أبحاث

ملامح مدرسة الليبرالية السورية… من النشأة والحكم إلى سطوة البعث/ محمد السكري

امتدت الحقبة الديمقراطية السورية، إلى 43 عاماً من مجمل عمر الدولة السورية، بدأت بالإعلان عن المملكة السورية في آذار/مارس 1920، وعاصرت تيارات أيدولوجية مختلفة؛ قومية، محافظة، اشتراكية، وليبرالية. وفي الحديث عن التيار الليبرالي يبرز حزب الشعب السوري، الذي كان معقله في مدينة حلب السورية، بوصفه أهم الأحزاب التي طوّرت الليبرالية السورية المحلية، وشكلتها.

أعادت الاحتجاجات الشعبية السورية في إطار الثورة التي اندلعت في آذار/ مارس 2011، ذاكرة السوريين إلى ماضيهم السياسي، للنظر في أجواء الحياة السياسية السورية التي كانت السائدة آنذاك، إذ استحضرت تيارات سياسية “حالية” عدة تلك التجارب للبناء عليها في مرحلة بلورة الهوية الوطنية السورية التي تعرضت للتصدع إبان حكم حافظ الأسد ونجله بشار اليوم.

لقد أفرزت المتغيرات في المشهد السوري في علاقة السلطة مع الأطراف احتكاكاً فكرياً وسياسياً بين تيارات المجتمع السوري على أساس النظر في ماهية الصورة السياسية للمشهد الفكري السوري، الذي انكفأ بعد انقلاب حزب البعث العربي الاشتراكي في آذار/ مارس 1963، مع عدّ الأخير السبب الرئيس خلف إنهاء الديمقراطية السورية.

وانتقلت سوريا، بعد الانقلاب، من مرحلة حياة التعددية السياسية والحزبية والحريات الفردية إلى الحزب والفرد الواحد أي نظام رئاسي ملكي (Presidentia Monarchy)، بحسب ما يعرفه الكاتب ريموند هينبوش، في كتابه “تشكيل الدولة الشموليّة في سوريا البعث”.

في المقابل، كشفت الثورة السورية، مدى التصدع في المشهد الفكري السوري لدى الأفراد والجماعات من حيث التوجهات السياسية، فكان من المفاجئ في مكان عدّ التيار الليبرالي السوري، الذي صعد على شكل أفراد ومجموعات بسيطة التنظيم بعد الثورة، تياراً دخيلاً غريباً على المجتمع المحلي، في قراءة تشي بمدى الفجوة التي استطاع النظام بمهارة وحرفية تعميقها بين حاضر الشعب السوري وماضيه.

معقل الليبرالية

ساهم الانقسام الذي حدث في وسط الكتلة الوطنية السورية، التي تأسست في بيروت عام 1929، وجمعت الشخصيات الوطنية، خلال حقبة الجمعية التأسيسية من أجل صياغة أولى الدساتير السورية عام 1930، في تعميق الأزمة الفكرية بين تلك الشخصيات خلال تلك الحقبة.

وانشقّ عدد من الأعضاء وشكلوا ما يُسمى “الكتلة الدستورية”، عام 1939، وذلك بسبب تعطيل الانتداب الفرنسي الحياة السياسية السورية وعدم التزامه باتفاقية ثنائية وقع عليها مع الوفد السوري عام 1936، في ما عُرف بـ”اتفاقية الاستقلال”.

تكوّنت الكتلة، من مجموعة شخصيات ليبرالية تبنت خط المعارضة، أهمها رشدي الكيخيا، وفارس الخوري، وهما من مدينة حلب. وتطوّر عملها مع الوقت لتتحوّل إلى حزبٍ سياسي وذلك في مؤتمرٍ عُقد في العاصمة اللبنانية بيروت في آب/ أغسطس 1948، إذ أعلن الحزب عن برنامجه السياسي من دون الإشارة بشكل عام إلى توجهاته الفكرية لكن كان من الواضح من خلال البرنامج المعلن تأكيده على قيم الديمقراطية، والحريات العامة، والمساوة الوطنية، والعدالة الاجتماعية، والفصل بين السلطات بحسب ما نقله محمد فرزات، في كتابه “الحياة الحزبية السورية”.

لكن مع النظر إلى توجهات الحزب الاقتصادية، من الملاحظ أنّه تبنى سياسات اشتراكيةً حداثيةً أطلق عليها ما يسمّى “الاشتراكية التطورية”، وهي العامل الأساسي في الصدام مع الحزب الوطني -بقايا الكتلة الوطنية- الذي كان يرفض المساواة بين الطبقة الإقطاعية البرجوازية السورية وعامة الناس، على عكس حزب الشعب، الذي أراد تقليص نفوذ الإقطاع الملكي وتوزيع الثروات توزيعاً عادلاً لكن من دون الصدام مع الطبقة الإقطاعية، علماً أن الكثير من شخصيات الحزب كانت تمثل مصالح هذه الطبقة.

في الواقع، كان هناك تكتلان داخل الحزب، كتلة ليبرالية تنويرية، وأخرى أكثر محافظةً، لكن في المجمل، كان الحزب يُحسب على التيار الليبرالي. لكن، تطعيم هياكله بشخصيات محافظة ومركزية أهمها معروف الدواليبي، غيّر في الخط النسقي للأيديولوجيا الفكرية للحزب، من دون أن يعني ذلك أنّها غير ليبرالية، إذ أصبحت مركبةً “ليبرالية محافظة”، وهذا ما ثبت في إطار توجهات الحزب الخارجية ودعمه لـ”حلف بغداد”، أو ما يدعى (CENTO)، الذي من الأساس يمثل وجهة التيار الليبرالي الغربي في المنطقة الذي ينسجم مع الموقفين العراقي والتركي.

وساهمت توجهات حزب الشعب المستمدة من المفاهيم الحداثية التنويرية المطوّرة محلياً وفق الحالة التراثية والعقائدية السورية ضمن الجو الديمقراطي السوري، ودفاعه لو على الأقل في خطابه السياسي عن طبقة كانت مسحوقةً في سوريا “البروليتاريا”، ومعارضته السابقة ضمن الكتلة الدستورية عبر أعضاء بارزين مثل ناظم القدسي ورشدي الكيخيا لتوجهات الكتلة الوطنية، كذلك تكتله المناطقي جزئياً في مدينة حلب، في تعزيز شعبيته بشكلٍ كبير، وفي قدرته على بناء حواضن شعبية كبيرة وتشكيله الكتلة الأكبر في البرلمان السوري.

ففي أولى الانتخابات الرسمية كـ”جماعة حزبية”، التي خاضها عام 1949، نجح الحزب في حصد 36 مقعداً في البرلمان السوري، لكن بتحالفه مع أعضاء مستقلين يؤيدونه استطاع أن يكون من الكتل الكبرى في البرلمان من الانتخابات الأولى.

وفي انتخابات عام 1954، بعد عودة الحياة الديمقراطية نتيجة الإطاحة بأديب الشيشكلي بعد انقلابه عام 1951، نجح الحزب في حصد أكبر كتلة برلمانية له بـ30 مقعداً ما عدا المستقلين ليشكل تحالفاً جديداً داخل البرلمان السوري، وبعد تشكيل الانفصال عام 1961، نجح الحزب في انتخاباته الأخيرة في حصد 33 مقعداً في البرلمان محافظاً على الكتلة الأكبر في البرلمان خلال الحقبة الديمقراطية.

وفي الانتخابات الرئاسية السورية الأخيرة عام 1961، رشح ناظم القدسي نفسه رئيساً للجمهورية مقابل خالد العظم وحصل الأخير على غالبية الأصوات وانتخب رئيساً للجمهورية في وسط ديمقراطي، بصفته ممثلاً لأبرز أعضاء حزب الشعب، وعكست هذه النتائج توجهات شريحة واسعة من الشعب السوري في تلك الفترة، والتي مثلت حواضن انتخابيةً كبيرةً للحزب خلال المرحلة. لذلك، عُدّت حلب حينها معقل الليبرالية الديمقراطية متمثلةً في حزب الشعب.

وقد شهد لرئيسه رشدي الكيخيا، عند نعوته بعدما توفي في المنفى في دولة قبرص عام 1987، بمدى إخلاصه وأصالته ودفاعه عن ديمقراطية سوريا، على لسان شخصيات لا تشاركهم الفكر الاعتقادي مثل عصام العطار (المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين حينها) الذي قال عن الكيخيا جملته الشهيرة: “لم يكن فكرنا من فكره، لكنه كان رجلاً كبيراً يشهد له الأعداء والأصدقاء بالنزاهة والترفع”.

البعث والليبرالية

حلّ حزب البعث العربي الاشتراكي معظم الأحزاب السورية عندما نفذ انقلابه في آذار/ مارس 1963، معلناً نهاية الحقبة الديمقراطية في البلاد، وعلى رأسها حزب الشعب والحزب الوطني، كما قام بتخيير الأعضاء البارزين إمّا بالسجن أو المنفى، مما دفعهم إلى الهجرة إلى بلاد الشتات في حين بسط البعث هيمنته على الحياة السياسية السورية.

وعلى هذا الأساس بدأت حقبة جديدة في تاريخ البلاد، ركّزت بشكل أساسي على مواجهة التيارات الديمقراطية، وترسيخ حياة الحزب والرجل الواحد ولا سيما بعد انقلاب نفذه حافظ الأسد عام 1970، ضد رفاقه في الحزب، وهو ما ساهم في ولادة مشهد جديد.

في المجمل، تلخصت لاحقاً الحياة السياسية في تاريخ النظام السوري، في حصر المواجهة مع التيار الديني، بعد القضاء على الحياة الديمقراطية وإقصاء الأحزاب، وتمثلت هذه المواجهة في المجازر التي قام بارتكابها في محافظات سورية عدة أبرزها مجزرة حماة الشهيرة مطلع ثمانينيات القرن الماضي.

ومن ثم قام النظام بتطويع هذا التيار واستخدامه في إطار تحالفاته مع طبقات مختلفة، وهي الرأسمالية التجارية، الدينية، القبلية العشائرية، والأقليات الدينية والقومية، والتي عززت سياسيات إحداث تغيير في اللا وعي الجمعي لدى الشعب السوري، وتشكيل ثقافة عامة تمثل اعتقادات النظام على حساب تلك التي كانت سائدةً في الحقبة الديمقراطية.

وفي الفترة الثانية من حكم النظام السوري، برئاسة بشار الأسد، ادّعى الأخير إيمانه بالحريات الفردية والسياسية، وتبنّى ما أطلق عليه “مسار الإصلاح والتحديث” في خطابه الأول في العام 2000، متبنياً سياسيات اقتصاديةً “نيو ليبراليةً”، مبقياً على بيئة متماسكة منغلقة سياسياً تمنع الحراك السياسي، ولا سيما ما حصل في الفترة التي تلت رحيل حافظ الأسد الأب من صعود لخطاب تحرري أطلق عليه “ربيع دمشق” قبل أن يقوم الابن باعتقال أبرز وجوه ذلك الحراك حينها.

لكن عملياً بعد اندلاع الثورة، بدّل النظام من خطابه ومنهجه، إذ حملت الاحتجاجات مطالب عودة الحياة الديمقراطية إلى سوريا. وهذا يُعدّ عودةً إلى لحظة الصراع الأولى عند انقلاب البعث الأول، في آب/ أغسطس 2020، لذلك هاجم الأسد بشكل صريح ومباشر خلال اجتماعه مع مجموعة من علماء وزارة الأوقاف في مسجد العثمان الدمشقي، “التيار الليبرالي” عادّاً إياه غربي الأفكار، ودخيلاً يمثل أفكارا معارضيه وتوجهاتهم ومطالبهم في إطار الثورة.

وقال: “إنَّ هذا التيار له أهداف سياسية لا يمكن تحقيقها إلا من خلال المنحلّين أخلاقياً”، وهذا في الواقع يُعدّ توصيفاً دقيقاً بأنَّ مشكلة البعث والنظام من الأساس كانت من حيث المبدأ مع حزب الشعب والوطن والشخصيات الوطنية، وعادت خلال الثورة كحرب بين الاستبداد والديمقراطية.

العنف والطائفية

تُعدّ الثورة، من حيث الخطاب والشعارات التي نادى السوريون بها، تجسيداً واقعياً للأفكار التي كان يحملها حزب الشعب السوري إبان الحقبة الديمقراطية، في إطار مطالب التغيير السياسي؛ النظام الديمقراطي، المساواة، واللا طائفية.

لكن، بعد مرور أعوام عدة على الثورة، واستخدام النظام للخطاب الطائفي غير الرسمي، وممارسة العنف ضد السوريين تحت الغطاء الطائفي، أصبح هذا البرنامج العام الذي كان السوريون يرونه برنامجهم السياسي المستقبلي، مجرّد شعارات تمثل مرحلة ما من الاحتجاجات، وتجسدها.

فبعد دخول الجماعات الدينية عند انتقال الاحتجاجات إلى صراعٍ مسلح، طرأ تغيير كبير في الخطاب العام أدى إلى تأثر الشرائح العامة بحالة الاستقطاب الطائفي. في المقابل، عملت/ حاولت الكثير من التيارات السورية السياسية إطلاق مبادرات سياسية واضحة المعالم والأهداف في خضم عملٍ سياسي تمثل في قوى المعارضة السورية التقليدية، التي خضعت للتجاذبات الدولية، مما وفّر غطاءً لعمل سياسي من نوع جديد تجسّد حزبياً في مجموعة مبادرات، غلب عليها الطابع القومي، اليساري أو الديني. بينما، غابت التيارات الديمقراطية الليبرالية على مستوى التنظيمات السياسية، وحضرت على صعيد الأفراد ربما الأبرز بينهم برهان غليون، ميشيل كيلو وعدد من الشخصيات المختلفة.

وانتقلت إلى عملٍ أكثر تنظيماً مع مرور نصف عقدٍ على اندلاع الثورة، إذ انبثقت/ تأسست تجمعات عدة عرّفت بنفسها على أنَّها ديمقراطية-ليبرالية التوجهات مثل “حركة ضمير” التي تأسست في العام 2016، وضمّت شخصيات معياريةً في القضية أبرزها؛ المخرج السوري هيثم حقي، والملحن سميح شقير.

كذلك “مجموعة العمل لأجل سوريا” التي تأسست في العام 2019 في تركيا، وتبنت خطاً ليبرالياً محافظاً مشابهاً إلى حدٍ كبير لذاك في حزب الشعب، إبان الاستقلال، لكن سرعان ما انقسمت وتأسس على أنقاضها حزب الأحرار السوري.

اليوم، لا يحظى التيار الليبرالي بقبولٍ شعبيٍ مشابه لفترة الاستقلال، ربما لأسباب متعلّقة بالمناخ الذي ساد إقليمياً جراء صراعات عديدة أججت الاستقطاب الطائفي في نهاية الحرب الباردة والذي غلبت حينها التوجهات الاشتراكية، فضلاً عن الواقع السوري في خضم الاستبداد والنظام الطائفي وعدم وجود مجموعات سياسية منظمة. وهذا ما قد يضع فرص مستقبل التيار السياسي في وضعٍ حساس في حياة سوريا السياسية الأولى القادمة.

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى