سياسة

جيوش الظل.. الحرب بدماء رخيصة/ عبدالناصر العايد

أطلق المركز السوري للإعلام وحرية التعبير تقريراً تحت عنوان جيوش الظل، تناول ظاهرة المرتزقة العسكريين التي بدأت بالتطور خلال السنوات الماضية على ضفتي الصراع في سوريا. ويتخذ التقرير الحقوقي من واقعة تجنيد سوريين على طرفي الصراع في كل من ليبيا وناغورني كراباخ، موضوعاً محدداً له، ويثير سؤالاً مهماً يتعدى المعالجة الحقوقية التقليدية للصراعات الأهلية المسلحة، أي زاوية تحدي إعادة دمج المقاتلين اجتماعياً. فهو يوميء إلى نشوء ظاهرة استخدام جزء من المقاتلين في الحروب المحلية لتحقيق الغايات الاستراتيجية لبعض الدول، وتحويل القتال بأجر إلى مهنة ثابتة لفئة واسعة من ذوي الخبرة العسكرية بتخطيط وإدارة من دول فاعلة وقوية.

يُستخدم تعبير “جيوش الظل” أحياناً بمعنى “جيوش الأشباح”، وهو مصطلح فضفاض، يشير إلى حالات غير محددة بدقّة، منها: قتال أفراد أو مجموعات إلى جانب طرف في صراع ما مقابل أجر مادي، من دون أن تكون للمرتزقة صِلة أو مصلحة مباشرة في ذلك الصراع، وليس لهذا النوع من الارتزاق أي ضوابط سوى الاتفاق المالي الذي قد يكون شفهياً. أما المعنى الثاني للمصطلح فيتضمن حالة الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة، وهذه لها إطار قانوني في دولة المنشأ، ومهام محددة تنفذها، لكن الالتزام بكلا القاعدتين محل شك كبير. ولدينا أيضاً الجماعات ذات البُنية العقائدية أو السياسية المدعومة من جانب طرف يستخدم تلك الجماعات في صراعاته الخاصة التي قد تكون غير ذات صِلة بأيديولوجيا تلك الجماعات أو أهدافها السياسية، بل أحياناً مناقضة لها. ولدينا ظاهرة حرب الوكيل، التي تعني تجنيد وعسكرة جهة محلية لتخوض صراعاً ما نيابة عن طرف آخر لا يستطيع التدخل مباشرة لأسباب سياسية على الأغلب، وفي بعض الأحيان نرى توليفة من عدد من تلك العناصر، مثل حالة الجيش الوطني السوري التي تحدث عنها التقرير المشار إليه.

يُعزى ميل عدد من الدول للاعتماد مؤخراً على جيوش الظل، رغم امتلاكها جيوشاً نظامية، إلى أسباب عديدة، من بينها سد الفجوة في القدرات ما بين جيشين متنافسين، مثل الفجوة بين روسيا والولايات المتحدة. فبينما تستطيع واشنطن نشر قواتها بسهولة وسرعة عبر العالم، وجدت موسكو أنها لا تستطيع أن تمدّ نفوذها سوى من طريق ما يسمى بالشركات العسكرية والأمنية مثل “فاغنر” التي تنكر ارتباطها بالحكومة الروسية أو بأهدافها الاستراتيجية، مع أن تقارير ذات مصداقية تؤكد أن هذه الشركة تأسست في هيئة الأركان الروسية، وهي تستغل الثغرات الكبيرة في البنية القانونية الدولية الضابطة لعمل وأنشطة الشركات الأمنية والعسكرية. ويلجأ بعض الدول إلى تلك الجيوش لتنفيذ “المهمات القذرة” التي تنطوي على انتهاكات، مستفيدة من إمكانية “الانكار المعقول” لصِلتها بالمجموعات المقاتلة أو صعوبة إثبات مسؤوليتها عنها. كما تلجأ دول إلى تلك الجيوش بسبب كلفتها الاقتصادية المنخفضة مقارنة بالجيوش النظامية، أو بسبب قدرتها على الاستجابة لبعض الظروف بأسرع مما تستطيع الجيوش الرسمية بطيئة الحركة والمثقلة بالبيروقراطية والتسلسل الهرمي.

كما يشير مصطلح “جيوش الأشباح” إلى التأثير المعنوي والرعب الذي يثيره استخدام هذه الجيوش لدى الخصم، فتلك الجيوش تتمتع بدعاية عالية ومبالغ فيها أحياناً لقدراتها ووحشيتها، وقد يكفي ذيوع خبر نشرها في صراع ما للتأثير في نتائجه. وفي بعض الحالات، يُجبر استخدام “جيوش الظل” في مكان ما، جهات أخرى على استحداث جيوشها الخاصة، فأساليب حرب العصابات لا يمكن للجيوش النظامية مواجهتها سوى بأساليب حرب عصابات مشابهة. كما يطرح التطور التقني في العصر الحالي تحدي الحرب الهجينة، الذي يتضمن المعلومات والدعاية والعمليات الخاصة، أو الحرب بوسائل أخرى، وهو ما يقتضي امتلاك الدول لعنصر “جيوش الظل” لتحقيق أهدافها الاستراتيجية.

في وقتنا الحالي، يُعتبر الشرق الأوسط مركز ظاهرة جيوش الظل عالمياً، ويعود ذلك بشكل رئيسي إلى تجذر الصراعات بين دوله وداخل جماعاته التي تكوّنه، لكن عدداً من الباحثين يشير إلى دور روسيا البوتينية في قيادة الظاهرة قدماً من خلال اعتبارها أن الشرق الأوسط هو “قعر روسيا” الذي لا يجوز الانسحاب منه، وفق المبدأ الشهير للدبلوماسي السوفياتي السابق بريماكوف. ولما كانت روسيا عاجزة عن منافسة واشنطن هناك بالوسائل التقليدية، فقد اعتمدت هذه الوسيلة لشق الطريق لنفوذها المتصاعد في تلك المنطقة الحيوية، ونحن نعثر بالفعل على حضور متصاعد وصلب للشركات الأمنية والعسكرية الروسية في سوريا وليبيا والسودان، وحضور غير معلن عنه في دول أخرى مثل الإمارات العربية المتحدة.

يستطيع المرء اليوم أن يصنف تحت عنوان جيوش الظل، عدداً كبيراً من المليشيات والجماعات المسلحة الأهلية والأيديولوجية والسياسية التي تحولت إلى مرتزقة أو في طريقها إلى ذلك، بدفع من تنافس محموم بين عدد من دول المنطقة لكسب المزيد من الوكلاء العسكريين الجاهزين للعمل مقابل دعم مالي وغطاء سياسي وقانوني.

وفق معدلات النمو الحالي والاستخدام المتصاعد لجيوش الظل، وفي ظل ركاكة وهزال الاتفاقيات الدولية الناظمة لعمل الشركات الأمنية والعسكرية، ومع التطور التقني المتوالي، يحتمل أن يشهد العالم، والشرق الأوسط خصوصاً، حالة عدم استقرار متصاعدة، عنوانها الحروب الصغيرة القذرة، التي ستخفض احتمالية اندلاع حروب كونية، لكنها لن تؤدي الى خفض معدلات العنف والقتل، بل ربما تزيدها.

من ناحية أخرى، سيؤدي تنامي هذه الظاهرة إلى مزيد من تآكل سلطة الدولة، وتبدل شكل النظام العالمي كما نعرفه، والمعتمد على وحدات محددة هي الدول، وسيتحول بعض جيوش الظل إلى دول داخل الدول، ودول عابرة للدول، وقد يستقل بعضها مع مرور الزمن ويكف عن الاعتماد على الدول الراعية. وربما نشهد حالات تصبح فيها جيوش الظل راعية لبعض الدول، وستخلط هذه الظاهرة الأوراق، وتقطع الطريق على الحركات الاجتماعية التي تناضل من أجل أهداف سياسية مشروعة، لتحولها جميعاً إلى جماعات أهلية متقاتلة تحترف صناعة النزاعات وتعمد إلى تشويه الدول التي تنشط فيها، ليجري الانتقال من حالة التنظيمات التي تشبه الدول، إلى الدول التي تسلك سلوك التنظيمات، وربما نستطيع أن نتلمس وجوه بعض هذه المخاطر المحتملة في الواقع السياسي الشرق أوسطي الحالي.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى