أبحاث

روايتان عن “أبو الاقتصاد السوري”/  إياد الجعفري

عن سياسات “أبو الاقتصاد السوري”، محمد العمادي، تجد روايتين. في الأولى، يكمُن السَلَف لكل سياسات الخَلف، القائمة اليوم. أو هكذا يحلو لمنظّري النظام، تقديمها. فهو صاحب مقولة “الأولوية للاستيراد من أجل الخبز فقط”. وهو الذي ألح على إطعام السوريين الشعير في خبزهم، كحلٍ أفضل من حرمانهم من الخبز كلياً. وهو صاحب نظرية إعادة قطع التصدير، والسماح للقطاع الخاص بالاستيراد، شريطة أن يموّل مستورداته من القطع الأجنبي الذي يختزنه في الخارج، أو بتسهيلات خارجية. كما أنه مصمّم قانون الاستثمار رقم 10 للعام 1991، الذي فتح الباب للاستثمار الخاص كي ينشط في سوريا، بصورة غير مسبوقة، منذ بدء حكم البعث. باختصار، هو “الأب الشرعي” لكثيرٍ من السياسات التقشفية القائمة اليوم، والتعديلات المتتالية في قوانين الاستثمار. و”اللقطة” الأهم في تلك الرواية، أن هذه السياسات كانت السبب في تحقيق ما يُوصف بالنجاحات التي ارتبطت باسمه. إذ نقل سوريا من مستوردٍ إلى مصدرٍ للقمح. وخرج بخزينة المركزي من حالة الإفلاس إلى أول مليار دولار فيه، مطلع التسعينيات.

أما الرواية الثانية، فتقلب الطاولة على كل ما سبق. فمَنُع الاستيراد مُطلقاً في النصف الثاني من الثمانينيات بذريعة الحفاظ على القطع الأجنبي، فتح الباب واسعاً للتهريب، وقفزت أسعار السلع لأضعاف، وفُقدت في الأسواق، وهوى سعر صرف الليرة، وكاد النشاط الاقتصادي أن ينعدم، كما وارتفعت نسب البطالة بصورة مخيفة. واليوم يعيش السوريون الأعراض الاقتصادية ذاتها. و”اللقطة” الأهم في الرواية الثانية، أن العمادي ذاته يتبرأ من كثيرٍ مما يُنسب إليه. فالرجل الذي أنقذ سوريا من مجاعة محقّقة في نهاية الثمانينيات، لم يحقق ذلك بالسياسات التقشفية، وفق ما تقوله الرواية الأولى.

عشية العام 2012، وفي حوار للعمادي مع إحدى وسائل الإعلام، تحدث عن السماح بالاستيراد، والتوجه نحو الانفتاح على الخارج، إلى جانب علاقاته الشخصية المميزة، خاصة مع مؤسسات ورجال أعمال واقتصاديين، عرب وغربيين، التي سمحت له بالحصول على قروض عاجلة. قدّم العمادي ما سبق على أنها مفاتيح لنجاحه في الخروج باقتصاد البلاد من عنق زجاجة الأزمات، وتجنيبها المجاعة، قبل أكثر من عقدين من تاريخ حواره.

وفي ذاك الحوار، أقرّ العمادي بأن الإصلاح الاقتصادي، وقوانين الاستثمار الجذّابة نظرياً، لا تكفي لجذب الاستثمار الخارجي، بل لا بد من إصلاحٍ للنظام السياسي، يخلق بيئة آمنة في نظر المستثمر، عبر سيادة القانون وإصلاح القضاء، كي يشعر المستثمر أن نشاطه سيحظى بحماية قانونية، فعلية. وتلك إحالة واضحة إلى “المديح” المبالغ فيه لما نجم عن القانون رقم 10 للاستثمار عام 1991، من جذبٍ للاستثمارات. فالأرقام الموثقة في تلك الحقبة تؤكد أن الحصيلة الاستثمارية كانت متواضعة، وكان ذلك مفهوماً لمن يعرف سوريا الخارجة من “كهف” تلك الحقبة، حيث التضييق الأمني في أقصاه، وحيث القانون يبدو هباءً إن غضِبَ عليك فرعٌ أمني. هي ذاتها، سوريا التي نراها اليوم، والتي تم تجميل قانون استثمار جديد لها، قبل بضع سنوات، لكنه لم يفلح في جذب أحدٍ، ذي قيمة.

أما “ملحمة” القمح، كما تقدمها الرواية الأولى، فتفندها الثانية، لاختلاف الظروف الموضوعية التي يمكن أن تتيح استنساخ تلك التجربة. تجربة التحول من مستوردٍ لسلعة استراتيجية، إلى مصدرٍ لها. فالنفط كلمة السرّ في تجربة نهاية الثمانينيات، ذاك الذي أتاح محروقات رخيصة سمحت بجدوى اقتصادية لاستصلاح الأراضي، يغيب عن المعادلة كلياً، في سوريا، اليوم.

بطبيعة الحال، يفضّل النظام ترويج الرواية الأولى، وهو نجح في ذلك بنسبة كبيرة، بحيث ارتبطت الكثير من السياسات المكروهة شعبياً في الثمانينيات، باسم العمادي، وباتت في عُرف الكثيرين، الخلطة التي نجا بها اقتصاد البلاد، يومها. لكن الرجل الذي عاد قبل نحو 60 عاماً إلى بلاده، يحمل دكتوراه في الاقتصاد من جامعة نيويورك الأميركية، وكله حماسة لإفادة سوريا بما تعلمه، لم يكن اشتراكي الهوى، أو تقشفي المزاج. بل على العكس تماماً، وفق ما تكشفه حواراته المتأخرة في العام 2011. والتي حاول فيها إرسال رسائل عديدة، علّها تصل إلى رأس هرم النظام ودائرته المحيطة.

وفيما يُروى بكثافة عن حبه لحافظ الأسد، وعلاقته الوطيدة بالنظام، لا نعرف إن كانت الأقدار هي التي شاءت أن ينتحي جانباً، بعيداً عن وطنه، أو عن المشهد العام فيه، قدر استطاعته، كلما أوغل النظام في دماء السوريين. فالرجل الذي حَاضَر بحافظ الأسد في دورة باقتصاديات الحرب عام 1968، حينما كان نائباً لوزير التخطيط، ليجلبه لاحقاً كوزير للتخطيط، ثم وزير للاقتصاد عام 1972، ابتعد عن سوريا عام 1979، حينما اشتد الصراع الدامي بين الأسد الأب وبين مناوئيه. حينها، كان السبب المعلن أن العمادي انتُخب رئيساً لمجلس محافظي الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي بالكويت. لكن حينما كان من الممكن العمل، قبِل العمادي الاستدعاء إلى دمشق ليعود إلى وزارة الاقتصاد مجدداً عام 1985، وليضغط بعد سنتين لتمرير بعض أبرز سياساته التي كانت تلقى معارضة من زملائه بالحكومة.

ومجدداً، آثر الابتعاد عن المشهد العام، بعد رحيل الأسد الأب، وتسلُّم الابن. ورفض البقاء في موقعه الوزاري، قبل أن يُستدعى مجدداً لتنفيذ مشاريعه القديمة، وأبرزها، بورصة دمشق.

آمن العمادي مراراً، بإمكانية “الإصلاح” من داخل النظام، وراهن على الأسد الأب، فيما يبدو. لكن خلال تلك المسيرة الطويلة، كان هناك ما يكفي من مؤشرات بأن العمادي أراد الابتعاد أكثر من مرة، ليتلقى في كل منها، إغراءً معنوياً ما، للعودة لاحقاً.

 وفيما تتسيّد الرواية الأولى عن العمادي، “الأب الشرعي” لسياسات التقشف وخلق عالم الطوابير، يرحل الرجل تاركاً رسائل جليّة ما بين سطور حوارات صحافية متأخرة له، تدعم الرواية الثانية.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى