. عُرف المشروع بـاسم برنامج التعافي الأوروبي، لإعادة إعمار ما دمّرته الحرب وتحريك الاقتصاد عبر إقامة المصانع الجديدة وتوفير فرص عمل وتحسين ظروف الحياة برصد مبلغ سنوي لدعم اقتصادات الدول الأوروبية الغربية، هبات وقروض ميسّرة، استفادت منها كل من بريطانيا، فرنسا، ألمانيا الغربية، بلجيكا، هولندا، إيطاليا، سويسرا، لوكسمبورغ، النمسا، الدنمارك، السويد، النرويج، أيرلندا، إيسلندا، البرتغال، اليونان، وتركيا. خصص للمشروع 17 مليار دولار تُصرف على مدى أربع سنوات، بدءا من إبريل/ نيسان 1948 إلى يونيو/ حزيران 1952، وتقديم نماذج أميركية عالية الكفاءة لإدارة الاقتصاد وتدريب تقني على طرق الإنتاج الأميركية. بلغ عدد الأوروبيين الذين سافروا إلى الولايات المتحدة، لدراسة طرق الإنتاج والجودة، في نهاية عام 1951، أكثر من 6000 شخص.

كانت الخطّة جزءا من تصور سياسي لتحقيق المصالح الاستراتيجية الأميركية، التي ستتعرّض للخطر في حال سقوط دول أوروبا الغربية في يد الاتحاد السوفييتي، عبر تكريس النفوذ الأميركي في هذه الدول، بالحد من تأثير العقيدة الشيوعية وسرديّتها عن العدالة الاجتماعية والمساواة ومحاربة الفقر، عبر تحقيق نهوض مادّي مشجّع والحدّ من الفقر والبطالة وتطوير الإنتاج، وتقديم نموذج سياسي واجتماعي ليبرالي غربي قائم على حرية الفرد والرفاه الاجتماعي لا ينافس النموذج الشيوعي فقط، بل ويجبّه، والعمل على تعميق التنسيق بين هذه الدول، بحيث يفضي إلى مزيد من التعاون والانسجام بينها. وهذا قبل تطوير التصوّر الاستراتيجي بإضافة بُعد عسكري إلى آلية تحصين دول أوروبا الغربية في وجه الخطر السوفييتي عبر ربط هذه الدول بحلف دفاعي يعزّز ترابطها بعضها مع بعض، ويوثق ارتباطها بالولايات المتحدة، فكان حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي وقِعت معاهدة إنشائه في 4 إبريل/ نيسان 1949، تشكّل من الولايات المتحدة وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ وفرنسا والمملكة المتحدة وكندا والبرتغال وإيطاليا والنرويج والدنمارك وإيسلندا، توسّع لاحقا وبلغ عدد دوله 31 دولة.

لعب “الحلف” دورا كبيرا في مواجهة التحرّك السوفييتي، الذي أسّس عام 1955 مع سبع دول في كتلته الشيوعية حلفا موازيا تحت اسم “معاهدة الصداقة والتعاون والمعونة المشتركة”، اشتهر باسم حلف وارسو، نسبة إلى العاصمة البولندية التي وقعت فيها المعاهدة، خلال سنوات الحرب الباردة، خاصة بنشر الدعاية الغربية الموجهة إلى شعوب الكتلة الشرقية، صحف ومجلات وإذاعات ومحطات تلفزيون، وإدارة حروب بالوكالة لوقف الزحف الشيوعي في معظم دول العالم.

بدأ التباين في المواقف بين الولايات المتحدة ودول أوروبية غربية في “الحلف” حول السياسات الدولية للولايات المتحدة في مجالات الأمن والاقتصاد والتجارة وانعكاسها السلبي على المصالح الخاصة لكل دولة، فالولايات المتحدة لا تأخُذ عند صياغة سياساتها وتحديد خياراتها مصالح حلفائها بعين الاعتبار. وقد تعمّق الخلاف بعد إنشاء جماعة الدفاع الأوروبية في 27 مايو/ أيار 1952، جيش عموم أوروبا، مقسّم إلى مكوّنات وطنية، ولها ميزانية مشتركة وأسلحة مشتركة ومشتريات عسكرية مركزية ومؤسّسات، ومطالبة الرئيس الفرنسي شارل ديغول بمنح فرنسا مزيدا من الاستقلالية والحرية، بما في ذلك في مجال التسلّح النووي، وصلاحيات تتعلّق بإصلاح “الحلف” شبيهة بالتي مُنحت للولايات المتحدة والمملكة المتحدة. وقد ترتب على عدم تلبية هذه المطالب انسحاب فرنسا عام 1966 من القيادة الموحدة للحلف. وإطلاق مشروع السوق الأوروبية الموحّدة، بدءا باتفاقية روما للحديد والصلب عام 1957 وصولا إلى الاتحاد الأوروبي عام 1993، وقيام سوق موحّدة بعدد سكّان يقارب الـ500 مليون، وقدرات صناعية وتقنية ومالية ضخمة، ما يمكّن “الاتحاد” من تحديد مواصفات السلع والآلات وأسعارها والتحكّم بديناميات الأسواق. وقد تعمّق الخلاف أكثر مع بدء دول أوروبا الغربية باستيراد الغاز السوفييتي بدءا من العام 1984 عبر أنابيب تم إنشاؤها لهذا الغرض، ومع تكرار الدعوة إلى الاستقلال العسكري وتشكيل قوة أوروبية للدفاع عن دول الاتحاد الأوروبي.

ظهر التباين بين المصالح الأميركية والأوروبية مبكّرا، فقد لمست دول أوروبا الغربية عدم اتساق السياسة الأميركية مع مستدعيات التحالف، تطلب من الحلفاء الالتزام بتوجّهاتها وخياراتها السياسية في صراعها مع الخصوم، وتتغوّل، في الوقت نفسه، على مصالحهم الاقتصادية وعلى حصّتهم في الأسواق. نذكّر هنا بدفع وزير الخارجية الأميركي الأشهر هنري كيسنجر شاه إيران عام 1973 إلى رفع أسعار النفط لرفع كلفة إنتاج السلع الأوروبية وجعلها غير قادرة على التنافس في الأسواق مع السلع الأميركية، وسعي الإدارات الأميركية المتعاقبة إلى إفشال الاتحاد الأوروبي أو إضعافه بالحد الأدنى، بدفع تابعها الوفي المملكة المتحدة إلى لعب دور معرقل لخطط الاندماج والتوسّع، والضغط على دوله للالتزام بالتوجّهات الأميركية الإقليمية والدولية. نذكر هنا استخفاف وزير الدفاع الأميركي في إدارة جورج بوش الابن دونالد رامسفيلد بدول أوروبا الغربية، ردّا على تحفظها على غزو العراق ووصفها بالقارّة العجوز، والدور الكبير الذي لعبه الرئيس الأميركي دونالد ترامب في دفع المملكة المتحدة إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي، كما فرضه عقوبات تجارية على دول في الاتحاد الأوروبي، ألمانيا وفرنسا، ومنع استيراد الفولاذ والألمنيوم وفرض ضرائب عالية على استيرادهما وعلى النبيذ والجبن الفرنسي، والضغط على دول الحلف للالتزام بتخصيص 2% من ناتجها الوطني للدفاع، وربط استخدام القوات المسلحة الأميركية للدفاع عن دول أعضاء في حلف الناتو بدفع تلك الدول الكلفة المالية للحرب.

منح حل حلف وارسو وانهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 دول الاتحاد الأوروبي مساحة للمناورة ومواجهة الضغوط الأميركية، فطوّرت رؤية خاصة بها قائمة على اعتماد الدبلوماسية والعلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري طريقا لخفض التوتّرات الإقليمية والدولية، وتشجيع الطرق السلمية لحلّ الخلافات، وإيجاد نوع من الاعتماد المتبادل مع روسيا، عبر استيراد النفط والغاز الروسي بكمّيات كبيرة، وتوريد الصناعات الدقيقة والإلكترونيات إليها، وتطوير علاقات تجارية واستثمارية واسعة مع الصين، بحيث تتحوّل المنافع المتبادلة إلى وسائد لامتصاص التوترات والخلافات.

رفضت الولايات المتحدة هذا التوجّه وقاومته بقوة، فالمحافظة على “توازن القوى” قاعدةً للعلاقات الدولية، وعلى حلف الناتو وتوسيعه وتعديل استراتيجيته وساحة عمله، مصلحة أميركية. لذا عملت في القمّة الخمسينية للحلف في واشنطن عام 1999 على إلزام الحلفاء بتنفيذ مقرّراته، والتي قضت بتحويله إلى مرجعيةٍ لقرار الحرب والسلم في العالم، فالوجود العسكري الأميركي المباشر في عدد من الأقاليم، ولا سيما في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وشواطئ البحر الأسود، يتيح لها السيطرة على التفاعلات الإقليمية، السياسية والاقتصادية، والتحكّم بالخريطة الجيواستراتيجية، ما جعل هدف توسيع حلف الناتو يحتلّ موقعاً مركزياً في تحرّكها.

نجح الضغط الأميركي باستمرار حلف الناتو ومدّ ساحة عمله وتوسيع عضويته بضم دول أوروبا الشرقية، حيث ضم 11 من دولها، مقتربا من الحدود الروسية أكثر فأكثر في تناقضٍ تام مع التفاهم الذي تم بين دول التكتل الغربي والاتحاد السوفييتي خلال مفاوضات توحيد ألمانيا. ولم يكن تمدّد حلف الناتو نحو الحدود الروسية ضروريا طالما أن دول شرق أوروبا قد خرجت من تحت المظلة الروسية، وتبنّت الخيار الليبرالي والالتحاق بالاتحاد الأوروبي، وتحوّلت إلى العقيدة العسكرية الغربية والتسلح بالأسلحة الغربية. لم يكن الدافع الحقيقي للتمدّد إلا استدراج رد فعل روسي يعكّر العلاقات مع دول أوروبا الغربية، وتصعيد الخلافات بين روسيا ودول “الناتو” بحيث تجد الأخيرة نفسها مضطرّة للاصطفاف خلف الولايات المتحدة والالتزام بتوجيهاتها وخياراتها كي تضمن الحصول على غطاء عسكري أميركي مناسب لردع روسيا صاحبة القوة النووية المدمّرة.

لم تنجح القيادة الروسية في تجنّب الوقوع في الفخ الأميركي، فقد قادتها قراءتها الخاطئة معطيات اللحظة السياسية، من مؤشّرات الارتباك والضعف الذي تشهده الإدارة الأميركية نتيجة الانقسام المجتمعي والخلافات السياسية الحادّة داخل النخبة الأميركية وأحزابها ومؤسّساتها بشأن سبل مواجهة التحدّيات الداخلية والخارجية، إلى إعطائها جل اهتمامها لمواجهة الصعود الصيني، وانشغالها بتخصيص الموارد السياسية والعسكرية لهذا الهدف، إلى الرفض الشعبي الأميركي هدر الإمكانات على قضايا خارجية، بينما يحتاجها الداخل الوطني، إلى تنامي التباينات بين الولايات المتحدة وحلفائها وخسارتها قوة ردعها ونفوذها، إلى أعراض الضعف التي تجلت بالانسحاب الفوضوي من أفغانستان، إلى تحفظ دول في التحالف الغربي على التوجّه الأميركي وخططه للتعاطي مع التحدّيات الخارجية، روسيا والصين وإيران، ومحاولتها تجنّب المخاطر في ضوء مصالحها مع هذه الدول، إلى وجود قوى وازنة، الصين وإيران، تناصب النظام الدولي الليبرالي العداء، وتتبنّى موقفا مضادّا ومتحدّيا قيادة الولايات المتحدة النظام الدولي، إلى وجود سند اقتصادي قوي، الصين، تستطيع الاعتماد عليه لمواجهة العقوبات الغربية المتوقّعة، إلى ردّ الولايات المتحدة الضعيف على اجتياحها أراضي جورجيا عام 2008 واحتلالها شبه جزيرة القرم عام 2014 وضمّها، ودعمها روسيا في شرق أوكرانيا لإقامة جمهوريتين شعبيتين: دونيتسك ولوغانسك، ما يشير إلى نجاح استخدام القوة في تحقيق مكاسب جيوسياسية وإمكانية استخدامها لإقناع القادة الغربيين بإعادة التفاوض حول الحدود والنفوذ في القارّة الأوروبية.

قدّمت القيادة الروسية باختيارها غزو أوكرانيا للولايات المتحدة خدمة لا تقدّر بثمن بتوفيرها ظرفا سياسيا يسمح لها بالضغط على دول “الناتو” الأوروبية ودفعها إلى التخلي عن تطلعاتها الاستقلالية وتحرّكها المتكرّر نحو تشكيل قوة عسكرية أوروبية تغنيها عن الحاجة لطلب الحماية الأميركية وللاصطفاف خلفها والالتزام بتوجهاتها الجيوسياسية والجيواستراتيجية.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى