منوعات

دورا أوربوس/ خالد الساعي

ولدت وترعرعت في ضاحية من ضواحي دمشق، وعشت فيها حتى سنوات شبابي الأولى ودخولي الجامعة هناك، بقيت في مدينتي إلى أن هاجرت أو نجوت بنفسي بالهروب إبان الحرب التي كانت قد وقعت، وكانت رحلة طويلة مضنية مليئة بالمخاطر والمحطات الحاسمة والتي مكثت خلالها في اليمن لسنتين وحاولت الالتحاق بإحدى جامعاتها لكن حرب اليمن كانت قد حلت أيضا، وقد نجوت من عدة تفجيرات فيها، ومنها انتقلت إلى إسطنبول ومن ثم غامرت في رحلة طويلة على الأقدام مليئة بالمخاطر والتجارب المريرة  مررت فيها بعدة دول إلى أن وصلت إلى ألمانيا، وبعد استقرار لثلاث سنوات وتعلم اللغة والاطّلاع على ثقافة وحياة البلد، علمت أن ابن عمي الفنان قادم إلى برلين بتكليف من متحف البرغامون لرسم عمل جداري كبير يمثل الحضارة في سوريا، وهناك عدت وسمعت بكلمة دورا أوربوس مرة أخرى بعد أن كانت تلك الكلمة  قد توارت في ذاكرتي المنسية، وذلك عندما كان الفنان يتحدث عن المدن التي اختارها لتكون ضمن معالم لوحته، وأتيحت لي فرصة نادرة للاطلاع على أرشيف المتحف الذي يضم أكثر من 17 ألف صورة توثيقية عن معالم بلدي التاريخية، والفرصة الأجمل كانت بالمشاركة في إنجاز اللوحة كمساعد للفنان، وكان إنتاج اللوحة قد تم في المتحف ذاته ولفترة أكثر من شهر وأمام زوار المتحف كحدث نادر، ما أتاح فرصة هائلة للتحاور مع زوار المتحف القادمين من شتى أنحاء العالم.

كلفني الفنان بإجراء قص مئات الصور بغية إلصاق كل منها في مكان محدد على سطح اللوحة وذلك (وفق الدراسة المسبقة إسكتش اللوحة)، بينما كنت أتعرف على المدن والمناطق التي اندثر معظمها جراء الحرب والزمن، وخلال عملية ترتيب الصور، وقعت بين يدي صورة معبد كنيس يهودي من دورا أوربوس، إذن دورا أوربوس ثانية! لقد أعادتني الصورة إلى أكثر من 16 سنة إلى الذاكرة حيث كنت أزور أجدادي في منطقة الميادين (أقصى شرق سوريا) وكالعادة أن نزور كل الأقارب هناك ومن جملتهم بيت عمي (أهل الفنان) كنت لم أتجاوز سن الـ12 لكن كنت فضوليا وشجاعا، لاحظت في تلك الزيارة ابن عمي ومعه بنت فرنسية وأخرى يابانية وشاب من أقصى آسيا (كانوا من طلابه، حيث كان يدرس الفن في المعهد الفرنسي) وكان يتحدث إليهم عن دورا أوربوس ويقول إنه حتى السوريون لا يعرفونها الآن رغم أنها من أجمل المناطق النائية ويسكنها بضع عشرات من العوائل، لكن (ولا أذكر الكلام كله لأني كنت صغيرا وقتها) الوصف كان مذهلا على أنها تتمتع بلون خاص لنهر الفرات (altramarine) وأن لون الأرض ذهبي وبني فاتح، مع لون البيج، وأنها كانت تضم بساتين وأنواعا من الفواكه لا مثيل لها، على ما أذكر، وقتها طلبت من والدي مرافقتهم حيث بدا لي أنني سأسافر عبر الخيال إن ذهبت معهم، ويزيد ذلك علامات الاندهاش على وجوه الضيوف، اليابانية والفرنسية (وكانت مهندسة عمارة وزارت معظم الأماكن التاريخية في سوريا).

لحسن الحظ وافق والدي على رحلتي التي لم تنته إلى هذه اللحظة، لأنني كلما استرجعت قسما منها أضاء لي جانبا مهما من وعيي.

ذهبنا إلى محطة الحافلات وأخذنا الباص وجلست إلى جانب الفتاة اليابانية وكانت تتحدث العربية بلكنة محببة لكن لغتها كانت واضحة، والباص يتوقف كل ربع ساعة وأحيانا أقل لكي ينزل بعض الركاب، لم تكن هناك محطات مسبقة لكن كان الركاب ينزلون في أقرب نقطة عن بيوتهم، وكان صوت الموسيقى الشعبية ينطلق من المذياع فيزيد الرحلة بهجة، حيث كان لباس الركاب وأقصد النساء حصرا ملونا جدا وثريا بالرسوم والزركشة.

لكن هذه البهجة تحولت إلى ضجر بالنسبة إليّ، إذ لم يعد ينزل أي من الركاب وأصبحت المناظر على جانبي الطريق مملة، مساحات مسطحة بنية بائسة اللون وكان بعض الشوك أو شجيرات جرداء وعلى الأغلب ميتة تلوح بين الفينة والفينة بعد وقت (وخلاله كنت أسبح في الخيال عن المدينة وجناتها  مثل السندباد). صاح معاون الباص: هيه إنت والأجانب، هنا   انزلوا (يقصد إنت، ابن عمي).

يوميات

نزلنا وكانت المفاجأة المحبطة، حيث أنني لم أر أي شيء لا مدينة ولا شجرا، فقط أرض قاحلة واتجهنا مشيا على الأقدام  لوقت طويل باتجاه الشمال، وهنا بدأت تظهر أنقاض كنت أظنها من هلوسات الرؤية، لكن مع اقتربنا التدريجي  صارت تتوضح المعالم ويتضاعف إحباطي، ناولني الشاب الآسيوي جعبة ماء شربت ورششت الماء على وجهي علني أنتعش أو علني أصحو عما أراه.

كان الأفق بأزرقه الكثيف على شكل حزام عريض وتحت سماء صافية، لم أر مثل تلك الزرقة حتى اللحظة ولكني علمت حينها أنه نهر الفرات الذي يسور خلفية المدينة (لم تكن في الحقيقة مدينة، بل كانت عبارة عن أنقاض وبقايا جدران متناثرة وآلاف الحفر وسور طويل يحيط بالمكان ويلتف حوله كلما حركت ناظريك مثل الخداع البصري.

لاحظت عددا من البيوت القليلة البعيدة، ولم ألحظ وجود أي إنسان في تلك المنطقة (السكان القليلون كان يذهبون لحقولهم في منطقة معاكسة لمنطقة الآثار).

شرع الفنان يشرح لهم عن المكان ويقول هذه المدينة كانت أول المدن السورية على طريق الحرير، ويشير إلى مكان  على أنه البوابة للقادمين من الشرق من بغداد وآسيا الوسطى، ويقول كان لهم نزل هنا، ويحدد المكان على أنه كان بمثابة فندق ومكان لمبادلة البضائع والمقايضة، وهنا: وينتقل إلى مكان آخر ويقول هنا أول كنيس مخصص للعماد في التاريخ وهنا (ولم يكن هناك شيء حسبما رأيت) وهنا أول رسم تصويري للسيد المسيح كجدارية، وعلمت بعد سنين أنه قد تم نقلهما إلى متحف دمشق حيث رأيتهما قبل مغادرتي سوريا،  وقال إنها الصالحية (باللغة الحالية) وهي دورا أوربوس التاريخية كانت مثالا للتسامح الديني والثقافي حيث كان فيها 14 منشأة دينية وكان كل فرد يمارس ديانته بغاية من الأريحية والتسامح وتقبل الآخر(وكنت أقول في نفسي وببراءة  الطفل، وهل هناك ما يدفع لأن نتدخل باعتقادات الآخرين  طالما نحن بشر ونحترم بعض)، وحسب ما قال إن بداية تأسيسها كانت على يد البابليين وصارت ملتقى الحضارات حيث كان سكانها يتحدثون بخمس لغات وإن اسمها مأخوذ من اسم مدينة مقدونية  لما فتحها آنذاك الإسكندر وهذا يدل على أن عمرها أكثر من 2500 سنة     وفي فترات كانت لغتها الآرامية وأحيانا اليونانية لكن الغالب أن السكان والذين هم عالم مصغر ينتمون في أصولهم لعدة عروق ما ساهم بانفتاحها الثقافي والحضاري.

يعود الفنان ويتحدث عن الكنيس اليهودي هناك (والصورة موجودة في جدارية سورية حديقة التاريخ في البرغامون،  وأنا من قص الصورة وقتها)، وأنه كان من الأروع في التاريخ، وكما أنه تحدث عن  جداريات المدينة و كانت لاتزال تحتفظ برونقها وسحر إلى الآن.

كانت الشابة الفرنسية تتكلم باندهاش عن تخطيط المدينة وعن روعة وذكاء المهندس (لكنهم كانوا عدة مهندسين وقتها من خططوا المدينة) وكانت تشير إلى فهم عميق ومعاصر لاستخدام المواد وعن فهم لحركة الرياح وتقلب الفصول وتغيير اتجاه الشمس ومراعاة كل ذلك في هندسة المدينة   وكانت تشير إلى باب تدمر (وللمصادفة أن تدمر التاريخية كانت قرب دورا أوربوس في جدارية البرغامون وتقع في الشمال الغربي منها تماما مثل الواقع) وهناك في مكان آخر انفصلت عنا اليابانية وقد أخذت تلتقط صورا لحجر محفور على أحد بقايا الجدران وقد صاحت على الفنان إنه كتابة يونانية، ماذا تفعل هنا، وهنا شرح لها بالعربية قليلا ولكنه تحول إلى الإنكليزية لأن لغتها العربية على جودتها لم تكن كافية لكثرة المصطلحات التفصيلية، لم أعد أعرف ما قال لها، إلا لاحقا بعد 18 سنة عندما سألته ونحن في رحلة في براغ وقد التقط لي صورة على أحد جسورها التاريخية مع كتلة نحتية هائلة تصور أحد حواريي المسيح في قصص من الكتاب المقدس، استرجعت وسألته أنني رأيت شبه ذلك الخط الذي كان في دورا أوربوس وعرفت أنه يمثل اللغة اليونانية

في تلك الرحلة، التي لسنوات كثيرة بعدها اختلطت علي القصة مع الاحلام فلم أعد أعرف حقيقة أن أجزم إن كانت قد حدثت أم لا، أقمت بتلك الرحلة أم لا، وربما لأنه وقتها أصابني دوار خفيف صحوت بعده على رشقات ماء بارد على وجهي وأنا أتوسد ساق البنت الفرنسية (ربما) وكانت تظهر السماء على شكل مخمس، لأن الرؤوس التي كانت تحيط بي وقتها وأنا أنظر من الأسفل إلى أعلى رسمت فراغا مخمسا   فيه تلك الزرقة الأخاذة ومن ثم بدأت تتضح صورالعالم المصغر، (أوروبية فرنسية ذات أصول يونانية، يابانية خالصة، والآسيوي، والفنان الذي ضربني على خدي بلطف لكي أستعيد وعيي، وكان وجهه أسمر داكنا لبدوي عرفته لاحقا وسأتحدث عنه) هو من أتم أضلاع المخمس.

يوميات

ذاكرتي القريبة آنذاك كانت مثل فلم سينمائي مكثف، وهذه المخيلة الجامحة ساعدتني على تحمل مشقة الرحلة وقتها، وصعوبتها وكأنني كنت أجتاز امتحان للبصر والتخيل، حيث كان الفنان يتنقل من تلة إلى تلة، ومن حفرة إلى أخرى  ويشرح باهتمام وشغف وأنا أتابعهم دون علم أتقافز بين الأحجار، وهو يتكلم عن قصور وعن التدمريين والرومان  وغزو الساسانيين والسلاجقة وأنا وساعدني خيالي وقتها في  التغلب على الضجر حيث كانت التخيلات تجسد لي قوافل التجار من بخارى وهم يحطون رحالهم وقوارب الرومان تجتاز الفرات الفسيح خلفنا وأنا أتخيله كبحر تملأه صيحات الجنود المندفعة، وحتى أنني حضرت عماد طفل في ماء الفرات ورأيت الصبايا يملأن القرب بالماء، فيما أطفال كثر يلعبون بلعب لم أر مثلها قط وهم يتضاحكون ويصرخون، بالفعل أسعفني خيالي في التغلب على المحنة، وبنيت عالما موازيا لما أراه الآن (لحظتها). سور مضجر فيه عدة بوابات مشرعة للريح وحفر وجدران مدفونة، أقول إن ما يبدو لنا مدنا نائية، أو مدنا ميتة (كما في كتاب البرغامون عن سوريا التاريخ)، أو مدنا مقفرة تتلاعب بها الرياح والجن حسب قول  أهل القرية المتاخمة للصالحية (دورا أوربوس الماضي) هي ليست مدنا من نسج الخيال ورماد، بل إنها كانت إحدى أهم مدن العالم وقتها، كما قرطاج ومدينة القصر الكبير أو إرم ذات العماد المدفونة في الرمل.

إن الزمن يتعاقب ويدور وتندثر مدن وتحضر أخرى، لكن دمشق تبقى عين التاريخ وضميره.

أذكر ذهبنا برفقة البدوي إلى القرية المتاخمة واسمها الصالحية وأذكر وجوه الناس الكريمة هناك، وأننا تغذينا هناك وأذكر ظلال شجر التين والكينا واللبن البارد الذي رد لي صحوي قليلا، بعدها غادرنا تجاه الشارع العام لمسافة طويلة يتقدمنا البدوي الذي لم يتدخل بالكلام كثيرا حياء ربما ولكنها طبيعة البدو عموما، يتكلمون وقت الضرورة فقط، ولكن البدوي لاحظ أن الفنان يتحدث للضيوف باللغة الفصحى  وأحيانا بالإنكليزية، وهنا قال البدوي للفنان: لمَ لا تتحدث إليها بالفرنسية يقصد البنت ووقتها شرع البدوي يتحدث اللغة الفرنسية بطلاقة والبنت والآخرون كانوا مندهشين، يتكلم وينظر إلينا، ونحن خلفه نمشي وهو يدق بعصاه القاسية الجافة على الأرض بتواتر وهي تحدث رنة قوية دون صدى.

علمت أنه كان يعمل لدى الفرنسيين وقت الاحتلال الفرنسي لسوريا  ومنذ أكثر من 45 سنة لم يتحدث الفرنسية حيث اعتزل في الصحراء مع الجمال والمواشي وقد تمر أيام دون أن يتكلم إلى مخلوق آدمي، سوى حديثه الخاص مع الطبيعة وقطيعه وكلبيه.

أذكر أنه أخرج رمانة من جيبه وفرطها بطريقة عبقرية لخمسة أقسام، كانت حبات الرمان تلتمع تحت ضوء شمس العصر كأنها حبات من عقيق شفاف أحمر وكانت نواتها البيضاء صافية كقطعة لؤلؤ، لكن طعمها الفريد أنساني التغزل بالشكل، فلقد كان أول الطعم مرّ فيه طعم الخشب ثم انسابت حلاوة عجيبة مع تفتت شكلها تحت الأسنان وتبعتها  حموضة عذبة، قال إنها من منطقة السوسة القريبة من الشاطئ الآخر للنهر إنه يتحدى أن يكون هناك مثيل لذلك الرمان في العالم.

عاد إليّ صحوي في محطة الباصات في الميادين، وكانت رحلة العودة بمثابة رحلة عودة من حلم عجيب ومتداخل كان قد خلخل وعيي وغيبوبتي القصيرة معا، ولا أزال أعيشه،  وكنت وقتها فقط أشعر بتوقفات الباص المفاجئة أحيانا أو من الحفر التي كان يعبرها الباص بسرعته المتوسطة.

وصلت البيت برفقة القافلة، وسألني أبي عن الرحلة وكانت الرحلة الموالية لنا ليلا إلى دمشق، بيتي، سألني: وهل استمتعت، هل تعبت، ووو..  لكنني تسمرت ولم أستطع أن أخبره حقيقة ما حصل/أن كان حقيقة فعلا/لكن ماأنقذني وقتها أني أخبرته عن بدوي يتكلم الفرنسية وعن رمانته التي تشبه حباتها حبات مسبحة من عقيق، وعن طعمها اللذيذ، رغم أن مرارتها الأخيرة تمسك اللسان فضحك، وقال نعم رمان السوسة هو الأفضل بالعالم، وماذا أيضا؟ لم أكد أتكلم حتى تدخل صديق أبي وقال: لا تقل دورا كذا (لم يستطع لفظ كلمة أوربوس) قل الصالحية حيث النساء بأزيائهن المزركشة، وحيث الباميا والثريد، وتلك دورا التي تتحدث عنها مدينة أكلتها الرياح ورمال الصحراء من ناحية وفتتها طمي النهر وأذابها من الناحية الأخرى، فإنك لو سألت ألف مواطن عن دورا فلربما عرفها واحد وربما لا، ثم قال الصالحية الكل (وهنا قاطعه والدي  طول بالك، هناك أيضا أكثر من صالحية، صالحية دمشق وصالحية الرصافة حيث قصر هشام بن عبدالملك وبوابتها الشهيرة التي تتقدم المتحف الوطني بدمشق (ويا للعجب خلف تلك البوابة بالمتحف تم وضع جدران المذبح اليهودي – الذي من الصالحية) وعرفت أن هناك أكثر من سبعة مدن يقال لها الصالحية، وعلمت أن المدن لا تزول بسبب الرياح وعوامل الطبيعة لكن تتدمر بالفعل الإنساني الغاشم أقول ذلك وأنا أنظر إلى صور الميادين الآن وقد غدت كمدينة بائدة أكثر مما تبدو عليه دورا أوربوس.

وأكملت لأبي أنه سحرني لباس النساء وحليهن والوشوم على الوجوه والأيدي وكأن الفساتين مصنوعة من قوس قزح، أو لونتها الألعاب النارية.

كان ذلك الحديث وقت وصولنا مشارف دمشق، وكانت مديني دوما لاتزال في آخر حلقة من الحلم قبل أن يوقظها ندى الصباح ببرودته اللطيفة وصيحات العمال الحماسية إيذانا ببدء يوم جديد.

الآن دوما والميادين ودورا أوربوس تقبع في طي النسيان  والدمار، تقبعان في نوم تاريخي بفعل أيدي الطمع والسلطات والنزاعات.

خلال عملي مع الفنان في جدارية سورية حديقة التاريخ، سقطت دمعتي عندما رأيت صورة لبعض من نساء الصالحية/الآن – بتلك الوشوم والثياب ذاتها وهي تتربع إلى جانب صورة لتمثال ماري مغنية المعبد في تلك اللوحة، ورأيت في ذلك، كم كنا ولا نزال نحترم المرأة هناك وكم كان دورها محوريا في حضارة جوليا دومنا وأوغاريت، وانزاحت نظرتي على جانب ليس بعيد في تلك اللوحة لأرى زنوبيا ملكة تدمر (الأعجوبة باليونانية) وخلفها عناقيد باخوس وواحة النخيل والتي تبدو كعين خضراء في وجه الصحراء السمراء.

تذكرت بلون الفرات تحضر المرأة ولولا الفرات لحاصرني  الجفاف وقتلني العطش، والجدير بالذكر أن نهر الفرات كان يسوّر قلعة الرحبة التاريخية في اللوحة لكن من الأعلى، كغيمة من ماء، والتاريخ يقول إنه كان أهل القلعة يحيطونها بالماء إذا ما تعرضوا للغزو، وهذا الماء يأتي من فرع من نهر الفرات كان يجر لسقاية الحقول، وكلما تأملت باللوحة يزداد إعجابي بتاريخ تلك المنطقة وأتعجب من طريقة تأويل الفنان للأحداث والمواقع وكيف أعاد صياغة تاريخ منطقة عمرها يزيد عن سبعة آلاف سنة على قماشة لوحته في سبك عجيب، كله إشارات وتحويرات للعناصر واللغة والتاريخ والصور والاعلام  القيم والمفاهيم.

يوميات

لكن اللوحة كانت جسدا من جغرافية ولغة تتمدد على مساحة ضخمة، الحروف كانت تشكل العمود الفقري لها وتتناوب الكلمات والأشعار والصور والرموز بشكل مدهش وكأن اللوحة هي لوحة فسيفساء لكن بمفهوم جديد، فصارت الشام حرف شين كبير ينسدل تحته بيت دمشقي باهر، فالشام  الشرق والضوء والمعرفة وإلى جانب ذلك بيت شعري يقول (ظمئ الشرق فيا شام أسكبي)، ومدينة حمص رمز إليها بحرف الصاد كالمقلة الإنسانية، ونهر العاصي يصدح بمدينة حماة ودير الزور رمز لها بحرف الزاي، والحسكة بحرف الكاف، ونرى النساء تجوب اللوحة، هنا أوغاريت وليست بعيدة عنها ماري وزنوبيا ترتقي قنطرة، ونسوة جبل العرب مشغولات بشؤنهن اليومية والأغاني، وبيت المتنبي يتوسط اللوحة (كلما رحبت بنا الروض قلنا) إلى جانب حاء الحسن والطرب، وهناك باب كيسان وإلى الغرب منه معلولا، وهكذا تستمر سبحة المدن السورية تشع بتاريخها وناسها وأحداثها عبر اللوحة التي يحتل مكان القلب منها مقام ابن عربي وعبارة دين الحب جانب شاهدة قبره كشاهدة على التسامح والبعد الكوني والإنساني لهذا الشاعر المفكر. أراني استرسلت في الكلام عن اللوحة، لكن بقي لديّ سؤال سأطرحه على الفنان عندما أراه في أقرب زيارة له إلى برلين، أو عندما سنلتقي في بوسطن في أواخر2023.

من كان ذلك الآسيوي في تلك الرحلة ولمَ كان قليل الكلام؟

لكنني لن أتفاجأ إن أجابني الفنان أنه لم يكن ثمة آسيوي وأن الرحلة برمتها لم تكن قد حدثت قط.

لكنكم عندما تشاهدون النساء بثيابهن المزركشة وماري من أورنينا مغنية المعبد وجدارية المسيح في لوحة سورية حديقة التاريخ ستصدقون كلامي وسيكون الحرف العربي هو دليلكم الصوتي في تلك الجولة.

فنان تشكيلي من سوريا

الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى